في المأثور المعياري للفيلسوف النمساوي-البريطاني المعاصر كارل بوبر أن المُثُل العليا هي القِيَم الوحيدة الجديرة بأن نضَحّي من أجلها. فإذا صحّتْ هذه الحكمة الأخلاقية المبدئية في لبناننا المترنح، وجب علينا أن نطرح بعض الأسئلة المتصلة بالمُثُل العليا التي يتوجب على المواطنين في لبنان أن يُضّحوا في سبيلها. وربما كان السؤال الأَوْلى بالطرح: هل اللبنانيون مواطنون حقاً أم أنهم رعايا مذاهب؟ هل يَحْيون في دولة منتظمة في مؤسسات موثوق بصدقيتها، أم يعيشون في مساحة من المعمورة هي أقرب إلى صورة برج بابل منها إلى صورة الدولة الحقيقية الراعية؟
لا نقصد ببرج بابل اللبناني، قَطْعاً، دلالته الدينية اللاهوتية بلِ الدلالة الرمزية التي تفيد اختلاط الحابل بالنابل، كما تفيد تعدُّد اللغات والطروحات بين قاطنيه إلى درجة أنهم لا يفهمون بعضهم بمقدار ما يختصمون في الأفكار والألفاظ وتبادُل الإتهامات بالصياح اللامتناهي. أليست هذه حالنا التي يشكو كلٌّ منا فيها الآخَر؟ ألا يشكو المنتفضون من المتفرجين، والمتفرجون من المنتفضين؟ ألا يتذمر القاضي من الفاسد، والفاسدُ من القاضي؟والسائق، أليس شرطيُّ السير عدوّه قبل أي أحدٍ آخَر؟ أليس السياسيّ متهماً إلى أن يثبت العكس؟ ألا يحمل الوزير على النائب، والنائب على الوزير؟ والمصارف، ألا تتبرّم من الزبائن، والزبائن من المصارف؟ ألا تتظلّم طائفة من طائفة أخرى؟ ألا يتغلب الولاء العشائري والعائلي والمذهبي، بالتأكيد، على الولاء للدولة والمجتمع؟
أي بلد هذا الذي لا يُجْمع أهله على رأي أو مفهوم أو ظاهرة؟ أي بلد هو هذا الذي لا يطبّق قانونه على الجميع ولا يخجل فيه المخالِفون والمرتكِبون والمُختلِسون؟ أي حياة جماعية تكون لشعب لا يعرف نظاماً للسير ولا حماية للسلامة العامة ، وإذا حصل أنْ عرفهما فهو ينتهك حرمتهما من دون شعور بالذنب بل من دون رفة جفن؟ أية حرية هي هذه التي يفتح الناس فيها على حسابهم فيُرَوّجون كما يشاؤون لِمَنْ يشاؤون، في حين يُصدِرون على أخصامهم الأحكام «المبرمة» التي تُمليها أهواؤهم ويرعاها برنامجُ مصالحهم؟ أيُّ بلدٍ هذا، المُفلسة ماليّته والمنفوخة خزائن رُعاته الإفتراضيين؟ أيُّ ضميرٍ هو هذا الذي يتقبّل المساعدات من الخارج ثم يبيعها في برج النخاسة اللبناني، المتهاوي بمضمونه قبل هندسته، وبأهله قبل حجارته؟ أي ربٍّ يعبده أولئك السّعداء بآلام الناس، المعتصمون بالجيوب القذرة قبل الجباه الناصعة، والمطالبون بالإبقاء الدائم على السِّلع المدعومة ولو من اللحم الحيّ قبل أن يشاركوا تُجّارَ الأزمات المعيشية في جريمة تهريبها؟
منكوبٌ لبنان بشعبه قبل حكامه، على الأقل في شريحة كبرى من هذا الشعب الذي لم تنضج رؤيته بعد لمعنى الدولة، والذي لم يستفقْ وجدانه من الغفلة المتمادية لدولةٍ قررتْ أن تنزع عنها الهيبة والوقار، ليحكمها عبث بالقانون مشدودٌ إلى العبث السياسي والإقتصادي والإداري والمناقبي، بل لِتَسُود في مؤسساتها وسائر شِعابها لغةُ المغاور وهجائياتُ الكهوف. وقد نجح الحاضر الرّث في استحضار جاهلية عمياء معادية للعقل والعدل، عنوانُها غلبةُ الأنياب وثقافةُ الغاب. قال فرنسيس بيكون: «إذا لم نحافظ نحن على العدالة، فلن تحافظ هي علينا».