يثير هذا العنوان مسائل متعددة تتعلق باشكاليات العلاقة بين العلمانية والدين، العلمانية والدولة، العلمانية والسلطة. كما يثير ، في الوقت نفسه، مسائل أخرى متصلة بالسلطة والدولة، السلطة والدين، والدولة والدين. والعلاقة بين كل من هذه الثنائيات في علاقاتها الداخلية ، إن كانت متصلة، مؤتلفة، أو متعارضة، تتطلب بحثاً مستقلاً، وتفرض البحث في إشكالية العلاقة بين كل منها ، من جهة؛ وبين الثنائيات الأخرى، من جهة ثانية.
والبحث في إشكاليات العلاقة بين هذه الثنائيات، مجتمعة ومنفردة، يتطلب البحث في منشأ هذه المفاهيم وفي مضمونها، وفي علاقاتها بنا، كثقافة وانتماء وانتساب إلى تاريخ وإيمان وتراث، وفي علاقاتنا بها، كمفاهيم ومحددات نشأت إما في سياق اجتماعي- تاريخي مخصوص ومرهون بظروفه ومناخاته وحركته في التاريخ، أو في سياق آخر يستجيب لحاجات ومآلات مغايرة في التاريخ والجغرافيا والحضارة.
هذا الكلام يفرض نفسه عند البحث في شؤون المواطنة، وفي شجونها. كما في ظروف نشأة السلطة وتحولاتها. وفي كيفية تشكل الدولة والأسس التي تقوم عليها، والعلاقة التي تربط الدين بالدولة والسلطة، ومسائل المواجهة، المهادنة أو الملاءمة، بين الدين والمواطنة.
-1-
المواطنة كلمة متأتية من مفردة وطن. والمواطن هو الذي يمارس مواطنته في بلد محدد، كما يمارسها في أي بلد ذي نظام دولة حديثة ترعى شؤونه في أي أمر من أموره، على أن يبقى ضمن الأنظمة والقوانين التي ترعى شؤون البلد. وهذا الأمر ينطبق على أي دولة أخرى، حسب ما يسود فيها من قوانين ترعى شؤون ومصالح الناس بصرف النظر عن كونها دولة حديثة أو تقليدية.
ومفردة وطن ليس لها تلك الجذور في الحضارة العربية الإسلامية كما لكلمة أمّة التي لها مدلولها الخاص في الشأن السياسي والاجتماعي العربي الاسلامي. ففي لسان العرب جاءت مفردة الوطن لتدل على المنزل الذي يقيم فيه الإنسان، وهو موطنه ومحله. ويقال اتخذه وطناً، أي مكاناً يحل فيه. وفي كل دلالات الكلمة، تبقى الإشارة إلى الفرد في اتخاذه مسكناً ومحلاً يقيم في أرض معلومة باعتبار إقامته فيها[1]. ولا شيء غير ذلك في دلالة الكلمة كما نعتبرها اليوم على أنها مجموعة من البشر تقيم في أرض محددة تجمعهم إرادة الحياة الواحدة المشتركة بقيادة دولة لها نظامها ورموز هويتها.
ولأن الوطن مفهوم حديث في القاموس السياسي الاجتماعي العربي والإسلامي، وكذلك مفهوم المواطَنة، فلا بد من التطرّق إليهما للوصول إلى بحث إشكالية العلاقة بين الدين والدولة وعلاقة الوطن والمواطَنة بهما.
من نافل القول التأكيد على أهمية البحث في ما يعنيه الوطن في لغتنا الحديثة. فهو الموقع الجغرافي المعلوم الذي يجمع أبناء المجتمع تحت قيادة دولة ترعاه مهما كانت هوية نظامها السياسي. والوطن الذي يضم الجميع تحت لوائه وبقيادة دولته عليه أن يبني حس المواطَنة والشعور بها وممارستها بالتنشئة والتربية والصناعة. ومن أجل التفريق بين دولة هذا الوطن الذي يبني المواطن بإرادتها وتخطيطها وتربيتها، والدولة التي تتخلى عن القيام بهذه المهمة وتعطي لغيرها ضمن الوطن مهمة القيام بالتربية والتنشئة المتناسبة مع توجهات من يقوم بهذه المهام، وهؤلاء عندنا هم ممثلو الطوائف بحماية الدستور ورعايته، ما يعني أن وحدة الاهتمام لهؤلاء هي الطائفة، لا الفرد أو "المواطن". ولأن الأمر كذلك، من الصعب الكلام على المواطَنة في لبنان في ظل النظام الطائفي.
ولهذا السبب، كان لا بد من البحث في نهجين أساسيين من مناهج المجتمع، المجتمع الأهلي ذي الانتماءات الأولية التي يولد الفرد عليها وتربطه بأهله، جنساً وإسماً وعائلة ومذهباً وديناً وموطناً حسب تعبير إبن منظور؛ والمجتمع المدني المصنوع بنظام الدولة، بدستورها وتوجهها وتنشئتها ومؤسساتها التي عليها أن تصنع المواطن. المجتمع الأهلي نشأة طبيعية عفوية وفطرية، والمجتمع المدني نشأة صناعية، طوعية وواعية ومدركة للنتائج التي يمكن أن تتحصّل من خلال تخطيطها. ومن نتائج هذا التحصيل، المواطَنة والحس المدني والديموقراطية ولحظ الآخر، والمساواة أمام القانون، وحرية التعبير في القول والممارسة، والعمل المشترك بالوعي والإيمان بصرف النظر عن أي انتماء آخر، مع لحظ وجود هذا الانتماء واحترامه وتقديم كل ما يلزم لإبقائه، على أن يكون دون الانتماء المدني الجامع للانتماءات كلها. والفرق في الانتماء هنا هو تماماً كالفرق بين الكل والجزء[2].
