يُطلق الجزائريون على كل جزائري خان بلاده والتحق بجيش الاحتلال الفرنسي اسم «حركي» ـــ أي خائن. وقد لعب الحركيون الجزائريون دوراً إجرامياً في حرب التحرير الجزائرية. كانوا يرتكبون أفظع المجازر بأوامر من المحتلين، وكانوا يقتحمون المنازل يقتلون ويحرقون وينهبون، وشكّلوا قوة تتميّز بالشراسة والدموية. أقنع المحتلون الفرنسيون الحركيين بأن جبهة التحرير الجزائرية هي منظمة إرهابية، واشتروا ولاءهم بالمال، لذلك شنوا حرباً ضروساً ضد الجبهة بإشراف وتوجيه فرنسي، سقط خلالها من الطرفين الآلاف.
كان مصير الحركيين بعد انتصار الثورة في آذار 1962 مماثلاً لمصير جميع المرتزقة في الحروب عبر التاريخ. تخلت عن معظمهم فرنسا، وغادر مع الاحتلال حوالى 60 ألفاً منهم وضعوا في مخيمات إيواء، وعوملوا باحتقار وتمييز عنصري، وكانت حكومات فرنسا تقدّم لهم المساعدات من حين إلى آخر.
مناسبة الحديث عن الحركيين في القرن الماضي سببه أن دورهم يشابه دور التكفيريين «الجهاديين» الذين تشغلهم وكالة المخابرات المركزية الأميركية ومخابرات الغرب وإسرائيل في حروبهم الحالية. إذا أخذنا حرب أفغانستان نموذجاً، فإن مئات الآلاف من الشباب الأفغان والعرب، ومن بينهم فلسطينيون، قاتلوا وقتلوا دفاعاً عن مصالح الغرب. العرب والفلسطينيون منهم حصراً لم يجدوا فائدة من القتال لاستعادة فلسطين الأرض التي سُلبت منهم، بل تجندوا للقتال في حرب بعيدة، وحرّموا على أنفسهم إطلاق رصاصة واحدة على الصهاينة. وهذا الموقف جاء تحت تأثير فتاوى غب الطلب من رجال دين فاسدين وغارقين في مجاهل التخلف والعمالة.
منذ نكبة 1948، كان معظم الجيل الأول من النازحين الفلسطينيين في مخيمات اللجوء، رغم القمع الذي تعرضوا له، ينتسبون إلى أحزاب قومية التوجه إذ انعدمت تقريباً في صفوفهم الاتجاهات التكفيرية والسلفية. وفي عودة سريعة إلى ما تعرضت له المخيمات، التي كانت ولا تزال تحت مراقبة دقيقة من أجهزة المخابرات العربية والأميركية وبالتالي إسرائيل، نجد أنها تعرضت إلى اختراقات وعمليات غسل دماغ للأجيال الفلسطينية بعد تراجع التيار الناصري، وهزيمة المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان، واستسلام حركة فتح وتوقيعها اتفاقية أوسلو في أيلول 1993. جرت عملية تهجير منظمة للشباب الفلسطينيين من المخيمات إلى المغتربات بهدف الإلغاء النهائي لأي إمكانية بحق العودة. كما دُفعت أموال طائلة لتجييش أبناء المخيمات في تنظيمات سلفية تكفيرية مستغلين الظروف الاقتصادية الصعبة التي واجهها النازحون الفلسطينيون في البلدان التي نزحوا إليها. فكانت «فتح الإسلام» وغيرها من التنظيمات المشابهة. وبدلاً من أن تكون بوصلة الفلسطيني موجهة دائماً ومن دون أي تردد نحو فلسطين، تم العكس، إذ جُند الكثيرون منهم في حروب التكفيريين في ليبيا والعراق وسوريا. وتحول أعضاء في حركة فتح في فلسطين بقيادة محمود عباس إلى حركيين فلسطينيين يقاتلون جنباً إلى جنب مع من يحتل أرضهم وينسّقون أمنياً ويتقاضون رواتبهم منه. وهذا ما حدث بالضبط مع حركيي الجزائر.
الحركي هو بالضرورة مرتزق. ومنذ فجر التاريخ كان المرتزقة سلاحاً في الحروب. وتم استعمالهم من قبل الإمبراطوريات والحكومات الغربية في جميع حروبها من شرق آسيا ووسطها إلى العالم العربي وأفريقيا. خلال معركة ميسلون مثلاً كان معظم مقاتلي الجيش الفرنسي من شمال أفريقيا والسنغال في حين كان جميع الضباط من الفرنسيين، وهكذا كان الأمر خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925.
في الحروب الغربية الحديثة، استعانت غالبية الدول الكبرى والكيان الصهيوني بالمرتزقة. معظم حروبهم خيضت بالمرتزقة بهدف ربحها من دون أي خسائر في الأرواح من قبلهم. الفرد الغربي لا يريد أن يموت ولا أن يتخلى عن حياة فيها نوع من الرفاهية في بلاده. الإمبراطورية البريطانية كانت أول من استعمل المرتزقة في حروبها، إذ منذ 200 عام تم تجنيد وحدات من نيبال سميت «الجوركا» حاربت إلى جانب الجيش البريطاني ضد حركات التحرر في الهند وفي دول أخرى. وكذلك جند البريطانيون مرتزقة من شعوب عدة من بينها الهند. كما يستعمل الروس حالياً بواسطة مجموعة فاغنر المرتزقة في حروبهم.
