تتواصل يومياً عمليات القضم الصهيوني للأراضي في جنوب سوريا، وكذلك قصف وتدمير المنشآت العسكرية ومراكز الأبحاث في سوريا. وفي المقابل هناك مشهد عرفناه في السابق، ويتناقض جذرياً مع ما يجري اليوم. المشهد الذي سبق أن شاهدناه في أداء حكام دمشق الحاليين، يتمثل في قتالهم بشراسة وإرسالهم عشرات آلاف الانتحاريين لمواجهة الجيش السوري لسنوات، سقط خلالها مئات آلاف الضحايا.
أما اليوم وبقدرة قادر، فخرست بنادقهم أمام الجيش الذي ابتلع أغنى الأراضي السورية بالثروات المائية والزراعية والمعدنية. لكنهم يكملون «مهمتهم» في قتل السوريين المتهمين بأنهم من «فلول» النظام السابق، والهجوم على القرى اللبنانية المحاذية للحدود الشرقية. والهدف في الحملتين واضح، وهو تسعير الفتنة المذهبية، باعتبارها أولوية لبناء حكم جديد، وليس على الإطلاق المحافظة على الأرض التي تُقضم يومياً.
الأراضي التي احتُلت بعد انهيار الحكم في دمشق، كانت في صلب مخططات الصهاينة الأوائل للاستيلاء عليها. وقد جرت محاولات للاستيطان فيها منذ أواخر القرن التاسع عشر، لكنها لم تنجح، وتمّ طرد المستوطنين.
درس خبراء المياه والزراعة والنبات الصهاينة منطقتي جبل الشيخ وحوران بدقة في العقدين الأول والثاني من القرن الماضي. وفي عام 1907، عند سفوح جبل الشيخ تم اكتشاف نوع نادر من القمح البري، استُعمل لاحقاً في تلقيح الأقماح التي تُستعمل حالياً في زراعة القمح في جميع أنحاء العالم. وكذلك توصّل الخبراء الصهاينة، أمثال بنحاس روتنبرغ إلى حقيقة أن مصادر المياه من جبل الشيخ، هي الأساس في تطوير ونجاح المشروع الصهيوني.
لن ينجح الصهاينة في مخططهم، مع أن التكفيريين يحاولون عبر ممارساتهم دفع كل معارضيهم إلى أحضان العدو
ونظراً إلى أهمية ثروات المنطقة، فقد اشترى في أواخر القرن التاسع عشر البارون إدموند روتشيلد في حوران أراضيَ من أحمد باشا شما، أحد وجهاء دمشق، تبلغ مساحتها حوالي 70 ألف دونم تقريباً.
وسبق لشما أن استأجر تلك الأراضي التي سُجلت باسم الصهيوني الفرنسي سالمون ريناخ، لتجنب رفض السلطات التركية عملية البيع.
وفي تقرير أمني فرنسي بتاريخ 3 نيسان 1930، يذكر الكابتن هوغونيه قائد جهاز المعلومات في سنجق حوران، أن ممثل البارون روتشيلد [المحامي اللبناني إلياس نمور] بوصفه وكيلاً مكلّفاً من شركة «بيكا» العقارية التابعة لروتشيلد، تقدّم بطلب تجديد سندات الملكية القديمة التي منحها الأتراك، وتبيّن للدوائر العقارية في دمشق، أن الأراضي المعنية هي أراضٍ «ميري» مثلها مثل جميع الأراضي الأخرى التي تملكها الحكومة. وعلى الرغم من التماسات المحامي نمور ورسائله العديدة إلى المندوب السامي الفرنسي، والطلب منه المساعدة في تسجيل الأراضي باسم الشركة العقارية الصهيونية، إلا أن طلبه رُفض من قبل الدوائر العقارية والمديرية العامة للأوقاف في المندوبية السامية الفرنسية.
وتشير تقارير أمنية فرنسية عديدة إلى النوايا الصهيونية للاستيلاء على حوران. ففي تقرير من موريبا ضابط الاتصال الفرنسي في القدس بتاريخ 15 كانون الأول 1929، موجّه إلى المندوب السامي في سوريا، يتحدث عن رسالة تلقّاها من الصندوق القومي اليهودي، يطلب فيها أن تمنح سلطات الانتداب كل التسهيلات للجغرافي الصهيوني أبراهام يعقوب براون الذي سيقوم بجولة يجمع خلالها موادَّ لخريطة مدرسية لفلسطين «في حدودها التاريخية» كما يوضح التقرير.
ويحذّر موريبا من أن «رؤى الصهاينة المستقبلية تتجاوز حدود الأراضي الفلسطينية الحالية. فقد أكّدت فيها أن جزءاً من فلسطين التاريخية يقع تحت الانتداب الفرنسي. وتوضح بأن هذه الأرض التي لم يتم شراؤها بعد تمتد بين حدود القوتين الانتدابيتين وخط عرض دمشق وصيدا».
