اختلف المؤرخون حول الزمن الذي ظهرت فيه جذور الماسونية. فالماسونيون يُرجعون أصل الماسونية إلى نقابة البنّائين، ويسمونهم بالبنّائين الأحرار Free Masons الذين بنوا هيكل سليمان في العام 1012 قبل الميلاد. بينما يذهب أكثر الباحثين الآن إلى أن الماسونية يرجع أصلها إلى النقابات التي ظهرت في بريطانيا منذ القرن الثاني عشر على أثر الفتح النورماندي – وكان أعضاؤها "مسيحيين" مخلصين ولا يقبلون عضواً إلا بعد أن يحلف بالتوراة (!) على أنه سيكون مخلصاً لإخوانه من أعضاء النقابة وأن يتقن عمله وأن يحافظ على الأسرار (1) إلا أنه يعتبر يوم 24 حزيران 1717 م ذا أهمية كبيرة في تاريخ الماسونية لأنه اليوم الذي انتقلت فيه من طورها القديم إلى طور جديد. ففي ذلك اليوم اجتمع في لندن نفر من الماسونيين القدماء وقرروا تأسيس جمعية جديدة تختلف في أهدافها وطبيعة أعضائها عن النقابات القديمة التي كانوا ينتمون إليها.
كانت الماسونية القديمة تضم أعضاء في نقاباتها لا سيما البنّائين. أما الماسونية الحديثة فهي تضم في محافلها كل من يريد الإنتماء إليها بغض النظر عن مهنته أو دينه. يقول مكاريوس: "والماسونية منتشرة انتشاراً يحسدها عليه أعظم الأديان الموجودة التي امتدت في أربعة أقطار الأرض، لان تلك تفرّق في العالم بين الشعوب وبين عابد صنم وكافر وجاهد ومبدع ومخالف، بينما نرى الماسونية فاتحة ذراعيها لقبول أولادها داعية إياهم أخوة... فالماسونية تصلح ما فسد من عقائد الأديان بتعليمها المحبة والتواثق على السراء والضراء". (2) ويقول أيضاً في مجال ترغيب الناس للدخول فيها إنها جمعية غرضها حمل الناس على أن يحب بعضهم بعضاً، وأن يتبعوا الحكمة والفضيلة وممارسة عمل الخير (3). ونلاحظ أيضاً أن الماسونيين تمذهبوا بمذهب العقليين وحاربوا الديانة... إلا أنهم كانوا يدينون بالدين الطبيعي وينكرون الوحي ويعبدون مهندس الكون العظيم، كما يقولون بمذهب التمتع باللذة (4). وإن الدعوة إلى دين جديد يضم في وحدته الناس المنتمين إلى أديان مختلفة ليست جديدة، وهذا ما تتظاهر به كما تتعلق بخلفية الماسونية، كما هي الحال بالنسبة إلى البهائية (5). إن دعوتهم إلى دين عالمي "من شأنها أن تصلح ما فسد من عقائد الأديان" (6) ليست إلا زيف ما تدعي مما تقوم به من أعمال هدّامة. وقد ورد في الدستور الأول الذي وضعه جيمس أندرسن للماسونية الحديثة في عام 1723 قوله: "إن الماسونية القديمة كانت تلزم أعضاءها اعتناق ذلك الدين الذي يتفق عليه جميع الناس تاركين آراءهم الخاصة جانباً". (7) وعليه فالماسونية تتقبل في عضويتها كل شخص بغض النظر عن محتويات دينه، حيث نجد فيها المسيحي واليهودي والمسلم والمجوسي والبوذي والبراهيمي والبهائي وغيرهم. وهنا جاءت مبادؤها الثلاثة المشهورة "الحرية والإخاء والمساواة"، نفس مبادئ الثورة الفرنسية.
