انطلق أنطون سعادة حين أنشأ حزبه السوري القومي الاجتماعي في ثلاثينيات القرن الماضي، من مبدأ أساسي رئيسي ألا وهو إعادة لحمة سوريا الطبيعية أو «سوراقيا» إلى ما كانت عليه قبل تقسيمها قطعاً طائفية متناثرة من قبل الاستعمار الغربي الممثّل ببريطانيا وفرنسا إبان الحرب العالمية الأولى، ثم الحلف الأطلسي.
المبدأ الأساس في دستور الحزب
الأولوية بالنسبة إلى سعادة، والتي ليس من أولويات تتقدمها، هي إعادة توحيد سورية الطبيعية كما ورد في المادتين الأولى والثانية من الدستور، وهي على رأس المبادئ الأساسية، إذ إن سعادة رفض الاعتراف باتفاقيات سايكس ــ بيكو، وكل التقسيمات التي أُلحقت بها في ما بعد، مثل اقتطاع الإسكندرون وضمها إلى تركيا، وإقامة مستعمرة غربية يهودية على أرض فلسطين وتهجير سكانها وإبادتهم لأنها تقسيمات فرضها المستعمِر عنوة على أهل بلاد الشام.
عمل سعادة على بث الوعي القومي/ الوطني، وتجاوز الخلافات الطائفية التي يستعملها المستعمِر لمصلحته فيؤلّب طائفة ضد أخرى، ويشحن البغضاء بين اللبناني والسوري والأردني والفلسطيني والعراقي على أسس طائفية ومذهبية أو إثنية، واستطاع أن يؤلف مجموعة من القوميين تخطت الحواجز الطائفية والإثنية. وأخطر ما قام به سعادة في نظر الغرب الاستعماري، قفزه فوق خطوط سايكس ــ بيكو، فنجد أن حزبه ضم فلسطينيين ولبنانيين وأردنيين وسوريين كهيئة شعبية واحدة ممثلة لسوريا الطبيعية الحرة المستقلة.
لم يدخُل العراق ضمن رؤية سعادة إلا في عام 1947، واقترح استبدال «سورية الطبيعية» بـ«سوراقيا» حينذاك، لكن الغرب المتربص بأي مشروع يوحّد المنطقة لم يمهله بل قضى عليه بعد سنتين، أي عام 1949، ذلك أن المستعمِر كان مصمماً على إنشاء دولة «إسرائيل»، وهو العارف تمام المعرفة أن لا حياة لهذه الدولة المصطنعة إلا على أنقاض «سوراقيا».
انطلاقاً من المبدأ القومي/ الوطني الأساسي المرتكز على وحدة الأرض «السوراقية»، ووحدة شعبها بمعزل عن طوائفه وأديانه وإثنياته، واجه سعادة الدول الغربية التي اشتركت في تقسيم المنطقة، والتي عملت على إيجاد «إسرائيل» كدولة قومية لليهود على أرض فلسطين، كما واجه الاتحاد السوفياتي الذي سارع إلى الاعتراف بـ«إسرائيل» على حساب شعب أعزل لا إمكانات مادية لديه لمقاتلة أعداء من هذا النوع.
علينا أن نتذكر أن اتفاق سايكس ــ بيكو السري عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا هدف إلى تقاسم تركة العثمانيين حالما تنتهي الحرب العالمية الأولى. ولو بقيت روسيا قيصرية لكانت حصلت على مضائق الدردنيل، إلا أن نجاح الثورة البلشفية أدى إلى انسحابها من هذه الاتفاقية التي كان القيصر قد أبرمها، وسرّبتها للعلن عام 1917، لكن الشريف حسين الذي ترأّس ثورة شبه الجزيرة العربية ضد العثمانيين، رفض تغيير موقفه وبقي متحالفاً مع البريطانيين.
تعامل أنطون سعادة مع القوى الداخلية والخارجية على أساس أولوية الانتماء إلى سورية الطبيعية والدفاع عن أرضها ووجودها كوحدة غير قابلة للتجزئة، وبالتالي مقاومة أي خطط صهيونية أو غربية لاحتلالها، ورأى أن من واجب كل منتمٍ إلى «سوراقيا» الوقوف في وجه احتلال أي منطقة من مناطق هذه الأمة، ورفض الخضوع للمنطق الغربي القائل بأن لا علاقة للبنان بسوريا أو العراق أو فلسطين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سكان الكيانات الأخرى. فالمبدأ المركزي هو المصلحة «السوراقية»، وعلى رأسها الاعتراف بأحقية الشعب «السوراقي» في تقرير مصيره وإلغاء تقسيمات الغرب الجائرة وغير المشروعة، إذ لا حق يعلو فوق حق شعب «سوراقيا» على أرضه ووطنه.
تحوّل العمل الحزبي إلى أهداف ثانوية وهامشية
بعد استشهاد سعادة تخلّت القيادات المتلاحقة في الحزب السوري القومي الاجتماعي عن العمل لتحقيق المبدأ الأساسي والجوهري الذي وضعه سعادة والذي من دونه لا قيامة لشعبنا، ألا وهو توحيد كيانات سوراقيا، فلا نجد أي نشاط أو برامج من أجل الوصول إلى هذه الغاية، بل استُبدل هذا المبدأ الأساس بنشاطين ثانويين هامشيين.
