نموذج متقدّم من الشعراء التصويريّين، الذين أعملوا في صناعة القريض سياقاتهم المركّبة حتى التعقّد. إنتقى من المصحف عذْبَ الصياغات، لكن فكره السياسي اضطرب حتى التناقض، قبل أن ينتشي بخمور الجزيرة الفينيقية المغلقة على المطلق اللبناني، المغذّى بأساطير هي والخيال الحافظ على نسيج واحد. وإذا كان في هذا النمط من المخيّلة الحافظة رتابة، فإن الخيال الخلاّق مادةُ اختراقاتٍ ومصنع رؤيا.
لا يتشابه بالآخرين ولو نحا في عامياته الأولى نحو المبدع ميشال طراد… ويبقى سعيد عقل في الشعر كيميائيّاً بارعاً في رصد الجمالات، ولو بالتركيب المفتعل أحياناً. وربما قُيض له أن يبدو على بعض مرتفعاته قامة عملاقة أَبَتْ إلا أن تُقزّم نفسها بنفسها، وتُفْلت من التهميش في الزمن المعَوْلَم.
سعيد عقل الذي لطالما أراد «زَحْلنة» لبنان و«لبْنَنَة» العالم، شطح به الغرور وجمحتْ به الأبّهة حتى جافى التعقل والرصانة فحاول تسخيف أحد أكبر شعرائنا، أعني رائد الحداثة ومنظّرها الأول: «لا أحب شعر أدونيس»! كأن النقد يقوم على المحبة والكراهية، أو على المزاج الفردي والتعسّف والاعتباط. ثم إن عقل لا يكتفي بالرشق الكيدي بل يغترّ بنفسه حتى الهَوَس المَرَضي. وها هو يعتبر في حديث صحافي أن في شعره غرابة وجمالاً «غير موجوديْن في الشعر الأوروبي كله، أي في شعر أثينا وروما وفرنسا… لقد أنتجوا شعراً هو الأجمل في العالم، لكنهم لا يعادلون شيئاً قياساً بشعري»! وفي مكان آخر من المقابلة يقول لمحدثه: «لا تتصوّر أن المتنبي لديه شعر مقدّس ومكرّم ومعظّم مثل شعر سعيد عقل… شعري أنا أعمق من شعر المتنبي»!
لكنه يعترف بفضل الشاعر الرؤيويّ شفيق معلوف عليه، على الأقل بعد وفاة شاعر «الأحلام»:
رصَّعتَ بابي وعمري أزهرٌ نَضِرُ
كما يرصّعُ ليلَ العاشق القمرُ
على أن الرحابنة وفيروزهم يَدينون، بأبهى شآمياتهم والأندلسيات، لشعره المغزول من ملاحم التاريخ وجمالاته التي أجاد سعيد عقل إحياءها ولو بالمغالاة الفنية، التي تحمل بصماته والأنفاس:
شام يا ذا السيف لم يغبِ يا كلام المجد في الكتبِ
قَبْلكِ التاريخ في ظلمةٍ بعدكِ استولى على الشهبِ
أنا صوتي منك يا بردى مثلما نَبْعُكَ من سُحُبي
ثلج حرْمون غذّانا معاً شامخاً كالعزّ في القببِ
وَحّدَ الدنيا غداً جَبَلٌ لاعبٌ بالريح والحقبِ
لا نودّ في هذه العجالة أن نبني على قوله عن الشام: «أنتِ الأميرة تعلو باسمك الهامُ» ولا البناء على النشيد الذي نظمه لباعث النهضة وجاء فيه أن سورية بسمة ملء الربيع وأنها فوق الجميع. لعلّ هذا ما لا يستسيغه الشاعر الذي قضى حياته يحلم برئاسة الجمهورية اللبنانية، وحتى بمقعد نيابيّ في زحلة. كذلك لا نريد التذكير بجائزته المبنيّة على المعيار السياسيّ والطائفيّ لا على «الكلمة ـ الملكة» التي كان يزعمها ليذرّ في العيون رماده. غير أننا نستذكر بعض مواقفه التي لا يشفع فيها التبرير، ولا حتى الفصل بين ما هو فنّي وما هو سياسيّ، لأنّ ما يوصف بالسياسيّ هنا يتعلّق بالشعب والوطن والشرف والكرامة والمسؤولية التاريخية. من تلك المواقف المشينة التي ذكر بعضاً منها الدكتور سهيل إدريس في مذكراته الصادرة عن «دار الآداب» والتي نشر منها الجزء الخاص عن عقل في مجلة «الآداب» بتاريخ 5/6/2002 أنه خلال الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان عام 1982، ظهر عقل على شاشة التلفزيون وهو يهلّل لوزير الدفاع في كيان العدو أرييل شارون، ويرحّب بمناحيم بيغن وجيشه لأنه «جيش خلاص للبنان وليس جيش غزو… وكل مين بقول إنو جيش غزو لازمو قص راس»! كما قال في دورية «لبنان» التي كان يصدرها آنذاك إنه يرحب بالجيش «الإسرائيلي» وأنه لو كان يملك قوى عسكرية لانضمّ فوراً للمحاربة إلى جانب ذلك الجيش. وللعلم، هذا المشهد المخزي متوافر بالصوت والصورة على «يوتيوب» .
يروي إدريس، وهو الأمين العام الأسبق لاتحاد الكتّاب اللبنايين، في مذكراته أن سعيد عقل توسط عام 1982، بعد مقابلته المشهورة مع التلفزيون «الإسرائيلي»، الكاتب الصهيوني أهارون أمير كي يلقي خطاباً في الكنيست وعندما جاء الرد سلبياً، إذ لا يقبل «الإسرائيليون» لغير رؤساء الدول إلقاء خطاب هناك، بذل ما في وسعه كي يلقي خطاباً على جبل الهيكل مثلما فعل البريطاني بلفور، صاحب الوعد المشؤوم، إلا أن أمله في الوصول إلى ذلك «الشرف» قد تلاشى مع مصرع بشير الجميل، إذْ كان مقرراً أن يلقي عقل خطابه بعد أيام على انفجار الأشرفية.
سعيد عقل…
أنت عشت على رصيد كوَّنَتْه البدايات ولم يتراكم منارات. صحيح أنك تألّقْتَ وسكرت بأوصاف الفذاذة والفرادة والعظمة، لكن التعملق ليس رغبة، بل ممارسة تحتاج إلى الفعل الرسوليّ المستمر، وإلاّ فقدتْ صدقيتها وتلاشت، كما الزبد المتعالية فقاقيعه، قبل أن تتكسر على الشاطئ وتنطفئ.
سعيد عقل…
لئن حملْتَ على هامتك تاجاً من الشعر، إلاّ أنك تحمل عاراً تاريخيّاً لن تنساه الأجيال… أنت لست فقط لاتينيّ الهوى وكارهاً لكل ما هو عربي… أنت متهم بالمساهمة في هدر الدم اللبناني والفلسطيني عبر المواقف العنصرية والشعارات العدائية والثقافة التفتيتية والوعي الزائف… فَلْتُنْصفك محكمة التاريخ إن كنت قادراً على الدفاع. ولكنْ ثقْ أن القرار القضائي المعنوي الذي قد لا يَصْدُر، لن يبدّل القرار الوجداني الكامن بحقك في أعماق الوطنيين الشرفاء، والذين لم يمت في داخلهم خَفْقُ الإنسان، ومعنى القيم الكلية التي ليس من معنى للقيمة الشعرية من دونها، لأن الحياة لا تتجزأ قيمها، وكذلك الفن والشعر والجمالات.