مجدداً، يثبت أن نظام المحاصصة الطائفية في لبنان الذي أسسه الفرنسيون واستمر برعاية قوى غربية وعربية، قد احتضر منذ زمن ولم يتبرع أحد حتى اليوم للقيام بواجب دفنه. الحرب الحالية مع العدو الصهيوني، و«استقالة» الحكم عن مواجهة من يدمرون لبنان، أكدت مرة أخرى أنه لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع إحياء هذا النظام الرميم. حروب الطوائف على المناصب في لبنان متواصلة، ولا تبدو في الأفق نهاية لها حتى الآن، رغم حرب التدمير الحالية التي تستنزف اللبنانيين وتفقرهم وتهجّر من بقي منهم إلى الأبد. «مجموع أشخاص يساوي قضايا شخصية»، هكذا وصف أنطون سعاده حال الأمة وتبعثرها وفردية زعاماتها وما نتج من ذلك من الهزائم المتواصلة. تكالبٌ على المناصب لا مثيل له، حتى أن أولى بديهيات الوعي القومي تنعدم في الأوساط والشلل المذهبية التي تبرر للعدو جرائمه بقتل اللبنانيين. خلال القرن التاسع عشر، كان كل قنصل من القناصل يدّعي «حماية» طائفة ما. ولقد لخّص سعيد تقي الدين ذلك الوضع بسخرية متحدثاً عن نفسه وهو فتى عندما ألقى كلمة في حفل كان يحضره القنصل البريطاني، حيث قال: «أفتخر وأنا أتحدث أمامكم الآن كوني درزياً بريطانياً». كلام سعيد يلخص كل تاريخ الخزي والاستكانة والدونية أمام الرجل الأبيض.
على ضوء الحرب الحالية، يمكن لأي مواطن أن يلاحظ فضيحة هذا النظام الأسود. الأرض مهددة، والدمار ينتشر، والبلد مشرع الأبواب، كل فرد أو مؤسسة وطائفة ودكان سياسي له طريقه الخاص إلى سفارة اجنبية يتلقى منها التمويل والأوامر والتوجيهات. وكل طامع في منصب يزايد على الآخر في تنفيذ رغبات الأجنبي لاعتقاده أن ذلك يؤمن له ما يطمح إليه. معظمهم لا يعتبر أن الدمار الحاصل هو دمار للبنان، بل هم على استعداد لإحراق وتدمير كل شيء للوصول إلى منصب.
على أرض الواقع الحالي، بقدر ما تشتم وتدين إيران وسوريا والمقاومة، بقدر ما تكون محظياً عند الحاكم الفعلي في عوكر وأتباعه من العرب و«الناتو»، وتتلقى التمويل وتفتح أمامك شاشات الإعلام المرئي والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.
كل مَنْ يتفاجأ بموقف دكاكين السياسة في لبنان من هذه الحرب، وتضامنهم العلني مع الإجرام الصهيوني، يكون غير مدرك دقة عبارة أنطون سعاده «إن مصيبتنا بيهودنا الداخليين أعظم من بلائنا باليهود الأجانب». فـ«يهود الداخل» هم أحقر وأسفل من العدو الذي يقاتلنا في الجنوب وفي فلسطين. للأسف الذاكرة تخون كثيرين. اجتياح عام 1982 واحتلال بيروت وتنصيب حكم يأتمر بتوجيهات مناحيم بيغن... ليس ببعيد. التجربة أثبتت أن العقل الطائفي العنصري المريض يرفض رفضاً تاماً بناء بلد إلا على أساس عقله السرطاني. لذلك فإن عبارة مثل «لا يشبهوننا» طبيعية بالنسبة إليهم، وهي من إفرازات القرون الوسطى وهلوساتها التي لا تزال تعشعش في عقولهم.
آثار صور وبعلبك تُقصف، المباني تُهدم، القرى الجنوبية تفجّر والعمل مستمر لإزالتها نهائياً. طائراتهم تقصف ليلاً ونهاراً السيارات ومواقع الجيش وقوات الأمم المتحدة والصحافيين ومراكز الإسعاف. يعبرون البحر بأمان، يعتقلون مواطناً في البترون ويعودون بسلام... والمسؤولون في لبنان نيام، ونجيب ميقاتي يقرّع الإيرانيين كي ينال حظوة عند من يقتل اللبنانيين ويشارك الصهاينة في إجرامهم. ويكتمل المشهد بوصول هوكشتين، فيستنفر تجار السياسة. هبط «الوسيط»، ابتسم، صافح بحرارة، ووعد بعدم قصف بيروت، كما ادعى ميقاتي. لكن ما أن يغادر الضابط الصهيوني المشارك في سفك دمائنا حتى يبدأ القصف، وتبدأ تحليلات الخبراء المدفوعة الثمن والهادفة إلى غسل عقول اللبنانيين وإيهامهم بأن الحل الأميركي قادم، وأن الحرب تسببت فيها إيران، ثم يهبط مسؤول فرنسي أو أوروبي وتتكرر المهزلة.
