عالم يسير نحو الهاوية
العالم يسير نحو كارثة حقيقية بسبب السياسات الإمبريالية المتوحشة والتي لا ضوابط أخلاقية وإنسانية لها، ولا حدود لجشعها وأطماعها. ثمة أخطار متنوعة كل خطر منها يهدّد مستقبل البشر وحياتهم.
يشير إدغار موران في كتابه "هل نسير إلى الهاوية" إلى خطورة إنتاج الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، الكيماوية والبيولوجية، الواسعة الإنتشار. وكيف تسبّب التقدم الصناعي في مسلسل من التدهور في المحيط الحيوي. وكيف خلقت عولمة السوق الاقتصادية المفتقرة إلى تقنين خارجي وإلى تقنين ذاتي حقيقي، جزراً جديدة من الثراء، و مناطق متنامية من الفقر . وكانت ولا تزال كذلك سبباً في خلق أزمات لا تفتأ في تناسل، وتسير في اتساع واستشراء حتى باتت تهدد بالفوضى والسديم. وقد صارت أشكال التطور الواقعة في العلوم والتقنيات والصناعة والاقتصاد، وهي المحرك اليوم للمركبة الفضائية الأرض، لا يحكمها شيء من سياسة ولا أخلاق ولا فكر.
ويشير أيضا إلى استشراء الحروب في الأرض وباتت تغلب على معظمها الأسباب والدوافع العرقية والدينية. وأصبحت الجريمة المافيوزية ممارسة جارية في سائر أنحاء المعمور. وبات قانون الإنتقام بديلا عن قانون العدالة الحقة.(موران 2012 ترجمة، 11-12)
بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة الأميركية قطباً وحيدا مهيمنا في العالم، زادت الأزمات والمشاكل الاقتصادية والمالية في العالم، وزادت وتيرة الحروب وأعمال العنف والإرهاب.
وتبيّن أن النظم الديمقراطية الغربية وعلى رأسها النظام الأميركي ليست أفضل من النظم الشيوعية المنهارة ولا تشكل بديلا صالحا لتطلعات الشعوب وليست صالحة حتى لشعوبها وإن كانت بوضع أفضل بسبب نهب ثروات الشعوب وخيراتها. لقد تبيّن أن هذه الديمقراطيات تعاني من انحراف خطير وخلل كبير بسبب سيطرة الشركات الاقتصادية والمالية الكبرى المهيمنة على اللعبة السياسية والقرار السياسي الذي يعمل لمصلحتها هي وليس لمصلحة شعوبها.
هذه الديمقراطية هي ديمقراطية القلّة وليست ديمقراطية الشعب الذي يغيب قسم كبير منه عن هذه العملية، و معظم القسم المتبقي يجري تضليله، من خلال السيطرة الإعلامية لهذه الشركات وتلاعبها بعقول الناس.
لم يعد هذا النظام مقنعا حتى للمدافعين عنه، يقول بريجنسكي في كتاب رؤية استراتيجية:" كادت كارثة 2008 المالية أن تطلق ركودا اقتصاديا مرعبا، دافعة أمريكا، ومعها جزء كبير من الغرب، إلى اعتراف مفاجىء بهشاشة نظامها أمام الجشع السائب بلا ضوابط. يضاف إلى ذلك أن قدرا محيّرا من المزاوجة بين الليبرالية الاقتصادية ورأسمالية الدولة أظهر في كل من الصين وعدد من الدول الآسيوية الأخرى، قدرة مدهشة على النمو الاقتصادي والتجديد التكنولوجي. وهذا بدوره ما فتىء أن أثار قلقا جديدا حول مستقبل مكانة أمريكا بوصفها القوة العالمية الرائدة. ثمة بالفعل عدد غير قليل من أوجه الشبه الباعثة على الذعر بين الاتحاد السوفياتي قبيل سقوطه وأمريكا في السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين. “
ويقول أن على أمريكا أن تجدد نفسها وتبادر إلى اعتماد رؤية جيواستراتيجية شاملة وطويلة المدى.