ولأن الكلام في مواصفات المجتمع المدني يخصّه وحده، فإن الكلام عليها في نهج المجتمع الأهلي يأتي وكأنها ملصقة به لصقاً ومفرّغة من مضمونها.
لا مواطنة إذن، في المجتمع الأهلي، ولا المجتمع الهجين الذي يخلط في انتماءاته ما هو من مواصفات المجتمع الأهلي ومواصفات المجتمع المدني. وتنمو في المقابل، وفي المجتمعين، الأهلي والهجين، ما يتناسب مع التوجهات الأهلية لتعزيز وجودها وتقويته في مقابلة الآخر المختلف على أي وجه كان هذا الاختلاف، عائلياً بالمعنى القبلي، أو طائفياً أو مذهبياً أو دينياً، أو حتى مناطقياً. فيتعزز بذلك ما هو مقابل ومناقض للمواطنة، وموافق ومتناسب مع توجه الطائفة أو المذهب أو العائلة أو المنطقة.
ولأن البحث يتناول إشكالية العلاقة بين المواطنة، من جهة؛ والدين والدولة، من جهة أخرى، فلا يمكن الوصول إلى نتيجة إلا من خلال البحث في ما يحتضن إمكانية حضور المواطنة، إن كان في الدين أو الدولة. ذلك أن المواطنة "هي الرابطة الجامعة والملازمة للمجتمع المدني، وهي أساس الانتماء"[3]. وإمكانية الحضور تتجلى في ممارسة الحياة الدنيوية، أو تبنّي النظام الدنيوي أو العَلماني في شتى أمور الحياة، دون أن يعني ذلك منع أو إلغاء أي ممارسة أخرى، ومنها الممارسة الدينية في أشكالها كافة. وإذا كانت الدولة، باعتبارها دولة، لا يتناقض وجودها ودورها مع العَلمانية أو الدنيوية، إلا في حال تخص هذه الدولة أو تلك، لاعتبارات ناشئة عن تشكلها وعن بنيتها الداخلية، كما هي الحال في لبنان؛ فهل تتناقض الدنيوية مع الدين؟ أو العَلمانية مع الدين؟ هذا التساؤل يدفعنا إلى البحث في شؤون العَلمانية وشجونها، والسلطة السياسية المنشأة من قبل الدولة، والسلطة الدينية المنشأة من قبل الدين، أي دين.
-2-
العَلمانية بمعناها الشامل، أو إذا شئت الدنيوية، هي موقف نظري واضح ومحدّد من طبيعة الدين، ومن طبيعة القيم والإنسان وعلاقته بالله[4] . والعلماني ( أو الدنيوي) صاحب موقف مبدئي ضد أي جماعة تؤمن بأن التعاليم الدينية تشكل المرجع الأخير لكل ما له علاقة بالشؤون الدينية والزمنية، بصرف النظر عن أي دين أو جماعة، وبصرف النظر عن وجود رجال دين أو عدم وجودهم.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل الفصل بين السلطتين على الصعيد الإجرائي هو ما اصطلح على تسميته عندنا بالعلمانية؟ بمعنى آخر، هل الفصل بين الدين والسياسة يعني العلمانية؟ وإذا كان ذلك كذلك، فأي علمانية نقصد؟ هل العلمانية كما عرفتها المجتمعات الغربية، المسيحية في أصولها، أم هي علمانية مغايرة؟ وإذا كانت مغايرة، فما هي حدودها، وما هي أصولها، إذا كان لها أصول في المجتمعات العربية الاسلامية؟
لا شك في أن العَلمانية مفهوم غربي كان لعصر الأنوار والثورة الفرنسية الفضل في صوغه واعتماده للفصل بين شؤون الدين وشؤون السياسة. وجاء تطبيقه كنتيجة لصراع طويل بين الكنيسة والدولة، بين السلطة الكنسيّة الدينية والسلطة السياسية المدنية في الغرب، وفي أوروبا خصوصاً.
وعن استحضار هذا المفهوم لدى البحث في إشكالية العلاقة بين الدين والدولة عند المسلمين والعرب، يبادر المفكرون الاسلاميون إلى استبعاد مفهوم العَلمانية باعتباره، أولاً، مفهوماً غربياً؛ ولا معنى له في الاسلام، ثانياً. لماذا؟ لأن لا كهنوت في الاسلام، ولا سلطة كنسيّة فيه. وبالتالي الإسلام منهج حياة، دين ودنيا، أي في الأخير دين وسياسة ولا يمكن الفصل بينهما.
إلا أن هذه الأفكار لا تحوز على إجماع المفكرين المسلمين. ولا تزال هذه المسألة مدار نقاش بينهم. وهو نقاش لا يعود إلى بدايات القرن العشرين مع ما طرحه علي عبد الرازق في "الاسلام وأصول الحكم"[5] فحسب، بل يعود إلى بدايات النقاش الكلامي بين المعتزلة والأشاعرة حول أولوية العقل أو النقل في الاسلام، وحول الأولوية في تدبير شؤون المسلمين في الحياة الدنيا حسب اهتمامات الناس باعتبارها مصالح متغيرة ومتبدلة بتغير وتبدل الأمكنة والأزمنة. من هنا جاء تفضيلي لمصطلح الدنيوية بدل العلمانية والدنيويين بدل العلمانيين، ربما للتخلص من حساسية مفهوم العلمانية[6].