أمام هذا المشهد المأساوي، يبقى كل لبنان تحت رحمة القتلة الصهاينة. إذا قرر العدو قتل أي شخص فستكون له الحرية الكاملة في ذلك، ولا رادع إطلاقاً. الإشعاع البطولي الأسطوري الوحيد في هذا الظلام الدموي الدامس يطل علينا من الجنوب. هناك في الأرض المغروسة بالرجال الذين هزموا الصهاينة عام 2000 وعام 2006، يتكرر المشهد في مواجهة لم تشهد بلادنا مثيلاً لها من قبل. إن أكتافهم بحق هي أكتاف جبابرة. لم يكتفوا بمنع العدو من التقدم بعمق إلى أرض لبنان، بل هجّروا معظم المستوطنات الشمالية، ووصلت صواريخهم إلى تل أبيب. هؤلاء الأبطال لا علاقة لهم البتة بتجار السياسة والدم واللصوص في بيروت. هم من عالم آخر، يلصقون بهم التهم ليلاً ونهاراً وتصدح أصوات المرتزقة في تسفيه ما يقومون به، لكنهم لا يكترثون. يواصلون السير على درب الشهادة أو النصر.
هذه المرة يجب ألّا تتكرر جريمة 1982. فحتماً من فوهات بنادقهم ومن صواريخهم ومسيّراتهم سوف يُبنى لبنان الجديد. إن الطريق شاق وطويل، وفيه تبذل التضحيات الجسام، لكن كل ذلك يهون. لقد مرت على هذه البلاد غزوات كثيرة، بعضها استمر قروناً. الغزاة شيدوا القلاع والقصور، معتقدين بأن الأمور أصبحت تحت طوع بنانهم، لكنهم جميعاً رحلوا مخلفين آثارهم البائدة.
كُتب علينا في هذه البقعة الجغرافية الإستراتيجية بأن نكون دائماً ضحايا الغزوات والمجازر. وفي عودة سريعة إلى أحداث حملات الفرنجة (الصليبيين)، يتبيّن لنا أن معظم المواقع التي احتلوها، سقطت بسبب خيانة أمراء ووجهاء كانوا ينافسون بعضهم بعضاً، وهذا ما حدث أيضاً في عصر ملوك الطوائف في الأندلس، وهذا ما يحاولون تحقيقه اليوم في فلسطين ولبنان. الهجمة الجديدة لا تفتقر إطلاقاً إلى عملاء، هناك أنظمة عربية عدة تشارك عملياً في هذه الحرب إلى جانب الصهاينة، بينما يتبرع بعض اللبنانيين للعمالة. رغم كل ذلك، ورغم أن كل قوى الغرب تمد العدو بأحدث أنواع الأسلحة وكل أنواع الدعم، إلا أنهم عجزوا منذ عام ونيف في فلسطين، ويعجزون في لبنان عن تحقيق نصر يؤدي بهم إلى «شرق أوسط جديد» كما يحلمون. في لبنان، بين ليلة وضحاها، وبعد استشهاد قادة للمقاومة، سارع أيتام شارون وأزلام نتنياهو في إعلان «نصرهم» الإسرائيلي كما حدث تماماً عام 1982. عودوا إلى صحافة تلك المدة، حين سارع جميع تجار السياسة والقتلة والمرابين والعملاء الصغار إلى الترحيب بالمحتل. ولم تطل السكرة والنشوة إذ انطلق المقاومون وطهروا أرض لبنان. وللأسف لم يُحاسب أحدٌ من الخونة الذين يطلّون برؤوسهم مجدداً اليوم.
الفرديّة الهدامة القاتلة والطائفية تحكمت في مصير لبنان وسخّرت كل شيء لأغراضها الشخصية وأوصلتنا إلى قمة الخراب والذل والتسول. اللبنانيون يحصدون نتائج عدم بناء قوة رادعة في مواجهة العدو لأن السلطة تاريخياً، باستثناء مرحلة الرئيس لحود، لا تعتبر إسرائيل عدواً، ولأن الأميركي يمنع بناء أي قوة ردع. لكن عندما بنى اللبنانيون بتضحياتهم وشهدائهم قوة ردع، رغماً عن إرادة السلطة، تنافس زعماء الطوائف في التآمر عليها. لم ينجحوا في السابق، وها هم يكررون اليوم الجريمة مرة أخرى... وسيفشلون مجدداً، مع فارق أكيد يعبّر عنه المثل الشعبي: «ليس في كل مرة تسلم الجرة».