أنطون سعاده لم يكن مجرد زعيم سياسي أو مفكر عادي، بل كان مؤسساً لفلسفة حياة شاملة تتجاوز الأطر التقليدية للسياسة نحو تأسيس حياة قومية جديدة ينعم فيها الشعب بالعز والكرامة ويرتقي إلى أعلى مراتب السمو والتقدم. هذه الحياة التي أرادها سعاده للأمة السورية كانت تجسيداً لمعنى الحياة كما فهمه وعاشه: حياة قائمة على الحرية والواجب والنظام والقوة وهي معركة مستمرة ونضال لا ينقطع لتحقيق الأهداف العليا للأمة. والجدير بالذكر أن سعاده ميّز في أقواله وكتاباته ما بين العيش والحياة واعتبر أن بينهما "بون شاسع وفرق عظيم"، وقال: "إنّ الحياة تعني لنا وقفة عز فقط.. إننا نقتل العيش لنقيم الحياة. إننا أردنا حياة لا عيشاً... الحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرق بين العز والذل. وما أكثر العيش في الذل حولنا!"[1]
تأسيس الحزب:
أسس سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي بهدف إطلاق مشروع نهضة شاملة لإرساء أسس الحياة القومية الجديدة وإحياء الأمة السورية من حالة التفكك والتبعية واليأس والانحطاط، وإعادتها إلى ساحة الفعل الحضاري والإبداع الثقافي. وصف سعاده الحزب بأنه "فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها"[2]، مشيراً إلى أنه يُجسِّدُ إرادة الأمة في الحياة ويهدف إلى تجديد حيويتها وتوجيه جهودها نحو تحقيق سيادتها وتقدمها.[3] ورأى سعاده أن الحياة القومية المثلى هي تلك التي تتجسد فيها قيم العز والشرف، حيث يدرك الأفراد أن كل ما فيهم هو للأمة، وأن التضحية هي جزء لا يتجزأ من مشروع النهضة.
لم يكن تأسيس الحزب حدثاً عابراً، بل كان بداية لعهد جديد يهدف إلى إحياء الأمة من سباتها وبناء مجتمع حرّ جدير بالحياة يدرك غاياته ويسير إليها بملء إرادته ومشيئته.[4] لقد رمى سعاده إلى إيجاد حركة شعبية تجمع بين أبناء الأمة في إطار قومي اجتماعي يتخطى الفروقات الدينية والطائفية، ويعمل على تشكيل إرادة قومية واحدة تركز على تحقيق حياة حرة وكريمة. عبّر سعاده عن ذلك بقوله إن حزبه "حركة شعبية واسعة النطاق"[5] تهدف إلى بناء "حياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى."[6]
في خطاب له في الأول من آذار، يوضح سعاده أهمية النهضة كمسعى لمحق حياة قديمة واهنة ولبناء المجتمع القومي المثالي ويؤكد إن الكرامة والحرية الحقيقية لا تأتيان من الخنوع والاستسلام، بل من مقاومة الأعداء والنضال من أجل الاستقلال الحقيقي، بعيداً عن الخضوع لأي هيمنة خارجية. ويقول:
"نحن ننهض لنأخذ حقنا ونعطي العالم المفتقر إلى نبوغ أمتنا ومواهب شعبنا. نحن لا نريد الحرية لمجرّد الحرية والتفلت من كل واجب وكل مسؤولية، بل نريد الحرية لننشىء المجتمع المثالي الموضوعة قواعده في مبادئنا. نريدها لنعمل للحياة المثلى لا لمجرّد العيش."[7]
ويشير إلى أن الهدف ليس العيش فقط، بل الحياة بعمقها الكامل، لذلك يتميز السوريون القوميون بالهتاف للحياة لا للعيش. "نحن لا نهتف يعيش! يعيش! بل يحيى! يحيى! لأننا نريد الحياة بكل معانيها، لا مجرّد العيش. وفي الحياة من المعاني ما لا وجود له في العيش."[8]
معنى الحياة:
