«مارسوا البطولة ولا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل»
أنطون سعادة
ستقرر نتائج هذه الحرب المفصلية، التي لم يسبق لبلادنا أن شهدت مثيلاً لها، مصيرنا لعقود قادمة. ونصرنا فيها سيزعزع أنظمة ويسقط عروشاً سادت منذ رحيل العثمانيين. وبمعنى أدق أن ما بعد هذه الحرب لن يشبه ما سبقها إطلاقاً.
هذه الحرب فجّرها الشعب الفلسطيني المقموع، والمحتلة أرضه، والمحاصر أيضاً. وهي ليست حرب جيوش وأنظمة تنهار في بضعة أيام. والدليل أمامنا واضح بعد أن دخلت معركة «طوفان الأقصى» عامها الثاني.
لكل ظالم ومحتل نهاية، وهذا ما سجله التاريخ في صفحاته عبر العصور. الغزوة الصهيونية لبلادنا توفر لها كل عناصر الحياة: المال، والسلاح، والحماية. لكن كل ذلك لم ينفع. صحيح أنهم أقاموا تجمعاً استيطانياً عسكرياً صناعياً متقدماً يشبه إلى حد بعيد الدول الأوروبية الصناعية المتقدمة، وصحيح أنهم أجبروا أنظمة عربية بواسطة الأميركيين على أن تتحالف معهم، وتلغي من مناهجها الدراسية المواد التاريخية التي تشرح حقيقة الاستيطان الصهيوني، وصحيح أنهم يهوّدون الأرض تدريجياً... لكن رغم ذلك كله لم يكن أحد يتوقع إطلاقاً أن تقوم غزة المحاصرة عربياً وصهيونياً بتفجير أهم حرب في تاريخنا الحديث، متحدية موازين القوى التي لا مجال للمقارنة معها بتاتاً.
الصمود الفلسطيني المتواصل منذ «طوفان الأقصى» وما قبله، ورغم حرب الإبادة التي يؤيدها معظم ما يسمى بالدول المتقدمة، هو معجزة لم تحدث من قبل. إنها الروح المتفانية في عشق الأرض والثورة على القمع والاحتلال ورفض التهويد المستمر. نعم إنها الروح التي تقاتل وليس السلاح فقط. من هنا يتأكد لنا على أرض الواقع أن حرب الشعب المسلّح المؤمن بقضيته هي الطريق الوحيدة المتاحة أمامنا إلى النصر.
لقد عمّر القائد يحيى السنوار، مهندس «طوفان الأقصى» وأعظم قادة الثورة الفلسطينية عبر التاريخ، لمدة عام ونيف بعد انطلاق المعركة، وكنا نتوقع يومياً أنه سيسقط شهيداً. كانت أجهزة مخابرات الصهاينة والأطلسي وبعض الدول العربية تتعاون للقضاء عليه. وخلال عام «الطوفان» المنصرم، شهد السنوار أن ما بناه وجهزه بمساعدة من المقاومة في لبنان وسوريا وإيران، قد قلب الوضع في فلسطين والمنطقة عموماً رأساً على عقب.
ملحمة استشهاد السنوار ستبقى في ذاكرة الأجيال لقرون قادمة. إنه بحق شخصية عسكرية وتنظيمية فذة لم يشهد الفلسطينيون أمثالها منذ اندلعت ثوراتهم المتكررة بعد وصول طلائع المستوطنين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر.
أعاد السنوار ورفاقه النضال الفلسطيني إلى الأساس، أعني أنه ألغى من قاموسه كل محاولات الاستسلام من اتفاقيات أوسلو إلى ما سبقها من مشاريع التسوية الأميركية، ووجّه البوصلة إلى الموضوع الجوهري وهو أرض فلسطين من البحر إلى النهر.
