منذ ولادته الجسدية في أول آذار حتى استشهاده الكارثيّ في الثامن من تموز، تمرّسَ الزعيم الفذ أنطون سعاده بمعمودية النزف وشلال العطاء، فتصدى للجهل بالعِلْم، وللغفلة بالوعي، وللفردية بالغَيرية، ولولاءات التبَعثُر بمركزية المجتمع، وللتصحُّر بالتخصيب الحضاري، وللضحالة الطافية بالغوص على الأعماق.
آلمَه الإنسلاخ عن جراح الأمة فعالجه بالترابط، أما الجراح فبالتضميد الفكريّ والعملي... آذاه التمزق فداوَاه بالرَّأب العضوي، ونادته التجزئة فَضَخّها بدم الوحدة، قبل أن يعود بعضُ حزبه فيستبدل الوحدة بالتجزئة.
آنَسَ سعاده العزّ خياراً فاستطاب الموت طريقاً للحياة... حلَقَ بالفلسفة والإجتماع والإيمان والعقيدة والأدب والنقد والموسيقى فصّوّبَ أُغلوطاتها محدِّداً لكلّ منها أرقى المفاهيم. أما الحُب والنبل والإيثار والإلتزام والتضحية فرفَعها إلى مستوى السُّمُو الذي لا يدركه مُيَاوِمو سياسةٍ بل آباءُ قضية.
من كيليكيا والإسكندرون السَّليبَيْن في الشمال إلى فلسطين المصلوبة في الجنوب، وعَى سعاده باكراً عِظَمَ المحنة السورية وآثار النفسيات الإنهزامية على تكريسها، فَحَذّرَ واستنهض، ونَظَّمَ وعَلّمَ، لكن التواطؤ المحلي-العربي-الدولي المتقاطع مع المشروع الصهيوني عاجله بالإغتيال، وطَوّقَ اندفاعته اللافتة بافتعال الملاحقات وإذكاء العصبيات البدائية في أشلاء الأمة المَهيضة منعاً لإنتفاضها على قرون الإنقياد إلى الأُميّة والتبعية.
لكنّ آذارَ حَفّاز للتفكير بصوتٍ عالٍ ولطرح بعض الأفكار والأسئلة، منها العمل الهادف للوحدة لا مجرد الدعوة إليها. وهذه مهمة داخلية بامتياز، لأن لدى الحلفاء والأصدقاء في الظرف الراهن من التحديات ما يكفي ويزيد فلا تُشغلوهم بكم، ولا تشتبهوا بأنهم- على تقديرهم والمودّات- يأخذون مكانكم سواء في المُحَصّلة أو في التدبير والتقرير.
لكنّ شرط التلاقي بين «الأفرقاء» أن يخرج كل فريق من ذاته الصغرى ليعانق الذات الأكبر، فمبرّرُ الإنتماء ليس انتفاعياً على المستوى الفردي، وكذا نقول في الوحدة، هذا إذا كانت واردة في الدخائل. فالفضيلة الإنتمائية والوحدوية ليست مختبراً ظنّياً بل قدوة عملية. والكرامة قومية في معيارنا لا فردية. أليست إحدى مَهامنا الطليعية أن نكسر أعراف القبائل لا أن نقتبسها؟ أليس الحزب روحاً قبل أن يكون جسماً؟ أوَ ليست روحيته المناقبية هي التي تجتاح كل منتمٍ إليه فتجعله ذا سوِية ذهنية وسلوكية تجسّد فضائل النهضة وتؤكد مسَوّغ وجودها؟
ثمة سؤال محوري عن المؤتمر العام. وإذا كانت وحدة الحزب حجر الزاوية بل إذا كانت هدفاً إستراتيجياً،فالسؤال :هل يصنع المؤتمر وحدة... أللهمَّ إذا كانت وحدة سليمة لا مصطنعة؟ وهل يستعيد المؤتمر للحزب مزايا قد تكون آيلة إلى الإنحسار؟ هل يوقف طاحونة الإشاعات التي تُفَبرَك في مطبخها روايات الإتهام وثقافة التنكيس والتيئيس؟
إن الترويج لعقد مؤتمر لم تنضج معطيات إنجاحه لا يفيد الواقع المأزوم، عِلماً أن المسألة ليست أن تذوب في الآخَر ولا أن يكون الأفراد على نَسَقٍ واحد في كل شيء...أنْ يكونوا واحداً في معيار اليمين وغايته العظمى، هذا هو الترافق النضالي. ففي الحزب أنت في معية، وليس للحركة القومية الإجتماعية من معنى سوى كونها معية، بين رفقاء نهضويين تجمعهم قضية، من دون أن ننسى بأن أخلاقيات الحزب مسؤولية كبرى يجب أن لا تكون يوماً موضع مساومة، إذْ لا جدوى للحزب السوري القومي الإجتماعي خارج النموذج النهضوي، كما أن التراكمات السلبية تُضعف التسليم بمشروع الحزب ومستقبله، أي مشروع الإنسان الجديد الذي غَيّرته المبادئ وزَوّدته بمنظومة من القيم المترابطة في العمق، بحيث لا مجال ولا إمكان لتزييفها.
إن ثقافة الإنجاز أهم من ثقافة الشعار. كما أن البنيان السليم أَوْلَى من البهرجة الإعلامية والسياسية. لكنّ المسافة مع الحق مشكلة كبرى. نحن ليس لنا شرعية وجودية خارج الحق. والسؤال: هل نحن مع الحق أم أنّ بيننا من يستطيب البقاء حبيسَ الباطل؟ هل كياننا بعمقه في الحق؟ هل كلامنا هو نحن؟ ألا يمكن أن يكون لنا تصويرنا لأشباه الحقيقة في حين أن الحقيقة واحدة بلا شبهات؟ ألسنا مسؤولين عن الكلام الذي نقوله والكلام الذي نُخفيه، ولا يصبح الواحد إنساناً سليماً إلا إذا زال الفارق بينه وبين كلامه؟
إن النموذج القومي الإجتماعي النهضوي على المِحك فهل ننفَحُه مجدَّداً بأسباب الألق؟ وهل ستعود عيون الشهداء المُدَمّاة لِتقرّ في عليائها بزوابع المجد ووقفات العز؟ أم أنها ستخجل من واقع مرير لم يَدُر في خَلَدها يوماً أنها استُشهِدتْ من أجله؟