حافظ الماسونيون على الكثير من طقوس النقابات القديمة ورموزها، وأضافوا إليها. وهم يستعملونها فيما بينهم، ولكل واحدة منها معنى معين، منها البركار، الزاوية، الأعمدة، الشاقول، المالج، القدوم، الذراع، المثلث، المئزر، الأقمشة الكتانية المصورة التي تمثل هيكل سليمان (ومن الجدير بالذكر أنهم ينظرون إلى هيكل سليمان نظرة احترام يشبه التقديس باعتباره أول بناء ضخم أقيم لعبادة الله الذي يسمونه "مهندس الكون العظيم"). وهم يحترمون كذلك رجلاً من أهل صور القديمة اسمه "حيرام أبي"، فقد كان هذا الرجل يتقن صنعة النحاس وقد استخدمه سليمان في زخرفة هيكله كما ورد في التوراة. ولهذا يطلق الماسونيون على أنفسهم كنية "أبناء الأرملة" إشارة إلى حيرام الذي وصفته بأنه كان ابن أرملة. (8). والشخص الذي يبوح بالأسرار يقع "تحت طائلة العقاب واقتلاع اللسان وتمزيق القلب وكل ذلك حتى أدفن في أعماق البحر ويحرق جسمي ويحوّل إلى رماد ينثر في الهواء". (9) وهذا جزء من القسم الذي يحلفه الشخص عند دخوله للماسونية.
إن العضو في أي محفل ماسوني يستطيع أن يطلب المساعدة من جميع الماسونيين في العالم. وهناك إشارات سرية يتعارفون بها في أي مكان يتلاقون فيه، وهي على أنواع فمنها ما هو خاص بالمصافحة وللتعارف من قريب وآخر للإستغاثة من بعيد وغيرها. والمظنون أنها تتبدل بين حين وآخر لكي لا يكتشفها الغريب فيستفيد منها. كما وأن هذه الإشارات والأسرار لا يعرفها كل الأعضاء، بل أن العضو كلما ارتفع في الدرجات الماسونية زاد اطلاعه على أسرارها وانكشفت له شيئاً فشيئاً إلى أن يصل أعلى الدرجات فتنكشف له جميع الأسرار (10).
يقدر عدد المحافل الماسونية في العالم، حسبما ورد في دائرة المعارف الدولية لعام 1964، بأثنين وثلاثين ألف محفل. ويقدر عدد أعضائها ما بين الخمسة والستة ملايين (11). وليس للماسونية مركز عالمي عام لكن لها محافل رئيسة مستقل بعضها عن بعض. ولكل محفل رئيسي محافل اعتيادية تابعة له ويسمى المحفل الرئيسي أو "المحفل الأكبر" أو "الشرق السامي". وإذا أسست مثل هذه المحافل في أحد الأقطار وجب الحصول على اعتراف المحافل الرئيسة من الأقطار الأخرى بها. كما للماسونية درجات تقدر بـ "33 درجة" (12) إلا أن لها ثلاث درجات أساسية موجودة في كل المحافل تقريباً وهي: المبتدئ والزميل والأستاذ. ثم أضيفت بعدئذ درجات أخرى عالية، وهي تختلف بأختلاف الطرائق المتبعة. ولهذا انتشرت الماسونية بعد ظهورها في بريطانيا بفترة وجيزة في أوروبا وأميركا بسرعة، فتأسست المحافل الماسونية في مونس في بلجيكا سنة 1721، وفي باريس سنة 1726، وفي روسيا وأميركا والهند والبنغال وجبل طارق 1731، وفي فلورنسا 1733، وفي روما ولشبونة 1735، وفي بولونيا وكوبنهاغن 1743. (13)
العالم العربي
في مصر وسورية كانت المحافل الماسونية الفرنسية والإيطالية والإنكليزية تعمل جنباً إلى جنب في مختلف المدن الرئيسية (14). لذلك نجد أن مصر التي تعرضت للإحتلال الأوروبي في نهاية القرن الثامن عشر (حملة نابليون) أسبق الأقطار العربية التي أسس المحتلون فيها محفلاً ماسونياً. أما بداية الماسونية في مصر فنجدها في سنة 1830 حيث أسس الإيطاليون الساكنون في الإسكندرية محفلاُ تابعاً للمحفل الأكبر الإسكتلندي ثم صارت المحافل بعد ذلك تؤسس واحداً بعد الآخر.
وليس أدل على خدمة المحافل الماسونية للمصالح الاستعمارية مما أدلى به القائد العام الإنكليزي الجنرال ولسي الذي قضى على انتفاضة عرابي باشا، واحتل مصر في عام 1882 حيث قال في محفل ماسوني: "إني استسهلت الصعب وسخرت بالأهوال في كل البلاد لأنني حيث توجهت كنت ألقى إخواناً من الماسون يرحبون بي ويساعدونني على ما أريد. ولست أرتاب في أن نجاحي كان لأنني أستاذ في الماسونية". (15)
ومن بين المنتمين إلى المحافل الماسونية في مصر: إدريس بك راغب الذي انتخب رئيساً أعظم للمحفل الأكبر الوطني المصري وهو على الطريقة الإسكتلندية والذي تأسس في 8 أيار سنة 1876 واعترفت به المحافل الكبرى في العالم ومنح سلطة إعطاء الدرجات العالية للأعضاء، كما منح سلطة تكريس المحافل الاعتيادية التابعة له. (16) "وكان إدريس بك راغب، رئيس المحفل المصري الأعظم والذي يقال إنه معترف به من قبل المحفل الإسكتلندي الأعظم، والمؤسس والمهيمن على عدد من المحافل الماسونية في مصر وسورية وفلسطين ولبنان". (17) "كما عُيّن محمد فريد الزعيم الوطني المصري ممثلاً في مصر لمحفل الشرق العثماني الأعظم". (18) أما جمال الدين الأفغاني فقد كان انتماؤه إلى الماسونية في القاهرة في أواخر أيار من عام 1875 حيث لا تزال ورقة طلبه للانتماء إلى الماسونية محفوظة في مكتبة البرلمان الإيراني وهي مكتوبة بخط يده... إلى أن أصبح المهيمن على أحد المحافل الماسونية، ثم تأسس محفل ماسوني برئاسته. (19) وكذلك محمد عبده، الذي خرج منها بعد اتضاح أهدافها الهدامة تاركاً فرنسا وأستاذه جمال الدين الأفغاني...
أما في العراق فقد تم تأسيس أول محفل ماسوني في عام 1919 من الحكام والضباط الإنكليز، فكان المنتمون إليه في العهد الملكي من الوزراء والأعيان وكبار موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين ورؤساء العشائر وكبار العقاريين والرأسماليين وذوي التطلعات البرجوازية وشخصيات علمية ودينية وأدبية.
وفي بيروت قام أول محفل ماسوني في سنة 1862 تحت رعاية الشرق الأعظم الإسكتلندي بشرق فلسطين نمرة 415 وترأسه قنصل إنكلترا. وقد توقف عام 1868، فتأسس بعد سنة (1869) محفل ماسوني آخر ولكنه تحت رعاية الشرق الأعظم الفرنساوي. وجدّد المحفل الإنكليزي الإسكتلندي ترخيصه عام 1888. (20)
أما في فلسطين "وعلى الرغم من أن فلسطين – لإعادة بناء هيكل سليمان فيها – هي هدف الماسونية، فقد جاء تأسيس المحافل فيها متأخراً إذ قام فيها أول محفل سنة 1873، وهو محفل سليمان الملوكي الأساسي نمرة 293". (21)
وفي سورية انتشرت الماسونية في القرن التاسع عشر وانضم إليها العديد من السوريين. وكان للأمير عبد القادر الجزائري دور مهم في انتشارها، وظل هو وأحفاده يحتلون المراتب العليا في السلم الماسوني.
وكانت معظم المحافل الماسونية في سوريا ترتبط بالشرق الأعظم الإيطالي، بالإضافة إلى محافل ماسونية سورية ترتبط بالمحافل الماسونية الإنكليزية والفرنسية عن طريق مصر ولبنان. (22)
مصادر البحث