إسرائيل تملك القنبلة النوويّة… لإنتاج الهلع منها، وتصويرها كقوة رادعة لا تُقهر، وفي الختام لإنتاج الجحيم.
حسناً، نحن بدورنا نملك القنبلة الديمغرافيّة، التي تُستخدم وفق ناموس الطبيعة البشريّة للحفاظ على النوع، قبل أن تدخل المختبرات الاستراتيجيّة ليتم توظيفها في صراع وجودي لا تبدو نهايته قريبة.
غالباً، ما تتم الإشارة إلى يسرائيل كيننغ باعتباره قارع جرس الإنذار في إسرائيل من (القنبلة الديمغرافيّة) الفلسطينيّة، وذلك بعد نشر وثيقته السّريّة التي عُرفت بـ “وثيقة كيننغ” في العام 1976، حيث كان يشغل وظيفة متصرّف لواء الشمال في وزارة الداخليّة. الوثيقة دخلت في الأدبيّات المؤرخة لسياسة الفصل العنصري – أبارتهايد – التي تعمل وفقها الحكومات الاسرائيليّة دون استثناء.
كيننغ الذي اختصت وثيقته بالأصل بوضع الجليل، فتح الباب للاستخدام الواسع لـ (الديمغرافيا) في إطار كونها تمثل الخطر الأكبر إن كانت من الجهة المقابلة الفلسطينيّة، كما في كونها تمثل الأمان الوجودي إن كانت من الجهة الإسرائيليّة. التداول بالديمغرافيا سيتحول لاحقاً إلى ثابت لا يمكن تجاهله في إطار تصوّر “الحل النهائي” للمسألة الفلسطينيّة كما تريده إسرائيل. مصطلحات إضافيّة ستنزل إلى سوق التداول السياسي – الإعلامي الإسرائيلي: الشيطان الديمغرافي، قنبلة الأرحام… إلى جانب “أنبياء الغضب الديمغرافي” الذين يواصلون قرع جرس الإنذار باقتراب غرق إسرائيل بفيضان الديمغرافيا الفلسطينيّة المتعاظمة يوماً بعد يوم ودون توقف.
نكبة العام 1948، اكتملت كحدث مع نجاح خطة بن غوريون بتهجير حوالي مليون فلسطيني من مدنهم وبلداتهم وقراهم، التي تم تدمير أكثر من 500 منها وإقامة مستوطنات على أنقاضها لإسكان قوافل اليهود القادمين على متن السفن من أوروبا أولاً، ومن ثم من مختلف أنحاء العالم، وفق مخطط تم تنفيذه بتسارع متزايد مع خروج القوات البريطانيّة من فلسطين.
احتاج الفلسطينيّون الذين تمكّنوا من البقاء في أرضهم إلى عشرين عاماً للتعويض النسبي عن (النكبة الديمغرافيّة) التي لحقت بهم. ورغم قيام إسرائيل بتنفيذ “نسخة ثانية” من النكبة في العام 1967، إلّا أنَّ الحديث الإسرائيلي عن الخطر الديمغرافي الفلسطيني القادم لا محالة، بدأ يؤسس لاستكمال سياسة “التطهير العرقي” التي دشنها عملياً بن غوريون في العام 1947.
وبالرغم من أنَّ حرب المعلومات الإحصائيّة الخاصة بتعداد الفلسطينيين واليهود المتواجدين على أرض فلسطين، حرب بين إسرائيل والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وغيره من الجهات الفلسطينيّة، مستمرة بسلاح الأرقام والأرقام المضادة، غير أنّها في أحد أوجهها تؤكّد على أنَّ الديمغرافيا ستكون (السلاح الطبيعي) القادر على حسم المعركة بمعناها الوجودي – الهوياتي القومي.
اعتمدت إسرائيل استراتيجيّة متعددة الأوجه في مواجهة “القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة”، اقتصاديّة، واجتماعيّة، وسياسيّة، وعسكريّة. قطّعت خريطة تواجد الفلسطينيين في محاولة لعزلها بعضها عن بعضها الآخر. تحكّمت بمصدر رزقهم. خلقت مختلف الظروف التي تدفع الفلسطينيين في داخل مناطق الضفة الغربيّة ومناطق 1948 للهجرة. تحكّمت بإمدادات الطاقة والكهرباء خصوصاً في قطاع غزّة الذي مارست عليه حصاراً شاملاً يضيّق سبل الحياة.
على أنَّ المرجعيّة الأم لجوانب هذه الاستراتيجيّة تكمن في العقيدة الصهيونيّة التي تتبنى “يهوديّة الدولة” دون أيّة مواربة أو لغة تخفيفيّة للمعنى العرقي حرفيّاً. يهوديّة الدولة هو الخيار الوحيد القادر على ضمان اعتبار إسرائيل “بيئة طاردة” للفلسطيني، هو الخيار الذي يضمن وجود تلك المسافة التي تشعر فيها إسرائيل بالأمان. هذا قانون كل الهويّات العرقيّة في التاريخ، وهو الذي تبنته الحركة الصهيونيّة منذ نشوئها في البيئة الأوروبيّة في أواخر القرن التاسع عشر.
كان واضحاً منذ بداية المشروع الصهيوني، أن لا مجال ليقوم ويقيم دولته ويؤمن استمرارها موجودة دون إبعاد السكان الفلسطينيين. سفر عزرا التوراتي أمّن المرجعيّة الدينيّة لاستراتيجيّة للتطهير العرقي التي بدأتها عصابات الهاغانا والشتيرن وتبنتها الدولة التي أعلنت عن وجودها مساء 14 أيار 1948.
لماذا هذه الاستعادة المختصرة لما يمكن اعتباره من السرديّات البديهيّة لتاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني، وبمناسبة الحرب التي يشنها على قطاع غزّة منذ السابع من تشرين أول 2023؟
لأنَّ جواب سؤال النكبة، يجب أن يكون واضحاً تماماً. نكبة العام 1948 لا تكمن في هزيمة “جيش الإنقاذ”، بل في نجاح المشروع الصهيوني بتنفيذ خطته بطرد الفلسطينيين من أرضهم بمختلف السبل. ونجاح نسخة العام 1967 من النكبة أنها استكملت ما بدأته قبل عشرين عاماً.
المعارك الوجوديّة المصيريّة لا تبدأ مع قذيفة المدفع الأولى، بل تبدأ من جواب السؤال الأول: أين تقف وكيف ترى عدوك؟ وكيف ترى نفسك؟
(مِنصّة الرؤية) هي بداية هذه المعركة.
(مِنصّة الرؤية) هي المؤشر الأول نحو الطريق الذي تختاره ولماذا؟
الآن، في إطار الصراع ما بين (القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة) و (القنبلة النوويّة الاسرائيليّة) يمكن أن نعيد معاينة الهجوم الذي قامت به حركة حماس في السابع من تشرين أول 2023.
تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة لا يتيسر لإسرائيل إلاَّ بضرب نواتها الصلبة: كثافة تواجدها، واقترابها إلى حدود الالتحام بـ (إسرائيل). ضربها يكون بإبعادها – طردها وتشتيت قوامها.
تعطيل القنبلة النوويّة الاسرائيليّة لا يتيسر للفلسطينيين، إلّا بالاقتراب منها والالتحام بصاحبها الذي هو العدو، والذي يجد نفسه في حالة انتظار دائم خوفاً من الفيضان الديمغرافي الفلسطيني الزاحف مع طلوع شمس كل يوم.
وفق معطيات الجهاز المركزي للإحصاء، يبلغ عدد الفلسطينيين في مختلف أنحاء فلسطين 7 مليون نسمة (3.2 ضفة غربيّة، 1.7 مناطق 1948، 2.1 قطاع غزّة). مقابل 7.1مليون يهودي حسب دائرة الإحصاء الإسرائيليّة.
الآن، أدت الحرب التي تشنها إسرائيل على غزّة إلى تدمير القطاع وتحويله إلى بيئة غير صالحة للحياة، وقتل حوالي 27 ألفاً من سكانه (23 ألف منهم من النساء والأطفال) وتشريد من سيبقى منهم أحياء (2.1 مليون) ووضعهم أمام مصير مجهول؟ ما يعني ضرب أكثر من ربع سكان فلسطين وتشتيتهم وربما إبعادهم نهائيّاً عن أرضهم، أو إعادة توطين بعض من يقبل منهم بشروط (إعادة الإعمار: الإسرائيليّة – الأميركيّة – الأوروبيّة – العربيّة).
هذا يعني بلغة “أنبياء الغضب الديمغرافي” أنَّ إسرائيل نجحت في إسقاط (استراتيجيّة الأرحام) الفلسطينيّة التي تلقت النسخة الثالثة من نكبة العام 1948.
كيف نُعيد معاينة الحدث الحمساوي في 7 تشرين أول 2023 من هذه الزاوية؟
من أيّة (مِنصّة رؤية) انطلق وبدأت عمليته؟
الواضح للآن، نجاح المشروع الصهيوني في إنتاج نسخة إضافيّة من نكبة العام 1948، وربما تكون النسخة الأكثر إيلاماً لكونها تبشّر بخواتيم سياسيّة كانت تُسمى في الأدبيات السياسيّة: تصفية القضيّة الفلسطينيّة.
نجاح إسرائيل الاستراتيجي لا يكمن في القضاء على حماس بالدرجة الأولى، بل في ضرب الديمغرافيا الفلسطينيّة وإسقاط قوتها وتفكيك قوامها.
بن غوريون أوصى دائماً بإنجاز النكبة، ومحمود درويش قال إنها مستمرة ولا يبدو أنها ستتوقف قريباً.
القنبلة الديمغرافيّة تلقت ضربة كبيرة ومصيرية.
القنبلة النوويّة لا تزال رابضة في مكانها.
ألواح غزّة- اللوح الأول: خوارزميّات العنف
ألواح غزّة - اللوح الثاني: اكتشافُ إسرائيل؟