نعم، ثمّة امرأة اسمها حياة الحويّك. وكان لها وجه طفل وجسد تسلّل المرض إليه في غفلة، من دون أن يتمكّن منه فبقي يضجّ بالحياة! لم يكن فيها ما يشبه صورة البطل التقليدي كما حفظناها عن ظهر قلب في مخيالنا الشعبي: قامة فارعة وصوت جهوري، إذ كانت بطلة حقيقية مثل جميلة بوحيرد، وجوليت المير سعادة، وليلى خالد، وكثيرات غيرهنّ. فـ»الأبطال الحقيقيون»، كما كتبت غادة السمّان، يوماً، في غسان كنفاني، «يشبهون الناس العاديين لا نجوم السينما الهوليودية»!
نعم، كان ثمّة امرأة اسمها حياة الحويك، وكانت حاضرة في كل الميادين دفاعاً عن بلادنا كلها وعن المناطق المحتلة منها والسليبة: فهي في العراق، أيام الحصار الدولي الجائر بين عامَي 1991 و2003، تنادي بعالي الصوت داعيةً إلى كسر الحصار الهمجي ومواجهة المتوحّشين الجدد الذين أرادوا إذلال العراق والعراقيين والأمة كلها. وهي، في العراق أيضاً وأيضاً، تفترش الأرض وتخيّم فوق الجسور، على نهر دجلة، لأيام وأيام، تحدّياً للغزاة الجدد: غربيّهم وعربيّهم!
وهي، في الشام، قبل الحرب الدولية الظالمة وأثناءها، في الشوارع والساحات العامة وفي المكتبة الوطنية ودار الأوبرا السورية، تحثّ على التضامن والتكاتف ومنع المعتدين من تحقيق أهدافهم في كسر شوكة الشام والنيل من دورها القومي وكبريائها، فالشام هي القلب بين أجزاء الأمة الواحدة ومركز القرار القومي فيها.
وهي، في لبنان، لم تنثن عن الدعوة إلى إيقاف حمام الدم وبلسمة الجراح والعمل لإقامة نظام جديد وإعطاء لبنان ما يستحق من اهتمام ورعاية فتحتضنه بلاد الشام كلها بوصفه بوابتها على المتوسط.
وهي، في كل مكان، تخوض فلسطين قضيةً مركزية، وبرؤيتها العميقة تؤكد النصر الآتي، فها هي فلسطين اليوم أقرب، والقدس على مرمى حجر!
التقيتها لأول مرة في بغداد: هي للمشاركة في إحدى فعاليات النقابات المهنية، وأنا في مؤتمر فلسفي في ذلك الحصن الرابض على الضفة اليسرى لنهر دجلة، في «بيت الحكمة» الذي يرمز إلى أوج الثقافة السورية في العهد العباسي. التقيتها في عراق ليلى العطار، الرسامة العراقية المبدعة التي اغتالها جورج بوش/ الأب بصاروخ ألقته طائرة حربية أميركية على منزلها في ضواحي بغداد وقتل معها زوجها وابنتها، انتقاماً لرسمها وجه بوش القبيح عند مدخل فندق الرشيد، في بغداد، حيث كان الداخل إليه والخارج منه يطأ بقدميه ذلك الوجه الكريه. التقيتها في عراق زهير جليل التميمي، أحد صقور العراق، الذي اشتبك بطائرته «الميغ 21» مع الطيار الأميركي سبايكر عام 1991 فوق صحراء صلاح الدين وأسقط التميمي طائرة سبايكر «إف 15» وأكلت الذئاب جثته (وسبايكر هو صهر وزير الدفاع الأميركي آنذاك رامسفيلد). وعندما احتلت أميركا العراق عام 2003، استطاعت بمساعدة الخونة والعملاء المأجورين قتل التميمي الذي ارتقى إلى مرتبة الشهادة.
التقيتها مرات في عمان، حيث كانت تقيم مع أسرتها منذ بداية «الحرب الأهلية» في لبنان.
وذات مرة، كنت مدعوّاً للمشاركة في إحدى فعاليات «الجمعية الفلسفية الأردنية»، وبدعوة من «رابطة الكتاب الأردنيين» ألقيت محاضرة بعنوان: «سوريا شتات عمران أم مجتمع طبيعي؟»، وكانت القاعة ملأى بالحضور من كتّاب وإعلاميين وصحافيين وحزبيين، معارضين وموالين ومرتدّين بالسواء. وكان ضجيج المستعربين والمستشركين والناصريين والمتشيوعين يخيّم على المكان، وكان كل فريق من هؤلاء ينتظر فرصة للانقضاض على سعاده وعقيدته ومشروعه القومي الذي ينطلق من سوريا بوصفها أمة واحدة لا مجرد كيانات سياسية هزيلة. فما إن انتهيت من محاضرتي، حتى ساد الهرج والمرج وراح الحاضرون في القاعة يتكلمون، كلهم، دفعة واحدة. عندها رأت الدكتورة حياة أنها يجب أن تتدخل، وكانت تجلس في آخر مقعد، وما إن اتجهَت نحو المنصة حتى انسحب بعض الحضور والتزم الباقون الصمت كأن على رؤوسهم الطير! قدّمت الحويك دفاعاً قوياً عن سعاده ومشروعه بوصفه المشروع الواحد الأحد الذي يحتاج إليه شعبنا وتحتاج إليه بلادنا. كانت لها سطوتها في الأردن، وكان الجميع يهابها ويحسب لها حساباً، ولم يخب ظن القوميين بها يوماً.
في لقاءاتي بها في لبنان عندما كانت تزوره من وقت إلى آخر، كان موضوع لقائنا الدائم: الحزب والنهضة والقضية القومية! وفي زيارة لمنطقة الهرمل، في البقاع الشمالي من لبنان، وفي جلسة على كتف العاصي، بحضور ابنتها ربى، وزوجتي وأحد القوميين الاجتماعيين وزوجته، وكان كتابها «حوار الأنهر» قد صدر عام 2013، سألتها: «لماذا الأردن والدانوب وليس العاصي والدانوب؟». أوليس العاصي أطول من الأردن؟ ومياهه أغزر وأعذب؟ والوحيد الذي يتّجه - مشاكساً - شمالاً حيث يصب في المتوسط، عند مدينة أنطاكية، في نقطة قريبة من مصب الدانوب. أجابتني أن معرفتها بالعاصي قليلة ولا يمكن على أساسها بناء رواية أو حكاية أو حوار، «ثم إن الأردن، وأنا مقيمة عند ضفته الشرقية، أي في عمان، هو نهر الأسطورة والتاريخ والذات - الهوية، هو النهر الذي يعبر بلاد الشام كلها من جبل الشيخ أو حرمون إلى البحر الميت. أما الدانوب فهو الموسيقى الكلاسيكية التي أعشقها وأغوص فيها». لقد أدهشني هذا الكتاب وأفردت له الغلاف الداخلي، في العدد المزدوج 24/ 25 تاريخ 2013/ 2014 من مجلة «اتجاه» التي أشرف على تحريرها وأنا فخور بما اعتبرته، يومها، إنجازاً.
في ثلاثية الغياب، ومن كل رأي وكلمة لك، كتابة» وشفاهاً، وفي كل إطلالاتك، وفي كل ميادينك التي خضتها، حياة الحويك: أعلن استدامة حضورك!
* أستاذ جامعي