أيها السيدات والسادة
حين قيل لي ان الوقت المحدد لهذا الحديث هو خمس وعشرون دقيقة، كدت اتجاوز شكر مجموعة الطلاب الجامعيين التي اتاحت لنا الاجتماع في هذه الندوة، الممتازة بمستواها العلمي الرفيع، سعيا وراء اجتلاء حقيقة الأحزاب العاملة في لبنان.
فموضوع هذا الحديث، الذي يفترض فيه ان يكون عرضا شاملا دقيقا لحركة عميقة متشعبة الجوانب فعلت وما زالت تفعل في المجتمع الفعل المتصل المشهود كالحركة القومية الاجتماعية، يجعل الثواني هنا، لا الدقائق، في الوقت المحدد، ثمينة للغاية.. غير ان بادرة مجموعة الطلاب الجامعيين هذه، وقد جاءت مظهرا من مظاهر القلق الفكري المستحكم الذي بات يهز اعماق الشباب، قد جاءت ايضا دليلا على انفتاح العقل، عقل الشباب، انفتاحا كليا صافيا في طلبة اليقين وسعيه وراء الحقيقة، ودليلا بالتالي على اتجاه الشباب اتجاها صميميا نهائيا نحو تقديس حرية الصراع الفكري والعقائدي في شؤون المجتمع، وتقدير قيمة حرية هذا الصراع وأهميتها البالغة في بلوغ الافضل وتكييف المستقبل، ثم ممارسة هذه الحرية، في ظل العقل وبهديه، الممارسة الشريفة المقترنة بالقدر الاعظم من روح المسؤولية.
وقد كان لإنغلاق العقل دون شؤون حياتنا الأساسية، وما رافق هذا الإنغلاق او استتبعه من غياب لحرية الصراع العقائدي او نحرها، عمدا او جهالة، كان لهذا كله من الفعل في تعطيل نهوض بلادنا وكبح وثبتها المرجوة ما لا نزال نعاني من اثاره حتى الان.
الصراع العقائدي الحر
والحركة القومية الاجتماعية التي كلفتني بالقاء هذا الحديث، وهي التي أقامها مؤسسها على العقل، ودعت ولاتزال تدعو إلى اعتماد العقل في شؤونها القومية، والتنكب في هذه الشؤون التي تتناول مصير الأمة، أي مصير الانسان في هذه البلاد، عن دروب العاطفة والظن والتخمين والتقليد.
ان الحركة القومية الاجتماعية التي هي مدار هذا الحديث، وقد باتت حرية الصراع العقائدي جانبا أساسيا من جوانب إيمانها، كما باتت ممارسة هذه الحرية خطة لها مقترنة بجوهرها، لتسمح لنفسها بأن تجد في بادرة مجموعة الطلاب الجامعيين هذه تحقيقا عمليا لبعض هذا الجوهر، فهي، أي هذه البادرة، من هذه الجهة في رأينا بادرة قومية اجتماعية بالفعل، وهي لذلك تستحق فعلا من الحركة القومية الاجتماعية كل شكر وكل تقدير وكل ثناء لا تخرج جميعها في الحقيقة عن معنى التجاوب مع النفس، ولا تخرج في الحقيقة عن نطاق الحديث عن الحركة ذاتها.
فإلى الطلاب الجامعيين اذن كل الشكر وكل التقدير وكل الثناء.
الأساس القومي لا الأساس السياسي
ليس بالأمر السهل، أيها السيدات والسادة، اختصار ما يزيد عن خمس وعشرين سنة من النشاط الفكري والنضال السياسي والجهد القومي العام، في خمس وعشرين دقيقة. فلن يكون لهذا الحديث إذن ان يدعي الكمال في عرضه للحزب القومي الاجتماعي. حسبه ههنا ان يجعل الخطوط العريضة لهذا الحزب، بالقدر المستطاع من الشمول، وبالقدر المستطاع من التفصيل ايضا حيث لا غنى عن التفصيل، في موضوعية قصوى هي ميزة البحث العلمي المجرد.
ان خير ما يفتتح به هذا العرض للحزب القومي الاجتماعي هو استقراء مؤسس هذا الحزب نفسه، سعاده، فيما دفعه إلى انشاء الحزب، فلنستمع اليه يشرح ذلك في هذا الكتاب التاريخي الذي كان قد بعث به من سجن الرمل، في كانون الاول من عام 1935، بعد ان اعتقل اول مرة أثر انكشاف الحزب، إلى الاستاذ حميد فرنجية – أسبغ الله عليه العافية – الذي كان أحد المحامين المتطوعين للدفاع عنه في الدعوى الأولى بالمحكمة المختلطة.
قال سعاده:
" كنت حدثا عندما نشيت الحرب الكبرى سنة 1914، ولكني كنت قد بدأت اشعر وأدرك. وكان اول ما تبادر إلى ذهني وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بما شعرت وذقت ما ذقت مما مني به شعبي هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ "
" ومنذ وضعت الحرب أوزارها أخذت أبحث عن جواب لهذا السؤال وحل للمعضلة السياسية المزمنة التي تدفع شعبي من ضيق إلى ضيق فلا تنقذه من دب إلا لتوقعه في جب ".
" وكان ان سافرت أوائل سنة 1920 وقد بعثت الاحقاد المذهبية من مراقدها والأمة لما تدفن اشلاءها. ولم تكن الحال في المهجر أحسن إلا قليلا فقد فعلت الدعايات فعلها في المهاجرين فانقسموا شيعا ".
ويضيف سعادة:
" وبديهي اني لم اكن اطلب الإجابة على السؤال المتقدم من أجل المعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر. وانما كنت اريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعالة لازالة اسباب الويل وبعد درس اولي منظم قررت ان فقدان السيادة القومية هو السبب الأول في ما حل بأمتي وفي ما يحل بها. وهذا كان فاتحة عهد درسي المسألة القومية ومسألة الجماعات عموما والحقوق الاجتماعية وكيفية نشوئها. وفي اثناء درسي اخذت اهمية معنى الأمة وتعقدها في العوامل المتعددة تنمو نموها في ذهني. وفي هذه المسألة ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشاكلها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين، فخرج هذا الاشتغال عن العمل القومي بالمعنى الصحيح. أما انا فأردت " حرية امتي واستقلال شعبي في بلادي ". والفرق بين هذا المعنى التعييني والمعنى السابق المطلق المبهم، واضح. وكنت احاول في جميع الأحزاب والجمعيات التي اتفق لي الانخراط فيها او تأسيسها او الاتصال بها ان اوجه الافكار إلى ما وصلت اليه فلم أوفق كثيرا ".
