المصطلح
عبارة “العالم الثالث” هي ترجمة غير دقيقة لعبارة Tiers – monde الفرنسية التي ظهرت في أدبيات القرن التاسع عشر.
وفي الأصل، إنّ عبارة Tiers – monde وإن بدت موازية للمرتبة الثالثة في التسلسل الرقمي فإن معناها الضمني يدل على شخص ما (آخر) من خارج ثنائية المخاطِب (بكسر الطاء).
كل ما ليس هو أنا وأنت ممكن أن يكون هذا الشخص الـ”ما”. فهو الآخر، غير المحدد، والمبهم، والذي ينحصر تحديده في كونه ليس أنا ولا أنت. تحديد هذا الشخص ليس من / أو في ذاته، بل بالنسبة لي ولك. وإذا ما انفلشت ثنائية المخاطِب والمخاطَب على دائرة الجماعة، فإن تراتب التسلسل الرقمي لا يعود مهماً ويبقى هذا الشخص الـ”ما” (أيّاً كان) ممن ليس هو (نحن)، فهو الآخر المجهول، والذي هو بدون (الـ) التعريف لأنه نكرة، والأصح (النكرة) مع (الـ) التعريف. وهذا هو تحديده الوحيد.
تسهيلاً للمعالجة الكتابية، أتوقف هنا عن استعمال التعبير الفرنسي وأعتمد تعبير “العالم الثالث”، ولكن بمعناه الأصلي، وليس بالمعنى المعطِل للفهم، الذي أكسبته إياه الترجمة المسطحة، والذي بدا لاحقاً، وبمفعول رجعي، وكأنه يعني أو يعبّر عن مدلول جغرافي- سياسي ناتج عن الحرب العالمية الثانية، وعن تبسيط المفهوم “الواقعي” لتقسيم العالم إلى كتلة الدول الغربية وكتلة الدول الاشتراكية، اللتين تمثلان العالمين الأول والثاني، فيكون الباقي، حسب تراتب التسلسل الرقمي، هو العالم الثالث، ومن دون أن يشكل كتلة واحدة.
يوم وجد “العالم الثالث” في الذهن الأوروبي لم يكن هناك لا عالم أول ولا عالم ثان، فعندما خرجت الانتلجنسيا الأوروبية من القارة، لاحقة بالعسكر والتجار، أطلقت على كافة الأقطار التي وصلتها الجيوش والبضائع، وبدأ استثمارها، وتلك التي لم تكن قد طالتها اليد الأوروبية بعد، أطلقت عليها هذه التسمية الشاملة، والتي ليست هي بإسم، فكان “العالم الثالث”، حسب التعريف الأوروبي، هو “الآخر” المجهول، البلا إسم.
واستعملت بالمناسبة عبارة أخرى هي Les indigenes وتعني السكان الأصليين. والترجمة هي بالغة التهذيب بالنسبة للمعنى الأصلي.
وهكذا يكون “العالم الثالث” كل ما هو خارج حفافي القارة الأوروبية، وهو بلا اسم. ويكون كل ما يدب في هذا “العالم الثالث” هم السكان البلا أصل.
الخلفية
إنّ هذه التعابير ليست ذات صفة أدبية لتصوير وقفة تجاه المجهول، أو الغريب المكتشف حديثاً. إنها تتضمن موقفاً من “الآخر”، من كل ما ليس هو (أنا وأنت ونحن).
لهذا الموقف أصلان بارزان في تاريخ البشرية: في أثينا وفي التوراة. فكل ما هو خارج أسوار المدينة بربري، وكل من ليس هو من القبيلة “غوييم”. والجامع المشترك بين كل هذه التسميات – الموقف، هو أنّ “الآخر” مصنّف بالجملة، ولا تحديداً ذاتياً له، أو تعريفاً موضوعياً به، وإنما، بالنسبة لحافّة قارة أو سور مدينة أو فخذ قبيلة. ولا أحد ينكر الإرث التوراتي – الأثنيني في الإيدولوجية الأوروبية على مختلف فروعها ومناهجها.