(زبيغنيو 2012 تموز ترجمة، 12-13)
توزيع الثروة عالميا
التفاوت الحالي في توزيع الثروات بين المجتمعات أو داخلها هو الأكبر والأخطر في تاريخ البشرية.
1٪ ينالون43 ٪ من الثروة العالمية، فيما ينال80٪ من الناس 6٪
300 شخص، من كبار أغنياء العالم يملكون من الثروة العالمية قدر ما يملكه 3 مليارات نسمة
منذ 200 سنة، كانت البلدان الغنية أغنى من البلدان الفقيرة بثلاثة أضعاف، وفي حقبة ما بعد التحرر من الإستعمار في الستينات صار الفارق 35 ضعفا، وهو الآن 80 ضعفا.
يقدّم العالم الغني للعالم الفقير 130 مليار دولار سنويا على شكل مساعدات من أجل "تنميته"
لكن العالم الغني يتلقى سنويا من العالم الفقير 2 تريليون دولار بثلاثة طرق رئيسة:
900 مليار عائدات الشركات العابرة للجنسيات، بواسطة شكل من التحايل على دفع الضرائب يسمّى سوء تسعير تجاري.
600 مليار خدمة ديون.
يخسر العالم الفقير 500 مليار دولار سنويا للعالم الغني بسبب علاقات التبادل التجاري غير المتكافئة بينهما
(الإحصائيات من إعداد جيسون هيكل، الأستاذ في كلية لندن للإقتصاد، بناء على إحصائيات الأمم المتحدة) (عامر 2-5-2014)
لا أحد يستطيع إحتكار المعرفة ولا القوة وهنا مكمن الخطورة في استمرار الظلم وغياب العدالة.
إذا لم يتغيّر هذا المسار فالبشرية إلى الفناء أو العودة إلى ما قبل العصر الحجري.
ولادة مصطلح جيوبوليتيك
التغيرات في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي أواخر القرن التاسع عشر. إنتقال من الرأسمالية الصناعية القديمة من الإعتماد على البخار والفحم والحديد، إلى الإعتماد على الغاز والنفط والكهرباء.
هذا الإنتقال غيّر من القواعد الأساسية التي عمل بها الإقتصاد العالمي وحلت أميركا محل بريطانيا في السيطرة الإقتصادية العالمية بنهاية القرن التاسع عشر. (دودز واتكنسون 2010 ترجمة، ص54)
في الحرب العالمية الأولى كانت المصانع الأميركية تنتج ثلث السلع الصناعية في العالم وهي مكانة لم تحققها سوى بريطانيا قبل أربعين سنة فقط من ذلك التاريخ. ويبدو أن هذه التغيّرات كانت تنذر بتحولات مماثلة في الوضع السياسي العالمي حيث ، أن الولايات المتحدة كانت قوة برية تغطي ما يقرب من قارة بأكملها، وتتمتع بطرق برية وسكك حديدية تربط مدنا كبرى على الساحلين الأطلنطي والهادىء، وهذا يشير إلى علاقة جديدة بين الموقع وسياسة الدولة، والتي كانت تختلف تماماً عن وضع العالم الأوروبي التقليدي. فذلك النظام القديم كان يتضمن دولاً أوروبية صغيرة نسبياً ذات إمبراطوريات على نطاق واسع ويجمع بينها روابط هشة من التجارة البحرية. ويعتقد كثيرون أن المستقبل سيسوده ثلاث أو أربع دول إتحادية كبيرة المساحة (مثل الولايات المتحدة) يمكن أن تظهر في آسيا وأفريقيا وأوروبا ذاتها. هذا هو السياق الذي ولدت فيه الجيوبوليتيكا أي في عصر تغيّر إقتصادي عالمي جوهري له مضامين سياسية على نفس المستوى. هذا التصور للمستقبل أثار الخوف والتوتر وعدم اليقين. كنوع من الفزع الجيوبوليتيكي. خاصة في أوروبا التي قام فيها جيل كامل من السياسيين والدبلوماسيين والمفكرين بتكريس معظم طاقاته لإبتكار استراتيجيات تتكيف مع هذا الإنهيار المروع لنظامهم العالمي الموروث. (دودز واتكنسون 2010 ترجمة، ص55)
في السنة الأخيرة من القرن التاسع عشر، صاغ رودولف كيلين العالم السياسي السويدي مصطلح جيوبوليتيكا. وأصبح المصطلح مجالاً جديداً للدراسة، حيث قدم آفاق فهم الدول القومية بالعالم وحدودها وقدراتها الإقليمية وعلاقاتها بالدول الأخرى. (دودز واتكنسون 2010 ترجمة، ص53)
الهدف من هذا الميدان الجديد هو الكشف عن العلاقات المعقدة بين الجغرافيا والسياسة على عدة نطاقات مكانية من المحلية إلى العالمية.