فقراء غزة الذين تشرّد آباؤهم من سواحل فلسطين، وباتوا قابعين في المخيمات، شهدوا عبر تاريخهم سلسلة متواصلة من المجازر الصهيونية. وما المجزرة الحالية إلا جزء من نضال أهل غزة الذين تفوّقوا في استنزاف العدو. يحيى السنوار هو نسخة جديدة عن محمود الأسود (غيفارا غزة) الذي نزح مع والديه من حيفا إلى غزة بعد نكبة 1948. وعندما شبّ لعب دوراً ريادياً في العمل العسكري ضد الاحتلال الذي أقام مستعمرات عدة في القطاع. تصدّى الأسود، كما فعل السنوار لاحقاً، لعملاء إسرائيل الذين كانوا ركيزة الاحتلال. وبعد هزيمة حزيران 1967، قاد الأسود معركة استنزاف للعدو حتى استشهاده عام 1973. العمل المقاوم الذي قاده الأسود أجبر موشي دايان على وصف ما كان يجري في غزة بالقول «نحن نحكمها في النهار، وهم يحكمونها في الليل».
تواصلت المقاومة بعد استشهاد الأسود، واضطر الصهاينة إلى الرحيل وإزالة المستوطنات التي أقاموها هناك، وذلك في 19 كانون الأول 2003. ومن سخريات القدر أن مَن قرّر خطة الانسحاب كان رئيس الوزراء الإسرائيلي آرئيل شارون المعروف بلقب «مهندس الاستيطان».
على الضفة الأخرى في لبنان، هبّ المحرومون الذين «لا يشبهون» بعض من يحمل الجنسية اللبنانية، لنصرة أبناء شعبهم في فلسطين ضاربين بعرض الحائط بالحدود الوهمية التي رسمها الغرب الاستعماري. الجغرافيا ووحدة المصير هما اللتان أمْلتا عليهم صدّ المشروع التكفيري الأميركي - الصهيوني وهزيمته في سوريا أيضاً. ولأول مرة في تاريخ لبنان الحديث، أعادت مقاومة مشروع الاستيلاء على المنطقة، وبغض النظر عن الخسائر الناتجة عنها، تصويب البوصلة نحو مسألة فلسطين التي هي أساس كل الاضطرابات والنزاعات والحروب التي شهدتها بلادنا بعد رحيل العثمانيين.
حرب 1958 في لبنان لم تحدث في فراغ، إنما كانت نتيجة انخراط النظام اللبناني في «حلف بغداد» الشبيه إلى حد كبير بما ينفّذ من خطط أميركية - إسرائيلية اليوم. كذلك فإن الانقلابات العسكرية كان معظمها يرفع شعار فلسطين للحصول على تأييد شعبي. وبالعودة إلى الحرب الأهلية في لبنان في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كان للأميركيين والصهاينة الدور الأول في احتلال بيروت وطرد منظمة التحرير. وكان هدف قوات الغزو الصهيونية المعلن إبعاد الفلسطينيين إلى ما بعد الليطاني، تماماً كما يعلن عنه اليوم. ثم رُفع الستار عن خلاصة المخطط الأميركي - الإسرائيلي باحتلال بيروت وإقامة نظام يعقد معاهدة استسلام مع العدو. هذا ما أعلن عنه الأميركيون صراحة. إذاً، كل الأحداث الدموية التي وقعت، كان سببها الأساسي المسألة الفلسطينية واستماتة الغرب لتثبيت نفوذه والسيطرة على الموقع الإستراتيجي لبلادنا بواسطة الصهاينة.
كثيرون من اللبنانيين لا يعرفون لماذا تقاتل المقاومة في الخندق الفلسطيني! لقد عانى الجنوبيون باستمرار من ممارسات النظام الحاكم في بيروت، ومن الاعتداءات الصهيونية المتواصلة في ظل انعدام وسائل الدفاع عنهم. إن عودة سريعة إلى الصحافة اللبنانية بين عشرينيات القرن الماضي واليوم تثبت أن الجنوب كان بشكل متواصل ضحية الوحش الصهيوني.