ويتابع سعاده قوله: " ويمكنني أن اعين موقفي بالنسبة إلى موقف المتزعمين السياسيين من قومي بأن موقفي أخذ يتجه رويدا حتى ثبت على الأساس القومي بينما موقفهم كان ولم يزل على الأساس السياسي. والسياسة من أجل السياسة لا يمكن ان تكون عملا قوميا.
بناء عليه، ولما كان العمل القومي الشامل المتناول مسألة السيادة القومية ومعنى الأمة لا يمكن ان يكون عملا خاليا من السياسة، رأيت ان أسير إلى السياسة باختطاط طريق نهضة قومية اجتماعية جديدة تكفل تصفية العقائد القومية وتوحيدها وتوليد العصبية الضرورية للتعاون القومي في الحقوق والمصلحة القومية.
" ولما كانت دروسي السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد أوصلتني إلى تعيين أمتي تعيينا مضبوطا بالعلوم المتقدمة وغيرها وهو حجر الزاوية للبناء القومي، وإلى تعيين مصلحة امتي الاجتماعية والسياسية من حيث حالاتها الداخلية ومشاكلها الخارجية وجدت أن لابد لي من ايجاد وسائل تؤمن حماية النهضة القومية الاجتماعية في مسيرها. ومن هنا نشأت في فكرة انشاء حزب يجمع في الدرجة الأولى عنصر الشباب النزيه البعيد عن مفاسد السياسة المنحطة فأسست هذا الحزب ووحدت في العقائد القومية في عقيدة واحدة ووضعت مبادئ الجهة الاصلاحية كفصل الدين عن الدولة وجعل الانتاج أساس توزيع الثروة والعمل. وجعلت نظامه مركزيا تسلسليا منعا للفوضى في داخله واتقاء لنشوء المنافسات والخصومات والتحزبات وغير ذلك من الامراض الاجتماعية والسياسية وتسهيلا لتنمية فضائل النظام والواجب ".
هكذا ايها السيدات والسادة يشرح سعاده ما دفعه إلى انشاء الحزب. ومن هذا الشرح يبدو بوضوح ان الحزب القومي الاجتماعي هو، من ناحية، عقيدة اساسية وضعها صاحب الدعوة بنتيجة دروسه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو من ناحية ثانية حركة في الشعب ذات نظام يتجسد فيها الإيمان بالعقيدة، وتكون الاداة الفعالة لانتصار العقيدة وتحقيق مبادئها. وكل عرض للحزب القومي الاجتماعي لا بد ان يتناول عرض العقيدة من جهة وعرض نظام الحركة من جهة اخرى.
سر نجاح الحزب حيث اخفقت باقي الأحزاب
أيها السيدات والسادة
في شرح سعاده، على ايجازه، لما دفعه إلى انشاء الحزب يمكن للمتأمل ان يلحظ السر الكامن وراء التوفيق الذي أصابه سعاده وحزبه حيث لم تصب الأحزاب الأخرى إلا القليل من التوفيق. فإن من العجيب لغير الفاحص المدقق ان تلتقي نصوص مبادئ الأحزاب مع نصوص مبادئ الحزب القومي الاجتماعي في امور كثيرة، ولا سيما في مناهج الاصلاح ولكنها تعجز عن التحقيق حيث نجح هو. ويكفي ان نشير إلى اجماع الأحزاب على مقاومة الطائفية في ظاهر النصوص دون ان ينجز منها مهمة القضاء على الطائفية فعلا في النفوس سوى الحزب الذي هو موضوع هذا الحديث. وقد يكون ايضا من العجيب لغير الفاحص المدقق هذا الإيمان الراسخ الذي عرف به ابناء هذا الحزب واقبالهم العظيم على تحمل التضحيات وصبرهم البالغ على ملاقاة ألوان المكاره وضروب الأذى والظلم والاضطهاد، السنين الطوال مما لو نزل بعضه بغيرهم لحطمه شر تحطيم.
ذلك ان مبادئ الحزب وتعاليمه لن تكن شيئاً مبتسرا ارتجله سعاده ارتجالا، ولا فرضه على تلامذته فرضا او تقبله هؤلاء بدون محض اقتناعهم واختيارهم الواعي المسؤول، او بفعل مغريات او جواذب خارجة عن محض الاقتناع، وانما كان حاصل نظرة عميقة شاملة إلى الانسان والمجتمع، وعلاقة أحدهما بالآخر، ومعنى الحرية ومقامها ومعنى الحق ومقامه في هذه العلاقة، ثم كيفية نشوء المجتمعات وتطورها عبر التاريخ والعوامل الفعالة في هذا النشوء وهذا التطور، وفي ظهور الثقافات والحضارات وظروفها الطبيعية والتاريخية.
ومن هذه النظرة العميقة الشاملة إلى كل هذا، من هذه العقيدة الجوهرية انبثقت في مجال التطبيق على بلادنا، مبادئ الحزب وتعاليمه في شقيها الأساسي والاصلاحي اللذين يتناولان حقيقة الأمة التي هي أمتنا ومناهج النهوض بهذه الأمة في مراقي العزة والقوة والفلاح.
وهذه النظرة هي التي جعلت لمعتنقيها هذه العقلية التقدمية الأصيلة بما حررت نفوسهم وأفكارهم وأخلاقهم من كل أمراض الرجعة، وبما كانت لهم اكسير الشفاء الكامل من شوائب العلل التي ما تزال تفتك بمجتمعنا حتى الان وتمزقه شر تمزيق: علل الفردية الأنانية والطائفية والعنصرية والاقطاعية حتى أصبح تغلبهم عليها محل الدهشة!