المقولة
بعد الحرب العالمية الثانية، حيث رسا العالم على عملية استقطاب ثنائي تفرّدت به القوى “الواقعية” المسيطرة على الكرة الأرضية، بدأت تصفية التركة الاستعمارية الأوروبية، مع الحرص على إبقاء عناصر التركة في السلة الغربية، فظهرت المقولات الاقتصادية والسياسية والثقافية حول موضوعات التخلف والنمو، والإنماء والتنمية، وأُغرقت السوق بالنظريات المعلّبة – الجاهزة، والمعدّة لإنشاء أُطر جديدة قادرة على الإمساك بمقدرات “العالم الثالث”، بدلاً عن أُطر الاستعمار المباشر، البائدة والهشة، في ظروف تنافس وصراع مِحورَي الاستقطاب العالمي.
فالعالم الثالث متخلّف، والعالم الغربي هو النموذج الحضاري الحصري، ومشوار المدنية يمر عبر محطات مرحلية يجتازها طالب التقدم، أو المقدم على عملية التطور والتطوير، طوعاً أو إكراهاً، تتمثل بحوافز نفسية وبما يشبه الشهادات المدرسية. فهناك الدول النامية، وتلك التي لا تزال في بداية طور النمو والأخرى الراسبة والتي بقيت متخلفة.
ولما كانت الحرية ركناً أساسياً في ملكوت هذه المدنية، المحتّم علينا أن نصبو إليها، فإنّ دول “العالم الثالث”، وأفراد “العالم الثالث”، وجماعات “العالم الثالث”، تستطيع أن تختار بين مجموعات من شركات المقاولة، بين مجموعات من النظم الدراسية، بين مجموعات من النظريات السياسية، بين مجموعات من المنشآت الصناعية، وخاصة بين مجموعات من وسائل إنتاج المواد الاستهلاكية. الكل يستطيع أن يختار ما يحتاج إليه، وما لا يحتاج إليه، وخاصة ما لا يحتاج إليه، إلّا حرية خيار النموذج، فهو حصري والمشوار باتجاهه مفروض، والاعتراف بالتخلف قياساً إلى ملكوته أمر قسّري.
ظروف الصراع بين محوري الاستقطاب العالمي أوجدت بالمقابل نظريات معدّة لإنشاء أُطر إنمائية جديدة مغايرة، تبيح لمركزي الاستقطاب العالمي العمل بقانون الجذب، وتتيح لدول”العالم الثالث” فرص الانجذاب. فأصبح العالم الصناعي، كما هو قائم حالياً، أو كما كان قائماً لبرهة تاريخية وجيزة، يشكّل النموذج، وللعالم الثالث، المتخلف، “الخيار الديموقراطي” بين طريقين في مشواره القسّري باتجاه هذا الملكوت.
من المؤسف أن النظرية المقابلة، ومن دون الدخول بأيّ تفصيل أو مفاضلة، كانت أيضاً معلّبة – جاهزة، وشكّلت تزكية، مبدئية وعملية، لمقولة “العالم الثالث”.
نقض مقولة “العالم الثالث”
في الانتروبولوجيا
في قديم الزمان، استفردت الكائنات من ذوات الضخامة والقوة الجسدية بغابات الأشجار المثمرة وطردت الكائنات الأنحف، والأقل قوة منها، إلى الأراضي الخالية من الثمار.
جاع من جاع، ومات من مات، وبقي من بقي … الذين عاشوا هم الذين انتقلوا من عادة قطف الثمار إلى الاعتماد على الصيد. وقد أكسبهم هذا المراس قدرة على الركض وسرعة في الحركة وليونة للجسد، وذلك نتيجة لملاحقة الطرائد والارتماء عليها للإمساك بها… وجاع من جاع، ومات من مات، وبقي من بقي، فالصيد على هذه الوتيرة، وبهذه التقنية المتاحة، وبهذا المقدار من الغنائم، لا يمكن أن يشكّل اكتفاءً غذائياً.