النظريات الجيوبوليتيكية والإستعمار
ظهر الفكر الجيوبوليتيكي مع نهاية القرن التاسع عشر عندما حاول الجغرافيون وغيرهم من المفكرين تحليل وتفسير وفهم التحولات والفضاءات المحددة للعالم عند نهاية قرن. ارتبطت الجيوبوليتيكا بهذا الشكل بعناصر الجغرافيا الأخرى التي شكلت أساس الإمبريالية الغربية في تلك الفترة. وبالرغم من رفض البعض لمصطلح الجيوبوليتيك وربطه بالتوسع النازي، فقد استمرت الدراسات حوله في الدول الغربية لتحقيق الأهداف الاستعمارية وتحقيق التفوق والهيمنة. و يتوزع رواد الجيوبوليتيك على معظم البلدان الغربية : من ألمانيا، فريديريك راتزل 1844-1904 وكارل هوسهوفر 1869-1946. من بريطانيا، هلفورد جون ماكيندر 1861-1947 . من أميركا ألفرد ماهان 1840-1914 ......
لا يمكن إنكار تأثير العوامل الجغرافية على السياسة، وكذلك لا يمكن إنكار دور التنازع والصراع في حياة الكائنات عموماً والبشر خصوصاً حيث يمتلىء تاريخهم بالحروب والصراعات والفتن، وحيث يبدو السلام والإستقرار لحظات خاطفة.
ينطلق الفكر الجيوبوليتيكي من التسليم بأن الحياة هي صراع. ومن سيطرة العدائية بين البشر، وذلك في سباق من أجل المتعة والسلطة و الشهرة، مما يؤدي إلى الصراع الدائم، وأزمات بدون توقف، تتكرر بإستمرار .
المهمة الأولى من الجغرافيا السياسية أو الجيوبوليتيك هي تسليط الضوء على أصول الصراعات و دوافع الفاعلين الدوليين .
ثلاثة مصادر عميقة للصراعات:
- النضال من أجل السيطرة على الموارد
- النضال من أجل السيطرة على المناطق الجغرافية
- النضال من أجل الهيمنة الإيديولوجية والعرقية و / أو وطنية
النضال من أجل المناطق الجغرافية مطلوب من أجل الوصول إلى الموارد. ( ص25-Jaquier 2005)
على سبيل المثال ، السيطرة على المضائق: مضيق هرمز ، مضيق سوندا ، مضيق لومبوك ، مضيق مضيق ملقا، باب المندب ، ومضيق جبل طارق )، والقنوات ( قناة السويس، قناة بنما ) وطرق شحن النفط الرئيسية. في مثال آخر، والصراع من أجل السيطرة على بعض المناطق في الشرق الأوسط مما يتيح السيطرة على التحكم في الموارد المائية،الإحتلال الإسرائيلي للجولان والضفة الغربية إضافة إلى اغتصاب فلسطين . والسيطرة التركية على مصادر دجلة والفرات، من خلال إحتلالها الأراضي السورية في كيليكية والإسكندرون.
