«نحيا أولاً ثم نتفلسف».
صدَّرْنا كلمتنا بهذا المَثَل اللاتيني القديم حتى لا يُظَن بأننا نتناسى مواجع المواطنين المعيشية المتزايدة يوماً بعد يوم، من دون إغفال الإرتباط العضوي ما بين الحياة المادية ومتطلباتها الروحية.
لكنْ ما هو الحياد؟ علامَ تتكئ طريحته؟ ومن الذي يقرر الأخذ بها أو رفضها؟ وما صفة طارحها، أسياسية هي أم دينية؟ من هو الفريق الذي يحسم خيارات لبنان، الذي ليس جزيرة منفصلة عن بيئته الطبيعية ومصالحه العليا؟ أما إذا كان الأفرقاء مختلفين وليس من دولة مُقرِّرة للخيارات الكبرى، فماذا يبقى من الطرح الإفتراضي للحياد الذي يحاولون تزيينه بصفة «الإيجابي»؟ عِلْماً أن الحياد، بوصفه موقفاً، يتّسِم بالسلبية من شتى الخيارات المطروحة فكيف إذا كان إعلانه في المنطلَق مُتّسِماً بالسلبية من خيار المقاومة، وبالإنحياز إلى خيار مغاير؟
ثمة أسئلة جوهرية تضع الإجابةُ عليها النقاطَ على الحروف. فهل الرؤية في لبنان موحَّدة أو مشتركة سياسياً وشعبياً أم أنها مفقودة إلى درجة الفجيعة؟ أليس الخلاف قائماً حول أبسط المفاهيم بما في ذلك مفهوم الهوية والإنتماء؟ وهل يكون الحياد طرحاً توفيقياً رؤيوياً لبلد مضروب في بنْيته الثقافية الموزعة الولاءات، والمفتقرة إلى أدنى مواصفات التماسك والإجماع؟ هل يكون الحياد مع العدُوّ الوجودي مخرجاً من الإنتهاك اليومي لسيادتنا الوطنية وكرامتنا الواجبة؟ هل الحياد مقبول في الموقف من الإجتياح المعادي أو من مجزرتَيْ قانا، أو في ملف ترسيم الحدود مع كيان الإحتلال، أو في العلاقة مع دمشق، أو مع مخطط التطبيع والتركيع؟ هل كان «لبنان الكبير» الذي أعلنه الفرنسيون قبل مئة عام حيادياً في خلفيته وخارطته ومساره مع الإقليم أو مع العالم؟ هل كان رؤساء الجمهورية السابقون ورؤساء الحكومات المتعاقبة حياديين؟
إن طرح الحياد محكوم بالموت السريري. لكنه أَشبه ما يكون بإعلان حرب على مسؤولية لبنان في الدفاع عن حقه وأرضه وثرواته، بل عن حقه في الحياة الحرة الكريمة، المعزَّزة بأسباب المنعة والقوة وبمعادلة الردع الحازمة. فهل هذا ما يريده بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، للموارنة المَرَدة الذين لوَّنوا تاريخهم بِلوْن التصدي المُشَرّف للظلم والإستبداد؟
يا صاحب الغبطة،
هل يجوز للُّبنانيين من مختلف المشارب والشرائح ممارسة الإجحاف في الإقرار الحاسم بحق لبنان المشروع في مقاومة الإحتلال والعدوان، أو في الإعتراف العادل بدور المقاومة الطليعي في التحرير من الإحتلال والإرهاب، وفي حماية شعبنا، كل شعبنا من جاهليات التفجير والتكفير؟ لكن المشكلة، على ما يبدو، قائمة في أن مضَلَّلين من مواطنينا يرون القذى في عين أخيهم ولا يرون الخشبة في أعينهم، كما وصف نُظراءَهم المعلّمُ الجليليّ الفيّاض بالروح القُدُس، الذي لم يكن حيادياً في تعليم الحق ورَذْل الباطل، ولم يساوم على تحويل الفرّيسيين بيتَ الصلاة إلى مغارة للصوص والتُجّار والأَثَمة.
أنتم، كبطاركة يا صاحب الغبطة، غير حياديين حتى في توقيت الصيام الأربعيني وفي الإحتفالات بِعِيد الفصح، ولذلك لم تُوَحّدوا-أنتم وأسلافكم من الآباء والأحبار - فرحَ العيد بالشركة الإيمانية الوثقى، رغم انقضاء أكثر من ألفَيْ عام على حدث القيامة المجيدة. وهذا يعني أنكم ما زلتم مختلفين على أوان الضياء لا على مبدئيته، لكنه اختلاف شرقيٌّ وغربيٌّ غير حيادي وغير مُسَوَّغ. فحبذا لو يتأمل الجميع، رعاةً وعلمانيين، لا في ظاهر الإشكالية المحزنة بل في أعماقها التي أشار إليها العَلاّمة المطران جورج خضر بقوله: «إننا ديانة المعاني ولسنا ديانة الأيام والأزمنة. أليس الشقاء الحقيقي في أن الكثيرين من المسيحيين أموات روحياً وأنّ القلة قيامية؟ فإذا سمحنا لأنفسنا بالحياد عن معاني قيامة المخلص أفيزعجنا الإختلاف على تاريخها»؟ (النهار 29/3/1997).
إننا نسأل: هل المبادرة البطريركية التدويلية حيادية في طرحها وفي التخطي اللاحيادي للمؤسسات الدستورية والمراجع الرسمية اللبنانية؟ وكيف تستوي المحبة، التي هي الأطروحة الأساس لمسيحية الينبوع، بالموقف الوسطيّ ما بين سيادة الدولة وكرامة إنسانها من جهة، وبين غضّ النظر عن استباحتهما من جهة أخرى؟ وهل تصبح الكرامة موفورة للجميع من دون التوجه العام الجامع، أو من دون العطاء والتضحية والمعاناة مع الذين أعطوا وضحّوا وعانوا واستُشهدوا؟ أليست المحبة التي تسكبها المسيحية مجانية، نقية، غير مشروطة؟ قال القدّيس أوغسطين: «هناك نوعان من الحب على الإنسان أن يختار بينهما: حبّ الذات حتى إنكار الله، وحبّ الله حتى إنكار الذات».
إن الحياد، الديني قبل السياسي، أُغلوطةٌ درامية. والأُغلوطة تتداعى بذاتها قبل أن تسقط نظراً لفقدانها النِصاب الواقعي والمنطقي. أما المشهد المسرحي للحياد السياسي فينتهي قبل أن يبدأ. وإذا كان فيلسوف التاريخ، الألماني شبينغلر، قد جزم بأن الزمن هو المستشار الأكبر، فإننا نجزم بأُفول دراما الحياد قبل تَبلوُر فصولها بمرور الزمن. وقد أُسدِل الستار على فصلها الأول بسرعة قياسية، قبل أن يتابعها الجمهور المنحاز بطبعه وثقافته واصطفافاته.