7 كانون الاول 2020
الفهرس
ما هي الحوكمة؟
تعرّف الحوكمة (Governance) بأنها أسلوب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة. وهي أحد العوامل الرئيسة المؤثرة على تحسين أداء المؤسسات، وعلى الإنتاجية والرضى الوظيفي والولاء التنظيمي.
كما أنها مجموعة من الإجراءات والعمليات، التي يتم من خلالها توجيه المؤسسات والتحكم بها، عبر تحديد وتوزيع الحقوق والمسؤوليات، على مختلف السلطات والأطراف في المؤسسة، مما يسهم بإرساء قواعد وإجراءات صناعة القرار فيها.
ويعتمد التطبيق الجيد للحوكمة، على تحقيق المستوى الأمثل، من الفحص والضبط والرقابة المتوازنة، وتفعيل خطوط التواصل، وتعزيز ثقافة المسؤولية والمساءلة، من خلال وضع وتطوير نظام للقياس والتقييم. ويؤدي إلى تقوية المؤسسة على المدى البعيد، وتحديد المسؤول عن التصرفات الإدارية والأخلاقية والمالية غير الصحيحة، وتحميل المسؤولية لكل من ألحق ضررًا بالمصلحة العامة. ويهدف بالتالي إلى تحقيق الجودة والتميز فى الأداء الإداري، من خلال اختيار الأساليب المناسبة والفعالة، لتحقيق خطط وأهداف أي عمل منظم، والإشراف على التنفيذ، وتحديد المخاطر، وتفادي الأخطاء وتصحيحها إذا وقعت.
الحوكمة مفهوم حديث، ظهرت الحاجة إليه في العديد من الاقتصاديات المتقدمة والناشئة، خصوصًا في أعقاب الانهيارات الاقتصادية، والأزمات المالية التي شهدتها العقود القليلة الماضية، في عدد من دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا، في عقد التسعينيات من القرن العشرين، وما شهده الاقتصاد الأمريكي، من انهيارات مالية ومحاسبية خلال عام 2002. أما في القطاع العام، فقد ظهر مفهوم الحوكمة بشكل تطبيقي، في نقاشات قادتها وزارة المالية الهولندية في عام 2000. وتطبق الحوكمة في القطاع العام على محاور عدة، أبرزها معالجة حالات تَعارُض المصالح، وانعدام وتقليل المخاطر، والخسائر المتوقعة بأوجهها كافة، وقياس المسؤوليات، وتقييم الأداء المشترك بين الدوائر الحكومية، والشفافية وحق الوصول إلى المعلومات، وإفساح المجال للرأي العام للمشاركة في تقييم الأداء، وصناعة القرار على المستوى المحلي أو المركزي. (إبراهيم العيسوي، التنمية في عالم متغير: دراسة في مفهوم التنمية ومؤشـراتها. القـاهرة: دار الشـروق، 2003، ص: 36-37.)
و تعود أهمية الحوكمة، في مؤسسات القطاع العام، إلى أهمية تأسيس و تفعيل دور هيئات الرقابة والمراجعة، والتأكد من استقلالية هذه الهيئات، وعدم ارتباطها تنظيميًا بالإدارات التنفيذية المباشرة، كما هو معمول به حاليًا في أغلب الدول، حتى لا تصير الإدارة عرضة لتضارب المصالح.
فالحوكمة إذًا، هي نموذج إداري جديد، يهدف إلى توزيع الصلاحيات في الهياكل الإدارية، بهدف اعتماد الإدارة الرشيدة في اتخاذ القرارات الإدارية وتفعيل دور الأعضاء. وهي نظام إداري جديد يساعد على الضبط الداخلي واكتشاف المخاطر قبل وقوعها
الحوكمة الشاملة
غالباً ما تطبق الحوكمة في الشركات أو المؤسسات الخاصة على رأس الهرم، فتحدد العلاقة بين مجلس الإدارة، والمدير العام وفريقه، ومالكي الشركة. أما في الدول، فتحدد الحوكمة العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، إضافة إلى العلاقة مع السلطة القضائية، بهدف ضمان حقوق الشعب الذي هو مصدر السلطات.
ومع الوقت، انتشر مفهوم إدارة الجودة الشاملة، التي تحدد أداء العمل بأسلوب صحيح ومتقن، ليس فقط على مستوى رأس هرم الإدارة، بل أيضًا على كافة مستويات الانتاج، وفق مجموعة من المعايير، لرفع مستوى جودة العمل بأقل جهد وكلفة، مع تحقيق أهداف الخطط المركزية والمحلية. فترك مسائل فحص الجودة إلى المنتج النهائي، ترتب على المؤسسة كلفة باهظة، نتيجة التأخر في اكتشاف خلل أو خطأ ما. بينما الأفضل أن يتم التأكد من جودة كل عملية، مهما كانت صغيرة، قبل المضي قدمًا بعمليات أخرى. فإذا كان هناك خطأ تصبح كلفة تصحيحه أقل بكثير.
هذا النموذج انتقل إلى مفهوم الحوكمة، وطُبّق نظام الإشراف والرقابة والتقييم والتصحيح، على المستويات الإدارية كافة، من قيادة المؤسسة إلى الفروع والأقسام المتفرقة. وهذا ما سمي بنظام الحوكمة الشاملة.
تسعى المؤسسة التي تطبق نظام الحوكمة الشاملة إلى تحقيق أهدافها، بمستوى عال من الجودة، وتحسين أدائها باتباع خطط فاعلة، وأساليب مناسبة للإدارة الرشيدة. وذلك من خلال المشاركة في صناعة القرار، وتقييمه من قبل ممثلين عن جميع الأعضاء، على مستوى مركزي وفي المتحدات المحلية، عن طريق المساءلة والشفافية في العمليات الإدارية والمالية، مع حفظ الحقوق واحترامها، لجميع المسؤولين والقيادات والأعضاء وممثليهم المنتخبين.
فالحوكمة الشاملة إذًا، تعني أن جميع المستويات الإدارية في المؤسسة، تخضع لعمليات الإشراف والمتابعة والتقييم والمساءلة، من قبل الأعضاء الذين يتأثرون بقراراتها، بحيث يكون لهم رأي في هذه القرارات والسياسات وآليات تنفيذها، لترشيد العمل ورفع الفعالية والجودة والمشاركة.
أبعاد وسمات الحوكمة
بناء على ما تقدم، يمكن تحديد عدة أبعاد للحوكمة، منها:
ـ البعد الاستراتيجي: ويتعلق بصياغة الاستراتيجيات العامة، والتشجيع على التفكير الاستراتيجي، والتطلـع إلى المستقبل، استنادا على دراسة متأنية ومعلومات كافية، عن أداء المؤسسة الماضـي والحاضـر، وكـذلك دراسة عوامل البيئة الخارجية، وتقدير تأثيراتها المختلفة، بناءً على معلومات كافية عن عوامـل البيئة الداخلية، ومدى تبادل التأثير فيما بينها.
ـ البعد الإشرافي ـ الرقابي: ويتعلق بتدعيم وتفعيل الـدور الإشـرافي والرقابي وإدارة المخاطر، في المستوى المركزي، أي مجلـس الإدارة علـى أداء الإدارة التنفيذيـة، أو السلطة التشريعية على أداء السلطة التفيذية، وعلى مستوى الفروع والمستويات الإدارية الدنيا، من قبل ممثلين عن الأعضاء، على أداء الهيئات الإدارية المعينة، من قبل الإدارة أو السلطة التنفيذية.
ـ البعد الأخلاقي: ويتعلق بتحسين بيئة العمل، من خلال إيجاد وتطبيق قواعد أخلاقية، تقوم على النزاهة والأمانـة والدقة والإلتزام والانضباط، ونشـر ثقافة الحوكمة على المستويات الإدارية كافة، في المؤسسة ومحيطها بشكل عام.
ـ بُعدُ المساءلة والإفصاح والشفافية: ويتعلق بالإفصاح عن أنشطة وأداء المؤسسة، والعرض أمام الأعضاء و ممثليهم، ممـن يحـق لهم قانونيًا مساءلة الإدارة. كما يتعلق بالشفافية، ليس فقط عن المعلومات اللازمةـ لترشيد قرارات الأطراف كافة المعنية على مستوى الشركة، بل يتسع المفهوم ليشمل الإفصاح، ضمن التقارير العامة المتاحة للجمهور، عن المؤشرات الدالة على الالتزام بمبادئ الحوكمة.
ويمكن أيضًا تحديد عدد من السّمات التي تقوم عليها الحوكمة كما يلي (الرسم 1):
أزمة المؤسسات التي تفتقر إلى الحوكمة
تتمثل أزمة كثير من المؤسسات في أن هناك إدارات عينتها السلطة التنفيذية، للإشراف على الأعضاء، تكون مهمتها اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون هؤلاء، من دون أن يحق لهم مناقشة هذه القرارات أو الاعتراض عليها، وهو ما يعزز ثقافة العزوف عن المشاركة في الحياة العامة، ويضعف تطور المؤسسة، التي من المفترض أن تعمل على تحقيق أهداف سامية، تعني الأعضاء مباشرة، مثل نهضة المجتمع. وهذا ما يجعل الأعضاء في وضع المتلقي للقرارات والملتزم بتنفيذها من دون مناقشة. فضلًا عن غياب الشفافية، في مراقبة الميزانية، وعدم وجود آلية للحصول على المعلومات المتعلقة بالإيرادات، وأوجه إنفاقها، وغياب آليات محاسبة الإدارة على قراراتها، وغيرها الكثير من الأمثلة، التي تُنتج، مع الوقت، طريقة استبدادية تدار بها المؤسسة، فتستبعد الإدارة الأعضاء من عملية تقييم القرارات، أو المشاركة في اتخاذها، انطلاقا من نظرة خاطئة، تعتبرهم مجموعات غير ناضجة، ليست مؤهلة أو قادرة على تحمل المسؤولية. (حلاوة، جمال وطه، نداء واقع الحوكمة في جامعة القدس. فلسطين، جامعة القدس. 2017.)
يصبح غياب الحوكمة أكثر تأثيرًا في المؤسسات الحكومية، والأحزاب السياسية، التي تطغى عليها ثقافة اللامبالاة من جهة، بسبب غياب التحفيز والرؤية والدينامية والحماس، أو ثقافة الطاعة: "نفذ ثم اعترض"، بحجة الحفاظ على النظام العام، والوحدة الروحية، وتنفيذ الخطط.
لنأخذ الحزب السوري القومي الاجتماعي كنموذج للبحث، ولننظر إلى هيكليته المثبتة في الدستور الأصلي، خلال حياة أنطون سعاده، لنستكشف ما إذا كان ينسجم مع المفهوم الحديث للحوكمة الشاملة، وما هي الضوابط التي تضمنها، وهل طبقت هذه الضوابط في ظل التاريخ الحزبي، الحافل بالملاحقات والأزمات والسجون. وماذا حصل بعد غياب سعاده، لناحية تغييب الحوكمة على مستوى الفروع، والعبث بها على المستوى المركزي! مما أفسح المجال لنشوء التحزبات الفئوية والعهود الرئاسية، ولكل منها فريقها وخطابها وأولوياتها. فتحول الحزب مع الوقت، لجهة التقييم الموضوعي البحت، إلى مؤسسة شبه استبدادية، تفتقر إلى معظم أبعاد وسمات الحوكمة الشاملة.
