في مجتمعنا ثقافات زائفة تسري في دورة حياته الإجتماعية والسياسية والروحية تحاول إحتلال عقول الناس وإخضاعها فيسيرون بإتجاهات سلبية ومتناقضة تصب كلها، في نهاية المطاف، في تعطيل وحدة الحياة المجتمعية لما تخلقه من حواجز نفسية ومادية وتؤدي بهذا المجتمع إلى إنهاكه وتفكيك الروابط بين مكوّناته البشرية وتفتيته إلى كيانات هزيلة ومعتقلات مذهبية متصارعة ومرتبطة بإرادات خارجية تتلقى منها الدعم والحماية والرعاية ولكن هذه الإرادت الخارجية لا تقدم لها شيئاً مجاناً لأن لها خططها ومصالحها ومنافعها ولها تحالفاتها وأحلافها ومشاريعها الإستعمارية الهادفة للسيطرة على ثروات الشعوب ومواردها واستغلالها...
ومثالاً عن الثقافات الزائفة الرائجة في مجتمعنا الداخلي نجد مايلي:
أولاً، ثقافة الإنهزام وإنعدام الثقة بالنفس وقتل المعنويات، وثقافة التيئيس من خلال تجويع الناس ودفعهم للهجرة او الخضوع لإرادات القيادات الطائفية والإستزلام لها، وثقافة التبعية والإرتهان للخارج، وثقافة التزييف والتزوير والتربية الزائفة القائمة على إنكار الحقائق الإجتماعية والتاريخية، وثقافة التكاذب والنفاق وإنحدار القيم والأخلاق، وإلى ما هنالك من ثقافات إنحطاطية مدمّرة تعرقل تقدم المجتمع وتقتل معنوياته وتقيم الحواجز الروحية والإجتماعية – الحقوقية بين أبناء الشعب الواحد..
ثانياً، إن أكثر الثقافات الزائفة إنتشاراً هي ثقافة التعصب الديني الأعمى، ثقافة النبذ والإقصاء والكراهية المعادية للتنوع والإنفتاح وللتفاعل الإجتماعي والتقدم الإنساني.. هذه الثقافة البدائية السّامة، تسترخص دم الإنسان وتؤلِّه العنف والإرهاب وتشّوه النفس الإنسانية الجميلة.. إنها ثقافة القتل والموت التي رأينا مظاهرها في الإرتكابات الفظيعة التي قامت بها الجماعات الإرهابية - التدميرية.. انها ثقافة منشغلة دائماً بصناعة الموت ومستغلة كل الوسائل لتدّمير وحدة مجتمعنا وتفتيته إلى كيانات وإمارات مذهبية وأثنية تشرعن قيام الدولة اليهودية وتتنافس فيما بينها على خدمة التحالف الأميركاني- الصهيوني والإنصياع إلى إملاءاته..
هذه الثقافة القبلية، العنفية، الحاقدة، التي تسربت إلى مجتمعنا بتخطيط صهيوني ممنهج ومدروس شاهدنا أولى تجلياتها في مجازر عديدة أرتكبت خلال الحرب اللبنانية المؤلمة وشاهدنا تجلياتها ايضاً في السنوات الأخيرة في أحداث وعمليات تخريبية وإنتحارية في لبنان وفي أفعال إجرامية متعددة. ِ..
ثالثاً، تنتشر في مجتمعنا ايضاً ثقافة الغزو الثقافي-الفكري الممهد للتطبيع مع العدو في كل الساحات والميادين..، وهذه الثقافة، التي ترّوج لها أبواق وأقلام إعلامية صفراء مدفوعة من دوائر عالمية ودول إستعمارية ومن أنظمة عربية مهرولة للتطبيع مع العدو، غايتها تعطيل ذاكرتنا القومية وتكبيل وعينا وإدخال اليأس في نفوسنا فنجد أنفسنا مجبرين للقبول بصفقة القرن ومندرجاتها والسكوت عن جرائم العدو ونسيان المسألة الفلسطينية والإعتراف بالإغتصاب الجاثم على أرضنا وبوجود دولته المارقة -المصطنعة التي تمارس أبشع جرائم القتل والتنكيل بشعبنا الفلسطيني ومصادرة أراضيه وبناء المستوطنات وتهويد الأرض والتوسع المستمر.. وبالنهاية سنجد أنفسنا خاضعين لإرادة هذه الدولة ولمشيئتها.