ويتساءل سعاده عن معنى الحياة، فلا يجدها إلا عزاً وشرفاً وقيمة عظيمة كامنة في نفس الإنسان. فالحياة كما يراها، ليست مجرد وجود أو متعة مادية أو حتى العيش في ظل ظروف مريحة بل تعبير عن إرادة الإنسان وقيمته. الحياة الحقيقية هي التي تجعل الإنسان يشعر بقيمته الإنسانية السامية. الحياة ليست في جمع المقتنيات أو الاستمتاع بالرفاهية المادية، بل هي في تحقيق الحرية والانتماء الأصيل. يقول سعاده: "الحياة ليست سيارات، الحياة ليست مقتنيات!! الحياة الإنسانية هي قيمة عظيمة في نفس الإنسان!! هي تعبير عن إنسانيته السامية العظمى! وما هو الإنسان إذا كان مجرّداً من قوة الحياة وجمال الحياة ذليلاً مستعبداً يساق بالعصى فاقداً الإرادة؟ ما هو المجتمع الإنساني إذا كان مجرد قطيع من البشر كأنه قطيع من الحيوانات مجرّد من ذاتيته وحقيقته ووعيه وإرادته الفاعلة."[9]
الحياة كقوة فاعلة ومشروع جماعي:
الحياة، وفقاً لسعاده، ليست أكواماً من الأفراد المتراكمين، بل هي قوة حية فاعلة تصنع وتؤثر.[10] يصف سعاده الحزب القومي الاجتماعي بأنه "تعبير عن إرادة حياة لا يمكن أن يصدها شيء"[11] ولا تُحطمها صعوبات، بل تظل حية ومتوهجة بروح العمل والنضال، وأنه في جهاده وعمله يعلن أن الحياة "عز وشرف" وأن أبناء الحياة "هم جماعة لا يبيعون الشرف بالسلامة ولا العز بتجنب الأخطار."[12] ويقول: "كنا دائماً حزب عقيدة وقوة من أجل غاية خطيرة في الحياة هي غاية الحرية والواجب والنظام والقوّة، غاية الفلاح والعز لهذه الأمة ـ غاية إنشاء مجتمع إنساني جديد على قواعد متينة."[13] ويرى سعاده أن الشعب الذي يرضى بحياة الذل ويفتقد إلى الهدف لا مكان له في التاريخ أو المستقبل. وعلى النقيض، فإن الشعب الذي يدرك علة تأخره ويسعى إلى التحرر من الأغلال الاقتصادية والروحية يستطيع أن يحقق الحياة الجديدة القائمة على النظام والعدالة. ويوضح سعاده أن الحياة ترتبط بالنضال لتحقيق الحرية الحقيقية، وليس فقط العيش الذي لا قيمة له. أن العيش بلا هدف أو نضال هو بمثابة موت معنوي.
الفرق بين حياة الذل وحياة العز:
سعاده يميّز بوضوح بين حياة الذل وحياة العز. حياة الذل بالنسبة له هي تلك التي يعيشها الفرد ذليلاً في ظل الاستعباد والخنوع والقناعة بالباطل، حيث يفتقد الاستقلالية والكرامة والقدرة على التعبير عن ذاته الحقيقية. ويقول سعاده: "إن العبد الذليل لا يمكنه أن يمثل أمة حرة، فإنه يذلها."[14] وحياة الذل هي حياة العجز والاستسلام والقعود، حيث يُساق الإنسان مثل قطيع من المخلوقات، بلا وعي أو إرادة. وهذه الحياة، في رأي سعاده، تُفقد الإنسان قيمته الحقيقية وتجعله فاقداً لمعنى وجوده.
أما حياة العز، فتتميّز بالحرية والشرف والكرامة والمجد والجمال والسمو إلى العُلى بالقيم السامية والفضائل الجميلة. هي حياة العمل الجدّي والصراع المستندة إلى عقيدة جلية خالصة، تهدف إلى بناء مجتمع حر قوي ومتماسك وواعٍ، يعرف غايته ويسعى إليها بإرادة حرة. هذه الحياة تُعبر عن الجرأة والعزم والتضحية والقوة والثقة بالنفس، والقدرة على العمل بإرادة صادقة من أجل تحقيق أهداف الأمة. سعاده يرى أن العز يتحقق بالعزائم الصحيحة والبطولات وحين يكون لنا نظرة واضحة للحياة تعكس نفسيتنا الجميلة وتعبّر عن حقيقتنا وهويتنا القومية.
