كنت فتًى بمعية والدي يوم اللقاء الأول بالرجل- الفارس. وفي منزله المتواضع بأميون ما كانت نفسك بحاجة إلى طويلِ وقت لتستشف روحية ذلك الخارج من أسر السنوات الثماني العجاف، إذ نفسك ممتزجة بنفسه منذ اللحظة الأولى... وجه نوراني فيه من مطاوي العز قسماتٌ فارقة، ومن معدن الكبار نفحاتٌ ولهب.

حضورٌ مكثف وَقور، بديهة خصيبة، ذاكرة بلورية، ثقة بالنفس تبلغ حد الاعتداد، إطلالة بهية ببعدها النفسي أكثر منها إطلالة ذي القامة المديدة، وفوق كل ذلك رمز للشجاعة النادرة التي علّمته مدرستها الكبرى معاني الشرف والبطولة حياةً واستشهاداً.

مصونٌ لسانُهُ عن مبتذل القول، وقلمه عن رخيص الكتابة... منتقاةٌ لغته حتى ليكاد يعيش في اللفظة أحياناً.

منذ خروجه عام 1969 من سجن الفشل الإنقلابي وإعادة انتخابه رئيساً، إلى محاضرته الشهيرة في الجامعة الأميركية، إلى مأتم الشهيد علي الحاج حسن، إلى استشهاد نجله، فنكسة الكورة (1976) ومهرجان اورلي (1977)، فمهرجان "الوحدة" في الحمراء (1978)، إلى رده الشهير على المدير العام للأمن العام، إلى وقفته المشهودة إبان الاجتياح الإسرائيلي (1982)، إلى الأزمة الحزبية الأخلاقية المعاودة، فالمبادرة التوحيدية التي أعلنها باسم الرؤساء السابقين وما صاحبها من مناورات فئوية استخفت بالنهضة قبل استخفافها بالمبادرة، إلى قروحه النفسية والجسدية، إلى مذكراته المكتوبة بالنزِف والألمِ الواعي، فإلى وفاته (1987) - كان شاهداً متمرساً وشهيداً.

أخطأ؟

ومن ذا الذي لم يخطئ، مع ضرورة وعي النّسَب.

لقد أقر الرجل بأنه ارتكب "الكثير من الأخطاء". ويبقى تقويم أثرها على النهضة من اختصاص المراجع المسؤولة في حركة النهضة لا من اختصاص أصحاب الآراء المسبقة والأحكام الجاهزة.

في لقاء خاص معه قبيل مرضه، وبحضور رمز نهضوي مشرق هو الأمين الدكتور منير خوري، شفَّ "النمر الأبرص" عن وجدانية عميقة وآلام كظيمة أعمق. كأنه يسجل للتاريخ، ولو متأخراً، بعضاً من الصفحات التي ليست ملكه. وربما صح في تلك المرحلة الأخيرة من مراحل حياته قول بدوي الجبل:

  وضجة    صمتٍ      جَلجَلَتْ     ثم      وَادَعَتْ

        وَرَقّتْ،         كأخفى     همسةٍ        ودبيبِ

قبل حلول الذكرى الزمنية الأولى لرحيله أنكره البطارسة الجدد مراراً لا ثلاثاً، ولما ذكروه، عابرين، دسوا في سيرته المعطاء طرحهم الكيدي الرخيص... أما أبناء الحياة البررة، فيعتبرون حتى من كبواته، ويتخذون من فروسيته ومرتفعات مسيرته دروساً وقبسات.

فيا أيها الكبير...

يا أصيلاً عقَّه كل دخيل.

في سكون غيابك عن النهضة تتحرك كوامن وجودك فيها وتنبض بخلاصات الحياة، فنتهيّب الموقف – الذكرى، ذكرى الرجل الذي في ملحمة الحياة والموت يبقى منارة، إحدى مناراتنا التي كلما شعّتْ خفق في أعماق نفوسنا الوعد الكبير.