دستور الحزب
وضع سعاده الدستور مع بدايات التأسيس، وتحديدًا في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1934، وصنفه في 20 يناير/كانون الثاني 1937، وقام بعدّة مراجعات طفيفة بعد ذلك في الأربعينيات.
وفي طبعة 1952 – دمشق، التي تمثل آخر نسخة من دستور سعاده، قبل مسلسل التعديلات التي طالته في العقود اللاحقة، نجد مقدمة تثبت مفهوم التعاقد الحرّ بين المقبلين على الدعوة، وبين الشارع صاحب الدعوة، على أساس الغاية والمبادئ الأساسية والإصلاحية، المثبتة في متن الدستور. كما ثبّت الدستور سلطة الزعامة، وأعطى الزعيم حق إنشاء "إدارات تنفيذية، ومجالس إستشارية تشريعية وتنفيذية، وهيئات اقتصادية، لتعاونه في إدارة الحزب، وخدمة القضية القومية الاجتماعية، التي من أجلها نشأ الحزب السوري القومي الاجتماعي".. وحدد وجود مجلس أعلى للحزب، يجتمع بناءً على "دعوة من الزعيم لإبداء الرأي وإعطاء المشورة في شؤون الحزب الخطيرة، ولتقرير سياسة أو خطة فاصلة، أو حل مشكل ذي نتائج خطيرة في حياة الحزب الداخلية، ولتعديل الدستور الحالي". كما يجتمع المجلس الأعلى في حال "حيلولة أي مانع طبيعي دائم دون ممارسة الزعيم سلطاته لانتخاب خلف له"، تكون له "السلطة التنفيذية فقط وتحصر السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية بالمجلس الأعلى". وسنعود، لاحقًا، لمناقشة تفاصيل مرحلة ما بعد غياب الزعيم.
كما يتضمن الدستور، عددًا من المراسيم الدستورية التي أصدرها الزعيم، تحدد مهام وهيكلية الحزب، على المستوى المركزي (المرسوم عدد 1: مؤسسات العمد ومجلسهم)، أو على مستوى المناطق الإدارية (المرسوم عدد 2: مؤسسة المنفذيات)، والفروع (المرسوم عدد 3: مؤسسة المديريات)، إضافة إلى مؤسسة رقابية منتخبة على مستوى الفروع والمناطق الإدارية (المرسوم عدد 4: مؤسسة لجان المديريات ومجالس المنفذيات)، همِّشت وأُهمِلت بالكامل، على مدى مراحل تاريخ الحزب. إضافة إلى القانون المالي (المرسوم عدد 5) الذي يضبط بدقة متناهية وشفافية، مسائل التخطيط المالي والموازنة، وآليات الصرف وتنظيم الإيرادات والاعتمادات، وتحديد المسؤوليات لكل من له علاقة بالشأن المالي، على مستوى المركز أو الفروع، ويضع ضوابط صارمة للصرف، حتى على الزعيم نفسه. كما يتضمن الدستور قانون الضرائب المحلية (المرسوم عدد 6) لتنظيم جباية الاشتراكات وضبط موازنات المناطق الإدارية. ويتضمن، أيضًا، تنظيم إنشاء رتبة عليا، تسمى رتبة الأمانة (المرسوم عدد 7)، يمنحها الزعيم لمن يستحقها، وتتوفر فيه شروط محددة، حيث "يؤتمن حاملو رتبة الأمانة على الأسرار الخطيرة في المهمات، وينتدبون للأعمال التي تقتضي صفات ممتازة". تجدر الإشارة أن المادة الخامسة من الدستور حددت أن: "نظام الحزب مركزي تسلسلي، حسب الرتب والوظائف التي تنشأ بمراسيم يصدرها الزعيم". وبالتالي تكون رتبة الأمانة، كرتبة عليا، هي أول رتبة تصدر بمرسوم من الزعيم. وكان من المتوقع، بالتالي، صدور مراسيم أخرى لرتب أدنى أو أعلى منها، بحسب الحاجة لتنظيم الإدارة.
سنتناول هذه المؤسسات وهيكلتها وعلاقتها ببعضها بعضًا، من زاوية أبعاد وسمات الحوكمة الشاملة، لعلنا نستطيع تحديد نقاط القوة والضعف، في الأساس الدستوري وفي الممارسة العملية، تحديدًا بعد غياب الزعيم، بهدف تصحيح الأخطاء وتفادي المخاطر في المستقبل.
فلنبدأ من الفروع وننتقل إلى المناطق الإدارية، ثم إلى المركز، ونكتشف مدى تطابق منظومة الحوكمة، التي ابتدعها سعاده على كل من هذه المستويات، مع السمات والأبعاد المعاصرة لمفهوم الحوكمة، قبل ظهور هذا المفهوم بسبعة عقود.
المديرية: هيئة معينة تدير، ولجنة استشارية تقدم المشورة وتراقب
يحدد المرسوم الدستوري عدد 3 المتلعق بمؤسسة المديريات، صلاحية المدير بما يلي:
ويعاونه ناموس ومحصل للمال ومذيع يشكلون معه "هيئة المديرية". وجميع أعضاء الهيئة بما فيهم المدير، يعيّنون من قبل المراجع الإدارية، في المنفذية أو المركز كما يلي:
المدير: يعيّن من قبل عميد الداخلية بناءً على اقتراح المنفذ العام.
المدرب: يعيّن من قبل عميد الدفاع.
الناموس والمحصل والمذيع: يعيّنون من قبل المنفذ العام بناءً على اقتراح المدير.
الملاحظة الأولى من ناحية الحوكمة، هي أن تعيين المدير لا يحصل من قبل مسؤوله المباشر، أي المنفذ العام، حتى لا يتحكم أي منفذ عام بمنطقة كاملة، من خلال تعيين المديرين فيها. بل يعود ذلك إلى العميد، المسؤول في الإدارة المركزية عن المنفذ العام، لتأمين العدالة والمعاملة المنصفة والمسؤولية، وإبقاء إمكانية المساءلة، والتأكد من الكفاءة، وضبط أي إمكانية للجنوح خارج أخلاقيات النهضة، لأي سبب، ومنع التبعيات والفئويات والتكتلات. ومع ذلك، يطلب من المنفذ العام اقتراح المدير، احترامًا لواقع أنه هو من سيشرف على عمل المدير ويتعاون معه، ويجب أن يكون له رأي في اقتراح من يرتاح للعمل معهم. وهنا نرى جانب آخر من أهمية الحفاظ على المرونة، في ظل الضوابط التي تمنع التجاوزات.
وللسبب نفسه، لا يقوم المدير بتعيين معاونيه في هيئة المديرية، بل يقترح اسمًا لكل مسؤولية، على أن يقوم المنفذ العام بتعيينهم، مع إبقاء وضع خاص للمدرب، حيث يعين مباشرة من عميد الدفاع. وهذه ميزة خاصة لها علاقة بطبيعة عمل المدرب، والحفاظ على أمن وسلامة الحزب.
ومع وضع كل هذه الضوابط المتعلقة بتعيين المدير وأعضاء هيئة المديرية، ممن يتوسم فيهم المنفذ العام أو عميدي الداخلية والدفاع خيرًا، لا يمكن ضمان استمرار الجودة في العمل، من دون الإشراف ومراقبة الأداء، سواءً من المسؤولين المباشرين، وفي هذه الحال، المنفذ العام وهيئة المنفذية، و من طرف آخر، أيضًا، غير المسؤولين المباشرين، الذين يتلقون التقارير من المدير وأعضاء الهيئة عن عمل المديرية. مما يعني أن هذه التقارير قد تظهر أحيانًا، أن الأمور كلها تحت السيطرة، وتحاول إخفاء أية مشاكل أو تقصير أو مخاطر، بهدف حماية الإدارة المحلية.
لذلك، وضع سعاده المرسوم الدستوري عدد 4، الذي يرسم فيه أن تنشأ في كل مديرية لجنة استشارية تسمى «لجنة المديرية»، منتخبة من الأعضاء لمدة سنة، بواسطة الاقتراع السري، في اجتماع عام علني مخصص بهذا الغرض. ويحدد مهمتها (وليس مهمة رئيسها فقط) كما يلي:
يتضح من هذه المهمة دور مشارك، في تقديم التشخيص، للواقع المحلي الاجتماعي والسياسي والمالي، وتوسيع دائرة التفكير في اقتراح الحلول والمشاريع، حتى لا تبقى محصورة بالمدير وهيئة المديرية. كما تراقب التدابير الإدارية وتبدي الملاحظات حولها. وهذه المهمة ترفد الإدارة المحلية المعينة بفريق متعاون، يساعد على البحث والتحليل والتخطيط، لكيفية التعامل مع الواقع وتطوير الأداء، ورفع جودة الخطط والقرارات، كما تبقي هذه الإدارة تحت مجهر المراقبة والتقييم لقراراتها، والنصح بتحسين الأداء، وتجنب المخاطر والمشكلات والأخطاء. وهذا نوع متطور من الحوكمة المحلية، والمشاركة الإيجابية والضابطة في الوقت نفسه.
كما تضع لجنة المديرية المنتخبة تقريرًا ربعيًا (كل ثلاثة أشهر) بأعمالها واقتراحاتها وملاحظاتها، ويحضر المدير وهيئة المديرية الجلسة، التي يتلى فيها هذا التقرير. وبعد مصادقة اللجنة على مضمونه يرفع إلى مجلس المنفذية. وهذا نوع متقدم من الشفافية والمتابعة، أيضًا، بحيث أن تقرير اللجنة قد يتضمن شكاوى أو مقترحات أو خلاصات معينة، قد لا تكون متوافقة مع توجهات هيئة المديرية، لكنها ترفع إلى مجلس المنفذية بعلم المدير وهيئته، من خلال التقارير الربعية، فيعطي هذا المجلس صورة دقيقة، عن حقيقة الواقع الفعلي في كل مديرية. وهذا المجلس مؤلف من أعضاء منتخبون من لجان المديريات، حيث تنتخب كل لجنة أحد أعضائها، ليكون ممثلًا لها في "مجلس المنفذية" لدورة واحدة مدتها سنة.
وتجدر الملاحظة هنا، أن سعاده الذي تكلم عن الديمقراطية التعبيرية، التي تربط اختيار الأفراد لشغل وظائف معينة بكفايات ومواصفات ورتب محددة، لم يضع أية شروط على انتخاب الأعضاء للجنة المديرية، ولا على انتخاب أحد أفراد لجنة المديرية إلى مجلس المنفذية. بينما أبقى المسؤوليات المعينة، خاضعة لتقييم أكثر من مسؤول (يقترح المدير ويعيّن المنفذ، أو يقترح المنفذ ويعيّن العميد)، مما يعني خضوع مواصفات الشخص المعين، لتقييم كفاياته ومدى مناسبته للوظيفة التي سيتسلمها، من قبل شخصين على الأقل. ولو تسنى لسعاده الوقت الكافي، برأينا، فإنه كان من الممكن أن يقوم بتحديد توصيف لكل وظيفة، ويحدد الكفايات المطلوبة، وربما يصدر مراسيم لإنشاء رتب متنوعة، بحيث يكون من شروط تولي وظيفة أو مسؤولية معينة، هو أن يكون العضو حاصلًا على رتبة محددة بالحد الأدنى.