أولهما، امتد من تموز 1948 حتى عام 1969 وتمحور حول محاربة الشيوعية. لا أدري ما هي الأسباب التي دفعت بالقيادات الحزبية المتلاحقة إلى محاربة الاتحاد السوفياتي والشيوعية في تلك المرحلة، والانضمام إلى الأحلاف الغربية، ومؤازرة مبدأ أيزنهاور. هل هي الأهواء الشخصية لهذه القيادات؟ فسعادة وقف ضد الاتحاد السوفياتي بناء على موقف هذا الأخير المعترف بـ«إسرائيل»، لكن حين بدّل الاتحاد السوفياتي موقفه وأخذ يناصر الشعوب المضطهدة لكان سعادة عدّل موقفه لو بقي حياً بما يتناسب ومصلحة سوراقيا.
الشواهد على انحياز الحزب إلى الغرب الاستعماري في تلك الفترة (1949-1969) واضحة لا لبس فيها. ففي عام 1955 وقف إلى جانب حلف بغداد، وهو حلف أقامته بريطانيا مع تركيا وإيران والعراق وباكستان، هدفه صد انتشار النفوذ السوفياتي في المنطقة (1). وفي السنة نفسها، قرر رئيس الحزب القضاء على العقيد الركن عدنان المالكي الذي كان يتطلع إلى قيادة الجيش السوري بناء على مناصرته للتيار اليساري كما ذُكر، فكانت النتيجة حلّ الحزب وتشريد القوميين في سوريا. وبعدها بعام واحد، أي في عام 1956، انخرط الحزب القومي مجدداً مع عناصر أخرى، في محاولة انقلابية فاشلة في سوريا، وكانت الولايات المتحدة الأميركية وراء هذا الانقلاب الذي دعمته بالمال والسلاح (2). ومن بعدها انغمس الحزب في الحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 جنباً إلى جنب مع «الكتائب»، وبدعم من الأميركيين أيضاً في مواجهة سوريا ومصر ومشروع عبد الناصر. وحين وضعت الحرب أوزارها وانتُخب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وقفت قيادة الحزب ضده، وتحالفت مع كميل شمعون وقامت بانقلاب فاشل ليل 1961-1962، نتج منه تشريد القوميين تماماً كما حدث في سوريا، وأُلقيت القيادة الحزبية في السجن، ولم يُفرج عنها إلا بعد سنوات عدة، خرج من بعدها القياديون مع وصول منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان واستقرارها فيه بعد هزيمة «أيلول الأسود» في الأردن. حينها تحوّلت مواقف القيادة الحزبية الجديدة وآزرت المقاومة الفلسطينية، وتراجعت عن سياسة حروبها ضد الشيوعية.
الهدف الثاني الذي ركّز عليه الحزب والمؤسسات الحزبية القومية، هو المبدأ الذي ينص على فصل الدين عن الدولة، وهو مبدأ إصلاحي لم يضعه سعادة ضمن مبادئه الأساسية، فإذا به يصبح على رأس قائمة نشاطات الحزب السياسية والاجتماعية بدلاً من المبدأ القومي/ الوطني القائم على توحيد «سوراقيا»، فأخذ ينادي بالعلمنة دون الأخذ في الحسبان أن إقامة نظام علماني والعمل له غير ممكن ضمن الأمر الواقع السايكس ــ بيكوي، فالمبادئ الإصلاحية تأتي حُكماً بعد تنفيذ المبادئ الأساسية، أو على أقل تقدير بالتوازي معها!
حين تم التغاضي عن العمل على وحدة «سوراقيا»، وتبنّى الحزب أولوية «العلمنة»، ألغى المعنى الجوهري والرئيسي لتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأصبح معيار «العلمنة» هو المعيار الذي يقيس عليه القوميون مواقفهم، حتى وصل ببعضهم إلى الوقوف ضد المقاومة تبعاً لعلمانية ترفض الدين، وهذا مناقض تماماً لموقف سعادة الذي يحترم الأديان ودورها في المجتمع، لكنه يريد إبعادها عن قرارات الدولة والسياسة التي يجب أن يتحكم بها العقل وأهل الاختصاص، وهو لم ينف دور الدين بتاتاً بل على العكس من ذلك أكد دوره حين قال: «إن شرط كون الدين عنصراً قومياً أن لا يتضارب مع وحدة الأمة ونشوء روحها القومية، وبهذا المعنى يصير الدين عنصراً من عناصر القومية» (3).
لقد حان الوقت للعمل على وحدة سوراقيا، وخاصة أن المقاومة قد وحّدت الجبهات. هذه المقاومة الإسلامية تناضل من أجل استرجاع الأرض وتحرير فلسطين، ولا يعيبها إن كان لون بشرتها أصفر أو أبيض أو أسمر، لأن ما يهم مشروع سعادة هو الهدف الذي تصبو إليه المقاومة، وهو قطعاً هدف وطني يتلاقى ورسالة سعادة «السوراقية». أمّا مَن يعارض مِن القوميين فهو يضع المبدأ الإصلاحي «العلماني» الثانوي فوق المبدأ القومي الأساسي ألا وهو تحرير الأرض من المستعمر الغربي كي تستطيع هذه الأمة تقديم أفضل ما عندها لشعبها المختلط دينياً وإثنياً.
هوامش:
(1) لقد دعمت الولايات المتحدة الأميركية حلف بغداد وانخرطت فيه عام 1959، ثم غيّرت اسمه إلى «سنتو» (CENTO)، وأصبح مركزه في أنقره.
(2) Wilbur Crane Eveland, Ropes of Sand. London, 1980
(3) أنطون سعادة، نشوء الأمم، الفصل السابع.