على أي حال، إن أهم نقطة يتداولها العلمانيون ( الدنيويون) في نقاشهم مع الاسلاميين هي تحديد السمات الضرورية للعلمانية، وهي السمات التي لا يستقيم معنى العلمانية بدونها. والتحديد هذا مهم جداً للعلمانيين لأنهم يعتبرون أن الاسلاميين اكتفوا بإحدى السمات الأساسية للعلمانية وهي رفض سيطرة الكنيسة ورجال الدين، باعتبارها تستنفد معنى العلمانية بكامله. بينما يعتبر العلمانيون أن السمة الضرورية للعلمانية هي رفض اعتبار التعاليم الدينية تشكل وحدها المرجع الأخير للقضايا الزمنية والروحية معاً. ويعتبرون أن المعنى الأول المعتمد من الاسلاميين يتضمن في المعنى الثاني الذي يعتمدونه هم، وناتج عنه، وليس العكس.
-2-
أما في مسألة تشكل مفهوم السلطة، فمما لا شك فيه أن الطبيعة البشرية والسلطة متلازمان. ولا وجود لمجتمع إنساني بدون سلطة. والسلطة في طبيعة وجودها سابقة على وجود الدولة. وهي لذلك "قوة إرادة لحكم جماعة من الناس"[7]. والقوة هذه تتيح لأصحابها فرض أنفسهم، وسلطتهم، بمساعدة مواصفات شخصية، فردية أو جماعية. ولا تصير أمراً واقعاً إلا بالقوة ذاتها التي تعمل بموجب قانون تضعه هي بنفسها، ويحوز على رضى وموافقة المحكومين[8].
هذا المفهوم للسلطة، قديماً وحديثاً، في بداية الحياة المجتمعية أو في حداثتها، لا يزال هو نفسه، وإن تغيرت آليات ممارسة السلطة، أو استحدثت مؤسسات تطبيقها أو مراقبتها. إلا أن أصلها لم يكن من منبع واحد. وتوحّد الكلام عليها باعتبارها من منابع متعددة، إن كان في الغرب، أو عندنا. فنظرية الحق الالهي، الغربية في منشئها، أنتجت الملكية المطلقة من خلال الاندماج بين السلطة الدينية والملكية، ومن ثم التحالف المتين بينهما. والأصل الالهي للسلطة جعل الحكم الملكي التجسيد العملي للحكم الالهي، كما سمح للملك أن يكون ظل الله على الأرض. والأصل الالهي نفسه هو الذي تحوّل، وفي شكل أقرب إلى الطبيعة الدنيوية، إلى الحق السماوي باعتبار النظر إلى تدبير شؤون الدنيا ما هو إلا تعبير عن رعاية تجلّيات الابداع الالهي في العالم الدنيوي. والرعاية هذه، في الأخير، ما هي إلا الحفاظ على ما أبدعه الله من خلال تكليف البشر حكم انفسهم بما يرونه مناسباً، أي العمل على رعاية سعادة الانسان باعتبارها تحقيقاً للارادة الالهية، ولكن بأيدي البشر وإرادتهم.
رعاية الانسان، والحفاظ على الارادة الالهية واحترامها، يتيحان الحكم بموجب ذلك، وإن كان بفرض الاستبداد والحكم الشمولي، طالما ذلك يبقي على المجتمع في الاطار الذي يرضي الله، ويؤمّن رعاية شؤون الناس، بالطريقة التي تعبّر عن طاعة الله من خلال تعبير الموجودات بكل عناصرها عن عظمته. وإذا كان المجتمع، بكل فئاته وتفاوتاته وعناصره، مقتنعاً بما يقوم به الحكام للحفاظ على ما أبدعه الله في موجوداته، فلا معنى، عندئذ، للاستبداد والشمولية. في هذه الحالة، يكون الحكم سهلاً بمقدار طاعة المحكومين. ويتحوّل إلى حكم صعب يتوسّل الشمولية والاستبداد لتسيير شؤونه بمقدار خروج المحكومين، بالأقل أو الأكثر، عن طاعة الحكام[9].
- 3-
إذا كان هذا أصل السلطة وفصلها في القرون الوسطى الأوروبية، فإن عصر الأنوار، الممهّد للثورة الصناعية وللعصر الحديث، أعطى للسلطة معنى جديداً مستمَداً من المجتمع، من واقع العلاقات الاجتماعية. السلطة التي يستمدها الحكام من الشعب مباشرة. سلطة السيادة الشعبية. إلا أن هذه السلطة، بحكم تشكّلها، لا تحوز على رضى كل الجماعة. وهي عاجزة، في كل حال، عن تأمين الاجماع. ويمكن لهذه السلطة أن تتحصل أولاً بالقوة من قبل الأقلية وخضوع الأكثرية، قبل أن تتطور من خلال ضبط ممارستها، على أية صورة كانت، لمصلحة الجماعة ولتأمين الصالح العام. ولا يكون ذلك إلا بتطور السلطة ذاتها عن طريق صوغ الدساتير والتشريعات والقوانين التي تسمح للدولة، الممارِسة لهذه السلطة، بالانتقال من طور الاستبداد والفردية والطغيان، إلى طور الدولة الحديثة بمؤسساتها وبممارساتها الديموقراطية القائمة على تداول السلطة، حكم/ معارضة، وعلى ممارسة الحرية والعدالة والمساواة أمام القانون.