وبالتالي فإن ضبط العمل الإداري على مستوى المديرية، يكون من خلال تطبيق النظام المركزي التسلسلي، حيث يأتي التعيين من السلطات الأعلى، والإشراف والتوجيه من قبل المنفذ العام وهيئة المنفذية، التي تصلها تقارير دورية، وتتابع تطور سير العمل في أكثر من مديرية، ضمن نطاق المنفذية. وهذا أحد أعمدة الإدارة، التي عادة ما تنفذ الخطط، من أعلى إلى أدنى.
تشكل لجنة المديرية والدور التعاوني والتشاركي والرقابي المعطى لها في الدستور، نموذجًا متطورًا للحوكمة المحلية، التي تدرس الواقع المحلي، وتراقب خطط الإدارة المحلية، وتقترح الحلول، وتبدي الملاحظات على القرارات، خصوصًا المضرّة منها، وترفع التقارير إلى مجلس المنفذية. ولا تستقيم الحوكمة المحلية، من دون قيام لجنة المديرية بدورها كاملًا. وفي حال غيابها، فإن الإدارة المحلية تترك بلا متابعة ولا مراقبة أو تصويب وتغذية راجعة، مما يجعل العمل الإداري المحلي هشًا، يعتمد فقط على أخلاق وخبرة المدير والهيئة المعيّنة، التي قد تعمل بغَير مراقبة ومتابعة وتقييم، باستثناء اشراف ومتابعة المنفذ العام وهيئة المنفذية، ومن دون ضوابط محليّة، وأدوات لتحسين الأداء، ورفع الجودة والتطوير المستمر للعمل.
وفي هذا الإطار، يقول سعادة في رسالته الى منفذ عام منفذية مينس في البرازيل بتاريخ 19 أيلول 1940: "لما كانت حالة الحزب السوري القومي الحاضرة حالة جهاد لم يكن مستطاعا للإدارة العليا المركزية ضبط كلّ شؤون الفروع بنفسها، فقد دعا الزعيم تفكيره في هذا الأمر وفي تجهيز الحزب بدعائم ثابتة إلى إصداره مرسومًا دستوريًا بإنشاء لجان المديريات الاستشارية ومجالس المنفذيات الاستشارية- التشريعية." وهذا دليل ساطع على أهمية دور هذه اللجان والمجالس في تطبيق نوع من الحوكمة المحلية لضبط كل شؤن الفرع، لأم الإدارة العليا المركزية لا تستطيع ضبطها، بسبب حالة الجهاد التي يمر بها الحزب. واعتبر أن هذه اللجان والمجالس هي دعائم ثابتة تجهز الحزب. وبالتالي فإن تعطيل عملها يؤثر سلبياً على العمل وضبطه، ويحرم الحزب من هذه الدعائم الثابتة.
ويتابع شرحه وتوجيهاته للمنفذ العام المعيّن حديثاً، والذي لم يكن لديه نسخة من الدستور، حول دور لجنة المديرية الاستشارية: "بعد تأسيس المديرية وتأليف هيئتها الإدارية والتأكد من ثبات أعضائها وصحة عقيدتهم، يعين أحد الاجتماعات العامة التي يجب أن تُعقد مرة كلّ 15 يوما أو كلّ شهر على الأقل، اجتماعًا مختصًّا بانتخاب لجنة المديرية الاستشارية التي تكون مؤلفة من ثلاثة أعضاء إذا كان عدد أعضاء المديرية لا يزيد على 25 عضوا ولا يقل عن 15 عضوا ومن خمسة أعضاء إذا زاد العدد عن 25 فيجري الانتخاب بالتصويت العام الذي لا يحق إلا للذين سددوا الضرائب أو الاشتراكات المفروضة."
ويتابع أن "وظيفة اللجنة الاستشارية هي- الاجتماع كلّ 15 يومًا لدرس ما تحيله إليها هيئة المديرية لأخذ رأيها فيه. وتبادل الرأي في ما يحسن اقتراحه على المدير لتأخذه على نفسها الهيئة الإدارية. والتدخل في بعض المشاكل الفردية التي يشير عليها المدير بالتدخل فيها لتسويتها بطريقة غير إدارية. واقتراحات هذه اللجنة وآراؤها وقراراتها هي استشارية بحت، أي أنه لا يجوز لهيئة المديرية العمل بها أو عدمه، ولكن هيئة المديرية متوجب عليها درس هذه القرارات والاقتراحات والآراء والبتّ بقبولها كما هي أو معدلة أو بتركها."
وحول إدارة اللجنة يضيف: "متى تم انتخاب أعضاء اللجنة الاستشارية يجتمع هؤلاء وينتخبون رئيسًا وناموسًا منهم وليس للجنة غير رئيس وناموس وتنتخب اللجنة أيضًا مندوبًا عنها يمثلها في مجلس المنفذية حيث له حق إبداء رأي لجنته في حالة مديريته ووضعيتها وممارسة صلاحيات عضوية هذا المجلس." (من رسالة الزعيم إلى المنفذ العام لمنفذية مينس في 19 أيلول 1940).
المنفذية: هيئة معيَّنة تدير، ومجلس يقدم المشورة، ويدرس المشاريع، ويقرر الضرائب ويقر الموازنة، ويراقب ويقيّم.
يحدد المرسوم الدستوري عدد 2 المتعلّق بمؤسسة المنفذيات، صلاحية المنفذ العام بأنها "إدارية بحتة" ويفصّلها كما يلي:
ويعاون المنفذ العام ناموس وناظر مالية وناظر إذاعة وناظر تدريب، يشكلون معه "هيئة المنفذية". المنفذ العام والنظّار جميعهم، معينون من الإدارة المركزية كما يلي:
المنفذ العام: يعيّن بمرسوم من الزعيم
ناظر التدريب: يعيّن بقرار من عميد الدفاع
الناموس: يعيّن بقرار من عميد الداخلية
ناظر المالية: يعيّن بقرار من عميد المالية
ناظر الإذاعة: يعيّن بقرار من عميد الاذاعة
كما في حالة المديرية، الملاحظة الأولى من ناحية الحوكمة، هي أن تعيين المنفذ العام لا يحصل من قبل أي عميد، بل من الزعيم مباشرة، لتأمين العدالة والمعاملة المنصفة والمسؤولية، وإبقاء إمكانية المساءلة والتأكد من الكفاءة، وضبط أي إمكانية لجنوح خارج أخلاقيات النهضة لأي سبب، ومنع التبعيات والفئويات والتكتلات.
وللسبب نفسه، لا يقوم المنفذ العام بتعيين النظار في هيئة المنفذية. بل يأتي التعيين بقرار من العميد صاحب الاختصاص، بناء على اقتراح المنفذ العام. والنظّار دورهم أشمل من أعضاء هيئة المديرية، وعليهم مسؤوليات تخصصّية بتنفيذ خطط العمدات التابعين لها. كما أن قرارات المنفذ العام، يجب أن تتخذ في جلسة رسمية لهيئة المنفذية، بينما لم يحدد المرسوم الدستوري عدد 3 أن قرارات مدير المديرية، يجب أن تتخذ في جلسة رسمية لهيئة المديرية.
مقارنة أخرى بين صلاحيات المدير والمنفذ العام، فالمدير ينفّذ التعليمات الواردة إليه، من رؤسائه بالتسلسل، بينما المنفذ العام ينفّذ خطط الحزب الإدارية، وقرارات الزعيم والعمد المختصين، وقرارات مجلس المنفذية. أي أن المنفذ العام، إضافة إلى تنفيذ قرارات (وليس تعليمات كما في حالة المدير) رؤسائه بالتسلسل، عليه أيضًا أن ينفّذ قرارات مجلس المنفذية، الذي له صلاحيات أوسع، من لجنة المديرية، كما سنجد في ما يلي:
لا يمكن، بالتالي، ضمان استمرار الجودة، وقياس وتقييم تطوير الأداء، في عمل هيئة المنفذية، من دون المتابعة والمراقبة من قبل طرف غير معيّن من السلطة التنفيذية، وغير تابع لها. فالعمد يشرفون على عمل المنفذية وهيئتها، كل بحسب اختصاصه، ويتلقون التقارير من هيئة المنفذية والنظار. ويمكن أحيانًا أن تُظهر هذه التقارير أن الأمور كلها تسير بشكل سليم، وتحاول إخفاء أية مشاكل أو تقصير أو مخاطر، بهدف حماية الإدارة المحلية.
لذلك، تنص المادة التاسعة من المرسوم الدستوري عدد 4، ضرورة أن ينشأ في كل منفذية مجلس تمثيلي استشاري، له صفة تشريعية في الضرائب المالية (الاشتراكات) المحلية، ويتألف من ممثلي لجان المديريات المنتخبين، ويسمّى هذا المجلس "مجلس المنفذية". وتحدد صلاحيته (وليس مهمته كما في لجنة المديرية) كما يلي:
يتضح من هذه الصلاحية، دور مشارك في درس وتشخيص، للواقع المحلي الاجتماعي والسياسي والمالي، وتوسيع دائرة التفكير في إعطاء المشورة، حول كيفية معالجة شؤون المنطقة الحزبية والسياسية، أيضًا، ودرس المشاريع والتدابير السياسية والمالية والاجتماعية والاقتصادية، في نطاق المنفذية، حتى لا تبقى هذه المسائل محصورة بالمنفذ العام وهيئة المنفذية. وقد أضيف إلى الدور الرقابي، والمتابع والمشارك في درس الواقع، واقتراح الحلول ودرس المشاريع والتدابير، دور مهم لا يمكن أن ينتظم دور المنفذية من دونه، وهو دور تشريعي تقريري، يتعلق بالضرائب المحلية والموازنة، والاطلاع على إدارة مالية المنفذية.
وهذه الصلاحية الموسعة ترفد الإدارة المعيًّنة في هيئة المنفذية، بفريق متعاون يساعد على البحث والتحليل والتخطيط، لكيفية التعامل مع الواقع وتطوير الأداء، ورفع جودة الخطط والقرارات، كما تبقي العمل الإداري تحت مجهر المراقبة والتقييم المحلّي، على مستوى المنطقة، وتقديم النصح بتحسين الأداء، وتجنب المخاطر والمشكلات والأخطاء. إضافة إلى دور أساسي وحاسم، في تقرير الاشتراكات وإقرار الموازنة، ومراقبة أداء الإدارة المالية. وهذا نوع من الحوكمة المحلية الفعالة، والمشاركة والإيجابية، والضابطة للتجاوزات، في الوقت نفسه، يتكامل مع الحوكمة، على مستوى المديرية، ويبني مدماكًا إضافيًا، في بناء الحوكمة الشاملة على كل المستويات.
