عرف أهلُ العُربة في صحرائهم القاحلة أماكنَ تلمع من بعيد، فكانوا يظنون اللمعة انعكاساً لِعَيْنٍ جارية أو لنبعة ماء، لكنْ سرعان ما كان يتبيّن لهم، بعد الإقتراب من الواحة الموعودة، أنها لم تكن سوى سراب خَدّاع.
لذلك نسأل في السياق ذاته: هل استعار لبنان من البادية الصحراوية سياسة التصَحُّر؟ هل بات كل ما فيه سراباً؟ وهل الوعود والشعارات البراقة بإجراء الإصلاحات واجتثاث الفساد ومحاسبة المرتكبين كلها سرابٌ بسراب؟
يقول سقراط، رائد التفكير المنهجي في الفلسفة العريقة، مخاطباً الإنسان ذا الإستعداد لمعقوليات الإدارة النزيهة: «إذا وُلِّيتَ منصباً، فأَبعِد عنك الأشرار، لأن جميع ارتكاباتهم ستكون منسوبة إليك»... من هنا، حقَّ لنا الإستفسار عن الذين شغلوا مناصبَ سياسية وإدارية ومالية، في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل. هل أقصوا عنهم المشبوهين والمختلِسين والإنتهازيين؟ وإذا كانوا مخدوعين بهم في بدايات تولّيهم للمسؤولية العامة، فهل حاسبوهم يوم اكتشفوهم أو ضبطوهم بالجُرم المشهود؟ هل أحالوهم إلى التحقيق حين خيّبوا آمالهم في عدم الترفّع إزاء المغريات وفي مدّ الأيدي إلى المال العام؟
يَغْلِب الإعتقاد أن المساءلة، حتى في صيغتها المعنوية لا القانونية فقط، لم تحصل ولم يكن وارداً حصولُها، لأن المساءلة لو جَرَتْ حتى من دون عقابٍ قاسٍ واقتصرت فقط على عيّنات محدودة من الموظفين الفاسدين، لَكان الآخَرون تَحَسّسوا رؤوسهم وأيقنوا أن دورهم آتٍ في المساءلة والمحاسبة على حد سواء، ولكانت الثقة بالإدارة العامة تَعَزّزتْ بدلاً من أن تتصدع قبل أن تتهدّم بالكامل.
إن نظافة الكف ثقافة، والنزاهة ثقافة، والعدالة ثقافة قبل أن تكون بديهة قانونية أو تطبيقاً حازماً للقانون. أليس المال العام مصوناً بالقانون ومستعاداً بوضع ذلك القانون موضع التنفيذ؟ ألم يحصل الأفراد على حقهم في المواطَنة بفعل القانون الذي في أبجديته أن المواطنين متساوون أمامه في الحقوق والواجبات وفي الإلتزامات والإنتهاكات؟.
قد يكون الضمير، بوصفه وازعاً أخلاقياً، هو «الحضور الإلهي في الإنسان» كما رأى المفكر واللاهوتي الفرنسي تيلار دو شاردان، إلا أن الدول الحديثة تعتمد القانون الوضعي لضبط الأفراد في الإيقاع العام للمجتمع، لأن الضابط القانوني يتعامل مع الأعمال لا مع النوايا... جيد أن يؤمن الإنسان بالخالق مطبِّقاً وصاياه ومُجْتنباً نواهيه، لكن الإيمان الديني يبقى أَلْصقَ بوجدان الفرد ونجواه الداخلية أكثر من التصاقه بمؤسسات الدولة أو بمصير مواطنيها، من حيث هم جماعة منتظمة في كيانٍ سياسي رسمي إسمُه الدولة أو كيان إجتماعيٍّ إسمه الأُمّة.
إذا لم تُراعِ المرجعيات اللبنانية آلام الشعب ومآسي الناس. إذا لم يرتفع المتعاطون في الشأن العام إلى مستوى رجال دولة في معرفة المصالح العليا والعمل بموجبها، وإذا لم يلتفت المسؤولون المقرِّرون، سريعاً، إلى الهاوية التي سقط لبنان في شفيرها أو كاد، فسيُصنَّفون باعةَ سرابٍ ومُفبرِكي أوهام .وسيحكُم التاريخ عليهم باللعنة الأبدية لأن ذواتهم الصغرى انتصرتْ على الذات الوطنية الكبرى فخسِر الجميع واحترق الجميع.