الصراع من أجل الهيمنة الإيديولوجية، قد تكون عرقية أو دينية أو غير ذلك.
ولذلك يجري فرض الهوية الجماعية ، بحماس من قبل أعضاء مجموعة إجتماعية على الآخرين.
منذ حوالي الخمسة قرون إندفع الغرب، بعد إمتلاكه عناصر القوة المادية والعلمية والفكرية، في سلسلة من الحروب الإستعمارية ضد مختلف الشعوب خارج أوروبا حيث أخضعها لسلطانه ومشيئته فترة طويلة من الزمن، واستطاع أن يستتبع قسماً كبيراً منها ثقافياً وإقتصادياً ولا تزال تأثيراته قائمة. إضافة إلى حروب الإستعمار قامت حروب التطاحن الإستعماري بين الدول الغربية ذاتها، مما أدى إلى حربين عالميتين، راح ضحيته من الأوروبيين أنفسهم أكثر من 100 مليون إنسان. وقد شكّلت هذه الحروب خيبة أمل لدى معظم الشعوب بإمكانية تحقيق التقدم والرفاه والحياة بأمن واستقرار.
وشكلت الحرب الباردة بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية قلقاً دائماً بسبب الخوف من إحتمال حصول مواجهة نووية قد تودي بالجميع.
بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي وتفرّد أميركا في الهيمنة، تضاعفت خيبات الشعوب من السياسات الأميركية ونتائجها الكارثية على شعبها وعلى العالم.
بعد تدخّل أميركا العسكري المباشر في حربها على أفغانستان والعراق، إنتقلت إلى الحرب بالواسطة من خلال دعمها المباشر وغير المباشر للتنظميات الدينية التكفيرية وغيرها من التنظيمات والشخصيات المرتبطة بها، بهدف تدمير المجتمعات والدول، وشلّ أي قدرة وإمكانية يمكن أن تقاوم الآن أو في المستقبل المشروع الأميركي الصهيوني.
من الثورات البرتقالية في دول أوروبا الشرقية إلى ثورات الربيع العربي المزعوم، تظهر الحرب الأميركية على سورية والعالم العربي إستخداماً لتقنيات جديدة في الأساليب الإستعمارية.
في حربها المستمرة ضد سورية، توقظ أميركا الغرائز البدائية المتوحشة وتدفع التنظيمات التكفيرية، التي درّبتها ومولتها، وبمال العرب والمسلمين وبدمائهم تنفّذ مخططاتها الإجرامية ضد العرب والمسلمين.
إن مخاطر السياسات الأميركية تهدّد كل شعوب العالم وتهدّد في الوقت عينه الشعب الأميركي قبل غيره.
تنبع هذه السياسة من الفلسفة المادية للرأسمالية التي تتجاهل الواقع الحقيقي لوحدة المجتمع بكل مكوناته وتتغاضى عن حق كل فرد من أفراده بنصيب عادل من الإنتاج. وفي عولمتها وعالميتها تتجاهل حقيقة وجود الأمم الأخرى وحق كل أمة في خيرات بلادها، فتعمل جاهدة على إستعمار هذه الأمم مباشرة أو مداورة لنهب ثرواتها وإستغلال خيراتها وشعوبها. إن القيم الفردية المتفشية في الثقافة الغربية هي مصدر للتعاسة والبؤس، ونتائجها ظاهرة عند غالبية الناس في البلدان الغربية الذين لم تعوضهم مظاهر الغنى المادي عن المشاعر السلبية وفقدان المعنى.
