أنطون سعاده يعد واحداً من أبرز المفكرين الذين قدموا رؤية شاملة لمواجهة التحديات التي كانت تعصف بالأمة السورية خلال القرن العشرين. رؤيته لم تقتصر فقط على مقاومة الاحتلال الخارجي، بل امتدت لتشمل علاجًا جذريًا لكافة الاختلالات الداخلية التي كانت تعيق نهوض الأمة. سعاده أدرك أن المقاومة لا يمكن أن تنجح دون بناء أسس قوية تستند إلى التحديث والعلم على أساس الأصالة والهوية القومية والحضارية. كما شدد على أهمية زرع روح الصراع والقوة في نفوس الأجيال، وبناء الثقة القومية بالقدرة على النهوض والانتصار، وهي رؤية استشرافية طرحها قبل عقود من الزمن.
الاستقلالية الفكرية ومحاربة التبعية
من أولى المفاصل التي تشكل أساس فكر سعاده المقاوم هو الدعوة إلى الاستقلالية الفكرية. كان سعاده يرفض بشكل قاطع التبعية الثقافية والسياسية للقوى الاستعمارية، واعتبر أن تبني الأفكار الأجنبية دون تكييفها مع الواقع المحلي يؤدي إلى البلبلة والتفكك الداخلي. لذلك، دعا إلى بناء فكر قومي اجتماعي مستقل ينبثق من الهوية السورية، تاريخها، وثقافتها.
رأى سعاده أن بناء أمة مستقلة يحتاج إلى فكر أصيل ينبع من تجربة الأمة ومن واقعها الجغرافي والتاريخي. لم يكن يقبل بأن يُملى على الأمة كيف تفكر أو كيف تدير شؤونها. اعتبر أن الأمة القادرة على الاعتماد على نفسها فكرياً هي وحدها التي تستطيع مقاومة القوى الاستعمارية والمشاريع الاستيطانية، مثل المشروع اليهودي في فلسطين.
وفي هذا السياق، يقول سعاده:
"إنّ الأفكار الـمعتنقة اقتباساً من الـخارج لا تـحرك عوامل النفسية الصحيحة".
كما أضاف أن التحرر من التأثيرات الأجنبية هو الأساس لتحقيق السيادة الكاملة:
"قد حررنا أنفسنا ضمن الحزب من السيادة الأجنبية والعوامل الخارجية، ولكن بقي علينا أن ننقذ أمتنا بأسرها وأن نحرر وطننا".
زرع روح الصراع والقوة ورفض ما هو مفروض
سعاده كان يدرك أن الأمة لا يمكن أن تنهض إلا من خلال روح الصراع والإرادة القوية. أحد الجوانب الأكثر بروزاً في فكر سعاده هو زرع روح الصراع والقوة في نفوس الأجيال. كان يؤمن بأن الأمة لا يمكن أن تنهض ما لم تكن لديها إرادة رفض ما هو مفروض من الخارج، سواء من قبل القوى الاستعمارية أو النظم الداخلية التي تعيق التقدم. أكد على ضرورة أن يكون الشعب السوري مستعدًا لخوض الصراع بكل شجاعة وثقة، معتبراً أن الصراع هو الوسيلة الطبيعية للنهوض والعبور نحو الانتصار.
رأى سعاده أن الثقة القومية بالقدرة على الانتصار هي عنصر حاسم في نجاح الأمة. كان يعتقد أن اليأس والاستسلام للأمر الواقع يؤدي إلى التخلف والجمود، ولذلك دعا إلى بناء ثقة راسخة في قدرة الأمة على تجاوز التحديات والنهوض بنفسها، مؤمناً بأن العلم والتخطيط هما الأداتان الأساسيتان لتحقيق هذا الهدف. وبالنسبة له، الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالقوة والمقاومة، وهو ما يعبر عنه بقوله:
"نحن بنظرنا سلبيون في الـحياة. أي إننا لا نقبل بكل أمر مفعول يفرض، وبكل حالة تقرر لنا من الـخارج... لسنا ضعفاء إلا إذا أردنا أن نكون ضعفاء".