بهذه الخصائص، تكون الدولة الحديثة، تفصيلاً، صاحبة سلطة هرمية تجسّدها المؤسسات ووظائفها من أعلى الهرم، رأس الدولة، إلى صاحب المرتبة الدنيا في أجهزتها ومؤسساتها. وهي مركزيّة باعتبار أنها تنطلق من مركز واحد في إدارة شؤون الحكم، وهو محور العمل السياسي في الدولة، وإن كانت ذات نظام لامركزي، سياسي و/أو إداري. وهي سلطة سياسية تدير كل ما يشكّل عناصر المجتمع السياسي، وتعمل على إتاحة الممارسة السياسية في كل أشكالها بالحرية اللازمة. وهي مدنيّة تقود السلطة العسكرية، وتسمح لها بالحركة ضمن استراتيجيّتها السياسية، ولا تنقاد منها في أي ظرف من الظروف، إلا في أوقات مخصوصة تحدّدها السلطة السياسية نفسها. وهي السلطة التي تحتكر العنف المادي، وتمارسه بالشرعية التي تتيحها السلطة السياسية بقوانينها ومؤسساتها. وهي السلطة الزمنيّة التي ينفصل فيها العمل بين السلطة المدنية والسلطة الدينية.
- 4-
إن منشأ السلطة في المجتمع ضروري ضرورة المجتمع الانساني نفسه. وإذا كان "الوازع" هو بداءة السلطة ( بدايتها، بداوتها) في المجتمع الأولي للإنسان، فهي منذ لحظة تشكّلها كوازع، نواة الدولة. وإذا كان الوازع ضرورة اجتماعية لا وجود للمجتمع بدونه، فإن الدولة هي ضرورة سياسية، هي شأن ثقافي. والدولة بما أنها شأن سياسي وثقافي، فهي قبل هذا وذاك شأن مجتمعي، بمعنى أن لا وجود للسياسة بدون الاجتماع، ولا وجود للدولة إلا في المجتمع[10].
والدولة كشأن ثقافي، هي حصيلة الثقافة الاجتماعية، ومرتبطة بالتطور المجتمعي العام. وهي، لذلك، تندغم، كشأن سياسي، بالمجتمع. ويظهر الاجتماع والسياسة كأنهما شأن واحد في حالة المجتمع البدوي( الابتدائي، البدائي). إلا أن هذا التماثل والاندغام يبدآن بالانفصال مع ارتقاء المجتمع المتناسب مع تبلور سلطة الدولة ونظامها السياسي.
لذلك، لا يمكن الكلام على دولة، أي دولة، بمعزل عن المجتمع الذي يحملها وتحكمه وتقوده. لذلك يمكن القول إن الدولة هي مجموعة بشرية على أرض محددة ذات سلطة تُوجّه هذه المجموعة بموجب نظام اقتصادي اجتماعي وسياسي وحقوقي تسعى السلطة إلى تحقيقه. والدولة بهذا المعنى، منبثقة من المجتمع، وعلى شاكلته، ومعبّرة عنه. فإذا كان المجتمع أهلياً يخضع لاعتبارات الدين أو الطائفة أو العنصر، أو الاتنيّة، فمن البديهي أن تكون الدولة كذلك. وإذا كانت تعمل على نقل المجتمع الأهلي إلى حالته المدنية، بالتشريع والتنفيذ، فإنها تبقى على شاكلة المجتمع الأهلي، إلى أن تصل إلى نقله، بالهدوء اللازم والأناة الواعية والمدركة، إلى مجتمع مدني. فتصير عندئذ دولة حديثة لمجتمع مدني. لا معنى لدولة مدنية خارج هذا الاطار، وإلا تكون دولة مدنية من فوق، على مجتمع أهلي، فتكون، بذلك، أقرب إلى "ثورة من فوق". كما الوضع في تركيا وفي تونس. كل دولة، بحكم تشكّلها، هي دولة مدنية، بمعنى انتماء عناصرها إلى مسؤولين مدنيين، لا رجال دين؛ إلا الدولة الدينية، وإن كان من جملة عناصرها رجال مدنيون.. لذلك يمكن القول إن مفهوم الدولة المدنية هو هرطقة سياسية. المجتمع المدني تنبثق منه دولة حديثة، أو تصنعه دولة حديثة، بهدوء أو بثورة. والمجتمع الأهلي تنبثق منه دولة تقليدية تعبّر عنه، وتعمل على تأبيده حفاظاً على مصالحها التي هي مصالح أهلية في الأساس. ستتضح في التالي، معالم هذه الفكرة.
أما عوائق تشكّل الدولة الحديثة، فهي متعددة؛ منها جغرافيّة (أندونيسيا والباكستان)، أو عرقيّة ( الهند والباكستان)، أو عنصريّة قبَلية ( الهند، الصومال والمغرب العربي)، أو طائفيّة ( لبنان، قبرص ويوغوسلافيا). إلا أن هذه العوائق يمكن أن تضمحلّ لظروف تاريخية ونضالية تتوجّه وجهة الاستقلال وإنشاء الدولة. ولكن بزوال هذه الظروف، تعود العوائق للظهور، من جديد، لعَدَم تبلوُر عناصر المجتمع، وقصوره عن الوعي بالذات، وبالمبدأ الذي يرسّخ هذا الوعي ويقوّيه، مبدأ القومية.