العقل الرائد
لقد كان العقل كما قلنا سابقا أيها السيدات والسادة سبيل سعاده في الاهتداء إلى هذه النظرة. العقل الذي هو "فعل مجابهة، وموقف" العقل الذي هو "خلاصة التجربة التاريخية الخلاقة التي تحمل في طياتها صعود الانسان من حالة اللاوعي إلى درجة الوعي والحضارة الانسانية".
" العقل الانساني الذي لم يوجد – كما يقول سعاده – ليتقيد وينشل بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميز، ليعين الاهداف وليفعل في الوجود. العقل الذي هو موهبة الانسان العليا، هو التمييز في الحياة، فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والادراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الانسان الأساسية وبطل ان يكون الانسان انسانا وانحط إلى درجة العجماوات المسيرة بلا عقل ولا وعي".
بقوة هذه الاداة المميزة الخلافة التي يتمتع بها الانسان تقود الحركة القومية الاجتماعية المواطن أول ما تقوده في مراحل الوعي لنظرتها العميقة الشاملة إلى الانسان والمجتمع، تقوده إلى التساؤل: إلى أي حد انا انسان؟ وتكون النتيجة المنطقية لهذا السؤال المنطلق، أسئلة اخرى: ما هو الانسان؟ متى يكون هذا الذي يدعى انسانا "انسانا" بالفعل ومتى لا يكون؟ ما هو محله من الوجود الانساني، ما هو حظه من العدم أو الوجود، من الفناء او الخلود؟
وفي لحظة، يجد المواطن نفسه تابعا خطى الفلاسفة في مواجهة هذا التحدي الفكري الخطير. فإذا كانت له القدرة على تجريد النفس من كل الأفكار السابقة المتراكمة في ذهنه على قلبه بمختلف العوامل، وكان لعقله وحده سلطان النظر إلى الأشياء وتمحيصها واخضاعها لما يقتضيه التدليل الصحيح والبرهان القويم، وجد نفسه منقادا إلى الخطوة الأولى من خطوات المعرفة: الخطوة التي خطاها ديكارت، وكان قد خطاها قبله بمئات السنين الإمام الغزالي الذي لم يرضى حتى في الله إلا بالمعرفة اليقينية التي جعلته من بعد إماما من أكبر الأئمة. ومن لا يذكر "المنقذ من الضلال"؟ " ان الظن – كما تقول الآية القرأنية الكريمة – لا يغني من الحق شيئا ".
اجتماعية الانسان
ازاء هذه الاسئلة الكيانية الخطيرة، تنطلق نظرة الحزب من الإيمان باجتماعية الانسان، بخضوعه دون ان يكون له في هذا الخضوع أدنى اختيار، لأثر هو أعظم الآثار الأساسية في كيانه: أثر الاجتماع الذي هو خاصة الطبيعة الانسانية أو احتكارها في مراقي تطورها. فالشخصية الانسانية لا يمكن ان تتحقق إلا ضمن نطاق شيء اسمه الاجتماع. وانت كفرد منفصل كل الانفصال عن الاجتماع لا يمكن ان يكون لك من الوجود الانساني حظ الا حظ الإمكانية من الوجود.
ولا تصبح الامكانية حقيقة، ولا يصبح الفرد الذي هو انسان بالقوة إنسانا بالفعل إلا بالفعل إلا متى أصبح مجتمعا. " المجتمع – يقول سعاده – هو الوجود الانساني الكامل والحقيقة الانسانية الكلية ". ومن لا يحتاج إلى الاجتماع ولا يصلح له – يقول أرسطو – أما آلة او وحش ولكنه ليس إنسانا.
هذا التشديد على المفهوم الاجتماعي للفرد يخرج بالانسان فورا من الفردية القتالة التي سادت مجتمعنا، ويثبت الخصائص والصفات والخطوط النفسية والروحية للمجتمع التي يستمد منها الفرد نفسيته الاجتماعية وخصائصه القومية التي تميزه عن أبناء الأمم والمجتمعات الأخرى. وبهذا المفهوم تنجو نفس المرء من ذلك الشعور الذي لابد ان يستحوذ على نفوس الفرديين في بعض ساعات التأمل، إذ يتحقق أحدهم بأنه يرى ولا يرى، يسمع ولا يسمع، يحس ولا يحس، وكأن الله قد ختم على قلبه وسمعه وبصره غشاوة، وينعدم لديه كل احساس صميمي بدفء الحنين وحرارة اللهفة وجمال الحب ثم لا يجد في ذهوله المسيطر إلا طريق العيش الحيواني الرخيص مستسلما لما هو فيه من فناء محيق. بذاك المفهوم الاجتماعي للفرد تتضح له طريق الشفاء من هذا الشقاء المميت الذي لا بد ان تنتابه الرغبة الملحة للخلاص منه، فينشط للحياة ويحسن منه السلوك ويتقن العمل الذي يصبح لا مجرد وسيلة للارتزاق او اسلوب من اساليب الاحتيال بل جهدا اجتماعيا يتحتم أداؤه ليزدهر المجتمع فيشمل الخير الذي يعمه الفرد هو منه.
اجتماعية القيم
وإذا كان الانساني هو الاجتماعي بالضرورة، فإن القيم الانسانية هي قيم اجتماعية ايضا بالضرورة، بمعنى انها لا توجد ولا يمكن ان توجد إلا في المجتمع، ولا تكون إلا به وله.
وهذا النظر ينتهي بنا إلى ان كل اختزان للقيم او احتكار لها خروج على الانسانية الصحيحة. وإذا ذكرت القيم في الحياة الانسانية كان الحق في طليعتها. " اعرفوا الحق والحق يحرركم ".