وقد شدد على أن الحرية تتطلب كسر القيود:
"الحرية تعني تقطيع السلاسل وكسر القيود".
بالإضافة إلى ذلك، رأى سعاده أن الهجرة اليهودية تشكل تهديدًا كبيرًا لنسيج الأمة السورية، كونها غريبة عن تركيبتها الاجتماعية والثقافية، فقال:
"الهجرة اليهودية. إنها هجرة خطرة لا يـمكن أن تهضم، لأنها هجرة شعب اختلط مع شعوب كثيرة فهو خليط متنافر خطر... وعلى السوريين القوميين أن يدفعوا هذه الهجرة بكل قوّتهم".
وفي ظل هذا التهديد، كان يرى أن الصراع مع المشروع اليهودي هو صراع وجودي، وليس مجرد صراع سياسي أو اقتصادي، حيث قال:
"أهدافه تتضارب مع حقيقة الأمة السورية وحقوقها وسيادتها".
وأشار أيضًا إلى أهمية دور المجتمع في هذا الصراع، إذ يعتبر أن المجتمع هو مركز المقاومة، وأنه لا يمكن تحقيق أي نصر دون تعبئة المجتمع وتوحيد إرادته لمواجهة هذا الخطر.
الوحدة القومية في مواجهة التفكك الداخلي
سعاده كان مدركاً أن التحديات الخارجية لا يمكن مواجهتها إلا من خلال وحدة قومية صلبة. اعتبر أن الانقسامات الطائفية، العشائرية، والإقطاعية كانت السبب الأساسي في إضعاف الأمة السورية وجعلها فريسة سهلة للقوى الاستعمارية. دعا إلى توحيد صفوف الشعب السوري في إطار قومي اجتماعي واحد لمواجهة الاحتلال الأجنبي، بما في ذلك المشروع الصهيوني في فلسطين.
لكن الوحدة القومية لم تكن في فكر سعاده هدفاً بحد ذاته، بل كانت وسيلة لتحقيق النهضة الشاملة. لقد رأى أن تحقيق العدالة الاجتماعية هو الأساس الذي يمكن بناء هذه الوحدة عليه. لكنه أضاف أن العدالة الاجتماعية ليست مجرد توزيع عادل للثروة، بل هي نتاج تحرر اجتماعي واقتصاد منتج قائم على الإبداع والعمل، وليس على الاستغلال.
ويؤكد سعاده على أن تجاوز العصبيات يؤدي إلى بناء وحدة قوية، قائلاً:
"في الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات الـمتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة، التي تتكفل بإنهاض الأمة".
وأضاف أن الوحدة يجب أن تكون روحية ونفسية، لأن وحدة المصالح والقيم ضرورية لتحقيق النهضة. يقول:
"كل أمة تريد أن تـحيا حياة حرة مستقلة تبلغ فيها مثلها العليا يجب أن تكون ذات وحدة روحية متينة".
هذه الوحدة تتطلب وحدة الرؤية والمصالح، كما قال:
"وحدة مقاييس وإرادات ومصالح في الشعب الواحد، في الأمة الواحدة".
الاقتصاد المنتج والتحرر الاجتماعي
في فكر سعاده، الاقتصاد ليس مجرد نظام لإنتاج الثروة، بل هو عامل أساسي في تحقيق الاستقلال الوطني. دعا سعاده إلى بناء اقتصاد منتج يعتمد على الصناعة المحلية والزراعة المتقدمة، بحيث تكون الأمة السورية قادرة على تحقيق اكتفائها الذاتي دون الحاجة إلى الاعتماد على الخارج. كان يرفض نموذج الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على الاستيراد، ويرى أن هذا النمط من الاقتصاد يعرض الأمة للهيمنة الاقتصادية والسياسية.