والدولة، على شتى هذه الوجوه والاحتمالات، غير مجبرة أن تكون ضد الدين، أو ليس من الضرورة أن تضع نفسها في مواجهة الدين. وعلى الدولة في كل أشكالها، باعتبارها دولة تسيّر شؤون الناس في حياتهم العملية وفي تفاعلاتهم اليومية، أن تفرض وجودها، وأن يتم الاعتراف بها وبصيرورتها الخاصة ومنطقها، حتى على الدين نفسه. وإلا، إذا بقيت العلاقة على ضبابيتها بين الدين والدولة وعلى تداخلها فيما بينهما، سيتحوّل الدين، في تداخل العلاقة هذه، إلى روح الدولة، والدولة إلى جسد الدين وسلاحه وذراعه. وإذا ترسخت العلاقة بين الدين والدولة على هذه الصورة، فلا بد إلا أن تصبح الشريعة نظام الدولة وقانونها، والدولة حامية لهذا النظام والمنفّذة لهذا القانون.
هنا تكمن الاشكالية التي تشغل المفكرين العرب والمسلمين، الاسلاميين منهم والليبراليين. وهي الاشكالية التي يمكن أن تُختصر هنا، وإن تعسّفاً، في التساؤل التالي: كيف يمكن مراقبة الدولة، أو مساءلتها، كمنفّذة قهرية للشريعة، ومحتكرة للعنف الرسمي؟ ومن الذي يستطيع أن يراقب ويسأل في ظل حكم الله[11] ؟
هنا تظهر ضرورة البحث في أشكال العلاقة الممكنة بين الدين والدولة.
- 5 -
الاسلام دين ودنيا. هذا ما آمن به المسلمون منذ بداية الاسلام حتى الآن. وهذا ما أقرّه الدارسون، عرباً وغير عرب، من خلال مقارباتهم للدين الاسلامي والحضارة الاسلامية.
ولكن إذا كان الاسلام ديناً ودنيا، فهل يعني ذلك أن الاسلام دين ودولة؟ وهل هذا يعني أن الاسلام لا يكتمل إلا بنظام سياسي يطبق الشريعة الاسلامية، ويحكم باسم الدولة الدينية؟
إن العلاقة بين الاسلام والسياسة هي علاقة إشكالية لا تزال تشكّل محور اهتمام المفكرين العرب والمسلمين، إن كان على مستوى العلاقة بين الاسلام كدين، وبين السياسة، أو كان على مستوى العلاقة بين الدين والدولة، أو بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. وكان الهم الأساسي، ولا يزال، هو كيفية بناء دولة ديموقراطية حديثة مع الحفاظ على المقاصد الأساسية للدين، أو كيفية المواءمة بين الاسلام كدين وحضارة، ومفاهيم تتبناها الدولة الحديثة من مثل: الديموقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات وفصل الدين عن الدولة والعلمنة والعدالة وغيرها من المفاهيم[12].
ليس علينا في هذا المقام، أن نتعرّض لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة، لأن هذه المسألة تعرّض لها الكثيرون من المفكرين، وقدّموا الأطروحات حول هذه العلاقة[13]، أولاً؛ ولأننا هنا ، وفي مجال هذا الدراسة، نحاول البحث في إشكالية العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، وفي الحدود التي تتيحها هذه الدراسة، ثانياً؛ دون ادّعاء الاحاطة بالموضوع من جوانبه كافة.
هذا الكلام يسمح لنا بالقول، إن ثمة أكثر من الإندماج أو الفصل في العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية. إذ إن أشكال العلاقة بين السلطتين خمسة[14]. فإذا كان الاندماج أحد هذه الأشكال، والفصل الشكل الثاني، فإن بقية الأشكال تتراوح بين التحالف والإبعاد والإنكار. وإذا كان التحالف سائداً في الأكثرية الساحقة من البلدان العربية والإسلامية، دون تحديد واضح لأسس هذا التحالف أو عناصره، فإن الفصل أو الاستقلال بين السلطتين غير موجود فعلياً. وما هو موجود يُظهر شكل الإبعاد "من فوق"، كما هي الحال في تونس وتركيا قبل مخاض الربيعين المسلمين العربي والتركي، بتبنّيهما العلمنة الشاملة المبعِدة للدين عن التدخل في شؤون السياسة، وفي شؤون الأحوال الشخصية المدنية والدنيوية. إلا أن هذا التبنّي كان قد بقي مح.صوراً في دائرة اهتمامات الدولة ومؤسساتها، وشبه معزول عن نبض الحياة اليومية والممارسة العملية للمجتمع، بهمومه وهواجسه وقضاياه. لذلك بقي هشّاً وقابلاً للانفراط، ما أدّى إلى التغيير، وإن كانت لم تتّضح بعد، وتتبلور، معالم هذا التغيير.
والقول في السلطة السياسية والسلطة الدينية يقتضي منا البحث في غايات ووسائل كل من السلطتين. فإذا كانت السلطة السياسية تعمل في الوجود من أجل سعادة الانسان، فإن السلطة الدينية تعمل بالايمان بما هو خارج الوجود، وسيلتها الطاعة للأوامر الالهية من أجل كسب الآخرة، بتوسّل العمل الصالح في الدنيا. من هنا، تجمع الدنيا بين السلطتين. ويحصل التفاعل الذي يقوم على مقولة الدنيوية التي تراها كل سلطة حسب مقتضى وجودها ومصلحتها.