في العالم العربي، استُعملت المرتزقة والتكفيريون على نطاق واسع. ولن أعود إلى ممارسات الحركيين اللبنانيين المعروفة خلال الحرب الأهلية. سأكتفي بالإشارة إلى بعض الأمثلة فقط. ففي حرب العراق لعبت شركة «بلاك ووتر» دوراً رئيسياً تميز بالإجرام غير المسبوق. وكذلك أخذت شركة «سادات» التركية على عاتقها دور تأمين «مجاهدين» للقتال في سوريا واستقدمت المرتزقة من شتى أصقاع الأرض. الصحف والكتب الغربية التي صدرت خلال الحرب في سوريا تحدثت بالتفصيل عن مئات آلاف «الجهاديين» الذين نُقلوا بحراً وجواً إلى تركيا ثم أُدخلوا براً إلى سوريا. وكان التمويل والتسليح والتدريب مؤمنة لهم والهدف الاستيلاء على سوريا. وكما سبق في ليبيا على سبيل المثال، فقد تم تجنيد ما يقارب الـ20 ألفاً من المرتزقة السوريين والتشاديين والسودانيين للقتال في البلد الذي تم تقسيمه ونهبه. وانتقل المرتزقة السوريون أيضاً، بأمر من خليفتهم إردوغان، للقتال في أوكرانيا.
أمّا في الكيان الصهيوني، فقد استعان مؤسسو الدولة العبرية بعدد من المرتزقة الأجانب وقدموا لهم إغراءات مالية سخية، فشاركوا في القتال إلى جانب العصابات الصهيونية وأقدموا على تهجير الفلسطينيين بعد ارتكاب المجازر بحقهم. ويواصل الصهاينة الاستعانة بالمرتزقة منذ ما بعد النكبة حتى اليوم، حيث شارك عدد منهم في القتال في حرب غزة.
وإلى جانب الحركيين والمرتزقة، هناك نموذج آخر من الحركيين الذين يتولون بأقلامهم وألسنتهم دعم الحركيين على الأرض. هناك حركي يقاتل بالسلاح، وآخر يقاتل بالكلمة المكتوبة أو المنطوقة بناء على توجيهات من ممولين متعددي المصادر. هؤلاء دورهم أساسي حيث يعملون على بث روح التفرقة، وإذكاء نار الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية، والتماهي علناً مع الصهاينة. وهكذا ساد في الفضاء العربي وأجهزة الإعلام المختلفة خطاب يؤيد بشكل لا لبس فيه إسرائيل والغرب في حروبهما ضدنا وضد الغير. ولا يفسح المجال هنا للحديث بالتفصيل عن هذه الظاهرة المريضة والتي تعكس مدى الانحطاط الأخلاقي والتخلف والارتزاق الذي انحدر إليه أصحاب هذا المنطق.
مليارات الدولارات أُنفقت على تبديل قناعات المواطن العربي، ونجحت الحملة إلى حد كبير في توجيه قطاعات كبيرة نحو صراعات مذهبية وتم تغييب مسألة فلسطين، والمآسي الناتجة من توزيع الثروة الوطنية، والفساد، والجشع والاستغلال والنهب المنظم، والانقياد الأعمى لتوجيهات السفارات، وانعدام الحريات والمحاسبة. وهذا يفسر الصمت المطبق للعالم العربي والإسلامي، مع استثناءات قليلة، على خمسة عشر شهراً من مجزرة غزة، وعلى الاحتلال الصهيوني والتركي للأراضي السورية واللبنانية. لنعترف أن عملية غسل دماغ جرت، وأن الجماهير التي كانت تنتظر مثلاً خطب عبد الناصر وتتظاهر لمجرد إشارة منه تحولت بسبب النشاط المكثف للحركيين إلى عكس الاتجاه السابق. وتتواصل عملية غسل الدماغ بصورة هادئة مع إجبار الغرب جميع الدول العربية والإسلامية على تبديل مناهجها الدراسية جذرياً، وبالتحديد إلغاء أي إشارة سلبية نحو الاستيطان الصهيوني، والتركيز على مبدأ الخلافات المذهبية عند المسلمين.
يتناغم عمل الحركيين العرب مع التكفيريين. ويبدو أننا أمام مرحلة جديدة مظلمة تريد إغراقنا في حروب داخلية لا نهاية لها. من يتابع ما يتفوه به أو يكتبه الحركيون العرب يدرك أن الخلافات والتفسيرات لأحداث وقعت منذ 1400 سنة ونيف هي اليوم المحرك الأساسي لكثيرين، وهذا بالتحديد ما يهدف إليه الغرب والصهاينة. لا طريق أمامنا إلا مواجهة هذا الوضع الظلامي على الأصعدة كافة. وكي نتفادى ما حدث في القسطنطينية في القرن الخامس عشر عندما حاصرت جيوش محمد الخامس المدينة، أمّا أهلها، فكانوا منهمكين في جدل عقيم حول عدد الملائكة الذين يمكنهم الجلوس على رأس دبوس كما جاء في المرويات. فكانت النتيجة سقوط المدينة وانتهى الأمر.
* كاتب لبناني