بالإضافة إلى ذلك، رأى سعاده أن التحرر الاجتماعي هو المفتاح لتحقيق العدالة الحقيقية. دعا إلى القضاء على الفجوة بين الطبقات، ومحاربة النظام الإقطاعي الذي كان يسيطر على الأراضي ويستغل الفلاحين. كان يؤمن أن تحرير المجتمع من الاستغلال سيؤدي إلى بناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة التحديات الخارجية، بما في ذلك الاحتلال والمشروع الصهيوني.
رأى سعاده أن التحرر الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال بناء اقتصاد منتج يقوم على الصناعة والزراعة والفكر، ويتجنب التبعية الاقتصادية. كان يؤمن أن تحقيق العدالة الاجتماعية يعتمد على قدرة الأمة على إنتاج ثروتها بشكل مستقل، قائلاً:
"الإنتاج هو الأساس الهامّ للاقتصاد القومي. وبدون الإنتاج لا يـمكننا مطلقاً التفكير برفاهية الشعب".
وأكد على ضرورة توجيه الأمة نحو استعادة مواردها:
"نريد تحويل جزرنا إلى مد نستعيد به كامل أرضنا وموارد حياتنا".
وفي هذا الإطار، شدد سعاده على أهمية النفط كأحد أهم الموارد الاستراتيجية في الصراع. النفط بالنسبة لسعاده كان مفتاحًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي والازدهار الاقتصادي الذي يمكن الأمة من مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، حيث قال إن التحكم بالموارد مثل النفط يعزز من قدرة الأمة على مواجهة الأعداء. كما اعتبره سلاحاً انترنسيوناً لم يستخدم بعد، لا في زمنه، ولا اليوم.
تطوير القوة العسكرية على أساس التحديث
بالرغم من أن سعاده لم يعش في عصر التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، إلا أنه لو كان موجودًا اليوم، لكان بالتأكيد دعا إلى تطوير المنظومات الدفاعية اعتماداً على أحدث التقنيات. كان سعاده مدركاً أن مقاومة المشروع الصهيوني وغيره من القوى الاستعمارية تتطلب أكثر من القوة العسكرية التقليدية، ولذلك كان سيدعو إلى الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية والبحث العلمي لتعزيز القدرات الدفاعية للأمة.
سعاده كان سيوجه نداءً إلى الأمة بضرورة تطوير الصناعات الدفاعية المحلية، بدلاً من الاعتماد على استيراد الأسلحة من الخارج. كان سيحث على إنشاء مراكز بحث علمي متخصصة في تطوير تقنيات مثل الطائرات بدون طيار (الدرونز)، الحرب السيبرانية، والأنظمة الدفاعية المتقدمة. في عالم اليوم، حيث تلعب التكنولوجيا دورًا محوريًا في الحروب، كان سعاده سيؤكد على أن الأمة السورية يجب أن تمتلك الأدوات التكنولوجية اللازمة للحفاظ على أمنها وسيادتها.
وفي هذا الصدد، قال:
"الأمة السورية كلها يجب أن تصبح قوية مسلحة".
كما أشار إلى أن القوة العسكرية هي الضمان الأساسي للسيادة، قائلاً:
"لا يمكننا بالمنطق وحده، ولا يمكننا بإظهار الحق مجرداً أن ننال الحق. لأن الإنسانية لا تزال قوميات، وكل قومية يجب أن تدافع عن حقوقها بالقوة".
بناء جيل جديد: التخصصات المعاصرة والوجدان الاجتماعي
جزء أساسي من رؤية سعاده للمقاومة كان يتمثل في بناء جيل جديد مؤمن بعقيدة وحدة الأمة ونهضتها. كان يعتقد أن النهضة لا يمكن أن تتحقق بدون جيل متعلم، قادر على قيادة الأمة في مجالات العلوم، التكنولوجيا، والاقتصاد. لو كان حاضراً اليوم، لكان دعا إلى إعداد هذا الجيل من خلال التعليم المتقدم، مع التركيز على التخصصات المعاصرة مثل الذكاء الاصطناعي، علوم البيانات، الهندسة، والتكنولوجيا الطبية.