ويضيف: «لا ريب في أنه سيتم إدراج هاتين المدينتين في خريطة فلسطين التاريخية التي يستعد الدكتور براون لوضعها بمتناول طلاب المدارس العبرية.
من جانب آخر، قمت بالإشارة إلى أن شراء الأراضي في جنوب لبنان، والذي سيُستكمل بتفاهم سياسي مع المسيحيين اللبنانيين، هو مشروع يداعب مخيلة قادة المنظمة الصهيونية».
وبالفعل تمّ نشر الخريطة، وشملت مناطق في شرق الأردن، وأراضيَ لبنانية، وسورية من صيدا إلى دمشق.
أما اليوم، فقد احتل الصهاينة كل المنطقة، وأثمرت جهودهم وجهود حلفائهم من الأتراك والعرب، وبإشراف أميركي على امتداد عقد ونيّف من الزمن، بالاستثمار في المنظمات التكفيرية، فأُسقطت سوريا كما أُسقط العراق من قبل، وتمّ تدمير جيشيهما. وكل المؤشرات حتى الآن تؤكد حقيقة أن الانسحاب الصهيوني غير وارد، إذ حقّق السلاح الصهيوني ما كان يطمح إليه الصهاينة الأوائل. وهذا ما عناه نتنياهو بقوله: «نحن نقيم شرقاً أوسطَ جديداً».
المنطقة المحتلة حديثاً تشبه مناطق سهل الغاب والمناطق الشرقية في دير الزور والحسكة، وهي غنية بالزراعة والمعادن التي لم تُكتشف بعد. وكان يوفال بارتوف عالم الجيولوجيا الصهيوني قد أعلن سنة 2015: «لدينا في الجولان عشرة أضعاف كميات النفط الموجودة في الدول الأخرى».
إضافة إلى ذلك، ونظراً إلى الأهمية الاستراتيجية العسكرية للمناطق المحتلة حديثاً، فمن المستبعد أن ينسحب المحتلون من منطقة تُعتبر كنزاً مائياً وثروة اقتصادية إلا بالقوة، وهذا أمر غير متوفّر أصلاً، وليس على جدول أعمال القادة الجدد في دمشق. وللتذكير لمن فقد الذاكرة أن المرة الوحيدة التي انسحب فيها الصهاينة من أرض محتلة من دون أيّ تنازلات أو معاهدات استسلام، تحقّقت على أيدي المقاومين في لبنان عام 2000
.
بعد احتلال المنطقة أبدى الصهاينة «حرصهم» على الدروز السوريين، وأطلقوا الزمام لتصريحات بعض من رموز الدروز الفلسطينيين الذي تم تجنيدهم لصالح المشروع الصهيوني، لرفع صوت «الدفاع» عن إخوانهم السوريين، وبالطبع من «يدافع» هو جيش الاحتلال!
وبالعودة إلى أداء حكام دمشق، إذ يبدو أنهم أدمنوا على قتل السوريين من طوائف أخرى وتجاهلوا المحتلين. عمليات القتل هذه ليست نهجاً جديداً عند المنظمات التكفيرية. وليتذكر الجميع بأن التصفيات التي مارسوها ضد أهل الساحل السوري، هي نهج قديم اعتمدوه سابقاً، وقبل اندلاع الحرب على سوريا عام 2011
.
أعتقد بأن كثيرين يتذكّرون مجزرة مدرسة المدفعية في حلب التي نفّذها تنظيم ما يسمى بـ«الطليعة المقاتلة» في حزيران 1979. تفاصيل تلك المجزرة نُشرت في كتاب أبو مصعب السوري عمر عبد الحكيم بعنوان «ملاحظات حول التجربة الجهادية في سوريا»، فيذكر أن النقيب إبراهيم اليوسف ضابط التوجيه المعنوي في المدرسة، قام يوم المجزرة بدعوة الطلاب إلى ندوة في قاعة الطعام، وعندما امتلأت القاعة، عمد إلى فرز الطلبة وفق انتمائهم الطائفي، وقتل بمساعدة آخرين من خارج المدرسة جميع المنتمين إلى الطائفة العلوية.
هذه الجريمة حدثت قبل ما يُسمى «الثورة السورية» التي أعلن بدايتها السفير الأميركي روبرت فورد الذي زار أحد مساجد حماه للتحريض، واستُقبل مرفوعاً على أكتاف «الثوار».
إذاً نهج القتل ضد الآخر، من مذهب مختلف، يكمن في صلب العقل التكفيري، وليس بحاجة إلى أعذار. ورغم الأدبيات والفتاوى «الجهادية» ضد اليهود والنصارى والشيعة، لم نشهد طيلة مسيرة الحركات التكفيرية، أيّ مواجهة ولو رمزية مع العدو الصهيوني.