رفض سعادة الفلسفة المادية للرأسمالية والشيوعية الطبقية، كما رفض الفلسفة الروحية للفاشية والنازية العنصريتين، وإعتبرها فلسفات جزئية خصوصية وأنانية لا تجلب سوى الخراب والدمار على العالم. هي فلسفات جزئية لأنها لا تنطلق من الوجود الإنساني الحقيقي، ومن الحقيقة الكلية التي هي المجتمع–الأمة. وإنما تنطلق من نظرة جزئية هي: الطبقة الرأسمالية أو العمالية، العرق والوهم الكاذب بالنقاء والتفوق العرقي.
مع تأكيده على الصراع لتثبيت الحق القومي في معترك الأمم، يشير سعادة إلى مبدأ التعاون الذي يجب أن يسود ضمن المجتمع كما بين المجتمعات.
بديلاً عن التصادم الذي يؤدي إلى دمار المجتمع، يؤكد سعادة على التعاون الإجتماعي الذي هو الطريقة الأساسية لحفظ حياة المجتمع وشخصيته وتأهيله للتقدم في مراقي العمران والتمدن. ص124 سعادة2
وعلى المستوى الإنساني يرى أن "السلام الحقيقي الثابت لا يتم إلا على أساس إعتراف كل من الفريقين المتحاربين لشعوب العالم الحرة بحق الحياة كشعوب حرة وليس كشعوب مستعبدة، ويدخل في ذلك عدم الإستعباد الإقتصادي." (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الرابع 1940-1941، 2001، صفحة 148)
التصادم هوفعل غرائزي لا يلبي الحاجات والمصالح الحقيقية للفرد ولا للجماعة أو المجتمع.
التعاون فعل عقلاني ينبع من الفكر والتفكير الإنساني الذي ينظر إلى النتائج البعيدة التي ستحصل لكل المتعاونين .
يقول ريتشارد داوكينز عالم البيولوجيا الشهير في كتابه "الجينة الأنانية"
الأنانية المطبوعة بإنعدام الشفقة هي ميزة طاغية يتوقع توافرها لدى الجينة الناجحة. لكن ظروفا خاصة تتجلّى وتسمح للجينة بأن تحقق أهدافها الأنانية على نحو أفضل من خلال تعزيز شكل محدود من أشكال الإيثار على مستوى الحيوانات الفردية. (ريتشارد 2009 ترجمة، ص11)
إذا كنا نجد الإيثار وتخطي الأنانية على مستوى الحيوانات الفردية، فما هو الحال عند الإنسان الذي هو كائن إجتماعي ويتميّز بالعقل والفكر.
التضامن العائلي هو تجاوز للأنا الفردية والتضامن المذهبي أو الديني أو القومي هو أيضا تجاوز للأنا الفردية. يبقى أن التضامن القومي المعبّر عنه بالوجدان القومي هو المرتبة الأرقى لأنها تنطلق من الواقع الإجتماعي ومن حقيقة وحدة المصالح لكل أبناء المجتمع، هذه النظرة التي تتجاوز العصبيات والأوهام المرتبطة بها والتي لا تعكس المصالح الحقيقية للناس.
التصادم بين غريزة وغريزة يؤدي إلى تراجع وإنحطاط، ( صدام المصالح الشخصية والفئوية من خلال العصبيات الدموية العرقية والقبلية، والتعصب الديني والطائفي والمذهبي).
الصراع بين غريزة وفكر يؤدي إلى إنتصار الفكر، والصراع بين فكر وفكر يؤدي إلى التقدم والتطور من خلال الحوار والنقد العقلاني لما هو أفضل لخير المجتمع، وبدلا من قتل الإنسان تموت الفكرة غير الصالحة لمصلحة الفكر الأرقى.
تلعب التربية الدور الأساس في إنتقال الفرد من كائن أناني إلى كائن غيري إيثاري.
تعلمه التربية أن مصلحته الحقيقية تتأمن بطريقة أفضل من خلال الشعور بمصالح الجماعة وإعتبارها جزءاً من مصلحته. نربي أولادنا على التضامن العائلي أو الطائفي ورغم بقاء الأنانية الفردية إلا أن الإتجاه الذي يسود هو الإتجاه الغيري بحكم التربية والقيم الإجتماعية السائدة التي تنظر إلى الأنانية الفردية بازدراء.
