مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
جورج قرم - يواكيم مبارك: بيروت الملتقى الأخير!
 
حمية، علي
 

 

 

 

بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982) غادرتُ إلى فرنسا لمتابعة دراستي الجامعية، وكان بعض الأصدقاء الذين علموا بقدومي قد أعدّوا لي موعداً مع الأب الدكتور يواكيم مبارك في جامعة السوربون/ باريس الأولى/ حيث كان يقوم بالتدريس مع البروفسور Pierre Thillet، رئيس قسم الفلسفة الوسيطة في السوربون. في ذلك الموعد، اقترح عليّ الأب مبارك إعداد أطروحة عن الدكتور خليل سعاده، والد أنطون سعاده مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي وأحد كبار النهضويين المغمورين، فلم أتردّد لحظة في القبول، وكان للأب مبارك ما أراد! في السوربون، وفي أواسط العام الجامعي 1984- 1985 وبرفقة الأب مبارك، تعرّفت إلى الدكتور جورج قرم، باحث وأستاذ جامعي وخبير اقتصادي. ولكنني، قبل لقاء التعارف هذا، كنت قد قرأت، في بيروت، كتابه الطليعي «تعدّد الأديان وأنظمة الحكم» (1977) وأعجبت به كثيراً. بعد تعارف باريس، اقتربت أكثر من الدكتور قرم وزرته وبعض الزملاء الطلبة أكثر من مرة، في منزله بالقرب من السوربون حيناً، وأحياناً أخرى في مكتبه في الدائرة 14 من باريس. هو جار السوربون، بل أقرب جار للسوربون، فمنزله يكاد يلتصق بها والشارع الذي يمرّ بينهما لا يتجاوز عرضه الأمتار العشرة. هو في الطابق الثاني ودار النشر la decouverte التي تخصّصت في طبع مؤلفاته بالفرنسية تقع في الطابق السفلي.


في الأول من كانون الأول 1986، التقينا مجدداً في السوربون: أنا كطالب سيدافع عن أطروحته في الفلسفة والدكتور قرم كعضو في لجنة المناقشة الـ(jury) التي تألفت، بالإضافة إليه وإلى الأب مبارك، من Thillet Pierre كمشرف وRoger Arnaldez كرئيس للجنة. ولما كانت الجامعة مقفلة في يوم مناقشة أطروحتي بسبب الإضراب العام الذي عمّ فرنسا في ذلك اليوم، انتقلنا، أصدقائي وأعضاء لجنة المناقشة، إلى مقهى الـ Escolier، عند مدخل الجامعة، بانتظار ما ستؤول إليه اتصالات الأستاذ المشرف لتسوية الأمر وإيجاد قاعة تستوفي الشروط. في هذه الأثناء، وقد طال الانتظار، اقترح الدكتور قرم أن ننتقل إلى منزله بالقرب من الجامعة وتجري المناقشة هناك، فردّ رئيس اللجنة أنه لا يحق لنا قانونياً إجراء المناقشة خارج مبنى الجامعة. انتظرنا إلى أن جاء من يقول لنا إن المسألة قد حلّت ويمكننا الانتقال إلى مبنى الـ2 Paris حيث توجد قاعة صغيرة مفتوحة، فذهبنا جميعاً وتمّت المناقشة.


أحب أن أشير، هنا، إلى أن الأب مبارك الذي كان يحوز ثقة رئيس قسم الفلسفة الوسيطة في السوربون كان يقترح عليه لجان المناقشة، رئيساً وأعضاء، وقد كان لهذه الثقة دور في اختيار الدكتور قرم عضواً في لجنة المناقشة الخاصة بي، فضلاً عن شوق مبارك والقرم معاً إلى الكشف عن الدكتور خليل سعاده، النهضوي المغمور والمحارَب بذريعة أنه والد أنطون سعاده صاحب الدعوة إلى القومية السورية.


وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن الدكتور قرم وجّه إليّ سؤالاً، في جلسة المناقشة، وهو: ألا تعتقد أن الدكتور سعاده وابنه أنطون كانا، في دعوتهما إلى القومية السورية، يفكّران في إنشاء وطن قومي للأقليات، بشكل عام، وللمسيحيين بشكل خاص، على المقلب الشرقي للمتوسط؟ وأجبته، فوراً، بالنفي مؤكداً وحدة النسيج الاجتماعي السوري وأن السوريين مجتمع واحد ولا يضيرهم أن بعضهم يرجع إلى أصول كنعانية أو إغريقية أو عربية أو صليبية... إلخ، وأن وحدتهم متولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.