هل انتابك مرة داء القعود عن الثورة لما تعتقد انه حق، وعدم الاندفاع لانتصار افكارك في المجتمع؟ إذن هو فساد نظرتك إلى الانسان والقيم الانسانية، فساد لا تعرف معه بعدئذ معنى من معاني الصراع ولا معنى من معاني الحرية. والحق – يقول سعاده – " لا يفنى بفناء الفرد ولا يموت مع الفرد. الأفراد يأتون ويذهبون ويكملون اجالهم ويتساقطون تساقط أوراق الخريف. أما الحق فلا يذهب معهم. ولكن شرطه في الانسانية ليكون حقا ان ان لا يعلن نفسه ويختفي، بل يمتد امتداداً لا يعرف الحدود على تعاقب الأجيال ". لذلك نؤمن نحن بحق الانسان في البحث عن الحق والدعوة اليه والصراع من أجله في أتم حرية فتلك كلها من أهم عوامل اكتمال الذات الانسانية في الانسان، واذ تصبح مواهبه كلها للمجتمع ينفسح لنموها المجال فتزدهر وتثمر وتفيد، ويصبح مقام الحرية عنده حرية الافكار وصراع المثل مقام الحياة نفسها، ولا معنى دونها للحياة. في سبيلها ترخص كل تضحية ويهون كل عزيز ومن أجلها يحلو كل أذى ويلذ النضال ويطيب الاستشهاد.
المفهوم القومي ومضامينه
وإذا كان الانساني هو كما قلنا الاجتماعي بالضرورة، فإن نظرة الحزب إلى الواقع الانساني هي، أيها السيدات والسادة، انه واقع مجتمعات متعددة متنوعة، عملت على تعددها وتنوعها عوامل كبرى مستمرة عبر الأجيال المتطاولة حتى أصبح التعدد والتنوع أمرا قد يستحيل الخروج عليه. إلى أي مجتمع من هذه المجتمعات المتباينة النفسيات المختلفة المصالح المادية والمطالب الروحية والثقافات والحضارات أنتمي؟
ما هي حدود المتحد الاجتماعي الذي يضمني وفيه قد حصل عبر أجيال التاريخ المتطاولة الاشتراك الأتم في الحياة بين الناس الذين اعايشهم؟
ما هي حدود هذه الوحدة الانسانية الخاصة المميزة عن سواها من الوحدات الانسانية والتي لم يكن لي في الانبثاق منها اختيار ولا في الانتماء اليها إرادة؟ ما هي حدود هذا الكائن الأزلي المستمر الوجود المستمر الفعالية الذي له في من الآثار ما قد أعلم وما لا أعلم ولكنني لا أستطيع مهما حاولت ان انكره او انفلت منه؟ من نحن؟ ما هي – باختصار – أمتي، الأمة التي انا ابنها كما انا ابن والدي؟
بهذه الأسئلة تواجه عقيدتنا الاجتماعية المواطن، وههنا تبرز ما ندعوه قومية هذه العقيدة التي لا انفصال لها عن اجتماعيتها لأنهما مترابطتان ترابط المقدمة والنتيجة. وههنا يبرز ما قصد اليه سعاده في كتابه إلى الاستاذ حميد فرنجية حين أشار إلى انصرافه لتعيين معنى الأمة، وانتهائه بدروسه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلى تعيين أمته تعيينا مضبوطا بالعلوم المتقدمة، وانفراده بذلك عن الذين اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين واشتغاله هو " لحرية أمته واستقلال شعبه في بلاده".
لا يتسع المجال في هذه الدقائق للخوض التفصيلي في مبحث الأمة، معناها وكيفية نشوئها وتطورها على اطلاقه. حسبنا ان نقول ان صاحب الدعوة القومية الاجتماعية قد قام في هذا الموضوع بالمحاولة العلمية الجليلة الأولى في اللغة العربية إذ أخرج كتابه العظيم "نشوء الامم"، وحسبنا ان نقول ان نظرة الحزب في هذا الموضوع تقوم على ان البيئة الطبيعية المميزة عن سواها من البيئات الطبيعية على هذه الأرض، هي ذات الأثر الأكبر في تحديد المجتمع بحدوده الجغرافية بما قد ضمنته عبر اجيال التاريخ المتطاولة للذين يعيشون في داخلها من الاشتراك الواسع العميق في حياة الجسد والعقل، في الحياة المادية والروحية وبما انها حالت دون اشتراك المجتمعات الأخرى التي تعيش خارجها، في حياة الذين يعيشون ضمنها. وهذه البيئة الطبيعية الميزة، هذا الوطن، يطبع المجتمع بآثار مادية وآثار معنوية خاصة لا يمكن ان تمحى إلا حين يتم التواصل البشري الكامل وينتفي تنوع المجتمعات مما لا سبيل إلى تحقيقه إلا في أمد بعيد للغاية. ومهما بلغ من الصحة القول بالتيارات الفكرية العامة الجامعة للبشرية وانهيار الحواجز الجغرافية الطبيعية وتضاؤل أثرها بازدهار المواصلات فإن أحدا لا يستطيع الإدعاء ان من شأن ذلك ملاشاة كيان اجتماعي في كيان اجتماعي اخر، ملاشاة أمة في أمة. ان الآثار المادية والروحية التي عمل تعدد البيئات الجغرافية في الأرض على ترسيخها في المجتمعات المختلفة باختلاف البيئات لا تزال رواسبها في نفسيات الأمم بالغة العمق، فضلا عن استمرار التنوع والتصادم في مصالح هذه الأمم.
قوميتنا حاصل الدرس والتنقيب
هذا المفهوم للأمة، على انها حاصل وحدة حياة الجماعة المادية والروحية في بيئة طبيعية مميزة عبر أجيال متطاولة، يؤدي إلى رفض العرقية في تعيين الأمة لأنه يأخذ بنظرية، بل بواقع المزيج السلالي والحياتي ضمن البيئة. وهو ايضا يؤدي إلى رفض "اللغوية" إذا صح التعبير في تعيين الأمة لأنه يأخذ بأن الأصل هو فكر الانسان – المجتمع، فكر الأمة، المعبر عنه بواسطة اللغة، لا اللغة بحد ذاتها.
مهما بلغ تفاعل الفكر مع اللغة وارتباطهما، تبقى الأهمية لفاعلية فكر الأمة في اللغة، من حيث قواعده ونهجه، مضمونه ونتاجه، ومن حيث تعبيره عن خطوط الأمة النفسية والحضارية.
