إن الحياة البهية للقلوب تكمن في الحب، لأنه يشارك هذه القلوب حياتها فيعطّرها كوردة للأريج ناثرة، ويجمّلها كجوهرة بالنضارة عامرة، ويحلق بها إلى عالم الخيال ليأخذ الحبيبين إلى جنة ساحرة.
حين يتسم الحب بالوفاء والإخلاص، فهو يرتقي إلى السرمدية في قلبيّ الحبيبين اللذين يبنيان قصر حبهما، ويتشاطران سعادته. إن الحب هو شفافية الروح واستعدادها للغوص الى أعمق نقطة في روح الحبيب، وللصعود إلى قمة المشاعر في قلبه كي يفهمه كنفسه، عندها فإن الحبيبن يبرزان أصالة معدنيهما، وصفاء نواياهما، وجودة هبة الحب في قلبيهما التي توطّد نقاوته.
الحب الصادق النبيل، البعيد كل البعد عن رغبة التملك، يتميّز في ديمومة التلاحم الشعوري بين الحبيبن، ويغمر قلب المحب بحرارة ليريح سديمه وهمومه جاعلاّ منه ملجاً روحياً لحبيبه أينما حلّ. كما يرافقه في حناياه إن تعذر الوصال، ومهما بعدت المسافات التي قد يعجز الجسد عن عبورها. حينما يذوب الحبيب صبابةً، ينبغي بهذا الحب أن يُحلّق متأبطاً روحه التائقة كي تلوذ الى روح حبيبها، الذي يشعر بولع حنينها له، لتغمر الأرواح بعضها بعضاً، وتخلد إلى الهدوء مستمتعةً بنعيم اللقاء.
هذا التلاحم الشعوري عبّر عنه الأديب جبران خليل جبران، حين سافر من بوسطن إلى باريس كي يتعلم هناك فنّ الرسم في عام 1908، وفي يوم عيد الميلاد من ذلك العام، كان قد أرسل رسالة إلى ماري هاسكل قال فيها:
"إنني أفكّر فيكِ اليوم(... )كما لم أفكّر في أي شخص آخر. وبينما تجولين في خاطري تصبح الحياة أفضل وأسمى وأشدّ جمالا."
الحب الوارف يُشرق في حياة الحبيبن آمالاً وهاجةً، و يحث نفسيهما إلى تحقيق المثل العليا. وليس الحب إلا اتحاد نفوس مصممة على الوقوف معاً والسقوط معاً. وكما يقول الُمفكر أنطون سعادة: " متى وجد الإنسان الحب فقد وجد أساس الحياة والقوة التي ينتصر بها على كل عدوّ و يذلّل بها كل صعب."
الحب يكوّن في نفوس الحبيبن أسمى العواطف والأفكار والتخيلات، ويبدع في تناغمهما كلاماً و إنسجامهما صمتاً. فالصمت بينهما أعظمُ وأبلغُ وأرقُّ وأعمق لغة، لأنها تخلو من صخبِ الحروف، و وِزر الكلمات. كما قال جبران لماري هاسكل: " أحب أن أكون صامتًا معكِ، ماري".
وأجمل ما عبرت عنه أيقونة الغناء العربي، السيدة فيروز، في أغنيتها الرائعة، أحبك في صمتي، حينما غنّت:
"أحبك هل بعد حبى سؤال وبعد جمالى غوىَّ أو جمال
أحــبك حتى يضل الغمام وينسى الربيع دروب التلال
أحبك حتى يمل الصــدى طواف الربى وعناق الجبال
أقول أحــبك موج حقول وجمع شـــذى يا مطل الظلال"
الحب وسيم فتّان سواء كانت تعابيره بلغة الكلام أو الكتمان، وهو سمة الأجيال على مَرِّ الزمان.
عجباً لهذا القلب كيف يحتوي هذا الكم من الحب، إنه حقاً أكثر بكثير من مجرد قطعة لحم صغيرة في داخلنا، لأنه عندما تعتريه فرحة لقاء الحبيب، ينمى حجمه ليفوق سعة الكون .
حينما يهوى المرء، فهو لا يستنبط خلجات نفسه وأحاسيس قلبه فحسب، إنما يستحوز على شريانٍ يضخ الحياة في روحه أبدًا، ويستبقي الشباب في جسده متجدداً.
_______
* الكاتبة زكية سكاف النزق محامية من بلدة عدبل (عكار) اللبنانية، مقيمة منذ عام 1994 في مدينة ملبورن، أستراليا. صدر لها كتاب "ركائز الحياة" عام 2015.