رابعاً، ومثال آخر عن الثقافات الزائفة يتجّسدُ بالتخبّط السياسي والفوضى السائدة في كل الأعمال والخطط، وبظاهرة الفساد الإداري والمالي والسياسي والأخلاقي المستشري في القطاع العام: في بنى الدولة ومؤسساتها على كل المستويات، وفي القطاع الخاص، والتي تشكل ضرراً كبيراً في حياة المجتمع وعائقاً لإنمائه وتقدمه وحاجزاً منيعاً امام طموحات الشعب في الحياة الكريمة اللائقة. وهذه الظاهرة المنتشرة، والمتعددة المظاهر، وما نتج عنها من نهب لأموال الدولة والشعب ومن إفلاس مالي ومصرفي وإنهيار إقتصادي، وإنحرافات إدارية ووظيفية وسلوكية وخرق للأعراف والضوابط والقوانين، وتراخي وتكاسل وتقصير وإستهتار وسلبية في مختلف المسؤوليات والوظائف، وانتشار الرشاوى والعمولات والمحسوبيات وإستغلال لمواقع السلطة وتلاعب بالقوانين لتحقيق مآرب شخصية وطائفية على حساب المصلحة العامة، وما أدت إليه من كوارث إجتماعية وإنسانية، ربما لن يكون آخرها الزلزال الهائل المدّمر الذي ضرب مرفأ بيروت وأدى إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة، هذه الظاهرة التي أفسجت المجال لطبقة من السياسيين لتسخير البلاد والعباد خدمة لمصالحها ومنافعها، دمّرت الدولة ومؤسساتها وأفقرت الشعب وأنتجت كثيراً من القبائح والأضرار والشرور وأودت بنا إلى انحطاط ومديونية وعبودية قد نحتاج لزمن طويل لكي نستعيد عافيتنا وننهض من هذه الهاوية العميقة.
فإلى متى سيبقى مجتمعنا يتخبط بهذه الثقافات وبقضايا الرجعية المتجددة في الأحزاب الطائفية الفاسدة وبتناقضاتها وآفاتها المذلَّة للشعب، والسائرة به إلى الشر والهلاك النهائي؟
إلى متى سيبقى مجتمعنا فاقداً لثقافة حكم القانون على الصيعدين الرسمي والشعبي ومفتقراً لفعالية القواعد القانونية التي يجب تطبيقها في مساءلة الحاكم وتقييم عمله؟ فالفساد لا ينتشر إلا في غياب حكم القانون وضعف الأجهزة التي تتولى تطبيقه. فلكي نقضي على ثقافة الفساد وغيرها من الثقافات الزائفة، علينا العمل على بناء القضاء المستقل وترسيخ ثقافة النزاهة والشفافية والمساءلة وحكم القانون وتطبيق القوانين بفعالية، والتي هي أضمن الوسائل للقضاء على الفساد.
إلى متى ستصمُّ الطبقة الحاكمة آذانها عن دعوات الإصلاح الجوهري في هذا النظام الطائفي القائم على التوافق في توزيع المكاسب السياسية والمنافع الإقتصادية على أمراء الطوائف وعشائرهم؟
المطلوب، وبإلحاح، إجراء إصلاحات جوهرية، حقيقية، تؤدي لبناءِ الدولةِ الديمقراطيةِ العصرية وتقود إلى توحيد الشعبَ على أساسِ الإنتماءِ لمجتمعٍ واحدٍ.. وإحدى أدوات التغيير هي إيجادِ المؤسساتِ اللاطائفيةِ الديمقراطية التي تقوم بوظائفها في خدمة الشعب ورعاية مصالحه والتي تهتم ببناء المواطن الصالح وبتربية الأجيالَ الصاعدةَ وترعاها فتغرسُ فيها قيم الأخاءِ القوميِّ والولاءِ للوطنِ والدفاعِ عنه.
ما نحتاج إليه هو ثقافة جديدة لإنقاذ المجتمعِ والدولة من المخاطر والأضرار الداخلية المتفاقمة.. فلا إنقاذ إلا بعقلية أخلاقية جديدة، بحركة وعي وثقافة مجتمعية تعلن الحرب على أوبئة الفسادِ والفوضى والغشِ والحزبياتِ الدينيةِ والتشكيلاتِ السياسيةِ القائمةِ على القضايا الخصوصيةِ الفاسدةِ والعقائدِ الزائفةِ والمبادىءِ اللاقوميةِ المُنتحَلَةِ وعلى خدمةِ المصالحِ الأجنبيةِ المرتبطةِ بها...