ثم ان هذا المفهوم للأمة، يؤدي إلى رفض الطبقية والاقطاعية ما دامت وحدة المجتمع هي الأصل، وإلى تبني مبدأ تنظيم الاقتصاد القومي على اساس الانتاج وانصاف العمل، على انه المبدأ الكفيل بايجاد التوازن السليم بين توزيع العمل وتوزيع الثروة. " كل عضو في المجتمع او في الدولة يجب ان يكون منتجا بطريقة من الطرق. وفي حالة من هذا النوع يتوجب تصنيف الانتاج والمنتجين بحيث يمكن ضبط التعاون والاشتراك في العمل على اوسع قياس ممكن وضبط نوال النصيب العادل من الانتاج وتأمين الحق في العمل والحق في نصيبه. وبذلك يوضع حد للتصرف الفردي المطلق في العمل والانتاج الذي يجلب اضرارا اجتماعية كبيرة، دون ان يكون فيه حد من جهد الفرد المبذول لرفع مستوى الانتاج القومي. لأنه ما من عمل او انتاج في المجتمع إلا وهو عمل او انتاج مشترك او تعاوني. فإذا ترك للفرد الرأسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والانتاج كان لا بد من وقوع اجحاف بحق العمل وكثير من العمال. ان ثروة الأمة العامة يجب ان تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية. والرأسمال الذي هو ضمان استمرار الانتاج وزيادته هو بالتالي او بما انه حاصل الانتاج، ملك قومي عام مبدئيا وان كان الأفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وتسخيره للانتاج. وبهذا تؤمن الأمة نهضتها الاقتصادية وتحسين حياة ملايين العمال والفلاحين وزيادة الثروة العامة وقوة الدولة ".
ومن هنا ان الحزب القومي الاجتماعي يرفض في الاقتصاد النظرة الماركسية القائمة على تعليل التاريخ تعليلا ماديا محضا ينكر ما للجانب العقلي والنفسي والثقافي، اي ما للجانب الروحي من نصيب في وحدة الحياة التي تشترك فيها أمة من الأمم ضمن بيئتها الطبيعية كما ترفض النظر بالتالي، إلى واقع الانسانية على انه واقع طبقات مادية تلتقي التقاء الصعاليك والتقاء الأسياد في مختلف انحاء المعمورة، فتنقض المبدأ القومي وتمزق الأمة وتهدم طبقة لتقيم محلها طبقة اخرى. وإذا كانت الماركسية يسارية من حيث نقضها للأوضاع الاقتصادية العتيقة فانما يساريتنا في الاقتصاد هي يسارية القومية الاجتماعية المنتقضة على الوضع الاقتصادي البالي الضامنة للانسان ضمن المجتمع الواحد المنسجم المتفاعل كرامته وحقه في الثروة بمقدار نصيبه من الانتاج. ففي الأمة الواحدة في المجتمع القومي لا استعباد ولا استثمار ولا استغلال، بل كرأمة وحق، وفرح بالمشاركة في انماء الثروة العامة والاشتراك بالتمتع بفوائد هذه الثروة في مجالي النهوض والازدهار والقوة تسهيلا لأداء رسالة الأمة المنيرة إلى العالم واغناء سهمها التاريخي في الحضارة الانسانية المتألقة.
وكما يؤدي مفهوم العقيدة للأمة إلى رفض العرقية واللغوية والطبقية والاقطاعية، يؤدي ايضا إلى رفض الطائفية الدينية السياسية الممزقة للأمة كوحدة حياة، أضف إلى ذلك ان عقيدة الحزب من حيث هي نظرة اجتماعية انما تتناول الانسان من حيث هو كائن اجتماعي فقط، وتلزم نفسها بالوقوف عند هذا الحد دون تخطيه إلى ما هو وراء الاجتماع. انها تبتدئ في المجتمع وتنتهي فيه، وكل ما هو خارج نطاق حياة المجتمع وشؤونه ليس من اختصاصها ولذلك كانت حرية الإيمان في شؤون ما وراء الطبيعة مصونة في الحزب القومي الاجتماعي، ما دامت القضايا الميتافيزيكية والتيولوجية خارج محور العقيدة كليا الا حيث يجعل انغلاق العقل بفعل العوامل المختلفة هذه القضايا تتدخل مباشرة في حياة المجتمع من الوجهة الاجتماعية السياسية. فليس لعقيدة الحزب ما تقوله حول ماهية الخلق والعالم الآخر ومصير الروح وما شاكلها من القضايا التي هي بصميمها جزء من حياة الانسان الداخلية التي يجابهها برهبة وخشوع في جامعه او كنيسته او في غرفته امام ربه.
وبذلك أمكن ان يتراص في الحركة مواطنون من مختلف المذاهب والأديان، مع حرص كل منهم على حريته في ممارسة ايمانه الديني الخاص، من غير ان يحول ذلك دون اجتماعهم على مبدأ فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون المجتمع السياسية والقضائية القومية التي هي من اختصاص الدولة المدنية وحدها. ذلك انهم اختاروا ان يرتفعوا برسالة الدين الحقيقية من الحضيض الطائفي الذي اوصلتها اليه قرون من الانحطاط والتدخل الأجنبي وان يعيدوها إلى مكانها اللائق.
وبذلك ايها السيدات والسادة أمكن ضمن صفوف الحزب القضاء على داء الطائفية الوبيل الناهش وحدة المجتمع المبعثر حقوقه وأهدافه وقضيته الحقيقية الكابح جماح نهضته لبناء الدولة الراقية المثلى. بذلك ايها السيدات والسادة أمكن ان تتحقق المعجزة!
.... المعجزة التي تحققت بامتلاء نفوس القوميين الاجتماعيين، عن طريق الإيمان بهذه النظرة العلمية للأمة ككائن اجتماعي حي، لا عن طريق الشعارات والنصوص الجوفاء، امتلاء نفوس القوميين الاجتماعيين بالولاء الأشمل والأسمى هو الولاء للأمة بشخصيتها القومية الواضحة وبترابط المجتمع القومي بأرض الوطن وبريته وبالتراث القومي الزاخر بالأمجاد والمتطلع إلى مزيد من الظفر في مشارف المستقبل.