لكن التعليم بالنسبة لسعاده لم يكن مجرد وسيلة لإعداد الكوادر، بل كان يراه كوسيلة لغرس الوعي القومي والوجدان الاجتماعي. كان يرى أن هذا الجيل الجديد يجب أن يُربى على أساس العمل الجماعي والمسؤولية تجاه المجتمع، بعيدًا عن النزعة الفردية والأنانية التي كان يعتقد أنها تؤدي إلى تفكك المجتمع. كان يؤمن أن هذا الجيل يجب أن يكون قادراً على تطوير كافة القطاعات في الأمة، من الصناعة والزراعة، وصولاً إلى القدرات الدفاعية، بما يمكن الأمة من مواجهة كافة التحديات، بما في ذلك المقاومة العسكرية ضد المشروع الصهيوني.
وفي رؤيته لبناء جيل جديد قادر على مواجهة تحديات العصر، شدد سعاده على أهمية الوعي القومي والتخصص العلمي، قائلًا:
"قد حررنا أنفسنا من الوهم الباطل بأننا قوم ضعفاء لا قدرة لنا على شيء ولا أمل لنا بتحقيق مطلب أو إرادة".
كما أكد على ضرورة تربية جيل يحمل الوعي الاجتماعي الصحيح ليكون قادرًا على مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الأمة.
مقاومة المشروع اليهودي: الصراع الوجودي
منذ بداياته، رأى سعاده أن المشروع اليهودي في فلسطين ليس مجرد احتلال أرض، بل هو جزء من مخطط استعماري عالمي يستهدف تقسيم الأمة والسيطرة على مواردها. رفض سعاده فكرة "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين، واعتبر أن هذا المشروع جاء بدعم من القوى الاستعمارية مثل بريطانيا لتحقيق مصالحها في المنطقة. لو كان سعاده موجودًا اليوم، لكان دعا إلى مقاومة هذا المشروع عبر تطوير كافة عناصر القوة الذاتية، بما في ذلك التفوق التكنولوجي والعسكري.
ورأى سعاده أن المشروع اليهودي يشكل تهديدًا وجوديًا للأمة السورية، وكان يعتقد أن المقاومة بكل الوسائل هي السبيل الوحيد للنجاة. في هذا السياق، قال:
"السوريون القوميون الاجتماعيون يؤمنون بضرورة هذا التغير إيـماناً تاماً، ويظهرون استعدادهم التـام وعزمهم الأكيد على أن يحققوا انتصار مبادىء الحزب".
كما أشار إلى خطورة فقدان الأمة لقوتها الدفاعية، خاصة في مواجهة المشروع اليهودي:
"لقد اضطررنا إلى النظر بحزن إلى أجزاء من وطننا تسلخ عنه وتضم إلى أوطان أمـم غريبة لأننا كنا فاقدين نظامنا الـحربي وقوّتنا".
الخلاصة: مشروع نهضوي شامل للمقاومة
أنطون سعاده، في مجمل فكره، كان يسعى إلى بناء مشروع نهضوي شامل يقوم على الاستقلالية الفكرية، العدالة الاجتماعية، والتحديث التكنولوجي والعسكري. كان يعتقد أن زرع روح الصراع والقوة وبناء الثقة القومية بالقدرة على النهوض والانتصار هو ما يجعل الأمة قادرة على تحقيق السيادة.
ولو كان موجودًا اليوم، لكان بالتأكيد دعا إلى تطوير المنظومات الدفاعية، الاستثمار في البحث العلمي، وإعداد جيل متخصص قادر على قيادة الأمة في مواجهة التحديات المعاصرة. كانت رؤيته لمقاومة المشروع اليهودي تتمثل في بناء مجتمع متماسك، قادر على الاعتماد على نفسه في كل المجالات، بدءًا من الاقتصاد ووصولاً إلى الدفاع.