من المهم التأكيد على أن الشكل الاندماجي يجعل السلطتين الدينية والسياسية وكأنهما سلطة واحدة. ذلك أن الدولة تظهر بثوبها السياسي وسلاحها وتشريعاتها اللابسة لبوس السياسة، بروح ومضمون دينيين. ولا فرق فيها بين كونها دولة دينية أو دولة سياسية تسود فيها الشريعة نصاً وروحاً؛ ولا شأن للدولة، كجهاز، إلا حراسة الشريعة الدينية ومراقبة حسن تطبيقها، باعتبارها المصدر الالهي الوحيد، وما يرتبط به من ضروب التشريع الأخرى.
أما الشكل التحالفي، فهو بالاضافة إلى كونه السائد عملياً وتطبيقياً في الكثير من البلاد التي تدين بالاسلام، يلحظ الفرق بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، مع وجود التحالف بينهما في كل ما يخدم توجه السلطة السياسية، من ناحية؛ وما يخدم غايات السلطة الدينية من ناحية ثانية. والعلاقة بين السلطتين في شكلها التحالفي هي دائماً في حالة رجراجة، كرقاص الساعة، لا تستقيم على حال بحكم العلاقة ذاتها، المتغيرة في الأساس، باعتبارها سلطة زمنية سياسية تضعف أو تقوى، من ناحية؛ وسلطة دينية تضعف أو تقوى بشكل معاكس للسلطة السياسية، من ناحية ثانية. وما يعنيه هذا القول، إنه إذا قويت السلطة السياسية، تطلب الدعم والفتوى من السلطة الدينية لترسيخ القرارات وتثبيتها وإضفاء الشرعية "الشرعية" عليها؛ وإذا قويَت السلطة الدينية تضعف السلطة السياسية وتحصل التبعية من هذه إلى تلك، ويميل الحكم السياسي إلى الفردانية والشمولية، قبل أن يتحوّل إلى نظام الدولة الدينية والحكم الالهي، وقبل أن يحكمها التعصّب الذي يطغى على أي شيء آخر.
أما شكلا الإبعاد والإنكار، فهما حاصلان في النظام الإيديولوجي الذي عليه أن يطبّق مشروعاً حضارياً وسياسياً يؤمن به هذا النظام. وشكل العلاقة هذا، إما يكون الانكار التام باعتبار أن السلطة الدينية معطّلة للمشروع الحضاري وخطرة عليه، كما كانت الحال في الاتحاد السوفياتي؛ أو الإبعاد باعتبار أن السلطة الدينية معرقلة لمشروع العلمنة الشاملة كما حصل، ولا يزال يحصل، وإن بشكل أخفّ في تركيا.
يبقى شكل الاستقلال، أو الفصل، بين السلطتين الدينية والسياسية. وهو الشكل الذي يختلف في شكل واضح عن شكلَي الإبعاد والإنكار، ويقترب من شكل التحالف. إنه تحالف مع حفظ الحدود. لكل سلطة ميدانها، مع لحظ إمكانية التعاون بينهما لما فيه المصلحة العامة للمجتمع، دينية كانت هذه المصلحة أو سياسية.
- 6-
تأسيساً على إشكالية العلاقة بين سلطة الدولة وسلطة الدين، يمكن القول إن الدولة في الغرب لم تكن دولة حديثة عندما لم ينوَجِد هذا الفصل الدقيق بين السلطات، وخصوصاً الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، أو بين السلطة السياسية والسلطة العسكرية. لذلك كان الفصل واضحاً بين الدولة التقليدية والدولة الحديثة في الغرب، وخصوصاً الأوروبي منه. وقد أسّس لهذا الفصل عصر الأنوار والثورة الفرنسية ونشوء الرأسمالية؛ وهي المحطات الرئيسة التي أرست دعائم الحداثة.
إذا كانت الدولة الحديثة في الغرب قد نشأت بناء على هذه الاعتبارات التاريخية التي اختصّ بها الغرب، فكيف يمكن النظر إلى الدولة التي تدين بالاسلام؟
من نافل القول التأكيد على أن الاعتبارات التي أدّت إلى نشوء الدولة الحديثة في الغرب، لم تعمل على إنشاء الدولة الحديثة في العالمين العربي والإسلامي، فحسب - إذ ليس عليها أن تعمل على إنشاء مثل هذه الدولة، وليس بمقدور هذه الدولة أن تنشأ، لاختلاف الظروف والوقائع الاجتماعية والتاريخية لكل من العالمين العربي والاسلامي، من ناحية؛ والعالم الاوروبي، من ناحية ثانية؛ بل إن أنوار العالم الأوروبي ما كان لها أن تشعّ، وثورته الصناعية ما كان لها أن تغيّر، وحداثته ما كان لها أن تحوّل نمط الحياة في أوروبا، لولا استعمار العالمين العربي[15] والإسلامي، وعوالم أخرى متشابهة في أنماط حياتها، وفي وقائعها الاجتماعية والتاريخية، وفي حالتها التقليدية السابقة على الحداثة، بالمعنى والمقياس الأوروبيَّين، وبمعنى السيطرة على الذات اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً في العالمين العربي والإسلامي. فالعلاقة غير المتكافئة بين هذه العوالم المختلفة أنتجت مجتمعات هجينة، لا هي بالحديثة ولا بالتقليدية[16]، مجتمعات اكتفت بما أنتجته الحداثة في ممارساتها الاستهلاكية اليومية، وأبقت المضمون غارقاً في تقليديته الحائرة بين هذا القَدر أو ذاك من التراث والتقليد، ومن العصرنة والتجديد.