ايها السيدات والسادة:
ان النظرة القومية الاجتماعية إلى الواقع الانساني ومعالجة مشاكل هذا الواقع على ضوئها، لا يمكن ان تقارن او تشبه بالنزعات القومية التي شهدها القرن التاسع عشر ويقال اليوم ان مشاكل العصر قد تجاوزتها. فإذا كانت لحمة هذه القوميات وسداها العنصر والدم، او الكبرياء والغرور، وغايتها الفتح وبسط السلطان واستعباد الشعوب الأخرى بالقوة واستثمارها لمصلحتها، وإذا كان الانسان الحديث الذي ذاق ويلات الحقد والضغينة الكامنة وراء هذه القوميات المنهارة قد انتهى إلى نبذها والبحث عن ايديولوجية جديدة منقذة، فان القومية الاجتماعية التي شهدت هذه البلاد انبثاقها من اروع ذرى لبنان لهي العقيدة التي لا تنفصل فيها النزعة القومية عن جوهرها الانساني، فهي لذلك القومية الإيجابية المحبة البناءة المنفتحة على كل الثقافات انفتاحها على معنى حرية الأمم وتعاون الشعوب في ميدان الحضارة، شرط الاحترام المتبادل للحق القومي والسيادة القومية والثقافية القومية التي لا يعني تحطيمها على يد الاستعمار أيا كان لونه الا تحطيم معنى الانسان. وهي اذن – اي القومية الاجتماعية – عقيدة على مستوى العصر بما تقدم من ايديولوجية جديدة تحمل كل الحلول الجذرية لمظاهر تخلف الشعوب عامة ولمشاكل علاقات الأمم بعضها ببعض في دفع صادق للإنسانية نحو تشييد صرح الحضارة الشامخ.
ايها السيدات والسادة:
لئن كان سعاده قد انتهى إلى ان البيئة الطبيعية التي نشأت فيها أمتنا هي هذه البقعة من الأرض التي يعبر عنها بلفظ عام الهلال الخصيب وهي ذات حدود تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة ومن البحر الأبيض في الغرب شاملة جزيرة قبرص إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم في الشرق...
لئن كان سعاده قد انتهى في البحث عن هوية الأمة إلى تعيين البيئة الطبيعية التي فيها انصهرت وامتزجت وتكونت في وحدة حياة شاملة مستمرة على تعاقب الأجيال وان عرفت بعض الإنقطاع بفعل عوامل طارئة غير أصيلة، ولئن ظهر ان هذه البيئة هي ما يدعى بالهلال الخصيب او ما سماه مؤسس الحزب الوطن السوري انطلاقا من التسمية التاريخية المعروفة لهذه البيئة، سوريا، ثم عرفت النظرة القومية الاجتماعية التي دعا اليها سعاده ويقول بها الحزب بالقومية السورية، فانما قال بذلك نتيجة دراسات مستفيضة دقيقة، اجتماعية وتوبوغرافية وتاريخية واتنية توفر عليها السنين الطوال بصبر العالم المنقب وصدق الباحث الناقد في محاولة اكتشاف الحقيقة المجردة واستنباطها من بين ركام الجزيئات المبعثرة والمحاولات المبتسرة والتواريخ المكتوبة تواريخ هذه البلاد، ومعظمها لا يخلو من الغرض والتشويه العفويين او المقصودين. وظاهر من تحديد هذه البيئة ان سعاده لم يستوح فيها خططا سياسية معينة داخلية او خارجية، ولا اكترث بالأوضاع السياسية القائمة التي قد لا تتفق مع هذا التحديد، لأنه لم يشأ ان يقيم موقفه على الأساس السياسي المحض، بل على الأساس القومي المنبثق عن العقل والمنطق ووقائع الطبيعة والتاريخ والبحث العلمي المجرد، الممتلئ محبة، في سعيه وراء الحقيقة.
ليت المجال متسع الان ايها السيدات والسادة لعرض الأدلة والبينات العلمية على صحة مبدأ الحزب لجهة تعيينه حدود البيئة الطبيعية التي نشأ فيها مجتمعنا وتكون وتطور وتعيينه بالتالي لحقيقة هوية الأمة التي اليها ننتمي. ان هذه البينات مفصلة في شروح الزعيم للتعاليم، ولا سيما في كتاب "المحاضرات العشر" ولكن ما لا بد من التحذير منه هو الخلط بين حقيقة المضمون الذي بات يعبر عنه اسم هذه البيئة التاريخي، سوريا، من زاوية النظر القومية الاجتماعية، وبين الالتباسات الكثيرة التي يمكن ان تنشأ عن اقتران هذه الاسم بجزء من البيئة دون سواه هو الجمهورية السورية، او بتصرفات قد تصدر عن هذا او ذاك من كيانات الأمة السياسية ازاء بعضها البعض، او عن هؤلاء او اولئك من ابناء البيئة الطبيعية الواحدة في مختلف أرجائها.
ولا بد من الاعتراف بأن هذه الالتباسات قد عقد مهمة الدعوة العقائدية القومية الاجتماعية في الشعب ولا سيما لدى الذين يكتفون من دراسة الحزب بألفاظ المبادئ دون التبصر في النظرة الأساسية الكلية التي منها انبثقت المبادئ انبثاق النتيجة من المقدمة.
عروبتنا تعاون بناء
يبقى ايها السيدات والسادة ان القول بوحدة الأمة في البيئة الطبيعية المحددة لا يلغي التقاء هذه الأمة مع امم العالم العربي في رابطة العروبة الحقيقية التي هي رابطة مجتمعات متعددة مختلفة الشخصيات والحضارات متشعبة المصالح لا رابطة مجتمع واحد في بيئة طبيعية واحدة. وعلى هذا الأساس يقول الحزب القومي الاجتماعي بعروبة الأمة السورية، ويدعو في غايته التي نص عليها في تعاليمه إلى وجوب السعي إلى انشاء الجبهة العربية القادرة على ان تكون سدا منيعا ضد المطامع الأجنبية الاستعمارية وقوة يكون لها وزن كبير في اقرار المسائل السياسية الكبرى، مما يتضمن القول بالتعاون إلى ابعد الحدود البناءة، بل لا يتنازل عن اعتبار هذه الأمة هي المؤهلة لقيادة العالم العربي، دون ان يكون في ذلك اي جنوح نحو النظرة الدينية او النظرة اللغوية او النظرة العنصرية التي لا يصح القول بأمة عربية واحدة في العالم العربي كله من غير اعتمادها مجتمعة او منفردة.