ماذا يكون الحال لو نربي أولادنا على الوجدان القومي الذي يعتبر أن مصلحة المجتمع هي أساس مصلحة الفرد وأن أبناء المجتمع متساوون لا فرق بين أتباع دين وآخر ولا بين جماعة وأخرى أن مصالح الحياة هي واحدة وتخص الجميع .
نتيجة التحولات الكبرى والأزمات العاصفة ترتفع شعارات تشكل إرتداداً إلى ماض حقيقي أو متخيّل.
العودة إلى الطبيعة، شعار ترفعه بعض الحركات الإجتماعية نتيجة التغيّرات الكبرى الحاصلة في النظام الإجتماعي، ويظهر هذا الشعار من حين لآخر عند التغيّرات الحادة. فقد ظهر في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين ويظهر مع مطلع القرن الواحد والعشرين.
وتنتشر مع هذه الحركات دعوات إلى مبادىء اللذة الفردية والمنفعة والتهتك والإستهتار.
في تحليل سعادة المقارن بين عصر الفيلسوف السوري زينون الرواقي وبين عصره، يقول:
ظهر زينون في أزمة من أزمات التاريخ الحرجة فوجد جيلاً متضعضعا في روحيته وعقائده وكان زينون رسالة خلاص لذلك الجيل ولأجيال عديدة تلت. كانت حضارة المتوسط القديمة، المتركزة في دولة المدينة، على وشك الإنهيار بعد أن تصدع بناء النظام السياسي لدول المدن، وبدأ ظل الإمبراطورية العالمية يمتد على العالم.
لم يكن للإمبراطورية الناشئة أن تحل محل الرابط الإجتماعي في مجتمع المدينة الصغير، ولذلك ضعف رابط الإجتماعية في الأفراد، بعد تضعضع الأنظمة المحلية، واتصل أثر هذا التغيّر الفجائي بالفلسفة فإنحطت إلى جماعات وفرق تسعى كل منها إلى سعادة الفرد واستغنائه دون ما نظر إلى المجموع. وكان من هذه الفرق الأبيقوريين الذين جعلوا اللذة هدف الإنسان الأسمى، وجماعة المستهتري Cinicosالذين قالوا بوجوب هدم المصطنعات الإجتماعية بأسرها والعودة إلى حالة الحيوانية الأولية.
أنشأ زينون الفلسفة الرواقية ومن أهم مبادئها:
أولا- الفكر هو جوهر الطبيعة وميزة الإنسان. أعلن زينون أن هنالك ناموسا طبيعيا يتمثل في الشرائع الوضعية والتقاليد بمقدار ما فيها من الخير والصلاح ولكنه يتعداها، وأن هذا الناموس الطبيعي يمكن إكتشافه بواسطة الفكر ويمكن الإستفادة منه، متى عرف، لنقد الأوضاع وإصلاحها. إن هذه النظرة الفلسفية الموجبة قضت على وثنية التقاليد وأحلت محلها حكم الفكر المتحرر. إن جميع الأنظمة البشرية يجب أن تخضع لناموس الطبيعة الذي هو أيضا تشريع الفكر.
ثانيا- زينون أول من أدخل كلمة الواجب إلى الفكر الإغريقي، على ما يقال، كما أنه أول من دل على أهمية الإرادة. على هذه الأسس بنى زينون فلسفته الأخلاقية معلنا أنّ على الإنسان أن يعمل واجبه بعد إعمال فكره، وأن يسلّم للعناية ما لا يقع تحت طائل إرادته وهذا ما عرف في التاريخ بالسلوكية الرواقية.
ثالثا- واقع الفرد وغايته رقي الفكر. قامت فلسفة زينون على أساس الإعتراف بالفرد كواقع أولي وبأنه مضطر للمحافظة على جوهر كيانه الذي هو الفكر، والهدف الأسمى للإنسان هو ترقية الفكر وتعزيز المبدأ الفكري في العالم. لذلك حتم زينون سيطرة الإرادة على عوامل اللذة والألم في الإنسان. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الرابع 2001) ص8
إن عودة سعادة إلى مبدأ الواقع الإجتماعي في الأمة تخلصا من فوضى الإعتباطية العقائدية هو في جوهره أشبه بعودة زينون إلى مبدأ الناموس الطبيعي. على أن سعادة كان أغنى بتمثيل جميع نواحي النفس البشرية ومطالبها فلم يقتصر على ناحية الفكر، وإن لم يهملها، وجعل مطلب الحياة الأسمى تحقيق الحياة الحرة الجميلة في المجتمع وتأمين عوامل رقيها. إن رسالة سعادة كرسالة زينون إنسانية في غايتها، وكل عودة إلى مبدأ الفكر والحياة عودة إلى الإنسان.
و"إنسانية سعادة" إنسانية منظمة مسؤولة لا فوضى مائعة. إنها الإنسانية الطبيعية في معنى زينون للطبيعة على أنها قائمة على نظام الفكر لا في معنى المستهترين للطبيعة في أنها قائمة على الحيوانية البديهية.
زينون وسعادة يكوّنان ركنين متينين في بناء حضارة المتوسط المتحولة بسرعة لتكوّن حضارة الإنسانية العامة. كما ظهرت السفسطة وفلسفة اللذة الفردية والإستهتار في مأتم حضارة المدينة وتقوّت عوامل الهدم والخيانة والإتكالية، كذلك ظهرت جميع هذه النكبات في مأتم الإقطاعية السورية تنعب نعيب البوم وتبشر بيوم الهلاك الأخير. ظهور سعادة إنه زينون آخر عبقري الأمة السورية الجديد. إن زينون الرواقية رسم الخطة ولم يبن ولم يعن بقيمة المؤسسات التي وحدها تتولى تحقيق المبادىء.
أما زينون القومية، سعادة، فقد رسم الخطة ووضع نفسه في الطليعة. لقد رأى رؤيا زينون البديعة، رؤيا إنسانية عادلة منظمة، يسيطر فيها عامل الفكر وتنقشع عن سمائها غياهب الأوهام، ولكنه قبل أن ينصرف إلى الأحلام أراد أن تكون أمته مستعدة للقيام بقسطها في إنشاء حضارة العالم.
(سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الرابع 2001) ص11-12
يعتبر سعادة أن المجتمع، وليس الفرد، هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية.
يقول: "إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج امرىء آخر، أو تأويله أو حسه الصحيح. ويقول أيضا : شرط الحق، في الإنسانية، ليكون حقا، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه- أن لا يكون حقا عدديا، بل حقا اجتماعيا لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد بل يمتد، في المجتمع بلا حدود.
ينظر إلى الإنسان من مستوى فكري جديد، ويرفع بنظره الإنسان من حدود فرديته المنحصرة في إمكانيتها إلى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون." (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 174)
هذا العالم يحتاج اليوم إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم- فلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الإنسانية-(ثقافة إنسانية تتشارك فيها جميع الأمم والقوميات على قاعدة إحترام حق الشعوب بتقرير مصيرها وعدم التدخل بشؤونها وعدم إستعمارها بشكل مباشر أو غير مباشر)، هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد السابع 1944-1947، 2001، الصفحات 179-180)
المواجهة هي أولاً مواجهة فكرية ثقافية حضارية تحمل قيما إنسانية منفتحة لخير المجتمعات الإنسانية كلها، منطلقها الفكر وليس الغريزة وإنفعالاتها وعصبياتها.
المواجهة هي حرب على الأنانية والفئوية والجشع والطمع وإعتبار المجتمع هو الحقيقة الإنسانية الكبرى وإعتبار الثقافة الإنسانية هي مساحة تلاقي وتفاعل وتعاون كل الأمم دون طغيان واحدة على أخرى. إن استمرار الظلم على الجماعات والمجتمعات ستكون نتائجه كارثية، فالقوة لم تعد حكراً على جهة وكذلك المعرفة.
طالما هناك جماعات تستطيع أن تمتلك من القوة ما يسبب أذى كبير للآخرين، وتمتلك معرفة تسمح لها بالحصول على القوة وتجديدها، ستستمر في الصراع حتى تنال حقوقها. توزّع القوة والمعرفة سيزداد انتشاراً وستزداد معه القدرة على رفض الهيمنة ومواجهتها. لا مصلحة في استمرار التصادم ، لأن استمراره سيؤدي إلى دمار الجميع. مبدأ التعاون إنطلاقا من إعمال الفكر وتحقيق مصالح الجميع فيه كل الخير داخل المجتمع وبين الأمم.
المواجهة هي حرب ضد الظلم الإمبريالي وملحقاته المحلية ، وضدّ حالات التخلف والجهل والتعصب المعطلة لطاقات العقل.
المواجهة تبنى على قاعدة العلم والعقل العلمي والتخطيط الهادف والتنظيم البناء وليس على قاعدة الإنفعال وردات الفعل والفكر الغيبي والإتكالي، والإستتباع للإرادات الأجنبية، بل على قاعدة الثقة بالنفس والإستقلال الحقيقي والقومية الإجتماعية التي تنطلق من الواقع الإجتماعي المساواة بين الجميع بغض النظر عن الأصل ودون تمييز على أساس الدين أو الطائفة أو المذهب و بدون تعصّب من خلال دعوات عنصرية وشوفينية ضد جماعات في الداخل أو ضد الأمم الأخرى.
المواجهة تكون ببناء القوة الذاتية الضامن الوحيد لمصالحنا وحياتنا، القوة المادية والقوة النفسية، وهذا لا يكون بدون إنتاج ذاتي للمعرفة المولّدة للقوة.
الوطن بحدوده الطبيعية وبسهوله وجباله وأنهاره هو وحدة استراتيجية يجب أن يصبح كل شبر فيه تحت تصرفنا كأمة، بكل حرية دون تدخل أو وصاية من خارج.
سورية الطبيعية هي قلب العالم العربي وقلب العالم، إذا مات هذا القلب مات العالم العربي ومات العالم . وهذا القلب لا يموت لأن فيه حياة حتى للذين طعنوه.
مراجع البحث: استراتيجيات المواجهة
Bibliography
Jaquier, Bernard. L’analyse géopolitique. Lausanne : EHL-FORUM, No 5, Février 2005, Ecole Hôtelière de Lausanne (Switzerland), 2005.
دودز واتكنسون. الجغرافيا السياسية في مائة عام 1. القاهرة: المركز القومي للترجمة, 2010 ترجمة.
ريتشارد, داوكينز. الجينة الأنانية. بيروت: دار الساقي, 2009 ترجمة.
زبيغنيو, بريجنسكي. رؤية استراتيجية. بيروت لبنان: دار الكتاب العربي, 2012 تموز ترجمة.
سعادة, أنطون. الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949. بيروت: مؤسسة سعادة للثقافة, 2001.
—. الأعمال الكاملة المجلد الثاني-1935-1937. بيروت: مؤسسة سعادة للثقافة, 2001.
—. الأعمال الكاملة المجلد الرابع 1940-1941. بيروت: مؤسسة سعادة للثقافة, 2001.
عامر, حسام. "التفاوت الصارخ في توزيع الثروة العالمية." الحوار المتمدن, 2-5-2014.
موران, إدغار. هل نسير لى الهاوية. المغرب الدار البيضاء: أفريقيا الشرق, 2012 ترجمة.