في تلك المدة، وتحديداً عام 1984، انتُخب المطران صفير بطريركاً لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للموارنة وصدف أن وجدت، عند أحد الباعة، في باريس، جريدة «النهار» وتتصدرها افتتاحية غسان تويني بعنوان: «مجد لبنان أعطي له!»، ويقصد تويني البطريرك صفير. حملتها إلى الأب مبارك في مكتبه في السوربون فغضب ورمى بها أرضاً مع أن النتيجة بفوز صفير كانت قد بلغته قبل أيام. لم يكن الأب مبارك على وفاق مع المطران/ البطريرك الجديد وكان يفضّل مطران صور عليه. ولمّا عاد الأب مبارك إلى لبنان بناءً على طلب صفير وبدأ يعدّ العدة لـ«المجمع الماروني» وضعت العراقيل أمامه فحمل محفظته وعاد إلى فرنسا وتوفي هناك سنة 1995.


في 25 آب 2009 وصل جثمان الأب مبارك إلى لبنان ودفن، بناء على وصيته، في بلدته كفرصغاب، وقد حضرت مراسم الدفن إلى جانب مجموعة من الأصدقاء ممن كانوا طلاباً عنده في لوفان وباريس، وشارك في التشييع أيضاً الدكتور ناصيف نصار الذي تجمعه صداقة عميقة مع كل من مبارك والقرم. وصل البطريرك صفير تواكبه مجموعة من المطارنة ورجال الدين واستُقبل من الحضور وبدأ القداس. ما لفت انتباهي أن أحد المطارنة ترأس القداس وليس البطريرك، فاستغربت المشهد وسألت أحد الحضور فوشوش في أذني: ألا تعرف أن الرجلين كانا على خلاف؟ فهمت، عندها، أن الخلاف يرافق الموتى إلى القبور!


في نيسان 1996 أصدرنا مجموعة من الأصدقاء العدد الأول من مجلة «اتجاه»، وصودف، ونحن نعدّها للنشر، صدور كتاب الدكتور قرم «مدخل إلى لبنان واللبنانيين»، فطلبت منه أن يأذن لي بنشر أحد فصول الكتاب كمساهمة في دعم المجلة في إصدارها الأول، فوافق، واخترت الفصل الخاص بالإصلاح السياسي، نظراً إلى أهميته وحاجة اللبنانيين إلى مثل هذا الإصلاح في هذا الطور الجديد من حياتهم السياسية. والكتاب، للإيضاح، قسمان وملحق: يتناول القسم الأول الأطروحات التاريخية حول هوية لبنان، ومدخلاً منهجياً لفهم تاريخ لبنان بتناقضاته، وتحديداً للمسؤوليات في الفتن الطائفية وتغيير آلية تكوين الزعامات السياسية، ويشتمل القسم الثاني على مبادىء واقتراحات في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. أمّا الملحق، فيرسم العلاقة بين لبنان وسوريا (الشام).


بين عامي 1998-2000 شغل منصب وزير للمالية في حكومة الرئيس سليم الحص وتعرّض لحملة عنيفة من جماعة الحريري-الأب. اتصلت به ذات يوم، مساء، في منزله وسألته: ما العمل؟ فأجابني: أنا وزير وعلى حكومتي أن تدافع عني.


في بيروت بعد حرب تموز، نادراً ما كنا نلتقي. أمّا في السنوات الأخيرة، فقد كنا نلتقي في مناسبات، تارة بالمصادفة وطوراً بدعوة من منتديات ثقافية، خصوصاً في جبيل. سألني ذات يوم، وكنت في زيارته في مكتبه، إن كنت أرغب في العمل في الترجمة من الفرنسية إلى العربية فاعتذرت، شاكراً. التقيت الدكتور قرم، آخرة مرة، في 11 تموز الماضي في الجامعة اليسوعية في بيروت، في الاحتفال بالذكرى المئوية لولادة صديقه وزميله الأب يواكيم مبارك (1924 -2024)، والذي يشاطره الكثير من أفكاره حول لبنان والعروبة والمسيحية المنفتحة على عالمها العربي ومداها المتوسطي. وكان، على ما بدا لي من مظهره وحركته، متعباً ومنهكاً، فلم يقدّم كسواه مداخلة انتظرها الحضور بفارغ صبر. لم أطمئن لحالته فسألته ما إذا كان، كعادته، يمضي وقته متنقلاً بين بيروت وباريس، فأجابني أنه عاد نهائياً إلى بيروت ولن يبرحها أبداً!


* أستاذ جامعي

 

 
التاريخ: 2024-08-21
 
شارك هذه المقالة عبر:
 
المصدر: جريدة الأخبار - بيروت، 21 آب 2024
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro