الثقة هي جوهرة من جواهر الفلسفة القومية الإجتماعية وركيزة من ركائز الحياة القومية المثلى التي تسعى الحركة القومية الإجتماعية لتأسيسها. والفلسفة القومية الإجتماعية تشدِّد على مبدأ الثقة وتعتبره أساساً للمشروع الإنشائي العظيم: إشادة البناء القومي المحصّن وقيام الدولة القومية المعبِّرة عن إرادة الأمة والحريصة على تحقيق مصالحها الحيوية. يقول سعاده: «إن مبدأً أساسياً من مبادىء الحزب السوري القومي المناقبي هو مبدأ الثقة. فعلى أساس الثقة تقوم حركتنا وبالثقة نعمل."[1]
والثقة في قاموس سعاده هي تعريف مرادف لرابطة القومية الجامعة. يقول سعاده: «ليست القومية إلا ثقة القوم بأنفسهم وإعتماد الأمة على نفسها."[2] لذلك فأن الفلسفة القومية الإجتماعية تحتم علينا ان نعتمد على أنفسنا وعلى قدراتنا وان نثق بمواهبنا وبجدارتنا بالحياة الراقية و"اننا لو شئنا ان نفر من النجاح لما وجدنا لنا مفراً منه."[3] وسعاده يقول لنا: "كونوا قوميين وثقوا بنفوسكم وحزبكم وقضيتكم."[4] كما يقول: "إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ."[5] وبتاريخ 19 كانون الثاني 1937، زار سعاده منطقة الشوف التي كان يجري فيها نزاعاً شديداً بين الحركة القومية ونفوذ الإقطاعيين، وألقى خطاباً توجه فيه إلى القوميين الإجتماعيين قائلاً:
لا تثقوا بوعود احد من خارجكم. ان بحر السياسة مضطرب ولكن ثقوا بأنفسكم. ثقوا بأن عقولكم ليست عقولاً مريضة. ثقوا بأن قضيتكم هي قضية حياتكم. ثقوا بأنفسكم قبل كل شيء واعتصموا بإرادتكم قبل كل شيء ولا تهتز أعصابكم حين الخطر، لأن الخطر في اضطراب الأعصاب.[6]
القومية، يقول سعاده، "هي روح الشعب وشعوره بشخصيته"[7] لذلك فإن تعاليمه تشدِّد علينا بأن نثق بأصالتنا وبنفسيتنا الجميلة وبما يختزن فيها من خير وجمال وإبداع لأن "في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم."[8] لذلك يجب ان ننتصر على الخمول والكسل والإتكالية ونعود إلى الإيمان بذاتنا، بنفسيتنا الجميلة وخصائصها، وبقدرتنا على الخلق والإبداع. يقول سعاده: "إننا نعتقد أنّ الدماغ السوري ليس أقلّ مقدرة وذكاء من اي دماغ في العالم. وهذا الدماغ السوري هو نفسه يعرف ويقدر أن يخطط للمجتمع السوري الخطط والقواعد التي يكون بها صلاحه وعزه."[9]
والثقة هي شرط من شروط الإستقلال الحقيقي، الروحي والسياسي على السواء. فإن لم "نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا" وإن لم تقو هذه النفسية "وتنزه عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة، فإن سورية"، يعلن سعاده، "تبقى فاقدة عنصر الإستقلال الحقيقي وفاقدة المثل العليا لحياتها."[10] وفي خطابه المنهاجي الأول، يعتبر سعاده ان "مبدأ ’سورية للسوريين والسوريون أمة تامة‘ أخذ في تحرير نفسيتنا من قيود الخوف وفقدان الثقة بالنفس والتسليم للإرادات الخارجية."[11] وبفضل هذا المبدأ فإن "أفعالنا ووقائعنا ستثبت حكم إرادتنا التي لا تعرف عجزاً."[12]
وسعاده يؤكد بأن سورية الناهضة بالقومية الجديدة وتعاليمها الإجتماعية هي غير سورية القديمة "المسترسلة إلى أوهام فاقدي الروح القومية وعديمي الثقة بالنفس."[13] عندما قرر سعاده إنقاذ الأمة بإنشاء الحزب السوري القومي الإجتماعي كان محاطاً بظروف سياسية وروحية نفسية وحالة يأس نتيجة فقدان الثقة بالنفس. هذه الحالة التي اعتبرها أكبر نكبة أصيبت بها الأمة يصفها لنا في خطابه في الأول من آذار عام 1938:
فإن فقد الثقة بالنفس وبقوى الأمة وإمكانياتها السياسية والاقتصادية، والاستسلام للخنوع، أنشأ طائفة من المأجورين للإرادات الأجنبية القريبة والبعيدة يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الخارجية والحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في المناقب والأخلاق. ومن صفات هذه النفسية العامة الخداع والكذب والرياء والهزء والسخرية والاحتيال والنميمة والوشاية والخيانة وبلوغ الأغراض الأنانية، ولو كان عن طريق الضرر بالقريب وعضو المجتمع.[14]
ان السوريين القوميين الإجتماعيين قد حرروا أنفسهم، بفضل مبادىء القومية الإجتماعية، من الأوهام التي قعدت بهم عن طلب ما هو جدير بهم كالوهم الباطل "الذي يدعو إليه فريق من ذوي النفوس السقيمة والعقول العقيمة، وهو اننا قوم ضعفاء لا قدرة لنا بتحقيق مطلب او إرادة، وان افضل ما نفعله هو ان نسلم بعجزنا ونترك شخصيتنا القومية تضمحل من بين الأمم ونقنع بكل حالة نسير إليها."[15]
والحق يقال، ان الثقة هي من أجمل الأخلاق وأشرفها. فهي "مصدر العزم والهمة والأعمال الجبارة"[16] وهي شرط أساسي لنجاح الجماعات والمؤسسات ولتقدم الأمم. وهذا الشرط يمنح نظام الهيئة الإجتماعية قوة ومتانة ويقوي وحدة الجماعة وتماسكها ويدفع بالأفراد المؤمنين للعطاء والتضحية في سبيل قضيتهم المشتركة. لذلك يقول سعاده: "إن الثقة بالنفس كانت ولا تزال وستظل العدة التي لا يقوم شيء في العالم مقامها في حياة الأمم."[17] ومتى أصيبت الثقة بالضعف أو المرض، أدى ذلك إلى تضعضع الجماعة وتفككها. فبغياب الثقة يسيطر الشك وتعم البلبلة ويضعف الإيمان وتغيب التضحية وتتسلط النزعات الفردية عل حساب المصلحة العامة. والتضحية لا تبذل بدون الثقة، ثقة الشعب بنفسه، بقياداته، وبالقضية المقدسة التي يناضل من أجلها مقدماً التضحيات الجِّسام... لذلك يعتبر سعاده ان "فقدان الثقة هو أعظم النكبات التي يمكن ان تحل بكيان او نظام."[18]
ولأن الثقة هي حجر الأساس في عملية البناء القومي لا بل هي لحمة البناء وطينه، فتعاليم سعاده تسعى إلى زرعها في النفوس وإلى تعزيزها وتوفير كل مستلزماتها. وأهم هذه المستلزمات هي "الصراحة الكلية والجلاء التام"[19] والعمل الدائم بالإرتكاز على النظام الدقيق والمؤسسات "التي تحفظ وحدة الإتجاه ووحدة العمل."[20]
القومية الإجتماعية هي دعوة لتعزيز الثقة بالوضوح والجلاء والصراحة والقدوة والعمل المثمر..
فتعالوا نعزز الثقة وروح العطاء من خلال التعقدن بالتعاليم القومية الإجتماعية وأخلاقها، التي نجد فيها كل الحق وكل الخير وكل الجمال لأمتنا. فالنهوض الحقيقي لا يكون إلا "بالخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة."[21] هذا هو معنى النهضة الحقيقي كما يحدده سعاده العظيم.
تعالو نعزز الثقة بمواجهة حالات الميعان والتفكك والتفسخ والفوضى والشك والفئوية والأنانية والسطحية والفساد باللجوء إلى نظامنا الذي يحقق التوافق والتعاون و"يعطي الحزب وحدة عملية قوية وسريعة"[22] والذي "لا بد منه لتكييف حياتنا القومية الجديدة ولصون نهضتنا العظيمة التي ستغير وجه التاريخ في الشرق الأدنى.."[23]
تعالو نعزز الثقة بنثر بذور اليقين والإيمان والوجدان القومي وبتعميق الثقافة القومية الإجتماعية، ثقافة الواجب القومي والوحدة الروحية والإرادة الواحدة، ثقافة العطاء والتضحية والإخلاص، ثقافة الإصلاح والأمل والإنتصار.
بالثقة وحدها نحقق النجاح والنصر الذي لا مفر منه ونبني حياة كريمة تليق بالشرفاء والأحرار. أما إذا غابت الثقة عن مجموعنا، فلن نحقق إلا الفشل والمآسي…
[1] أنطون سعاده في مغتربه القسري 1939، الآثار الكاملة 6، ص 264-265.
[2] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 33.
[3] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثالث 1937، ص 54.
[4] المرجع ذاته، ص 54.
[5] المرجع ذاته.
[6] المرجع ذاته، ص 19.
[7] أنطون سعاده في مغتربه القسري 1942، الآثار الكاملة 10، ص 47.
[8] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 108.
[9] ملحق رقم 4، خطاب الزعيم في دده – الكورة 17/10/1948، صدى الشمال ـ صوت الجيل الجديد، بيروت، العدد 7، 8/7/1958
[10] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 108.
[11] المرجع ذاته، ص 33.
[12] المرجع ذاته، ص 31.
[13] المرجع ذاته، ص 34.
[14] سعاده في الأول من آذار، ص 27.
[15] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 33.
[16] أنطون سعاده، الآثار الكاملة- مرحلة ما قبل التأسيس – الجزء الأول، "مبادىء أساسية في التربية القومية"، ص 233.
[17] أنطون سعاده، الآثار الكاملة- مرحلة ما قبل التأسيس – الجزء الأول، ص 233.
[18] أنطون سعاده في مغتربه القسري 1942، الآثار الكاملة 10، ص 60.
[19] أنطون سعاده في مغتربه القسري 1939، الآثار الكاملة 6، ص 265.
[20] سعاده في أول آذار، 1956، ص 48
[21] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 16.
[22] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الثاني 1932- 1936، ص 242.
[23] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 32.