في هذا المناخ التاريخي، نشأت الدولة المسلمة في العالم العربي، وخارج هذا العالم. والدولة المسلمة هي التي ينصّ دستورها على أن دينها الرسمي هو الاسلام. بهذا المعنى الدولة المسلمة هي ليست دولة إسلامية، بينما الدولة الاسلامية هي دولة مسلمة في الأساس. وبهذا المعنى أيضاً، يمكن أن يكون نظام الدولة المسلمة وضعياً، أي من صنع البشر، وإن كان يستمدّ بعض قوانينه من الشريعة الاسلامية، أو جلّها؛ والدولة الاسلامية تستند في نظام حكمها على الشريعة الاسلامية بصفته هذه، وباعتبار أن الله هو المرجع النهائي في الحكم.
هذا التحديد يسمح لنا بالتساؤل عن إمكانية نشوء الدولة المسلمة الحديثة، وبالتالي عن إمكانية نشوء الدولة الاسلامية الحديثة.
هذا التساؤل يضعنا في مواجهة مباشرة مع الدول العربية وغير العربية التي تدين بالاسلام دون أن تكون أنظمتها إسلامية، بالمعنى المذكور أعلاه. والمواجهة هذه، تحتّم علينا البحث في إشكالية العلاقة بين الدين والدولة في هذه الأنظمة، من ناحية؛ وبين الدين والدنيا، من ناحية ثانية. وهنا، لا بد من التأكيد على أن أكثر البلدان العربية والمسلمة تعلن عن دينها الرسمي في دساتيرها، دون أن يعني ذلك أن نظامها السياسي هو نظام إسلامي، أو يطبّق الشريعة الاسلامية في نظامه السياسي باعتبارها المصدر الوحيد. وهذه البلدان تعتمد في أكثريتها الساحقة أيضاً على أنظمة وضعية ومستمدة من التشريع البشري، وإن كانت تستلهم بعض هذه التشريعات من الشرع الديني والحكم الالهي. هذه البلدان مهيّأة، مثل غيرها، لأن تعتمد الحداثة، ولأن تكون الدول التي تحكمها حديثة. والتاريخ يطلعنا على أن العرب كانوا في قمة الحداثة في القرن الرابع للهجرة مع القرون التي تلت. وماليزيا وأندونيسيا وغيرهما في الشرق الأقصى يمكن اعتبارها دولاً حديثة. إلا أن اختلاط الأمور في مصادر التشريع، وفي أنظمة الحكم، المتأتّية من الاختلاط بين أمور الدين وأمور الدنيا، ومن عدم وضوح الحدود بينهما في البلدان التي تدين بالاسلام؛ بالاضافة إلى أمور أخرى، أتينا على ذكر بعضها آنفاً؛ أدّت إلى عرقلة نشوء الحداثة عندنا، ومنعت، حتى الآن، نشوء الدولة الحديثة، عربية كانت أو مسلمة. وهنا تندرج المسائل التي تتعلق بأمور التطاول على الدين، أو القول بغير ما يقول الدين، أو الاتهامات بالكفر والردّة، وأحكام التطليق والتجديف، ومَن هم أصحاب الفصل في ذلك، وغيرها من الأمور. هذا بالاضافة إلى المسألة السياسية، واعتبارات المصلحة التي تربط بين أصحاب السلطة السياسية والسلطة الدينية، وما يمكن ان تصل إليه هذه الاعتبارات في العلاقة بين الدولة والمجتمع، أو بين الدولة وفئات محدّدة من المجتمع[17].
أما الدولة الاسلامية بمعنى الدولة التي تطبق الشريعة الاسلامية، كنظام حكم، على الأقل في تجليات الأنظمة التي تصرّح بأنها إسلامية: نظام طالبان الذي حكم في أفغانستان، ونظام الحكم في السودان، وحكم ولاية الفقيه في إيران.. وغيرها، فمن السهل الحكم عليها بأنها لا تقترب من الدولة الحديثة، إن كان بمقياسها الغربي، أو بأي مقياس آخر، سوى مقياسها الخاص.
- 7 -
في النظر إلى إمكانية قبول الاسلام للعلمانية، أو لأمور الدنيا باستقلال عن الدين، يناقش العلمانيون الأصوليين في مسألة التناقض بين قولهم إن الاسلام دين العقل، من ناحية؛ واستحالة أن تكون الدولة في ظل الاسلام علمانية، من ناحية ثانية. وفحوى هذه المناقشة هي المقارنة بين الفكرتين الآتيتين:
الاسلام يقدّم المصلحة على النص، أي يقدّم العقل على النقل؛ وهي فكرة دنيوية (عَلمانية) في الأساس؛ والاسلام بطبيعته لا يسمح لأي اعتبارات مصلحية أو عقلية، أن تبطل الاعتبارات الدينية النابعة منه، ومنها: الاسلام دين ودولة. ولا يستقيم الأمر هنا، إلا بإلغاء إحدى الفكرتين المتناقضتين.