الالتزام والنهضة:
الحياة بمعناها السامي في فكر سعاده لا مكان فيها للاتكالية أو الاستسلام، بل تتطلب شجاعة لمواجهة التحديات والتزاماً بالقيم والمبادئ، وخروجا من حالة الخنوع والقعود إلى حالة الوعي والفعل، "لأن الحياة الإنسانية بلا مبادئ إنسانية يتمسك بها الإنسان ويبني بها شخصه ومعنى وجوده، هي باطلة."[15] لا قيمة لحياة الإنسان بدون مثل منشود، ولا يمكن للفرد أن يعيش حياة ذات معنى دون أن يكون له موقف واضح وأصيل ينبثق من جوهره. الانتماء إلى الأمة والعمل على بناء قوتها هو ما يمنح الحياة مغزاها الحقيقي، ويحوّلها من مجرد تجربة عابرة إلى مشروع مستمر.
الحياة هي صراع:
بالنسبة لسعاده، "لا تكون الحياة بلا صراع.. فإذا تنازلت عن الصراع، تنازلت عن الحرية، وتنازلت عن الوجود، وعن حق الحياة!"[16] والحياة هي صراع بين قوى الخير والشر، بين التقدم والتخلف، بين العز والذل، بين نهضة الحياة القومية الاجتماعية ونهضة الأنانية الحقيرة، وبين عقليتين: عقلية ترى الحياة "أحقاداً ومخاوف ورياء وخداعاً وقعوداً وتسليمًا" وعقلية تراها "إخلاصاً وشجاعة وصراحة وصدقاً ونصحاً وإقداماً وإباء".[17] يقول سعاده: "نحن القوميين الاجتماعيين قد وضعنا في هذا الصراع كل سلامتنا... كل مصالحنا، كل شيء عندنا في الحياة لأننا لا نجد الحياة خليقة بأن نحياها إلا إذا كانت حياة حرية وحياة عز."[18] ويقول ايضاً: " نحن نرى الحياة حرية وعزّاً ولا نراها غير ذلك فقط."[19] ويؤكد أن القوة الروحية والفكرية هي ما يمكّن الإنسان من مواجهة تحديات الحياة بكرامة وعزيمة. وبرأيه، إن العيش في خضوع للأفكار المفروضة والخارجية هو نوع من الموت المعنوي، بينما الحياة الحقيقية هي التي تُبنى على الفكر المستقل والمبدع.
الحياة مربوطة بالغايات العظيمة:
سعاده يعطي للحياة بعداً اجتماعياً وأخلاقياً عميقاً، ويربطها بالوعي والنهضة، ويعتبر أن حياة العز لا تتحقق إلا من خلال النضال والعمل الدؤوب لتحقيق الأهداف القومية الاجتماعية. فالحياة في فكره ترتبط بالغايات العليا التي تجعل من الأمم كيانات عظيمة. ويعتبر سعاده أن الأمم التي تعيش من دون رؤية واضحة لأهدافها تصبح عرضة للضعف والتفكك. ويقول: "في سيرنا في طريق النهوض، وفي عملنا بالقواعد الأساسية لهذه الحركة، نشعر أنّ الحياة التي نحياها هي حياة لا نهاية لها، لأنها مربوطة بالغايات العظيمة التي هي، كنفوسنا العظيمة: لا نهاية لها!"[20] هذه الحياة تكتسب معناها الأسمى من خلال البذل والتضحية والعطاء والنضال لتحقيق نهضة الأمة. فالنهضة ليست مجرد فكرة، بل هي تجسيد للحياة المليئة بالعزيمة والإرادة. لذلك فالقوميّونَ الاجتماعيّونَ يزرعونَ الأرضَ حبًّا وعَطاءً ووعْيًا وقٍيَمًا، ويعمَلونَ بٍكُلِّ عَزيمةٍ صادقةٍ ونكرانٍ للذّاتِ لانتصارِ مَبادِئِهم السَّاميةِ، ويَبْذُلونَ نُفوسَهم في سبيلِ إِحيائِها، وعزيمتهم، كَما يَقولُ سَعاده: "هِيَ عزيمةٌ تَطلَّبُ الموتَ متى كانَ الموتُ طريقًا إلى الحياة."[21]