ويضع مجلس المنفذية بياناً ربعياً بأعماله ويرفعه إلى مجلس العمد ويرسل نسخة منه إلى المجلس الأعلى. وهذا مدماك آخر، لاستكمال منظومة الحوكمة الشاملة. أهميته أن تقارير مجلس المنفذية، التي قد لا تكون متطابقة مع تقارير هيئة المنفذية، وقد تتضمن أحياناً نقداً لأداء الإدارة المحلية المعيّنة، تصل إلى الإدارة المركزية التنفيذية المتمثلة بمجلس العمد، حيث ترد أيضاً تقارير هيئة المنفذية، مما يظهر أمام مجلس العمد أي خلل أو خطأ أو شكوى أو عدم انسجام أو فعالية أو تجاوزات في فهم وتطبيق الخطط المركزية التنفيذية ويساعد على المعالجة المبكرة والفعالة.
كما أن إرسال نسخة من تقارير مجلس المنفذية (من دون تقارير هيئة المنفذية) إلى المجلس الأعلى، تسهم، أيضًا، في استكمال الخط التصاعدي لتقارير الهيئات المنتخبة، من لجنة المديرية إلى مجلس المنفذية إلى المجلس الأعلى، خلال فترة وجود الزعيم، والذي كانت مهامه وقتها "إبداء الرأي وإعطاء المشورة في شؤون الحزب الخطيرة، وتقرير سياسة أو خطة فاصلة أو حل مشكل ذي نتائج خطيرة، في حياة الحزب الداخلية، ولتعديل الدستور الحالي".
وقد أجاز المرسوم الدستوري عدد 4، للمنفذ العام حل لجنة المديرية، ولمجلس العمد مجتمعًا، حل مجلس المنفذية، بشروط صعبة، من أجل حماية الجهات الرقابية المنتخبة، من عبث الإدارة المعنية مباشرة، في حال تضمنت تقاريرها نقدًا، أو اعتراضات على أداء الإدارة المعينة. فحلّ لجنة المديرية ليس من مهام المدير، بل من مهام المنفذ العام، الذي يحق له "حلّ لجنة مديرية غير قائمة بأعمالها، أو متعدية على صلاحياتها، أو متخذة موقفًا سلبيًا أو لا تعاونيًا، تجاه الإدارة، بناءً على مطالعة مقرر كفؤ، ينتدبه لهذه الغاية، ويجب عليه أن يبلغ عمدة الداخلية في الحال، كل تدبير من هذا النوع، والأسباب الحيوية الباعثة عليه". كما أن حل مجلس المنفذية يحتاج إلى قرار من مجلس العمد مجتمعًا، بناءً على "اقتراح معلل من المنفذ العام، مبني على قرار مجلس المديرين، ومطالعة عمدة الداخلية". حيث أن مجلس المديرين يتشكل من جميع مديري المديريات في المنفذية، وينعقد مرة كل ثلاثة أشهر، برئاسة المنفذ العام واشتراك هيئة المنفذية، في موعد تقرره عمدة الداخلية. وصلاحية مجلس المديرين هي "درس الأعمال والأحوال الإدارية المختصة بالمنفذية، ووسائل تقوية الروابط الإدارية، وتسهيل تنفيذ المهمات الإدارية، واتخاذ قرارات رسمية في هذا الصدد". ومن هذه القرارات قرار حل مجلس المنفذية، في حالات معينة بشكل معلّل بالوقائع.
وفي رسالته إلى المنفذ العام لمنفذية مينس في 19 أيلول 1940، يشرح الزعيم حول مجلس المنفذية: "هو مجلس استشاري في كل أمر إلاّ أمر المالية الموضعية أي الضرائب الموضعية ونفقات المنفذية، ففي هذا الأمر له صفة تشريعية، إذ هو الذي يقرّر الضرائب الموضعية، ويوافق على كيفية نفقات المنفذية. وعند انعقاده يؤلف بين أعضائه لجنة مالية من ثلاثة أعضاء لتفتيش دفاتر ناظر المالية ولتتأكد من الحسابات. ولا دخل لهذا المجلس في الجباية العامة. وينعقد هذا المجلس مرة كلّ ثلاثة أشهر ومدة عضويته سنة كاملة وكذلك مدة عضوية كلّ لجنة استشارية. وفي أول اجتماع يعقده ينتخب رئيسه وناموسه ولجنته المالية وغيرها من اللجان. أما اللجنة المالية فغير دائمة على مدار السنة بل تنتخب لجنة مالية لكلّ دورة أي كلّ ثلاثة أشهر."
ويتابع: "كلّ لجنة استشارية ترفع خلاصة أعمالها وملاحظاتها في تقرير خطي يحمله مندوبها ويقرأه في اجتماع المجلس. وفي ختام كلّ دورة يرفع مجلس المنفذية تقريرًا بخلاصة أعماله وملاحظاته إلى مجس العمد."
مؤسسة العمد ومجلسهم: مجلس تنفيذي لمعاونة الزعيم
يحدد المرسوم الدستوري عدد 1 دور وهيكلية وصلاحية مؤسسة العمد، الذين يعيّنهم الزعيم لمعاونته في إدارة الحزب وممارسة السلطة التنفيذية. بحيث تسير إدارة الحزب وفاقا للتصنيف الفني للمصالح الرئيسية، ويجري تعيين العمد على أساس هذا التصنيف. ويعلن المصالح الآتية: الداخلية والمالية والخارجية والإذاعة والقضاء والاقتصاد والدفاع والثقافة والفنون الجميلة مصالح عامة رئيسية في الحزب. ويؤلّف العمد المعيّنون لهذه المصالح العامة الرئيسية، مجلسًا تنفيذيًا يسمى مجلس العمد، يكون له رئيس وناموس يعيّنهما الزعيم.
هنا أيضًا نجد أن العمد الذين يكوّنون أعضاء في مجلس العمد المعيّن، لا يعينهم رئيس مجلس العمد بل الزعيم. وتحدد صلاحية مجلس العمد بما يلي:
بينما تحدد صلاحية العميد بما يلي:
العميد إذًا، هو مسؤول عن سياسة عمدته، وهذه المسؤولية ليست تجاه مجلس العمد أو رئيسه، بل تجاه الزعيم رأسًا. فهو معاون له في اختصاص معين، يضع لعمدته مشاريع إدارية وتنفيذية، وسياسة للعمدة، لتأمين تنفيذ سياسة الزعيم العامة. وتصبح سياسة العمدة ومشاريعها الإدارية والتنفيذية نافذة، بعد مناقشتها في مجلس العمد، ومصادقة الزعيم عليها.
فيما مجلس العمد هو مكان للتنسيق بين العمد، وتبادل الخبرات والتجارب، والتناقش في مشاريع كل عميد، التي تتعلق بالخطط العامة، وسياسة الحزب قبل عرضها على الزعيم. والمجلس يهدف إلى تقرير التوافق الشكلي والنهج المشترك، لتنفيذ سياسة الزعيم وخططه ومقرراته.
من ناحية الحوكمة، يقوم الزعيم بشكل مباشر بالإشراف والتوجيه من جهة، وبالمراقبة والمتابعة والمحاسبة لمجلس العمد، ولعمل كل عميد من جهة ثانية. وهذا كان واضحًا من خلال سيرته في قيادة الحزب، ومن خلال رسائله الموجودة، والموجهة إلى العمد في مراحل عديدة.
كما يتلقى مجلس العمد تقارير دورية من مجالس المنفذيات، وأخرى من هيئات المنفذيات، تعطيه صورة حقيقية عن واقع المناطق، يستطيع من خلالها، وضع الخطط وتعديلها ومناقشتها في المجلس، قبل عرضها على الزعيم.
سلطة الزعامة: مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية
نرى مما تقدم، أن الزعيم هو رأس السلطة التفيذية، الذي يعود إليه إقرار الخطط التنفيذية، التي يعرضها عليه مجلس العمد، إضافة إلى الإشراف المباشر على عمل المجلس، وترأسه ساعة يشاء، ومن خلال تعيين العمد وتقييم عملهم. كما تحدد المادة الرابعة من الدستور، أن زعيم الحزب هو قائد قواته الأعلى ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وتتضمن صلاحية مجلس العمد "تقرير التوافق الشكلي والنهج المشترك لتنفيذ سياسة الزعيم وخططه ومقرراته". إذًا للزعيم خطط ومقررات وسياسة، هو يقررها، أحيانًا، بصفته مصدر السلطة التشريعية، وأحيانًا كونه رأس السلطة التنفيذية.
تذكر مقدمة الدستور أن معتنقي دعوته ومبادئه يدافعون عن قضيته، و"يؤيدون الزعيم تأييدًا مطلقًا في كل تشريعاته وإدارته الدستورية"، وعلى هذا الأساس يتم التعاقد بين العضو وصاحب الدعوة. فيكون العضو قد التزم على أساس هذا التعاقد الحر، بالتأييد المطلق للزعيم في كل تشريعاته وإدارته الدستورية.
وتشير المادة السابعة من الدستور إلى أن "كل مراسيم الزعيم وقراراته وتشاريعه خطية وتنفّذ بطريقة التسلسل". وهنا تحديد دقيق لما يصدر عن الزعيم: مراسيم وقرارات وتشاريع.
من الواضح، إذًا، أن زعيم الحزب هو مصدر السلتطين التشريعية والتنفيذية، وبالتالي هو مرجع ورأس كل من هاتين السلطتين. وإذا كان مفهوم السلطة التنفيذية ومهامها واضحة، لجهة تنفيذ سياسة الزعيم وخططه ومقرراته، فهل هذه السياسة والخطط والمقررات يصدرها بصفته رأس السلطة التنفيذية أم كونه رأس السلطة التشريعية؟ وهل المراسيم والقرارات والتشاريع المذكورة في المادة السابعة يصدرها بصفته رأسًا للسلطة التنفيذية أو للسلطة التشريعية؟ في فقه الدستور، المراسيم عادة تصدرها السلطة التنفيذية، والتشاريع أو التشريعات تصدرها السلطة التشريعية. فماذا عن القرارات؟
هذا الدمج داخل سلطة الزعامة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وعدم وجود شرح كافٍ العلاقة بينهما، أدى بعد غياب الزعيم، وفصل السلطتين وإناطتهما بالمجلس الأعلى، ورئيس الحزب، إلى كثير من اللغط والتداخل والتناحر، بين السلطتين المفصولتين، وصلاحية كل منها، على مدى تاريخ الحزب، كما سنرى لاحقًا.
بالتالي، فإن الزعيم هو بحسب الدستور:
وينشئ الزعيم:
لتعاونه في إدارة الحزب، وخدمة القضية القومية، التي من أجلها نشأ الحزب السوري القومي. ويكون للزعيم حقّ ترؤسها والإشراف المباشر عليها ساعة يريد.