كان لا بدَّ من الحصول على أدوات الصيد، وكان لا بدَّ من استعمال اليد لصناعة هذه الأدوات. ولحظة تحرك إبهام اليد، بعد مراس طويل، أطلت مرحلة تسارعت فيها الإنجازت. فقد ظهر النموذج البشري الأول، على الشكل الكامل الذي نعرفه الآن، مزوداً بأول آلة صناعية في التاريخ يحملها في كل يد من يديه.
لا لزوم للقول بأنّ هذا الإنسان “الجديد” ارتدّ لاحقاً على الكائنات التي طردته، وبسط سيطرته على غابات الأشجار التي لم تعد ثمارها غذاءه الوحيد.
ولكن من المفيد شرح ميكانيكية الطرد والعودة. فلقد كانت اليد وأصابعها أُحادية الحركة، مجرد طرف للذراع. ففي حالة الصدام الالتحامي يكون الفوز للأضخم، بالضربة القاضية، وفي حالة الصدام من مواقع متباعدة المسافة، يبقى الفوز لمن يستطيع أن يضغط أكبر صخرة بين راحتيه ويرفعها فوق رأسه ويقذف بها إلى أبعد مدى.
بعد نشوء الوضع الجديد، الناتج عن تحريك إبهام اليد، وإمكان استعمال هذه الآلة المحدثة في صناعة الأدوات، لم تعد القوة الجسدية وضخامتها، البليدة الحركة، تشكّل ثقلاً مُرجِّحاً في ميزان القوى المحدث.
لو تلوثت الانتروبولوجيا بنظريات ومقولات من صنف مقولة “العالم الثالث” و”النموذج الحصري” و”المشوار القسري”، لكان انخدع سكان ريف العالم، في تلك الحقبة، فسارعوا إلى استنبات غابات من الأشجار المثمرة في البطاح الجرداء، لا يمكن أن تشكّل إلاَّ احتياطياً استراتيجياً للكائنات الضخمة المتمركزة في الغابات القديمة، ولكانت بقيت هذه الغابات الجديدة، كما القديمة، وبقي سكانها تحت رحمة طرف الذراع الأقوى، والأهم والأخطر من ذلك، أنّ إبهام اليد ما كان ليتحرك، ولما كانت أيدينا على ما هي عليه اليوم. فهل نستطيع أن نتصور ما كان يمكن أن نكون عليه، اليوم، لولا أن تحرك الإبهام؟
إنّ ذلك سيساعدنا، حتماً، على تصور ما يمكن أن نكون لو رمينا مقولة “العالم الثالث” في أول مزبلة نصادفها على منعطف أول شارع من أول مدينة من مدن هذا “العالم الثالث” المتسخ بالنفايات الحضارية. وعلى تصور تحرك شيء ما في إمكانات إنسان جديد يساهم في نقلة نوعية جديدة للحضارة البشرية.
في البيولوجيا
إنّ آخر المكتشفات العلمية الحديثة والتي اُتفق على تسميتها بـ”الثورة البيولوجية” أثبتت أنّ الإنسان كائن بيئي، وكذلك الحيوان. وهذه المعطيات تضع العامل البيئي في أولويات تركيب الكائن البيولوجي – الاجتماعي – الثقافي، وترد مفاعيل التطور إلى عملية متداخلة بين هذه العناصر بعضها مع بعض، وإلى عملية تفاعلية بينها، مجتمعة ومنفصلة، وبين الإطار البيئي.
إن هذا الكشف، المثبت علمياً، ينقض أساساً إمكانية تصنيف العالم بالجملة، أكانت العوالم المصنفة بشكل مسطح هي ثالثة أم أولى أم ثانية.
إنّ هذا الكشف، المثبت علمياً، ينقض جذرياً كل النظريات المعلّبة التي تعتمد وصفة جاهزة، أُحادية البعد والمنطلق، لإنماء وتطوير أقاليم بالجملة، تقيم عليها جماعات بشرية بالجملة، بقطع النظر عن خصوصية الأقاليم وخصوصية الجماعات، وبالتالي الخصوصية الناتجة عن علاقة كل إقليم معيّن بكل جماعة معيّنة، إلا إذا كان القصد هو تشويه وتعطيل عملية التطور البيئي الطبيعي.