كان الجنوبيون خصوصاً، ومواطنو الأقضية التي ألحقت بجبل لبنان عموماً، يعانون من الإهمال والقمع على يد نظام عنصري في بيروت. وكان المسؤولون الصهاينة في مذكراتهم يعتبرون أن الجنوب تحت السيطرة لأن علاقاتهم مع بعض زعماء الإقطاع فيه كفيلة بأن تسيّر الأمور لمصلحتهم. وهذا يوسف نحماني مسؤول شركة «بيكا» الصهيونية للاستيطان التابعة للورد روتشيلد يقول في مذكراته إنه اشترى أراضي مستعمرة مسكاف عام التابعة لبلدة العديسة من أصحابها بوساطة من صديقه أحمد الأسعد.
وهذا غالب الترك محافظ جنوب لبنان يتحدّث في محاضرة له عن الجنوب في الندوة اللبنانية واصفاً وضع الجنوب كما يلي: «إن أكثر من 200 قرية في الجنوب يقطنها أكثر من 150 ألف لبناني، ليس فيها ماء، يجمع أهلها ماء المطر عندما يجود الله بالمطر في بركة القرية. البركة منهلهم الوحيد يغسلون فيها ثيابهم ويشربون منها ويسقون مواشيهم. لكن هذا المنهل لا يلبث أن ينضب فأنى لهم بالماء بعده؟ إنهم يتسلقون الجبال ويهبطون الأودية رجالاً ونساء وراء قطرة الماء. إن الصهريج الذي تنعم عليهم به الحكومة مرة أو مرتين في الأسبوعين يحتاج فصيلة درك لحمايته».
ويضيف: «لا يوجد في الجنوب مستشفيات حكومية يستطيع الفقراء اللجوء إليها، باستثناء مستشفى في صيدا غير مجهز بالكامل، وفي مرجعيون مستشفى حرمون ومستشفى تبنين يتدهوران بعد عشر سنوات من إنشائهما. وفي الجنوب يُترك أكثر من 35.000 طفل من دون تعليم ويجولون في الحقول ويلعبون في الأزقة والطرق. أما الأطباء التابعون للقطاع العام/ الحكومة، فهناك طبيب واحد في كل قضاء باستثناء بنت جبيل. وبالتالي تسعى بنت جبيل إلى الحصول على المساعدة من قضاء صور المجاور لها، رغم أن عدد سكانها يتجاوز الـ50 ألف نسمة».
ويختم الترك قائلاً: «لا يوجد رعاية صحية على الإطلاق في الجنوب حيث لا يوجد سوى 52 طبيباً لـ 340 ألف نسمة. ومن بين 52 طبيباً يوجد طبيب واحد في حاصبيا حيث يتجاوز عدد السكان 50 ألفاً، وطبيبان في بنت جبيل».
هذا باختصار ما كان عليه الجنوب سنة 1960، تُضاف إلى ذلك الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة في ما يطلقون عليه «الزمن الجميل»!
هذا الواقع البائس ألغاه المقاومون اللبنانيون. شاركوا في القتال ضد الاحتلال بعد عام 1982، وأنجزوا التحرير عام 2000. شقوا الطرقات وشيدوا المدارس والمستشفيات بمساعدة من إيران وبما انتزعوه عنوة من ميزانية الدولة. باختصار شديد، في غضون ثلاثة عقود من الزمن تحوّل الحجر الذي أهمله البناؤون إلى رأس للزاوية العمرانية.
لا يتسع المجال للحديث عن المطامع الصهيونية في أرض لبنان ومياهه وثرواته. لكن من قلب هذه المعاناة كان لا بد من أن تنطلق المقاومة الإسلامية التي حررت البلاد من الاحتلال، ولذلك وضعها الأميركيون والصهاينة وبعض الأنظمة العربية في سلم أولوياتهم للقضاء عليها. وهذا ما نشاهد فصوله هذه الأيام.
حرب لبنان الحالية ليست كسائر الحروب التي مرت علينا. كل المؤشرات تدل على أن رجال نصرالله في الميدان هم سيف لبنان ودرعه وترسه. لن يحمي لبنان أحد إلا قوتنا الذاتية غير المنصاعة لأوامر سفارة أجنبية. أبطال غزة ولبنان في خندق واحد يقاتلون هذه الهجمة وشعارهم «النصر أو الشهادة».