مستوى إضافي من الحوكمة
بالإضافة إلى المستويات المتعددة من تطبيق الحوكمة الشاملة، على مستوى المديريات والمنفذيات ومجلس العمد، فقد كفل الدستور في مادته الثامنة، لكل عضو في الحزب حقه في:
فقد ترك المجال لأي رفيق، لديه ملاحظات أو شكاوى أو مقترحات إيصال رأيه، سواء في الاجتماعات العامة والخاصة، أو إلى أي من مستويات النظام المركزي التسلسلي، وصولًا إلى الزعيم. وإن كان الرأي متعلقًا بشؤون الحزب الإدارية، وجب ابداء الرأي عبر التسلسل الإداري، من أجل حفظ احترام المسؤولين الذين يتولون مسؤوليات إدارية، من الفرع الذي ينتظم فيه الرفيق، وصولًا إلى المسؤول المرسل إليه الرأي، وإطلاعهم على هذا الرأي، حتى اذا تمّت أية متابعة أو مراجعة أو معالجة من قبل المسؤول الأعلى، يكون جميع هؤلاء المسؤولين على دراية بما يحصل، حتى لو كان الرأي هو شكاوى ضد أي منهم. أما إذا كان الرأي متعلقًا بخطط الحزب السياسية والاقتصادية، فترُك للرفيق حق الاتصال مباشرة بالمراجع والهيئات المختصة، والمراجع العليا والزعيم.
وهذا شكل إضافي من أشكال تطبيق الحوكمة عبر المتابعة والتعبير عن أية مشكلات أو اعتراضات أو مخاطر محتملة من قبل أي عضو.
المجلس الأعلى: سلطة تشريع وتقرير
لم ينشئ الزعيم المجلس الأعلى بمرسوم دستوري، كما بقية المؤسسات الأخرى (المؤسسات التنفيذية: مؤسسات العمد ومجلسهم، مؤسسة المنفذيات، مؤسسة المديريات. المؤسسات ذات الصفة التشريعية: مجالس المنفذيات). مع أن المادة السادسة من الدستور تجيز للزعيم إنشاء "إدارات تنفيذية ومجالس إستشارية تشريعية وتنفيذية وهيئات اقتصادية لتعاونه في إدارة الحزب وخدمة القضية القومية الاجتماعية التي من أجلها نشأ الحزب السوري القومي الاجتماعي."
بل نصت المادة العاشرة من الدستور أن: "للحزب السوري القومي الاجتماعي مجلس أعلى يجتمع بناءً على دعوة من الزعيم، لإبداء الرأي وإعطاء المشورة، في شؤون الحزب الخطيرة، ولتقرير سياسة أو خطة فاصلة، أو حل مشكل ذي نتائج خطيرة في حياة الحزب الداخلية ولتعديل الدستور الحالي".
وهذه المادة أناطت بالمجلس الأعلى مهام:
المهمة الأولى، هي معاونة الزعيم في شؤون الحزب الخطيرة، (أي المهمة وليس الخطرة). وهنا يمكن أن تكون هذه الشؤون لها علاقة بالخطط العامة للحزب، التي يقرها الزعيم، ويرسلها إلى مجلس العمد للتنفيذ عبر التسلسل الإداري. ويمكن أن تكون مسائل استراتيجية لها علاقة بسياسة الحزب العامة، وتحالفاته وموقعه. ويمكن أن تكون حول مسائل تشريعية دستورية، أو مسائل تتعلق بتطوير العمل الحزبي. لكن كل ذلك يبقى في إطار إبداء الرأي وإعطاء المشورة. وهذا أيضًا تطبيق راقٍ من قبل الزعيم، يُخضع خططه وسياساته وتشاريعه للمتابعة من قبل المجلس الأعلى، مع أن الزعيم هو مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهنا نتحدث عن الحقوق الدستورية، ولا نقيِّم في ما إذا كان أعضاء المجلس الأعلى مؤهلين أن يعطوا رأيًا مخالفًا أو نقديًا، لخطط الزعيم أو سياسته أو تشريعاته.
المهمة الثانية، تجعل من المجلس الأعلى سلطة تقرير. هناك فرق بين التقرير والإقرار. فالمصادقة والإقرار الذي يقوم به الزعيم، هو لخطط أو موازنة تم وضعها والتوافق عليها في مجلس العمد، يقرّها الزعيم، أو موازنة أعدتها هيئة المنفذية، يجري إقرارها في مجلس المنفذية. بينما التقرير هو وضع الخطة أو السياسة ومن ثم إقرارها. وبالمقارنة مع الخطط التي يدرسها مجلس العمد، ويتناقش بها ويعرضها على الزعيم للمصادقة أو الإقرار، فالدستور يعطي المجلس الأعلى حق تقرير الخطط والسياسات.
المهمة الثالثة، تجيز للمجلس الأعلى، النظر في المشاكل الداخلية الخطيرة وحلّها. وعندما وُضع الدستور لأول مرة ثم صنف في 1937، لم يكن قد صدر بعد مرسوم المحكمة الحزبية، الذي صدر عام 1948. أوكلت هذه المهمة ليكون المجلس الأعلى بمثابة مرجع تحكيمي لحل المشاكل الداخلية الخطيرة. ولا ندري إن كان الزعيم، لو بقي حيًا لبضعة سنوات بعد 1949، سيقوم بإبقاء هذه المهمة بيد المجلس الأعلى، أم كان سينقلها بالكامل إلى المحكمة الحزبية.
المهمة الرابعة، هي تعديل "الدستور الحالي". أي أن الزعيم، مع صلاحياته المطلقة، أعطى للمجلس الأعلى مهام أساسية حتى بوجوده. وكونه أكد في أكثر من مقال، أن سلطة الزعيم الفرد هي حصر على المؤسس شخصيًا، وأن التوجه الديمقراطي في الدستور صريح ولا يرفضه عقل صحيح، يتبين من هذه المهام أنها تهدف إلى تدريب وتهيئة المجلس الأعلى، على القيام بمهام تقريرية وتحكيمية وتشريعية دستورية خلال وجود الزعيم.
ومن الواضح هنا، وكما هو متعارف عليه، في خصائص وماهية النظام المركزي التسلسلي، أن المؤسسة العليا تفوّض جزءًا من صلاحيتها لمؤسسة أدنى، في سلّم النظام المركزي، ولكنها تستطيع ان تستردها وتصحح أي اعوجاجات أو أخطاء. من هنا فإن الزعيم مصدر السلطة التشريعية، قد فوض عددًا من المهام للمجلس الأعلى في الدستور، مثل تقرير الخطط والسياسات وحل المشاكل وتعديل الدستور، لكنه يستطيع من خلال سلطة الزعامة، استرجاع التفويض وتصحيح الخطط والحلول والتعديلات عند اللزوم، أو حتى حل المجلس الأعلى برمته. وهذا ما حصل بعد عودته من مغتربه القسري، لتصحيح الخروج العقائدي المتمثل بالواقع اللبناني، عند نعمة تابت وجنوح الاجتهادات الفلسفية عند فايز صايغ، وهما كانا من قيادات الحزب البارزة، خلال فترة اغترابه القسري. وما يصح على السلطة التشريعية، لناحية ميزة تفويض السلطة، من مؤسسة أعلى إلى مؤسسة أدنى، يصح على السلطة التنفيذية، أيضًا، بكافة مستوياتها. والتفويض هو إحدى ميزات النظام المركزي التسلسلي، مقارنة مع أنظمة أخرى، تقسم السلطة وتوزعها أفقيًا أو عاموديًا، وتنشئ توازنًا بين السلطات الموزّعة.
خلاصة البحث الدستوري: سعاده رائد الحوكمة قبل تعريفها بسبعة عقود
يمكننا التوقف هنا لبعض الوقت، عند حدود الدستور بوجود الزعيم، لنرى كما هو موضح في الرسم رقم 2، أن سعاده أبدع في تصميم وتطبيق نظام متكامل للحوكمة الشاملة، ابتداء من أسفل الهيكلية المركزية التسلسلية في المديريات، حيث شرّع للجنة مديرية منتخبة، تشرف وتدعم وتتابع عمل هيئة المديرية المعيِّنة، من السلطات التنفيذية الأعلى، وصولًا إلى المناطق الحزبية في المنفذيات، حيث شرّع لمجلس منفذية تمثيلي منتخب، وأضاف إلى مهام الرقابة والمتابعة والمساءلة، صفة تشريعية في تقرير الضرائب المحلية، واقرار موازنة المنفذية. لذلك دوره مفصلي أكثر من دور لجنة المديرية.
وعلى مستوى المركز، يقوم مجلس العمد بعمله، بإشراف وتوجيه مباشر من الزعيم، الذي يقوم بالمتابعة والمساءلة وضبط المسؤوليات والكفاءة، (التي شرع لها موضوع الرتب وربطها بالوظائف في الدستور)، والمعاملة المنصفة والشفافية وصيانة مسألة الأخلاق، وحق أي عضو بالتواصل وابداء الرأي، مع أي مسؤول حتى الزعيم، سواء في الأمور الإدارية أو حول الخطط السياسية والاقتصادية. لا بل أن الزعيم، وعلى الرغم من سلطاته الواسعة المكتسبة بالتعاقد الحر بينه وبين الأعضاء، والذي فوضه من خلاله الأعضاء أن يكون مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضع نفسه، إلى حد معين، تحت نوع من المتابعة وتوسيع قاعدة النقاش قبل اتخاذ قرارات كبيرة، من خلال إفساح المجال للمجلس الأعلى، بتقديم المشورة وإبداء الرأي في شؤون الحزب الخطيرة، وإعطائه حق تقرير الخطط والسياسات، وحل المشاكل ذات النتائج الخطيرة، على حياة الحزب الداخلية، وحتى حق تعديل الدستور، من دون ذكر أن ذلك بحاجة إلى موافقة الزعيم وإقراره، كما هي الحال مع خطط مجلس العمد.
من هذا المنطلق، فقد حرص سعاده على تطبيق معظم أبعاد وسمات الحوكمة، المشروحة سابقًا، قبل سبعة عقود من تعريفها رسميًا، وتطبيقها في المؤسسات الخاصة والحكومية حول العالم.
ماذا بعد غياب الزعيم؟
هل استطاع الحزب بعد غياب سعادة، أن يحافظ على نظام الحوكمة الذي رسخه الدستور؟
لقد احتاط الدستور من حيث المبدأ، لحدوث أي مانع طبيعي دائم يحول دون ممارسة الزعيم لصلاحياته، مثل الموت أو الإعاقة أو غير ذلك. فنصّت المادة الحادية عشرة منه: "يجتمع المجلس الأعلى بناءً على دعوة من رئيسه، في مدة خمسة عشر يومًا، من تاريخ حيلولة أي مانع طبيعي دائم، دون ممارسة الزعيم سلطاته لانتخاب خلف له."
والمادة الثانية عشرة: "يكون للرئيس المنتخب السلطة التنفيذية فقط، وتحصر السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية بالمجلس الأعلى."