إنّ هذا الكشف، المثبت علمياً، لم يندرج بعد في قراءات العلوم الإنسانية وفي المفاهيم السائدة المتفرعة عنها، وإن كان أحدهم قد استبق هذه القراءة كما استبق الكشف.
في السياق الحضاري
تقول الأسطورة إنّ أوروبا هي ابنة صور المحمولة على قرني ثور إلى قلب القارة “الجديدة”، بالنسبة إلى العالم القديم. ولكن في الواقع، لم يتوغل رجال النهضة الأوروبية (Renaissance) في تفتيشهم عن الأبوة الحضارية إلى أبعد من القرن الخامس قبل الميلاد، ولم تحط مراسيهم إلا في أثينا على وجه التحديد. أما التوراة، فقد وصلتهم إلى عقر دارهم جزءاً من “الكتاب المقدس” ممهوراً بخاتم البابوية، ولاحقاً، الواجهة الوحيدة المترجمة إلى اللغات المحلية، والمعممة سنداً أساسياً لحركة الإصلاح (Reforme).
هل التقط الرواد الأوروبيون عَلَم الحضارة من النقطة الأكثر تقدماً، التي وصل إليها، كما يتم في لعبة البدل الأوروبية؟
في العصر الذهبي الأثيني، في الأوج، كان العرف (القانون) يقضي بتكافل وتضامن أهل المدينة مع أي مواطن من بينهم، أكان مصيباً أم مخطئاً، في خلافه مع أي رجل من خارج المدينة. وكان هذا “القانون” يسمح للأثيني بقتل غريمه، ويقضي بمساندة أهل المدينة لمواطنهم في تنفيذ عملية القتل.
الخلافات كانت تنشأ حول علاقات تجارية على وجه العموم، والحق الوحيد الذي يحكم “القانون” في أثينا هو حق ابن المدينة في أن يكون على حق، لأن “الآخر” هو الغريب “البربري” من خارج الأسوار.
قبل أكثر من ألف سنة من ذلك التاريخ، وحسب قانون حمورابي، كان فض النزاع، بين تاجر بابلي وتاجر صيني، يتم في قلب بابل حسب القانون الصيني، إذا كانت الاتفاقية التجارية قد وقعت في الصين.
تعتبر القوانين مقياس تطور الشعوب، وما اختص منها بحقوق الانسان هو دليل المستوى الحضاري، والموقف من “الآخر” هو المحك لحقوق الإنسان. فهل يمكن تصور شريعة، وبالتالي مدنية، تعلن موقفاً لا إنسانياً من “الآخر” ويمكن اعتبارها محطة متقدمة في السياق الحضاري؟.
من حمورابي إلى المدرسة الرواقية، مروراً بالانتشار الكنعاني في غربي المتوسط والمداليل الراقية لأساليب التعاطي العملي مع الشعوب إبّان هذا “الاجتياح السلمي” للعالم القديم، شكل السياق السوري مجالاً ومدى لمدنية ذلك الزمان، وما كانت التوارة وأثينا إلا نقطتي الشواذ في بحر القاعدة الواسع.
ولقد تم تصنيف العالم، في القرن العشرين، إنطلاقاً من الإرث الشاذ.
في النظرة القومية الاجتماعية
حسب النظرة القومية الاجتماعية، لا وجود لعوالم مرقمة أو خاضعة لشبه ترقيم. لا تصنيفات مبسطة ومسطحة (Shematisation). لا تجمعات عشوائية. لا تجمعات اعتباطية. فالعالم واقع مجتمعات بشرية تكونت، وتتكون، تبعاً لظروف دورة الحياة المتفاعلة مع البيئة الطبيعية، وكل تدخل خارجي، قسري، في هذه العملية الخصوصية لا يمكن إن يؤدي إلاَّ إلى نتائج سلبية.
حسب النظرة القومية الاجتماعية، لا وجود لنماذج حصرية. فالنموذج الذي تشكّل في مجتمع معين لا يمكن إلباسه قسراً لمجتمع آخر. إن مصادرة حقوق الشعوب في تشكيل نماذجها لا يمكن أن تؤدي إلاَّ إلى مخاطر قاتلة لمسيرة الارتقاء البشري، فهي تحد استبدادياً من اتساع التجربة الإنسانية، كما تقضي استبداداً على الأصالة، وهي الشرط البدئي للابداع: محرك النزوع إلى الارتقاء.
وتتجلى وقاحة الادعاء بتمدين البشرية، والانسياق الأبله في مجرى التيار الدارج، بهذا الركام من الظواهر والتراكيب المجتمعية الممسوخة التي شكلت فولكوراً بديلاً يغطي الملامح الأصلية لبلدان “العالم الثالث”، وبهذا التشويه اللاحق بالبشر وبالبيئات الطبيعية.
حسب النظرة القومية الاجتماعية، لا وجود لنظريات معلبة، ولوصفات جاهزة، تدعي إنماء الأقطار وتطوير الشعوب. ولا وجود لمقاييس موحدة، لمراتب التقدم، مرتهنة لتجربة تاريخية معينة. ولا وجود لسلم أولويات واحد موحد. ولا وجود لسلم قيم واحد موحد. كل قيمة هي قيمة مجتمعية، ولا قيمة في المطلق. كل أولوية هي أولوية مجتمعية، ولا أولوية في المطلق، كل آفة هي آفة مجتمعية، ولا آفة في المطلق.
إذا كان البشر يجتمعون في عموميات إنسانية مجردة فإنهم يتمايزون في الخصوصيات الواقعية للبيئات التي ارتبط بها تكوينهم التاريخي. فالبشر جميعهم يجوعون، ولكن تأمين الاكتفاء الغذائي يختلف بين سورية والهند والسنغال وغواتيمالا. والبشر جيمعهم يخافون، ولكن أسباب الخوف، وطبيعة المخيف، تختلف بين شعون سورية والهند والسنغال وغواتيمالا…
وإذا كانت العلوم المجردة، كالعملة الذهبية، صالحة لكل زمان ومكان، فإنّ التطبيقات العملية المنبثقة عنها ليست بالضرورة متطابقة مع احتياجات بلدان من مستويات معيشية مختلفة وفي أطوار ارتقائية متمايزة وفي ظروف تاريخية متباينة.
وإذا كانت هذه حال القواسم المشتركة الأكثر التصاقاً بعموميات البشر، فكيف تكون وضعية الأحوال المتميزة الأكثر التصاقاً بخصوصيات الجماعات البشرية، كالنظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والقوانين والدساتير، وأساليب العيش، والمفاهيم الثقافية الحياتية؟..
ما هي الجدوى من إفقار التجربة الإنسانية؟
ما هي الجدوى من القضاء على غنى التنوع في العالم؟
ما هي الجدوى من إلباس العالم، بالإكراه، زيّاً موحداً (Uniforme)؟
نسأل عن الجدوى قبل السؤال عن النتائج العملية لخربطة العالم بلا جدوى ولكنها مقتضيات السوق…
حقاً إنه السوق. وإنّ أبرز ما في هذا السوق زبائنه الطارئون، والمهرجان الكاريكاتوري المفتوح لمسخرة لعبة التمدن.
شعوب طيبة على اختلافها، مصفوفة على عدم تراتبها، تتخبط في سيرها على وقع موسيقى لا تفهمها باتجاه نموذج لا تكهنه… الإيقاع الوحيد المضبوط هو إيقاع النظرية المعلبة، التي لم تثبت مصداقيتها (التجربة اليابانية تمت على نقيض النظريات المعلبة وهي الوحيدة الناجحة، من خارج مراكز الاستقطاب وفروعها… مشكلة الديون الفاحشة المترتبة على دول “العالم الثالث”، التي أغرقت في مشاريع التنمية، والماثلة حالياً، وبدون حل، لتسفه كل نظريات التنمية).
حسب النظرة القومية الاجتماعية، لا وجود للاوتوبيا، وبالتالي لا وجود لنماذج “الميني اوتوبيا”.
هذا من الناحية المبدئية.
عملياً، يمكننا ولوج مصطلح – مقولة “العالم الثالث” عبر مصطلحين شكّلا عنوانين كبيرين لأوضاع جغرافية – سياسية، محددة من سوانا، أما نتائجها فتنسحب علينا.
إننا في صميم “الشرق الأدنى” وبعده “الشرق الأوسط”. ونحن لا شيء في قضية “الشرق الأوسط” كما كنا لا شيء في قضية “الشرق الأدنى”. المصطلح – العنوان الطارئ حلّ محلنا وسرق منا القضية. فالحل والتعقيد يعودان للأوضاع الجغرافية – السياسية المحددة من سوانا، والتي يعبّر عنها المصطلح الموضوع من سوانا، وليس لقضيتنا. وانتقال الملكية هذا تم بالموافقة الضمنية لكتابنا ومفكرينا وسياسيينا وصحافيينا وتجارنا وطلابنا وفلاحينا وعمالنا ومثقفينا، على اختلاف خلفياتهم وإيديولوجياتهم. فهم يستعملون هذا المصطلح، براحة، وكأنهم هم واضعوه على حساب سواهم. وهم يتصرفون مع هذا المصطلح بموضوعية حيادية نموذجية. إنها عملية تمثُّل فريدة في تاريخ انفصام الشخصية. فلنتصور أنفسنا الآن ونحن نستعمل مقولة “العالم الثالث” بحق أنفسنا. على الأقل، مصطلحا “الشرق الأدنى” و”الشرق الأوسط” لا يضمران معنى الإهانة.
وفي صورة بيانية سريعة لتدرج الاختلاطات الناتجة عن التسليم “الموضوعي” بالمصطلحات والمقولات المشِّوهة لواقع العالم، لصالح الأمر المفروض على العالم، نلاحظ، أنّ مصطلح “الشرق الأدنى” درج في ظروف تنافس بريطانيا وفرنسا، وشمل منطقة جغرافية – سياسية محددة بالاحتياجات الأوروبية للتمركز في شرقي المتوسط، ومطابقة للمفهوم الاستشراقي ولرقعة اهتماماته، الموضوعية وغير الموضوعية، ومطابقة أيضاً (ولا مجال للشكر) لمسرح العمليات الأساسية في السياق الحضاري الطويل، كما في التاريخ الانترنسيوني، منذ البدء وحتى الحرب العالمية الأولى، على الأقل. ولأن “الشرق الأدنى” هو مفهوم جغرافي – سياسي عام حددته المصالح الأوروبية، بذاتها ولذاتها، ولأنه غير محدد بذاته ولذاته، فإنّ تجزئة بيئة طبيعية، وتشليع شعب عريق، لا يعدو كونه عملية من عمليات توزُّع المواقع بين بريطانيا وفرنسا، على هذه الرقعة الجغرافية – السياسية المسماة “الشرق الأدنى”. “سورية الجغرافية”، بذاتها، تاريخياً وحضارياً، هي ركيزة أساسية، بل الركيزة الأساسية في هذا “الشرق الأدنى”. ولكن حسب مصطلح “الشرق الأدنى” كمفهوم جغرافي – سياسي، ذابت سورية وذاب أساسها التاريخي – الحضاري، وامّحت
شخصيتها وضاعت قضيتها، وتوزعت بضعة مواقع استراتيجية على رقعة (جغرافية – سياسية) مشاعية.
هذا، ومفهوم “الشرق الأدنى” لم يحدث تغييراً بنيوياً، في الإطار الإقليمي العام، بالنسبة لواقع المنطقة التي شملها المصطلح – التحديد. فكيف ستكون الحال مع حلول “الشرق الأوسط” سيّداً على الساحة؟.