هكذا أنجز العدو الصهيوني المحتل بسهولة تغذية الاقتتال الداخلي السوري، في حين يتقدّم جيشه، ويبتلع المزيد من الأراضي دون أيّ خسائر.
إن الشعار الصهيوني «الدفاع عن الدروز» المطروح اليوم، ليس جديداً في المخطط الصهيوني، فخلال الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 - 1939، أرسلت القيادة الصهيونية بعض عملائها من الدروز الفلسطينيين إلى لبنان وسوريا، بهدف إقناع القادة الدروز لمنع الشباب الدروز من الالتحاق بالثورة، لكنّ المحاولة فشلت.
وكان الصهاينة عبر عملائهم يعرفون أن أعداداً كبيرة من الدروز التحقوا بالثورة، وبعضهم كان يتولى عملية نقل السلاح والمؤن إلى الثوار.
التنسيق بين المنظمة الصهيونية وبعض القيادات الدرزية الفلسطينية، كان يشرف عليه من قبل الصهاينة أهارون حاييم كوهن ضابط المخابرات الخبير في الشؤون العربية، ومن أبرز المتعاونين معه زيد أبو ركن وسلمان طريف. وتفيد تقارير صهيونية بأنه تم إرسال أبو ركن إلى لبنان، وزار 45 قرية يقطنها الدروز في محاولة لمنعهم من مساعدة الثوار في فلسطين (بحث يوآف غيلبر بعنوان «مقدّمات التحالف اليهودي-الدرزي في فلسطين»، مجلة دراسات الشرق الأوسط المجلد 25، لندن نيسان 1992).
أشار كوهن في مذكّرة للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، إلى أنه وفقاً لخطة لجنة بيل، ستكون 18 قرية يسكنها عشرة آلاف درزي ضمن أراضي الدولة اليهودية.
لذلك أعرب عن أمله في أن تسهل العلاقات الجيدة بين الدروز الفلسطينيين مع إخوانهم في جبل الدروز، انتقالهم في الوقت المناسب إلى الجبل، أو إلى أي مكان آخر في سوريا.
ولأول مرة روّج كوهن لفكرة «التوجه نحو الأقليات» التي شكّلت لاحقاً حجر الزاوية في السياسة الإقليمية اليهودية، ولا تزال. وأكّد في ختام مذكّرته: «هذا هو الطريق لأن نرسي بؤراً من النور والإلهام في بحر العرب المظلم من حولنا: واحدة في شرق الأردن، وأخرى في لبنان، وثالثة في جبل الدروز، ورابعة في مكان آخر، وهكذا». (من مذكّرة كوهن في 2 تشرين الثاني 1937، الأرشيف الصهيوني رقم S25/3539).
إن محاولة استمالة بعض قيادات الدروز الفلسطينيين، كان الهدف منها، أن تصل القيادة الصهيونية بواسطتهم إلى إخوانهم دروز حوران ولبنان، كما عبّر عن ذلك العقيد فريديرك كيش مدير الدائرة السياسية للوكالة اليهودية. لذلك نلاحظ أن تلك المحاولة التي جرت في ثلاثينيات القرن الماضي تكررت هذه المرة مع احتلال الصهاينة لمناطق شاسعة من جنوب سوريا، حيث تقطن الأكثرية من الدروز السوريين.
وقد تنطّح الشيخ موفق طريف للقيام بدور ساعي البريد الصهيوني، لكن حتى الآن لم تنجح محاولاته في قطع العلاقة المصيرية التي تربط الدروز بالأرض السورية.
وسبق للفرنسيين أن حاولوا، وأقاموا دولة درزية، لكنّ محاولتهم فشلت، ولقّنهم السوريون درساً قاسياً لن ينسوه، على الرغم من مجازرهم وقصفهم الثوار بالطائرات والمدفعية.
لن ينجح الصهاينة في مخططهم، مع أن التكفيريين يحاولون عبر ممارساتهم دفع كل معارضيهم إلى أحضان العدو. إنها لعبة خطيرة يقدمون عليها، وتعني تدمير سوريا بشكل نهائي، واندلاع حروب مذهبية فيها ستمتد إلى مناطق أخرى لسنين طويلة، وبذلك تتحول بلادنا إلى لقمة سائغة لجيش العدو ومستوطنيه.
سياسة الصهاينة منذ البدايات تمزيق شعبنا وإذكاء الفتن. حاولوا مع الدروز ومع البدو في فلسطين، وجنّدوا قسماً منهم في الجيش. وحاولوا مع بعض اللبنانيين، وسلّحوا أكراد العراق وسوريا، وكانوا أول من اعترفوا بدولة انفصالية في جنوب السودان. ولن يوقف محاولاتهم إلا المزيد من الوعي والمقاومة لمشروعهم التدميري. دون ذلك الخراب والموت اللذان نشهد بعض فصولهما اليوم.
* كاتب لبناني