إذا، الزعيم، الذي كان مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، مدمجتين في شخصه، وزعت سلطاته بين طرفين: رئيس الحزب الذي يتولى السلطة التنفيذية، ويعاونه بالتالي مجلس العمد، وكافة الإدارات المعيّنة التابعة له، بحسب النظام المركزي التسلسلي، والمجلس الأعلى الذي تحصر به السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية. السلطة التشريعية الدستورية تشمل تعديل الدستور. وهي المهمة الرابعة من مهام المجلس الأعلى المنصوص عنها في الدستور. ولكن ما هي السلطة التشريعية غير الدستورية؟ الجواب هو في مهام المجلس الأعلى الموضحة في الدستور، وهي المهمة الثانية والثالثة المشروحة أعلاه، أي تقرير الخطط والسياسات، والتحكيم. أما المهمة الأولى، أي إبداء الرأي وإعطاء المشورة للزعيم، فتتحول بعد غيابه إلى السلطة التنفيذية المتمثلة بالرئيس المنتخب وفريقه التنفيذي.
وبناء على هذه المهام الموضحة في الدستور، يكون دور المجلس الأعلى، بعد غياب الزعيم، إضافة إلى انتخاب الرئيس، هو متابعة عمل السلطة التنفيذية (وهذا أيضًا نوع من أنواع الحوكمة) وتقرير الخطط والسياسات العامة والأساسية للحزب، وحل المشاكل الداخلية الخطيرة، وتعديل الدستور. ويكون المجلس الأعلى من خلال اطلاعه على تقارير مجالس المنفذيات من جهة، وتقارير السلطة التنفيذية المركزية من جهة أخرى، متابع لواقع الحزب بشكل عام، من وجهة نظر المجالس الرقابية المحلية، ووجهة نظر السلطة التنفيذية المركزية.
في المقابل، يكون دور الرئيس، قيادة السلطة التنفيذية والإشراف على عمل مجلس العمد وكل الأجهزة الإدارية المعيِّنة بحسب النظام المركزي التسلسلي، والقيام بدور المراقبة والمساءلة والتقييم والتصحيح في عمل الهيئات التنفيذية.
وقد فسّر العديد من الحقوقيين القوميين، مفهوم السلطة التشريعية كما هو مفسر ومطبق في الأنظمة الغربية الليبرالية، أي حصر المهام التشريعية في مسائل التشريع الدستوري، متأثرين بالمدارس الحقوقية الغربية والانظمة الليبرالية، بينما ثقافة سعاده لم تكن مدرسية مطوَّعة، بل بحثية فيها الكثير من الابتكار والتجديد الأصلي. ولو كان ما يعنيه الزعيم والدستور بالسلطة التشريعية هو فقط سلطة التشريع الدستوري، لما كان حدد أن السلطة التشريعية من "دستورية وغير دستورية" تحصر بالمجلس الأعلى، خصوصًا أن سعاده معروف بتحديد المصطلحات بدقتها. فماذا كان يعني بالسلطة التشريعية غير الدستورية؟ وهل يعني ذلك أن دور المجلس الأعلى بعد غياب الزعيم، يجب أن يحصر بشأن التشريع الدستوري فقط، ويكون بالتالي أقل من دوره بوجود الزعيم، والذي كان يتضمن مهام تقريرية وتحكيمية وإبداء الرأي وإعطاء المشورة للزعيم، في شؤون الحزب الخطيرة؟ المنطق يقول العكس، أن هذا الدور يجب أن يتوسع بعد غياب الزعيم، لتغطية الفراغ الكبير الحاصل.
وللتوضيح أكثر حول تفسيرات كلمة "تشريعية"، بحسب مفهوم الدستور لها، فلننظر إلى المرسوم الدستوري عدد 4، حيث يرد في المادة التاسعة منه: " ينشأ في كل منفذية من منفذيات الحزب السوري القومي الاجتماعي مجلس تمثيلي استشاري، له صفة تشريعية في الضرائب المالية (الاشتراكات) المحلية". فهل الصفة التشريعية هنا هي تشريعية دستورية تعنى بتعديل الدستور أو سن التشريعات الدستورية؟ طبعا لا. بل أن الدور المناط بمجلس المنفذية هو دور تقريري في تحديد الضرائب، ودرس وإقرار الموازنة. هذا ما اعتبره الدستور صفة تشريعية. وهذا ينطبق على دور المجلس الأعلى، الذي هو أوسع من مجرد التشريع الدستوري، ويضم التقرير والتحكيم والإشراف والمتابعة، أيضًا، وهذا يفسر تحديد الدستور للسلطة التشريعية بنوعيها الدستوري والغير دستوري، كما سنبين لاحقاً من خلال رسالة الزعيم الى رئيس المجلس الأعلى في 2 تموز 1938.
يبقى عدة أمور لا بد من معالجتها، كونها غير محسومة في الدستور، خصوصًا تلك التي نصت عليها المادة الثالثة عشرة منه: "إنّ مدة ولاية الرئيس المنتخب وطريقة انتخابه، وطريقة انتقاء أعضاء المجلس الأعلى ونظامه الداخلي، تحدد في ما بعد بمرسوم يصدره الزعيم على حدة، ويكون له صفة المراسيم الدستورية."
إن مدة ولاية الرئيس وطريقة انتخابه من قبل المجلس الأعلى، هي مسائل إجرائية، وقد يكون المقصود بطريقة الانتخاب، هي تقرير ما اذا كان هذا الانتخاب يحصل بالأكثرية العادية أو المطلقة، من أعضاء المجلس الأعلى. ويمكن أن تضاف شروط تتعلق بالخبرة والكفاءة لمن يترشح للرئاسة، لتأمين شروط الديمقراطية التعبيرية، وهو ما حُدد منه شيء في التعديلات الدستورية لاحقًا.
النظام الداخلي للمجلس الأعلى هو مسألة إجرائية أيضًا، ولكنها تتعلق بصلاحيات المجلس ومهامه، وكيفية تفسير السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية.
أما طريقة انتقاء أعضاء المجلس الأعلى، فقد حدث مرة واحدة بوجود الزعيم، عام 1937، إثر إبرام وتصنيف الدستور. حيث دُعي الأمناء، الذين كان سعاده منحهم الرتبة، إلى اجتماع في منزل نعمة ثابت وهم: فخري معلوف، نعمة ثابت، مأمون أياس، كامل أبو كامل، عبد الله قبرصي، جورج عبد المسيح، معروف صعب، عجاج المهتار، أنيس فاخوري، مصطفى المقدم، ونجلا معتوق، وتمّ انتخاب أول مجلس أعلى للحزب، بحضور الزعيم، وفاز بالعضوية الأمناء فخري معلوف، نعمة ثابت، مأمون أياس، جورج عبد المسيح، كامل أبو كامل، عبد الله قبرصي، معروف صعب، وانتخب فخري المعلوف رئيسًا للمجلس، ومأمون أياس ناموسًا.
وبعد سفر الزعيم في حزيران 1938، قام بتفويض صلاحيات تنفيذية للمجلس الأعلى، ليقوم بإدارة الحزب في غيابه. وبحكم الصلاحيات الممنوحة من الزعيم للمجلس الأعلى، فقد دعا الأخير إلى عقد مؤتمر إداري عام في أيلول ،1938 يضمّ جميع المسؤولين العاملين في المركز، وهيئات المنفذيات في الوطن. وعُقد المؤتمر في منزل الرفيق أحمد المفتي في بيروت ودُعي "مؤتمر الاستعداد".
وفي رسالة من الزعيم الى رئيس المجلس الأعلى بتاريخ 2 تموز 1938، بعد سفره مباشرة، يقول: "صلاحيات المجلس الأعلى: أوافق على اجتهاد المجلس في تعيين صلاحياته التطبيقية. أما الإبهام في المرجع التنفيذي الأعلى عندما لا يمكن الاتصال بالزعيم فلا يمكن أن يكون هنالك ما يدعو إليه، لأنّ التنفيذ يكون تنفيذ سياسة وتنفيذ تشريع وهو من صلاحية مجلس وكلاء العمد، ويكون من صلاحية المجلس الأعلى تقرير السياسة وتقرير التشريع واتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة التنفيذ والتثبت من صحته عملياً.
أما إذا كان القصد من الإبهام في القرارات السياسية والتشريعية، فحين تعرض قضايا خطيرة مستعجلة لا تتمكن من انتظار الاتصال بالزعيم فالمجلس الأعلى يتخذ صلاحية التقرير النهائي ويحمل مسؤولية ذلك. وإني أعطي المجلس الأعلى صلاحية واسعة من هذا القبيل في كل الظروف التي لا يمكن معها انتظار الاتصال بي. وفي كل مقررات المجلس الأعلى يخضع المجلس للاتجاه السياسي ـ الإداري العام ولتوجيهات الزعيم." (الاعمال الكاملة، المجلد التاسع، ص. 41).
يظهر جلياً من هذه الرسالة مفهوم التفويض من سلطة أعلى الى سلطة أدنى، بحيث تستطيع السلطة الأعلى أن تسترد الصلاحيات المفوضة وتقوم بالمحاسبة. وثانياً، يوضح الزعيم بشكل واضح دور المجلس الأعلى في "تقرير السياسة وتقرير التشريع واتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة التنفيذ والتثبت من صحته عملياً. وهذا يظهر ان المجلس الأعلى ليس فقط سلطة تشريعية بالمعنى المحصور بالتشريع الدستوري. وهذه المهام الاضافية، من تقرير السياسة ومراقبة التنفيذ والتثبت من صحته، والاشراف المباشر على السلطة التنفيذية المتمثلة بمجلس وكلاء العمد وقتها، الذي دوره هو تنفيذ السياسة والتشريع التي يقررها المجلس الاعلى. وهذا ما عنى به الزعيم بالسلطة التشريعية "من دستورية وغير دستورية"، في المادة العاشرة من الدستور. وثالثاً أن المجلس الأعلى يجب أن يخضع للاتجاه السياسي الاداري العام ولتوجيهات الزعيم، ويحمل مسؤولية قراراته النهائية تجاه الزعيم، الذي يمثل القوميين ويعبر عن ارادتهم. ففي حال الغياب الدائم للزعيم، يجب أن توضع آلية معينة لمراقبة ومتابعة ومساءلة ومحاسبة المجلس الأعلى، حتى تستوى امور الادارة المركزية.
وبعد ذلك استمر المجلس الأعلى في تعيين العمد ورئيس مجلس العمد، وأعضاء ورئيس المكتب السياسي، كما أضاف إلى أعضائه المنتخبين أيام سعاده، وعلى مراحل، بعض الرفقاء من غير الأمناء، مثل عبدالله سعاده وكريم عزقول وفاير الصايغ وعبدالله محسن وفريد مبارك. وقد استمر فخري معلوف رئيسًا للمجلس الأعلى حتى آب 1939، عندما استقال وانتُخب نعمة ثابت مكانه وعيّن مأمون أياس رئيسًا لمجلس العمد. وتوالى على رئاسة مجلس العمُد في هذه الفترة عدد من الرفقاء، نتيجة الاعتقالات، منهم كامل ابو كامل، زكريا اللبابيدي، وعبدالله سعاده.