اتسعت الرقعة من عنق شرقي المتوسط لتشمل خطوط التماس الآسيوية بين مناطق نفوذ القوتين العظميين الراهنتين والخطوط الخلفية الأفريقية للقارة الأوروبية. مناطق شاسعة لا يمكن أن يحدها مفهوم جغرافي – سياسي معقول، بيئات طبيعية متباينة الخصائص، نماذج مجتمعية ومستويات وثقافات وخلفيات وطموحات لا قواسم مشتركة بينها، مجموعة كبيرة من الشعوب التي لم يحدث تاريخياً بين غالبيتها أي احتكاك، لا سلباً ولا إيجاباً، جملة قضايا خصوصية، حقيقية وواقعية، ولكنها مختلفة ومتمايزة. كل هذا يشمله مصطلح “الشرق الأوسط”. وكل هذا لا يجمع بينه إلا كونه مناطق التماس، مناطق البين بين، ومن أقصى البين إلى أقصى البين، يستعملون عبارة “الشرق الأوسط” وكأنها تختصر قضيتهم، وقضيتهم أكلها البين.
“القضية” هي فقط قضية “الشرق الأوسط”، هذا الكائن “الجغرافي – السياسي” المشاعي، هذا الوافد الطارئ على الجغرافيا وعلى التاريخ، وليست قضية أحد (سواه) من الذين شُبّه لهم أنهم من أركانه أو من رعاياه. يذهب، فتذهب معه قضيته الطارئة ومجمل القضايا التي ارتهنت له وتلك التي جُيّرت لسلطانه الغابر، ولا تبقى إلاَّ القضايا التي بقيت، كما كانت، قضايا أصحابها. يبقى، فتبقى الاختلاطات، ولا تسلم إلاَّ القضايا التي عرفت كيف تتميز عن مشاعيته الجاهلة المستبدة.
نضيف إلى “الشرق الأوسط” بضعة مناطق، وها نحن في حضن المقولة الأم، في مقبرة “العالم الثالث”.
تراكم القضايا، والاختلاطات الهجينة، في رحاب عالم تمّ تصنيفه بالجملة، طبقاً لموقف “الآخر” منه وخلافاً لذاته – وفي الأصل ذواته – لا ينتج قضية واحدة موحدة. بلى، إنّ اصطناع “عالم ثالث” أوجب اصطناع “عالم ثالث مضاد”، عملاً بقانون الجذب وتطابقاً مع ثنائية الاستقطاب العالمي.
إنّ تمرد الخادمة على ست البيت من وقت إلى آخر، وهي لا تنفك تقلد مشيتها وتسريحة شعرها ونبرة صوتها على الهاتف ليس موقفاً ثورياً تغييرياً، ولا حتى منطلقاً لمثل هذا الموقف. وكذلك تجمع خادمات الحي، وهن من أصول وخلفيات وثقافات وطموحات مختلفة، لا يشكل تنظيماً ثورياً، إلاَّ إذا كان المقصود هو فقط إزعاج ستات بيوت الحي، ولا ضير في إزعاجهن، ولكن التغيير والتطوير إزعاجه مختلف جداً.
فقط، عندما تعي الخادمة ذاتها وشخصيتها، وأنها ليست خادمة لأحد، وأنّ لا مشية ست البيت، ولا حتى مشية ست بيت الجيران، ولا تسريحتيهما ولا نبرة صوتيهما هما المثال المرتجى، عندها، فقط ينشأ موقف ثوري تغييري. فالتغيير هو شرط الثورة، وليس “الحلول محل”، وإلاَّ اقتصرت المعمعة الصراعية على محاولة تمثُّل وتقليد “الآخر”، وهذا ما هو معروف بالسعدنة.. “وما بيحرز ثورة”.
ونتذكر “تركيا الفتاة”. ونتذكر أتاتورك، ذالك الذي لم يستطع خياله أن يجد محور ارتكاز، لقيام دولة تعاصر الحداثة، لا في فتافيت النظام العثماني، ولا من وحي زحف الجحافل الغازية بغداد، ومن ثم القسطنطينية [ولا فرق إن كانت مشكلته في خياله أم في القيم العثمانية أم من وقع الزحف الرهيب أم في نوعية فهمه للحداثة] فألبس شعبه زيّاً جاهزاً من الطراز الأوروبي، بقي زيّاً هجيناً، على كافة مستويات سلالم القيم، وترك ضمير ناظم حكمت يتمزق من مآسي انفصام الشخصية “المجتمعية”.