ويؤكد سعاده أن الحياة القومية لا يمكن أن تزدهر إلا بروح العطاء والتضحية. فالعطاء هو الفِعلُ الأَسمَى الَّذي يَتَجَلَّى فيهِ الحِسُّ الاجتماعيّ ويَعكِسُ إيمانًا بالحياةِ الجميلةِ القائمةِ على المَحبَّةِ القوميَّةِ والإِخاءِ القوميِّ والحبِّ الكلي. وشدّد سعاده على أن الأمة التي لا تعرف التضحية لا يمكن أن تحقق الاستقلال أو الحرية. وأكد أن البذل في سبيل الأمة هو أعظم أشكال العطاء وقال: "إن الدماء التي تجري في عروقنا هي وديعة الأمة فينا، ومتى طلبتها وجدتها"[22]، هكذا عبر عن فهمه للالتزام والتفاني في سبيل الأمة. العطاء الحقيقي، في فكره، يتجاوز الأنانية الفردية ليصبح جوهر الحياة القومية.
خلاصة:
لم يكن تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي فعلاً لحظياً أو مجرد خطوة سياسية، بل هو فعل مستمر يتجدد مع الأجيال التي تحمل مشعل العقيدة وتؤمن بمعنى الحياة كما رآها سعاده. لقد أدرك أن الأمة تواجه تحديات مستمرة تستدعي العمل الدؤوب والالتزام والشجاعة لمواجهة الصعوبات والتمسك بالمبادئ السامية التي تعبّر عن كرامتها وحقيقتها. يقول سعاده: "طريقنا طويلة لأنها طريق الحياة" ولا يثبت عليها إلا من يطلب الحياة بوعي وإرادة، أما من يختار السقوط، فهم "الأموات وطالبو الموت."[23] ويشير إلى أن النهوض ليس مهمة تنتهي بتحقيق هدف معين، بل هو عملية مستمرة تعبر عن إرادة الأمة وصراعها من أجل حياة أرقى وأفضل وأجمل. وهكذا، تبقى عملية النهوض سعيًا مستمرًا لا يكتمل، لأن "الحياة وجمالها وخيرها وحسنها هو الغاية الأخيرة" التي نسعى إليها."[24]
[1] سعاده في أول آذار، 1956، ص 101.
[2] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 30.
[3] سعاده في أول آذار، 1956، ص 55.
[4] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 9 خطاب الزعيم في اللاذقية، 26/11/1948.
[5] خطاب الزعيم في أول آذار 1938، سعاده في أول آذار، 1956، ص 35.
[6] أنطون سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 69.
[7] المرجع ذاته، ص 58.
[8] المرجع ذاته.
[9] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 9 خطاب الزعيم في اللاذقية، 26/11/1948.
[10] خطاب الزعيم في أول آذار 1948، سعاده في أول آذار، ص 91.
[11] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 9 خطاب الزعيم في اللاذقية، 26/11/1948.
[12] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 2 خطاب الزعيم في بشامون، 3/10/1948.
[13] المرجع ذاته، ملحق رقم 9 خطاب الزعيم في اللاذقية، 26/11/1948.
[14] أنطون سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 99.
[15] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 177.
[16] سعاده في أول آذار، 1956، ص 99.
[17] الجيل الجديد، بيروت، العدد 1، 3 ـ 4/4/1948
[18] ملحق رقم 3 من خطاب الزعيم في جزين، 10/10/1948.
[19] المرجع ذاته.
[20] سعاده في أول آذار، 1956، ص 99.
[21] راجع كلمة الزعيم في ذكرى إستشهاد الرفيق ابراهيم منتش، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 15/11/1947
[22] سعاده في أول آذار، 1956، ص 98.
[23] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني 1935-1937، خطاب الزعيم في الكورة صيف 1937.
[24] المرجع ذاته.