بعد عودة سعاده من المغترب القسري، اتخذ قرارًا حلّ بموجبه المجلس الأعلى، نتيجة الانحراف الذي وقع فيه بعض أعضائه، وعدم حمل بعضه الآخر رتبة الأمانة. وأبقى على جسم الأمناء الذين صار عددهم حتى تاريخ استشهاده 21 أمينًا، وشكل مجلس العمُد من الياس قنيزح عميدًا للداخلية، ثم مديرًا لمكتبه، وأديب قدورة عميدًا للدفاع، إلى جانب إنعام رعد ناموس عمدة الإذاعة، هشام شرابي ناموس عمدة الثقافة، فؤاد شاوي ناموس عمدة التدريب، خليل صعب ناموس عمدة المالية، فيكتور أسعد مفتش التدريب، رؤوف أبو الحسن منفذ عام المتن. وعندما استشهد كان المجلس الأعلى منحلًا. فتنادى عدد من الأمناء بلغ 12 أمينًا، من أصل 21، استطاعوا الاجتماع في دمشق في أواخر عام 1949، واعتبروا أنفسهم مجلس أمناء وانتخبوا الأمين جورج عبد المسيح رئيسًا للحزب لمدة سنتين، لإعادة تنظيم صفوف الحزب. وفي 16 تشرين الثاني 1951 أقر القانون الدستوري رقم 8، الذي ينظم الصلاحيات التشريعية والتنفيذية، وطريقة انتخاب أعضاء المجلس الأعلى. حيث أبقي هذا الانتخاب من مسؤولية قبل الأمناء ومن بينهم، كما حصل أيام الزعيم في 1937 ولمرة واحدة.
واتفق في حينه، أن من يختار أو ينتخب أو ينتقي أعضاء المجلس الأعلى هم الأمناء نفسهم، كون رتبة الأمانة رتبة عليا، شروطها تؤهل حاملها تحمل مسؤوليات مفصلية في الحزب. وهذه مسألة أخذت جدلًا كبيرًا في مراحل لاحقة. وربما كان من الأسباب الأخرى لحصر الانتخاب بالأمناء، الذين حينما يستوفون شروط رتبة الأمانة، يمكنهم أن يكونوا معبرين عن الإرادة العامة للقوميين، هو الظروف القاسية التي كان يمر بها الحزب بعد اغتيال الزعيم مباشرة، وعدم وجود إمكانية لانتخابات مباشرة، أو ربما غياب لجان مديريات ومجالس منفذيات منتخبة. وقد تساءل بعضهم: إذا كان القوميون هم مصدر السلطات، فلماذا لا ينتخبون أعضاء المجلس الأعلى من بين الأمناء، سواء مباشرة أو من خلال من يمثلهم؟ وارتكز أصحاب هذا الرأي إلى مرسوم الطوارئ، الذي اصدره الزعيم سنة 1936، عندما أوكل إلى مجلس المندوبين المنبثق عن مجالس المنفذيات، مهمة انتخاب قيادة جديدة، كلما اعتقلت قيادة الحزب. وكان هناك رأي آخر يقول، أن الأمناء بحسب شروط رتبة الأمانة، يعبرون عن الإرادة العامة للقوميين، وبالتالي يمكنهم أن ينوبوا عن القوميين، في انتقاء أو انتخاب أعضاء المجلس الأعلى، كما حصل أيام الزعيم.
رتبة الأمانة
نصَّ المرسوم الدستوري عدد 7، على ما يلي:
مادة أولى: تنشأ في الحزب السوري القومي الاجتماعي رتبة عليا تسمى رتبة الأمانة.
مادة ثانية: يمنح الزعيم رتبة الأمانة لمن يستحقها وتتوفر فيه الشروط التالية:
ونصّت المادة الخامسة من هذا المرسوم على ما يلي: "يؤتمن حاملو رتبة الأمانة على الأسرار الخطيرة في المهمات، وينتدبون للأعمال التي تقتضي صفات ممتازة."
من الواضح أن الهدف من هذه الرتبة العليا، هو تهيئة جسم من الأعضاء المتميزين، الذين يستطيعون تحمّل المسؤوليات المركزية، لرفد قيادة الحزب بالمسؤولين المؤهلين، وأصحاب الفهم الصحيح للعقيدة والخبرة والتضحية والإيمان والأمانة، والدقة والإدراك والشجاعة والإقدام والحنكة. وتأمين محيط متعاون مع القيادة، أيضًا، من الأمناء الذين لا يتحملون مسؤوليات في أي من السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويتحلى (هذا المحيط) بكل المؤهلات التي تمكنه من المتابعة وإبداء الرأي، واقتراح الحلول والأفكار والخطط، كون هذا الحق قد أعطاه الدستور لأي رفيق، فكيف إذا كان من الأمناء.
لكن ما بقي ناقصًا بعد غياب الزعيم، هو من يمنح رتبة الأمانة. تقرر في بداية الخمسينات، أن المجلس الأعلى هو من يمنح هذه الرتبة. شكل ذلك فجوة، ضربت مفهوم الحوكمة على مستوى رأس السلطة، لأن ذلك ترافق مع تقرير أن الأمناء، هم من ينتخب أعضاء المجلس الأعلى. لأن المجلس في هذه الحالة، قد يقرر منح رتبة الأمانة لأعضاء يضمن ولاءهم ليعيدوا انتخابه. وهذا ما حصل تقريبًا، حتى في تسوية منح حوالي 33 أمينًا جديدًا سنة 1954، إثر خلافات بين المجلس الأعلى والرئيس عبد المسيح، أدت إلى استقالته وانتخاب الأمين عصام المحايري رئيسًا. لكن رفض المنفذين العامين وعدد من القوميين لهذا الإجراء، فرض على المجلس الأعلى تعيين عدد جديد من الامناء، الأكثرية منهم من مؤيدي عبد المسيح، ثم انتخب مجلس أعلى جديد، وقام بانتخاب عبد المسيح للرئاسة مجددًا.
هذا نموذج من الممارسات التي ضربت صورة رتبة الأمانة، وحولتها إلى رتبة انتخابية، وفي بعض الأحيان كان حاملوها لا يستوفون شروطها. كل ذلك أدّى، لاحقَا، إلى نقمة كبيرة على جسم الأمناء، وصلت ذروتها في مؤتمر ملكارت 1969، حيث تم إلغاء رتبة الأمانة وانتخاب أعضاء المجلس الأعلى، من قبل مندوبين ينتخبهم الرفقاء. لكن هذا كان ضربًا بعرض الحائط، لفلسفة الديمقراطية التعبيرية والغاء عنصر الكفاءة، والعودة إلى الديمقراطية التمثيلية.
غير أن هذا النظام لم يصمد الا بضع سنوات، فأعيدت رتبة الأمانة، وفي سنة 1980، تم إنشاء مؤسسة المؤتمر العام، المؤلف من مندوبين ينتخبهم القوميون في المناطق والفروع إلى عضوية المجلس القومي، إضافة إلى الأمناء. وأصبحت الهيئة الناخبة هي مجموع الأمناء المعينين والمندوبين المنتخبين. فكانت تسوية غير موفقة أيضًا، إذ بقي من يعين الأمناء هو المجلس الأعلى، وأقر في ما بعد إنشاء لجنة للمنح ينتخبها أعضاء المؤتمر القومي، وبقي انتخاب المندوبين ديمقراطية تمثيلية لا تأخذ عامل الكفاءة بعين الاعتبار، بل تخضع، أحيانًا، لتأثيرات السلطة التنفيذية، أو الفئات الحاكمة. مع أن الدستور لم يحدد أية شروط حول الكفاءة عندما ذكر عملية انتخاب لجان المديريات، ومن ثم انتخاب ممثل لكل لجنة، ليكون عضوًا في مجلس المنفذية. واعتبر بعضهم أن التمثيل مشروع بين مجموعة أعضاء، لديهم الوعي ووحدة الاتجاه والعقلية الاخلاقية الجديدة.
في المقابل، وبعد انشقاق 1957، قام التنظيم الذي قاده الأمين عبد المسيح بتعليق العمل برتبة الأمانة، وأقر التشريع لآلية انتخابية تبدأ من الفروع والمناطق الحزبية، وتنتخب أعضاء في هيئة انتخابية، من الرفقاء، يقومون بدورهم بانتخاب ثلث أعضاء المجلس الأعلى سنويًا. وقد قامت هذه المؤسسة مؤخرًا بإعادة العمل برتبة الأمانة، من دون منح الرتبة إلى أحد حتى الآن.
وقد ظهرت مقترحات عديدة عبر السنوات الطويلة، حول كيفية نيل رتبة الأمانة، أهمها للأمين الراحل هنري حاماتي، تطالب بإعادة الاعتبار إلى مفهوم الرتب في الحزب، بما في ذلك رتبة الأمانة، وربطها بكافة الوظائف الحزبية، على أن تكون هذه الرتب جميعها رتب يكتسبها كل من يستوفي شروطها تلقائيًا، من دون تدخل السلطة العليا، المستفيدة من تعيين أمناء ليعيدوا انتخابها. . وقد عانى الزعيم كثيراً من تسلق اشخاص غير كفوئين الى الوظائف المركزية، فها هو في رسالة الى رئيس المجلس الأعلى بتاريخ 9 تموز 1938: "إنّ ضربات كثيرة حلّت بناء من جراء بلوغ غير المؤهلين إلى المراكز العالية في الحزب." ويتابع: "فكل شخص لا نعرفه معرفة جيدة ولم نختبره من قبل يجب ألا يقبل في أية وظيفة مركزية أو هامّة إلا بعد أن يعطي المكتب المختص موافقته". فكان لا بد من مأسسة هذه الامور من خلال تشريع مسألة الرتب وربطها بالوظائف.
ومؤخرًا ظهرت دراسة تفصيلية حول الديمقراطية التعبيرية للرفيق شحادة الغاوي، تبنى فيها هذا الطرح وطوّره، باتجاه أن مصدر السلطة يجب أن يكون القوميين الاجتماعيين، ومن يتم انتخابه يجب أن يكون من أصحاب الرتبة المناسبة. لذلك يبقى حق الانتخاب مع الأعضاء، الذين من المفترض أنهم يمتلكون مستوى معين من الوعي والفهم ووحدة الاتجاه، من ضمن شروط العضوية في الحزب. وفي الوقت نفسه ينتخب أصحاب الكفاءة، التي يثبتها حصولهم على الرتبة المناسبة، بعد تصحيح كيفية تحصيل هذه الرتبة، بشكل لا يخضع لمزاجية واستنساب ومصالح القيادات المتعاقبة.
من يراقب ويحاسب المجلس الأعلى؟
تبقى مسألة أخرى لها علاقة بالحوكمة على مستوى القيادة، بعد غياب الزعيم، الذي كان له حق الإشراف والمتابعة وتقييم الأداء والمسائلة والتصويب والتصحيح والمحاسبة للمجلس الأعلى، فمن يقوم بذلك بعد غياب سعاده، وكيف، حتى لا يتحول المجلس الأعلى سلطة لا رقابة عليها ولا ضوابط، وتحديدًا عندما كان هو من يمنح رتبة الأمانة، والأمناء ينتخبون أعضاءه؟
في الثلاثين سنة التي تلت غياب سعاده، والتي تخللتها مصائب كبرى حلت بالحزب، مثل اتهامه باغتيال المالكي واقتلاعه من الشام، أو المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكم فؤاد شهاب البوليسي، وما تلاه من اعتقالات وتعذيب، وبقاء القيادة لقرابة الثماني سنوات في السجن، إلى اندلاع الحرب اللبنانية وما رافقها من مآسي... إضافة إلى انشقاقين داخليين في 1957 و 1974.. في كل هذه المرحلة، تمحور الفكر الدستوري في الحزب حول فكرة الفصل والتوازن بين السلطات. بأن من يراقب المجلس الأعلى وينتخبه ويحاسبه، من خلال الانتخاب هم الأمناء. على أن توازن سلطة الرئيس المنتخب سلطة المجلس الأعلى. فطبق نظام يشبه إلى حد كبير الأنظمة الرئاسية في العالم. وكان للرئيس المنتخب من المجلس الأعلى الكثير من الصلاحيات. حدث الاصطدام الأول للمجلس الأعلى مع الرئيس عبد المسيح في 1954، الذي كان أيضًا الرفيق الأول والأمين الأول والرئيس الأول للحزب بعد سعاده. يومها اتهم عبد المسيح بالتسلط، بدل تقييم المسببات التنظيمية، وليس فقط الجوانب الشخصية. لأن من اتهمه بالتسلّط، قاموا، لاحقًا، بأكثر مما اتهموه به من موبقات.
لم يسلم أي رئيس، تقريبًا، من الاصطدام مع المجلس الأعلى، بسبب تقسيم السلطة واختلال نظام الحوكمة. وبدأ مسلسل التعديلات الدستورية لتقاسم السلطة وتوزيعها بين المجلس الأعلى والرئيس، بحسب الشخص المتوقع انتخابه رئيسًا، والتوازنات في المجلس الأعلى، خصوصًا بعد الانقسامات والفئويات والشروخ الروحية التي حصلت. واحتدمت النقاشات حول ما اذا كان المجلس الأعلى سلطة تشريعية أم سلطة عليا في الحزب، وأن لا أحد يحاسبها.
ومع الوقت تحول النظام الحزبي، إلى نظام أقرب إلى الانظمة البرلمانية منه إلى الأنظمة الرئاسية، من خلال الحد من صلاحيات الرئيس، وتقييده بالعديد من الشروط والموافقات المطلوبة. فبعد أن كان يختار كامل أعضاء مجلس العمد، ويبدلهم ساعة يشاء، إذ من حقه تعيين الفريق الذي يرتاح بالعمل معه، أصبح يقترح أسماء العمد على المجلس الأعلى، الذي يقوم بتعيينهم، أو يعينهم الرئيس، بعد إقرار تعيينهم من قبل المجلس الاعلى.
في ما بعد، أقرت مؤسسة المؤتمر، الذي من المفترض أن يمثل القوميين بطريقة ما، ويعبّر عن إرادتهم. إذ من المفترض أن يكونوا هم مصدر السلطة بعد غياب الزعيم، عندها نشطت المطالبة بأن يكون المؤتمر هو سلطة قرار، أو أن تكون توصياته ملزمة للقيادة التي ينتخبها. لكن باءت المحاولات ت بالفشل حتى الآن، مع أنها تكررت لأكثر من 40 عامًا. واستمر المؤتمر مكانًا لطرح الأفكار والمشاريع والدراسات، وإصدار توصيات غير ملزمة، فاقتصرت مراقبة المجلس الأعلى ومساءلته، على بعض الكلمات في الجلسات العامة، وأحينًا عبر التوصيات غير الملزمة، وبقيت المحاسبة محصورة بالعلمية الانتخابية.
الحوكمة بعد غياب الزعيم
هذا العرض يقودنا إلى البحث مجددًا في صلاحيات سلطة الزعامة، التي توزعت بعد غيابه، بين سلطتين تشريعية وتنفيذية، مع التأثر بالمفهوم الغربي للديمقراطية التمثيلية الليبرالية، التي تحصر دور السلطة التشريعية، بالتشريع الدستوري وسن القوانين بشكل أساسي، وبنسبة أقل، مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية، مع الحرص على فصل السلطات وتوازنها، وإضافة السلطة القضائية كسلطة ثالثة.
كل هذا التخبط حصل نتيجة الغياب المفاجئ، باغتيال الزعيم من قبل الطغمة الحاكمة في لبنان والشام، بتشجيع عدد من الحكام العرب، والحركة الصهيونية والدول الاستعمارية. أضف إلى ذلك ظروف الحزب الصعبة التي مرَّ بها عبر تاريخه، مما حرمه فرصة الاستقرار للتخطيط والتشريع والتنظيم، من أجل ضمان استمرار نظام الحوكمة البديع، الذي ابتكره سعاده قبل سبعين عامًا، من تعريف مفهوم الحوكمة في العالم.
لذلك، لا بد من إجراء أبحاث دستورية وإدارية متخصصة، لدراسة كيفية الانتقال من دستور سعاده، القائم على حكم الفرد المعبر الأوفى، عن الإرادة العامة في الأمة، والذي منحه القوميون سلطة الزعامة الواسعة، من خلال التعاقد الحر معه، كونه الشارع وصاحب الدعوة، وقبلوا به مصدرًا للسلطتين التشريعية والتنفيذية، إلى دستور ما بعد سعاده، حيث حكم القيادة الجماعية، المتمثلة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والعمل على إجراء التعديلات اللازمة بعد غياب سعاده.
فسلطة الزعامة كان لها مراسيم وقرارات وتشاريع كما مرّ سابقًا. والمراسيم هي بطبيعتها تنفيذية، والتشاريع بطبيعتها تشريعية دستورية. أما القرارات فيمكن أن تكون تشريعية (غير دستورية) أم تنفيذية. لذلك يجب أن يعمل عدد من القانونيين في الحزب، على دراسة كافة أنواع قرارات الزعيم وتصنيفها، ومن ثم توزيعها بين الرئيس المنتخب والمجلس الأعلى.
على سبيل المثال، عندما كانت تعرض خطط العمد على الزعيم للإقرار والمناقشة، هل يناقشها الزعيم ويقرها كونه رئيسًا للسلطة التنفيذية؟ أم بصفته رئيسًا للسلطة التشريعية؟ وبالتالي هل تنتقل صلاحية إقرار خطط مجلس العمد، بعد غياب الزعيم، إلى الرئيس أم إلى المجلس الأعلى؟
والزعيم، بصفته مصدرًا للسلطتين التشريعية والتنفيذية، كان لديه صلاحية إصدار مراسيم دستورية، كما هي المراسيم من عدد 1 إلى 7 في الدستور، بصفته التنفيذية مع صلاحيات تشريعية. وهذا حق تعطيه الدساتير في الكثير من الدول، حيث يستطيع رئيس الدولة، بغياب انعقاد السلطة التشريعية، أن يصدر مراسيم تشريعية، أسماها الزعيم في الدستور المراسيم الدستورية. ولو كان الزعيم يستخدم صلاحياته التشريعية، لكان أسماها القوانين الدستورية. لكن التعديلات على الدستور التي أجرتها القيادات والمؤتمرات في وقت لاحق، غيرت اسمها إلى القوانين الدستورية، ربما لأن ثقافة فصل السلطات، لا تحتمل أي دمج بين التنفيذ والتشريع، فيما سلطة الزعامة كانت تجمع السلطتين معًا.
إن التعديلات الدستورية التي حصلت على مدى سبعة عقود، منذ غياب سعاده، لم تستطع أن تقدم نموذجًا دستوريًا متماسكًا، يغطي فراغ غياب الزعيم وسلطته، وتنظم عمل قيادة الحزب وسلطاتها التنفيذية والتشريعية (الدستورية وغير الدستورية)، ولا إلى تسديد ما كان مؤجلًا من قرارات، منها كيفية انتقاء أعضاء المجلس الأعلى، أو حتى كيف تمنح رتبة الأمانة. كل ذلك أدى، مع الوقت، إلى ضرب نظام الحوكمة الدقيق، الذي ابتكره سعاده باكرًا، مما نتج عنه استبداد وتحكّم واستئثار، وصراع على السلطة، وفئويات، وتضارب في المصالح، وضرب للوحدة الروحية على مستوى قيادة الحزب، وساعد على انحسار تدريجي وتآكل متسارع لدور الحزب، بصفته دولة الأمة المصغرة، وأداة توحيدها وبعث نهضتها.
أخيراً، وإضافة إلى الخلل الذي حصل على مستوى القيادة المركزية، فقد فرضت الظروف القاسية التي مر بها الحزب، والاضطهاد غير المسبوق، الذي تعرض له، إلى إهمال مسألة انتخاب لجان المديريات ومجالس المنفذيات وقيامها بدورها، في تقديم المشورة والمتابعة والمساءلة والتصويب، ورفع التقارير التفصيلية عن الواقع، إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية. فاستمر عمل الحزب لعقود من دون رقابة أو محاسبة من قبل الصف الحزبي وممثليه، فغابت مقاييس التقييم وأدواته، وتراجع العمل، وزادت الانتقادات والخلافات.
لذلك لا بد لأي عملية إصلاح وتطوير، أن تأخذ هذه المسائل بعين الاعتبار، وتعيد ترميم نظام الحوكمة الشاملة، الذي ابتدعه سعاده، على كافة مستويات العمل الاداري، لاستعادة الثقة والفعالية والتوازن، ورفع مستوى الأداء، من خلال الاشراف والمتابعة والمساءلة والمحاسبة والتطوير، وتعزيز الشفافية والاستدامة والنمو والعدالة والريادة، وإعادة الاعتبار للكفاءة والعقلية الاخلاقية الجديدة.
لن يحصل ذلك من دون تطبيق الحوكمة من جديد، على مستوى المديريات بتأمين انتخاب لجان وتفعيل دورها، وعلى مستوى المناطق، من خلال إعادة الاعتبار لأهمية دور مجالس المنفذيات، وعلى مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية عبر تحديد دقيق لصلاحيات كل منها، والعلاقة في ما بينها، على قاعدة وحدة الرؤية والخطط والروحية والأهداف، وترسيخ آليات المراقبة والمتابعة والمساءلة والشفافية والتقييم والمحاسبة لكل منها، وتحديد آليات متينة وآمنة لمنح رتبة الأمانة لمستحقيها فقط، وإحداث رتب أخرى وربطها بالوظائف الأساسية في نظام الحزب المركزي التسلسلي، وتصويب وترشيد آليات انبثاق السلطة العليا بشكل يوصل من يستطيع أن يعبّر عن الإرادة العامة للقوميين، بالشكل الأفضل في مرحلة معينة، وتأمين فعالية مؤسسة المؤتمر العام، ودوره المحوري في متابعة ومراقبة ومحاسبة السلطات العليا، من خلال جعل توصياته ملزمة لأية قيادة جديدة. (رسم 3)