وبما أن الاسلام دين العقل، وبما أنه يقدّم المصلحة على النص، فيمكن، بسبب ذلك، أن تقوم الدولة العَلمانية (الدنيوية) في الإسلام، إذا اقتضت المصلحة ذلك.
وهنا، لا بدّ من التوضيح. ذلك أن قوانين الدولة المتطابقة مع الشريعة لا تكفي لتكون هذه الدولة دولة دينية غير عَلمانية، أو غير دنيوية. فالأساس الذي يقوم عليه التشريع هو الذي يقرّر إذا كانت الدولة دينية أو عَلمانية. وهذا الأساس هو إما الاعتبارات الدينية، أو الاعتبارات العقلية (الدنيوية). وعليه، فكل دولة تُعتبر زمنية عَلمانية إذا كانت أحكامها مستمَدّة في شتى شؤون الحياة من العقل لا من الدين، حتى وإن كانت أحكامها بأكثريتها متطابقة مع الشرع الديني[18].
انطلاقاً من هذا التحديد، يمكن العمل على بناء العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، أنطلاقاً من موقع التحالف، كمرحلة أولى، وصولاً إلى موقع الاستقلال لكل من السلطتين تجاه الأخرى. فالتحالف بـيّنَ ويـبيّن، بالتجربة والممارسة، مدى كثافة ضبابية الحدود بين السلطتين. ولا يستفيد من تجربته، ولا من خبرته، لينتقل، كتحالف، من ضبابية العلاقة واختلاط المهام والغايات، إلى البدء في رسم حدود الممارسة لكل من الحقلين، لتصل هذه العلاقة إلى إظهار ما هو ديني، وما هو دنيوي، ليمارس كل منهما سلطته دون طغيان أو هيمنة من الآخر عليه. فيكون الدين، والسلطة المنبثقة منه، في خدمة المجتمع بما يقوم به من نشاط روحي وأخلاقي، ومن تمتين العلاقة بين المؤمن والخالق. وتكون السياسة في خدمة المجتمع بما تقوم به على صعيد قيادة حياة الناس في مجاري حياتهم اليومية باعتبارها شؤوناً دنيوية، وإن استوحت في قيادتها ما تراه مناسباً من مبادئ الشرع الديني.
- 8 -
هذا الانتقال الهادئ والمتأني من التحالف بين السلطتين الدينية والسياسية إلى استقلال الواحدة منهما عن الأخرى في شؤون الحياة اليومية، يعطي للسياسة الانفتاح الكامل لكل ما يتعلّق بشؤون الدنيا، دون تجاهُل أو تجاوُز الأمور الأخلاقية والروحية. ويعطي للدين الاهتمام بالمسائل الأخلاقية والروحية، دون تجاهُل أو تجاوُز الأمور السياسية، باعتبارها شؤوناً دنيوية يمكن ممارستها، وليس باعتبارها تكليفاً شرعياً أو دعوة للحكم الالهي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1]. إبن منظور، لسان العرب، دار المعارف بمصر، مادة وطن، ص4868.
[2]. أنظر في هذا الخصوص، للتفصيل:
[3]. يوسف الأشقر، المجتمع المدني في لبنان، مؤسسة فردريش إيبرت، 1996، بيروت، ص60.
[4]. عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، 1993، لندن، ص39.
[5]. علي عبد الرازق، الاسلام وأصول الحكم (1925)، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب،1991، القاهرة، 103 ص.
[6]. أنظر في هذا الخصوص، فصل هراطقة وأطهار، الدنيويون والدينيون في مجتمع متنوع، في: عاطف عطيه، في الاجتماع اللبناني، جدلية الوحدة والتعدد، دار الانشاء، 2005، طرابلس، ص169- 179.
[7]. أندريه هوريو، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الجزء الأول، ترجمة علي مقلّد وآخرون، الأهلية للنشر والتوزيع، 1974، بيروت، ص106.
[8]. المرجع نفسه، ص107.
[9]. للتفصيل حول الأصل الشعبي للسلطة وتطورها، أنظر:
المرجع نفسه، ص ص107- 125.
[10]. أنطون سعاده، نشوء الأمم،(1938)، طبعة 1978، بيروت، ص90.
[11]. برهان غليون، نقد السياسة، الدولة والدين، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993، بيروت، ص71.
[12]. إيليا حريق، الديموقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب، دار الساقي، 2001، بيروت،
ص ص247- 249.
[13]. أنظر على سبيل المثال لا الحصر:
بيروت، 392ص.
أطروحة دكتوراه في علم الاجتماع السياسي قدمت في معهد العلوم الاجتماعية، الجامعة
اللبنانية، العام الجامعي 2001- 2002.
[14]. للتفصيل حول أشكال العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، أنظر:
[15]. أنظر في هذا الخصوص ما يقوله هشام شرابي حول عصر النهضة العربية، في:
[16]. حول النظام الأبوي المستحدث والمجتمع العربي الذي يجمع بين التقليد والحداثة في خليط هجين، أنظر:
[17]. الأمثلة على ذلك كثيرة، نصر حامد أبو زيد وقضية تكفيره وتطليقه من زوجته، ورفضها ذلك، وتهجيرهما من مصر، وقضية إهدار دم سلمان رشدي، واتهام الكثيرين بالكفر والردّة من خلال آرائهم الفكرية والأدبية.
[18]. للتفصيل حول هذه المسائل، أنظر: