مؤسسة سعاده للثقافة
تشرين الثاني 2020
باعثُ نهضة الأمة وفاديها، رجل الفكر والمبادئ ومعلم الأجيال: أنطون سعاده جاء بفلسفةٍ إجتماعية عميقة تُعنى بوجودنا القومي وتسعى لرقينا الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والنفسي ولنهوضنا الشامل والارتقاء بنا إلى مراتب العزّ والتقدم والفلاح. هذا الفيلسوفُ القومي المنطلق من واقع الأمة في أزماتها ومشاكلها والمستّلهم من تراثها أصالة الفكر والمستّشرف من غدها فكراً معطاءً يُغني النفوس أخلاقاً وعلماً ويقيناً وحداثةً ويبثُّ فيها روحَ الصراع والعطاء والإبداع لتحقيق المستقبل المشرّق واللائق بالنفوس العزيزة… هذا الرجلُ- الفيلسوفُ كان صاحب رؤية إنسانية حضارية واضحة.. رؤية مستقبلية واقعية طموحة وبعيدة المدى تعكسُ أمانيه الكبيرة وتعبِّرُ عن طموحات شعبه العظيم وآماله السامية في الحياة...
وبداية نشير أنّه لو لم يكن هذا الرجل متسلّحاً بثقافة واسعة وبفهم عميقٍ لتاريخ أمته وإرثها الصراعي وتراثها الغني بالإنجازات والبطولات والمآثر الإبداعية التي تُظهر تفوق النفسية السورية الأصلية وعظمتها، لمّا تكوّنت في عقله هذه الرؤية المتجذّرة، المستقبلية، المضيئة. فسعاده استوحى من عِبَر الماضي ودروسه وتراثه سرَّ النهضة المستقبلية وجمعَ الحجارة المٌشعَّة لعمارة المستقبل التي تصوَّرَها في رؤيته الواضحة.
ولو لم يكن سعاده فاهماً للحاضر بكل جوانبه وأبعاده ومكوناته، لمّا تكوَّنت في نفسه رؤيته الإنسانية الحضارية المتوقِّدة. فبناء الرؤية يحتاج إلى معرفة وثيقة بالواقع القائم وتعقيداته كما يحتاج إلى قدرة على التحليل المستقبلي انطلاقاً من المعطيات الواقعية... وبالفعل، فسعاده كان صاحب نظرة واقعية مشدودة إلى المستقبل تعتبر أنَّ كل جماعة تريد الارتقاء "لا بد لأفرادها من فهم الواقع الاجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه."[1] لذلك نظر سعاده في واقع مجتمعه دارساً ومحللاً بموضوعية وعلمية تركيبته ومشكلاته وعلاقاته الداخلية والخارجية وحالاته الصحية والمرضية ومستنبطاً أسباب الويل والمآسي والأمراض وكل ظواهر التخلف والتمزق والضعف والتبعية والانحطاط التي يعاني منها شعبه.
ولو لم يكن سعاده مطلعاً على إبداعات العالم وثقافاته وملِّماً بالكثير من التطورات الدولية والتغيرات المتلاحقة على مختلف الصُعُد والمستويات ومتابعاً الأحداث المتلاحقة بدقة، فكان يقرأُها محللاً بروح علمية ومنهجية ومنطقية.. ولولا اطلاعه وسعيه الدائم لفهم ما يجري، وتشكيل رؤية تجاه ما يحدث وما سيحدث، لمّا تشكّلت في عقله رؤيته المستقبلية التي وصفها بأنها "رؤية إنسانية عادلة"[2]
فما هي هذه الرؤية الإنسانية - المستقبلية وأين نجدها في كتاباته المتنوعة؟
رؤية سعاده التي انطلق منها في وضع الأساس لمشروعه القومي الإنشائي كانت بمثابة حلم واقعي - مستقبلي بعيد أراد تحويله إلى حقيقة متجسِّدة. أراد أن يختصر الزمن وأن يقطع المسافات البعيدة ليصل بأمته إلى حياة أجود، حياة حرّة ولائقة... حياة مثالية راقية تَجِدُ فيها الأمة حقيقتها الجميلة وترى نفسها مُساهمة في العمل لخير الإنسانية وتقدمها ومسؤولة عن إنقاذ المجتمع الإنساني من مشاكله الاجتماعية والاقتصادية المزّمنة ومن آفاته المتمثلة بالحروب المدمِّرة.[3] وقد اعتبر سعاده "أن أزمة الأمة وأزمة الإنسانية هي، في العمق، أزمة مناقب."[4] هذه الرؤية - الصورة التّواقة لحياة مستقبلية راقية ولعالم إنساني جديد فيه كل أسباب التقدم والعدل والحرية والخير والجمال تعكسُ سمو النفسية السورية الجميلة ومثلها العليا وهذا ما أكده سعاده في محاضرة له ألقاها في جمعية العروة الوثقى سنة 1932 حيث قال: "إن في الحياة السورية مثالاً أعلى هو العمل للخير العام في ظل السلام والحرية."[5]
رؤية سعاده، إذاً، هي صورة المستقبل البعيد المدى.. هي حلم مستقبلي يخصُّ الأمة في حياتها ويخصُّ الإنسانية جمعاء. ويتضمن هذا الحلم تصوراً جميلاً لما يمكن أن تكون عليه هذه الحياة المنشودة. فهمُّ سعاده همٌّ قومي، بالدرجة الأولى، هو همُّ الأمة وحريتها ونهوضها والوصول بها إلى "الحياة الجيّدة المثالية."[6] وهمٌّ إنساني، ثانياً، همُّ البشرية جمعاء وما يرتبط بها من قضايا السلام والعدل والحرية والفقر والاستعباد والتحرر. وانطلاقاً من هذه الهموم فإن حلمه هو ارتقاء حياة الأمة والإنسانية جمعاء لتصبح هذه الحياة كريمة وفاضلة وخالية من المشاكل والفقر والظلم والآفات والحروب البشعة ومليئة بالجمال والخير والبحبوحة والعدل والحرية والسلام. حياةٌ جميلةٌ يسعدُ الإنسان فيها ويرى لوجوده معنى. لذلك أوضح "ان الغرض من إقامة نظام جديد لحياتنا هو لجعل الحياة أرقى وافضل وأجمل"[7] "فالحياة وجمالها وخيرها وحسنها هو الغاية الأخيرة" التي نسعى إليها[8].
ونرى رؤية سعاده بوضوح في مقالاته عن القضية الأدبية التي جُمعت في كتاب "الصراع الفكري في الأدب السوري" والتي شرح فيها نظرته الجديدة الشاملة للحياة والكون والفن و"الصالحة لتقدم الحياة الإنسانية وارتقائها."[9] ففي هذه المقالات يدعو سعاده الأدباء والشعراء السوريين للأخذ بنظرته الجديدة، التي هي بمثابة المنارة، ليتمكنوا، على ضوئها، إن يبعثوا "حقيقتنا الجميلة العظيمة من مرقدها"[10] وان يشيدوا لأمتنا "قصوراً من الحب والحكمة والجمال"[11] ويساهموا ببناء عالم أجود هو فوق العوالم الماضية، عالم تسوده القيم الإنسانية والأخلاقية والروحية الجميلة العليا. ويفصح سعاده عن رؤيته بصراحة ووضوح فيقول: "إن القاعدة الذهبية التي لا يصلح غيرها للنهوض بالحياة والأدب، هي هذه القاعدة: طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى."[12]
والحق نقول، إن هذه الرؤية الواضحة للمستقبل هي، أولاً، رؤية مشبَّعة بحبِ الحياة وبالرغبة الشديدة في تحسينها لتصبح حياة شريفة وسامية. فنَظَرُ سعاده يرنو إلى الآفاق البعيدة ليكون "ألحاناً تمتد مع أمواج الكون الخفية وتلامس القلوب النابضة"[13] وغايته السمو إلى العُلى ليكون نسراً يحلِّق في الجو الفسيح ويعانق الحياة "الأسمى والأكمل والأفضل."[14] وثانياً، هي رؤية حضارية إنسانية جديدة لإنقاذ العالم من تخبطه و"لإعادة النبوغ السوري إلى عمله في إصلاح المجتمع الإنساني وترقيته."[15] وثالثاً، هي رؤية صادقة ممتلئة بنور "المحبة الصافية التي إذا وُجِدتْ في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأُ الحياة آمالاً ونشاطاً."[16]
وفي الخلاصة، نقول إن سعاده في كل أعماله ونتاجه الفكري، خلال هجرته وخلال إقامته، كان هاجسه الدائم تجسّيدَ رؤيته الواضحة الممتدة إلى الآفاق البعيدة والساعية إلى تحقيق "حياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى"[17] لذلك وضع خطته الاستراتيجية المتجسِّدة بمبادئ الحياة الجديدة وبالمؤسسات القومية الصالحة وبالغاية السامية وراح يجاهدُ إنشاءً ونقداً وإبداعاً وتنظيماً وإرشاداً وبناءً جديداً ومقاومة لكل أنواع الفساد مكرّساً حياته لخدمة أمته وإنقاذها وعاملاً بتفانٍ "لإنشاء مجتمع أفضل وحياة أفضل"[18] ركيزتها المناقب الجديدة والقيم الجوهرية السامية. وختَّمَ سعاده رسالته بدمه مجسِّداً قيمة الفداء ومستشهداً في سبيل حياة أمته وخيرها ومنتصراً لمبدئه القومي الذي قال فيه: "إنَّ في المبدأ السوري القومي الاجتماعي إنقاذاً لا يقتصر على سورية بل يتناول وضعية المجتمع الإنساني كله، ونهضتنا لا تعبر عن حاجاتنا نحن فقط بل عن حاجات إنسانية عامة."[19]
[1] أنطون سعاده، نشوء الأمم، طبعة 1976، ص 14
[2] من عهد زينون إلى عهد سعاده، بقلم نصوح الخطيب، سورية الجديدة، سان باولو، العددان 54، 55، 1/3/1940.
[3] حول رؤية سعاده المثالية راجع كتاب الباحث أسامة عجاج المهتار "إدارة الاستراتيجية في المنظمة العقائدية – أنطون سعاده نموذجاً" الصادر عن مؤسسة سعاده للثقافة، طبعة أولى، 2009.
[4] ربيعة ابي فاضل، أنطون سعاده الناقد والأديب المهجري، مكتب الدراسات العلمية، لبنان، 1992، ص 216.
[5] أنطون سعاده، الآثار الكاملة- الجزء الأول، مرحلة ما قبل التأسيس، بيروت، 1975، ص 238.
[6] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 176.
[7] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 73.
[8] المرجع ذاته.
[9] سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 59.
[10]سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 65.
[11] سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 64.
[12] سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 69.
[13] المرجع ذاته، 212.
[14] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ص 39.
[15] سعاده في أول آذار، ص 58.
[16] أنطون سعاده، الآثار الكاملة 1- أدب، بيروت، 1960، ص 147.
[17] سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 69.
[18] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ص 21.
[19] سعاده في أول آذار، ص 59.