***
واقعياً، “العالم الثالث” غير موجود، إنه فقط في الذهن الباهت، وفي النية المضمرة، وعلى خرائط المخططين. على الطبيعة الحية هو شيء آخر. فهل يمكن نشوء حركة تحرر من اللاواقع، من الهيولى؟ هذا موضوع لا نجروء على المجازفة بولوجه، فهو من اختصاص اللاهوت. ولكن مراجعة سريعة لما يبدو أنه تحقق من إنجازات تحررية، على وجه بسيطة “العالم الثالث”، كان في البؤر التي انعتقت من المقولة – الهيولى، عندما وعت ذاتها وشخصيتها، وبالتالي قضيتها. وكل الهيصات المرافقة لم تكن سوى مجرد مجاملات ببغائية من صنف تلك المعتادة في صالونات النفاق الاجتماعي ومؤتمراته.
“العالم الثالث” مقبرة القضايا: الداخل مفقود والخارج مولود.
لسنا من “العالم الثالث”، لا واقعاً ولا مقولة ولا هيولى.
لنا عالمنا، ولهم “العالم الثالث”.
نحن من العالم، من مجتمعاته وشعوبه المقهورة. و”العالم” الذي نحن منه متحرك خارج هوامش الأوصاف والتعاريف المحددة قسراً من قبل الغير، وخارج أطر البرمجة السائدة، تنموية كانت أم توليفية.
نحن مع العالم، مع مجتمعاته وشعوبه المقهورة.
ولسنا ردة فعل. ولا نتمنى، بل لا نريد لشركائنا في الإنسانية أن يتوحدوا، وأن نتوحد في ردات الفعل. وإلا بطلت الأصالة، وبالتالي بطل الإبداع، وبالنتيجة توقف النزوع إلى الارتقاء.
كل ردة فعل تبقى أسيرة ضمن دائرة الفعل المرتدة عليه. مشارف الدائرة الخارجية هي وحدها المكان المحتمل لإنوجاد نقاط انطلاق لفعل مغاير.
قضيتنا، أن تلتقط سورية معلم الارتقاء الحضاري من الموقع المتقدم الذي تركته عليه يوم توقفت عن الفعل – مكرهة أم طائعة؟ – لأن العالم الحديث تأسس انطلاقاً من مرتكزات هي دون ذلك الإنجاز، ولا قضية لنا دون هذه الغاية. النهضة هي لهذه الغاية، وهي، إن كانت لسواها، أو لما دونها، بطلت هذه القضية أن تكون هي بالذات.
وهذه القضية، وإن كانت سوريَّة، فهي ليست لا خصوصية ولا أنانية، إنها ضرورية للعالم بنسبة ضرورتها لنا. فسورية، التي شكلت عصب الحضارة وضمانتها منذ فجر التاريخ، هي أكثر ضرورة في هذا العصر الذي بدأت فيه الانهيارات تخترق حداثة هذا العالم الهشة.
أما أن يكون مقياس النصاب في الديمقراطية بالسنتيمتر أن بالإنش، أو أن يكون مكيال العدالة بالغرام أم بالأونصة، فهذه تفاصيل “بيزنطية” تمَّ إشغال “العالم الثالث” بها، باب ارتزاق للشاغلين، وليبقى عالماً ثالثاً بالفعل…وعلى زود.
قضايا شركائنا في الإنسانية (ورفاق المصيبة في وصمة التسمية بشعوب “العالم الثالث”) هم يحددونها بأنفسهم، وهم يحددون موقع نقطة الانطلاق من ذواتهم المجتمعية.
عندما، يبدأ موكب الانعتاق من مقولة “العالم الثالث” للدخول إلى واقع العالم في حقيقته الإنسانية – المجتمعية.
عندها، يمكن الحديث عن الأصالة – الإبداع – الارتقاء، وليس عن العصرنة – السعدنة – الاستنماء، فقد خرجنا، توَّاً، من مدافن “العالم الثالث”.