لكي يصان لبنان قلعة لا تمس
ويبقى بعد ذلك ايها السيدات والسادة امر لبنان، والكيان اللبناني وموقف الحزب منهما. ان الذين لم يعرفوا عقيدة الحزب كما اجتهدت ان اعرضها هنا اليوم، على حقيقتها، والذين يظنون الحزب حركة سياسية محضة ويقفون على عناوين المبادئ في حرفية ألفاظها، قد يعذرون ولا ريب ان التبست عليهم حقيقة موقف الحزب من لبنان، فلم يتورعوا عن الشك في لبنانيته الصحيحة بل لم يتورعوا عن الذهاب إلى حد اتهامه بخيانة لبنان.
ولكن الذين اتيح لهم ان يعلموا ويتحققوا من ان الحزب القومي الاجتماعي هو مدرسة عقلية عظمى يندر ان يكون لها مثيل في الشرق الأدنى – كم يقول السيد كمال جنبلاط – وان مجرد الإطاحة بالكيانات السياسية او مجرد ضم كيان سياسي إلى كيان سياسي اخر، سياسيا، لا يعني – في نظر الحزب – تحقق شيء من النهضة القومية الاجتماعية التي تسعى نظرة الحزب إلى تحقيقها في المجتمع الواحد- الذين اتيح لهم ان يعلموا هذا ويتحققوا منه مؤهلون لأن يدركوا حقيقة موقف الحزب من لبنان.
فهذا البلد العظيم الذي شهد انبلاج فجر الفكرة القومية الاجتماعية على يد رجل من ذرى لبنان الشم، وبفعل عقل خلاّق من عقول لبنان، لا يمكن ان يجد في ابناء هذه الفكرة ومعتنقيها إلا مؤمنين به أشد الإيمان، حماة له أشداء يوم تهب عليه الأعاصير من اي مكان. وإذا كنا نؤمن بأن القومية الاجتماعية هي الرسالة المنطلقة من لبنان إلى نفسه وإلى بيئته الطبيعية التي لا يستطيع عنها انفكاكا في شؤون الحياة والمصير، كما اثبتت الأحداث، وإذا كان لبنان، بحكم ظروف تاريخية معينة، هو أكثر أجزاء هذه البيئة أهلية لضمان حرية الفكر وصراع العقائد، فكيف لا يكون في عرف الحزب القومي الاجتماعي القلعة التي يجب ان تصمد وتصان وتقوى لتتمكن من نشر أنوارها على كل ما يحيط بها؟ انها القلعة التي شهدنا ضمنها نجاح التجربة التاريخية العظمى في هذه البلاد، تجربة الانقلاب العقلي الجديد الذي أمكن بواسطته تحقيق المعجزة، وعلى شمول هذا النجاح لكل ابناء لبنان يتوقف إلى حد بعيد، الأمل بارتقاب قيام عهد حضاري جديد لا في لبنان فحسب، بل في بيئته الطبيعية وفي العالم العربي كله.
هذه القلعة العزيزة الغالية لا تصان ايها السيدات والسادة بالخوف او الشعور بالنقص، ولا تصان بالانكماش الديني الذي لن يؤدي إلا إلى اضمحلال اصحابه الحتمي في غمار الإنفلاش الديني المعاكس، ولا يمكن ان تصان هذه القلعة بالاعتماد الذليل على الأجنبي للدفاع عن كيان كريشة في مهب الرياح. وانما تصان هذه القلعة بانتشار الفكر القومي الاجتماعي الفلسفي الموحد بين ابنائها، المحرر نفوسهم، المطلق عزائمهم في كل انسجام ومحبة نحو بناء الدولة الراقية الحديثة النموذجية المنشودة، فلا ميثاق يدعى وطنيا ويكرّس الإنشقاق ولا مناصفة دينية ولا إحصاء مذهبيا ولا رئاسات تتبادلها الطوائف مداورة ولا هجرة ولا اقطاع ولا طبقية ولا أنانيات، بل مواطنة صادقة يتساوى فيها الجميع في وحدة الحياة وفي حقوق المواطنة وواجباتها.
لأن الحزب القومي الاجتماعي يدرك جوهر عقيدته ايها السيدات والسادة، يحرص كل الحرص على لبنان، ويفتديه كما قامت الشواهد أكثر من مرة بالزكي من دماء شهدائه الأبرار.
لأنه يدرك جوهر عقيدته لن يرتضي في لبنان بأقل من قيام القلعة الأمنع المشعّة بأنوارها على محيطها كله، قيام الدولة القومية الاجتماعية الأولى التي بها تستطيع هذه الأمة أن تباهي العالم.
اعتماد نظام المؤسسات
ايها السيدات والسادة:
في الحزب القومي الاجتماعي لا يمكن ان ينفصل نظام الحركة التي تجسد العقيدة وتعمل لإنتصارها عن جوهر هذه العقيدة ذاته. فالنظام الداخلي الذي تسير على قواعده الحركة وتنشط، منبثق من معاني هذه العقيدة المؤمنة بالشعب وكرامة الانسان. ولذلك كانت من اندر الحركات، ولعلها الحركة الوحيدة في هذا الجزء من العالم التي لا تعتمد على الأساس الشخصي في القيادة وممارسة العمل الحزبي، بل تعتمد المؤسسات ذات الصلاحيات الواضحة، وذات العمل المستمر المتكامل مهما تبدل الاشخاص. ومن هنا ان الحزب القومي الاجتماعي لم يتلاش بموت زعيمه، بل كان استشهاد سعاده، عاملا من عوامل رسوخ العقيدة واستعار لهب الإيمان ثم العمل المنظم، ضمن مؤسسات الحزب، لنصرة هذا الإيمان.
ولقد نشأ الحزب القومي الاجتماعي على أساس تعاقد حقوقي بين صاحب الدعوة إلى القومية الاجتماعية مؤسس الحزب وبين المقبلين على الدعوة. وهذا التعاقد الحقوقي هو الذي يحصل كل يوم بأداء المنتسب إلى الحزب قسم العضوية وهو الذي أسبقه الدستور القومي الاجتماعي بقسم مؤسس الحزب نفسه والتزامه مسؤولية الزعامة ضمن صلاحيات حددها الدستور، فجاءت زعامة سعاده زعامة حقوقية ودستورية مقيّدة بأحكام القوانين الدستورية التي حددت انتقال صلاحيات الزعيم إلى المؤسسات الحزبية وفق صلاحياتها التشريعية والتنفيذية.
في نظام الحركة هيكلان من المؤسسات المترابطة ضمن هذا النظام المركزي التسلسلي. مؤسسات منتخبة لها سلطة التشريع ومؤسسات معينة لها سلطة التنفيذ. أما المؤسسات المنتخبة، ففي نظام الحزب أن يمارس العضو في المديرية وهي أصغر وحدة حزبية، لجنة تدعى لجنة المديرية. وفي المنفذيات الجامعة لعدد من المديريات يقضي النظام بان تنتخب لجان المديريات مجلس المنفذية الذي له صلاحيات التشريع في الشؤون المالية المحلية ودراسة اوضاع المنطقة وتقديم المقترحات والمشورة بشأنها. ثم نبلغ المجلس التشريعي الأرفع الذي يدعى المجلس الأعلى ينتخبه من نالوا لقب أمناء الحركة القومية الاجتماعية، وهو المسؤول عن دراسة مصالح الأمة العليا ووضع الخطوط العريضة لسياسة الحزب ومراقبة السلطة التنفيذية في حسن تنفيذ هذه السياسة وسن التشريع وتعديل الدستور الذي يمكن ان يتناول اي مادة منه إذا وافقت على ذلك اكثرية ثلثي المجلس الأعلى.
والمجلس الأعلى بدوره ينتخب كل عامين رئيس الحزب الذي يمارس السلطة التنفيذية، وههنا، في مجال التنفيذ، يبدأ اسلوب التعيين، فيعين رئيس الحزب مساعديه عمدا للداخلية والخارجية والثقافة والإذاعة والمال والاقتصاد والقضاء والدفاع، كما يعين المنفذين العامين على رأس كل منفذية عامة، وكل منفذ عام يختار مساعديه الذين يدعون نظارا، كما يقترح على عمدة الداخلية تعيين المديرين على رأس كل مديرية وكل مدير يختار مساعديه في حقول الإذاعة والمال والتدريب الذين يعينهم المنفذ العام او المرجع المختص وفق الدستور.
هذا النظام التسلسلي المركزي البديع الذي ضمن قيام الحزب على قاعدة المؤسسات، وضعه سعاده في حياته وطبقه في الحزب فنشأ القوميين الاجتماعيين على فضائل ممارسة حرية الاختيار داخل الحركة تنشئة ما تزال فاعلة فيهم حتى الآن. وهو كما يبدو ابعد الأنظمة عن الدكتاتورية التي يظن بعض المواطنين انها من طبيعة الحزب انطلاقا من الالتباس الناشئ عن جمع الزعيم في ابان حياته بين الصلاحيات التشريعية والتنفيذية باعتباره هو صاحب الدعوة ومؤسسها ومعلم الجيل الأقدر على تعيين سياستها وخططها ولا سيما في عهد الحركة الأول، ولم يمنع ذلك سعاده من ان يشرّع في حياته في تدريب القوميين على ممارسة العمل ضمن المؤسسات فأنشأ معظمها، وبيّن أنظمتها وصحح بنفسه أخطاء الممارسة حتى كتبت له الأقدار ان يتم رسالته ويختتمها بدمه استطاع ان يواجه الموت وهو يعلن قرير العين: "انا اموت لأخلد، اما حزبي فباق".
وضمن مؤسسات الحزب يمارس القوميون فضائل الواجب والنظام، ويتمتعون كأعضاء بحق التعبير عن الرأي بأتم حرية في الاجتماعات النظامية وابداء الرأي في شؤون الحزب وخططه السياسية والاقتصادية، مباشرة للمراجع الحزبية العليا او بالتسلسل كما نصت المادة الثامنة من دستور الحزب. كما تمارس المؤسسات، بنوع أخص، فضيلة نقد الذات التي تجعلها في تقييم مستمر لمواقف الحزب، وفي تنقية صادقة له من الضعف والتخاذل ومن الإنحراف عن نظرة النهضة الأصلية مما يرافق عادة كل الحركات التاريخية الكبرى. وعن طريق ذلك، وضمن نطاق الدستور تبقى الحركة دائما سليمة في مفاهيمها ومناهجها وتصرفاتها مهما كان الشطط الذي قد يقع فيه بعض الأعضاء.
هذا هو حزبنا، يساري، ثوري، رسولي
ايها السيدات والسادة:
هذا هو الحزب القومي الاجتماعي:
حزب اجتماعي من حيث ارتكازه على الإيمان باجتماعية الانسان رسولي من حيث ايمانه باجتماعية القيم.
مجتمعي من حيث حدود اهتمامه بالمجتمع لا بما وراء الطبيعة.
قومي من حيث ايمانه بتعدد المجتمعات الانسانية ووحدة المجتمع لا شيوعي ولا عنصري عرقي، ولا طائفي مذهبي، ولا طبقي ولا اقطاعي ولا عشائري ولا عائلي.
ديمقراطي النزعة، مناقبي التعليم
حزب طليعي في تقدميته القصوى
مسؤول عن قضية الحرية في العالم، ملزم بحكم عقيدته بنصرة حريات الشعوب كلها التزامه آزاء حرية بلاده ذاتها وشعبه ذاته.
حزب يساري من حيث رفضه الأوضاع الراهنة البالية ومن حيث ثوريته الشاملة المرتكزة على تحكيم العقل في الأخير.
فانما الحزب القومي الاجتماعي هذا كله لأنه قبل كل شيء حزب عقلاني مهتد بقول فيلسوف المعرّة:
كذب الظن لا امام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء
وحزب كهذا لابد ان يكون حزب لبنان وحزب الأمة، لأن بلادنا كانت وما تزال وستبقى هي بلاد العقل، ورائدها في هذا الاتجاه هو لبنان العاقل المدرك الحصين.
(*) ألقيت عام كانون الثاني 1961
في: 23/11/2024 لجنة تاريخ الحزب