تعرفنا تاريخياً على معادلة «ميزان القوى»، حيث الأقوى هو الأقدر على التسلط والحكم. أما اليوم فيجب إدخال معادلة «التوازن الزمني»، أو اختصار الوقت لأن الأسرع في امتلاك المعلومات ووسائل المعرفة والإنتاج، هو الأقدر على التحكم بالفعل والتأثير. وهكذا تحولت الحروب الكلاسيكية إلى حرب ناعمة تستغل الإعلام بشكل أساسي من أجل تدمير المجتمع والإنسان لفرض الفوضى والهيمنة والتفاهة.
دخل العالم مرحلة جديدة من التطور التقني، خاصة في ميدان الإعلام والاتصال. حلّت أجهزة جديدة متعددة الاختصاصات: تلفزيون وإنترنت وهاتف، مكان الأجهزة المعروفة، ما يؤدي إلى خروج المعدات التقليدية من السوق، لتنضم إلى أجهزة التلكس والآلة الكاتبة القديمة، إلخ...
مع الإعلام الجديد يزول الرقيب والصحافي: لقد أصبح المتلقي مراسلاً من دون وسيط. وتحول الصحافي إلى «مدّون». المرسل والمتلقي أصبحا شخصاً واحداً يتفاعل ويتواصل بحرية وشراكة مفتوحة. والوسيط أصبح شبكة متوفرة لكل فرد وهي وسيلة سهلة المنال وغير مكلفة.
إنه العصر الجديد، عصر ما بعد «الصورة التقليدية» التي لعبت سابقاً الدور الأساسي في انهيار المعسكر السوفياتي، وهي تلعب اليوم دوراً أساسياً في «ربيع الثورات» والتغيير في العالم.
الإعلام الجديد وُظّف لتضليل الرأي العام والدعاية لمشاريع التفتيت والهيمنة وتشويه الهوية القومية وإلغاء الخصوصية الوطنية ونشر العولمة المزيفة. أمام هذا الواقع... السؤال المطروح هو: في زمن الإعلام الإلكتروني المعولم كيف نقاوم حروب تدمير المجتمع وإلغاء الإنسان حتى ندخل العصر مع هويتنا الوطنية وكرامتنا الإنسانية؟ بداية نسجل الملاحظات التالية:
أولاً: من يحكم الشبكة العالمية للمعلومات؟
1- مؤسسة الإنترنت الأميركية للأسماء والأعداد المخصصة «أيكان» ICANN، تعمل في كاليفورنيا على تنظيم المرور على شبكة المعلومات العالمية كشرطي سير تقني. الحكومة الأميركية تسيطر على «أيكان» وتمنع حركة العـمل على الشبكة الدولية إلا بإذن منها.
2- مجموعة صغيرة من الشركات الأميركية هم الوسطاء أو السماسرة الذين يستأثرون بنسبة 75 في المئة من قطاع صناعة الإنترنت على مستوى الكرة الأرضية. من يملك محركات البحث يسيطر على المعلومات ويتحكم بها. مثلاً القواميس المعتمدة مثل wikipedia تقدم معلومات رسمية مقننة وموجهة. تسمح بالمشاركة من قبل القراء، لكن المصدر له حق المراقبة وعدم الموافقة على النشر. ويمكن تحديد مكـان المشغّل بينما العكس ليس سهلاً. بإمكان «غوغل» مثلاً تحليل وتوجيه المشغل عبر تحديد ملفه الشخصي ومكان وجوده. والمعلومات التي يرسلها تختلف من شخص إلى آخر ومن بلد إلى آخر، إذا أراد.
3- GAFAM هو اختصار أسماء شركات الويب الأميركية العالمية الخمس، وهي غوغل آبل فايسبوك أمازون ومايكروسوفت، وكلها تأسَّست في الربع الأخير من القرن العشرين، وتطورت وازدهرت في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، ويُطلق عليها تسمية «الخمسة الكبار». ومن المفيد أن نعلم أن غوغل تمتلك شركة يوتيوب، وأن فايسبوك تمتلك شركتي واتساب وإنستاغرام، وأن مايكروسوفت تمتلك شركة سكايب.
صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية لقّبت هؤلاء الخمسة الكبار بـ «نقابة الجريمة الرقمية المنظمة» بسبب تشكليهم خطراً كبيراً على الديمقراطية وعلى الحريات الفردية في العالم، نظراً لنشرهم أخباراً ملفقة وبث شائعات مغرضة متى شاؤوا وفي أي بلد من بلدان العالم وبلغة أهل البلد. كما كتبت مجلة «جون أفريك» مقالاً مشابهاً يؤكّد خطر هذه المجموعة العالمية التي باتت تستحوذ على البيانات الشخصية لجميع مستخدميها وميولهم وسلوكياتهم في كل ما يتعلق بحياتهم العامة والخاصة، ناهيك عن التهرب الضريبي التي تستفيد منه هذه الشركات الضخمة في أصقاع الأرض كافة، لا سيما بعدما باتت تشكل كتلة مالية ضخمة جداً.
باختصار، المعلومات هي «النفط الجديد»، من يمتلكها ويخزنها في مراكز تجميع البيانات الكبرى والشاملة ويحللها بواسطة الذكاء الاصطناعي، يمتلك القوة والتأثير. وما زالت الشركات الأميركية هي الأكثر احتكاراً وهيمنة على هذه المعطيات والتقنيات الحديثة. لكن مع تطور نظام التعددية القطبية بدأت الصين تخرج من هذه القبضة، وروسيا وغيرها على الطريق من خلال إيجاد بدائل عن النمط الأميركي السائد.
ثانياً: «إسرائيل» تتحكّم بتقنيات التجسس
«إسرائيل» فهمت باكراً لعبة حرب تجميع المعلومات الكبرى (Big Data) في الفضاء السيبراني. بالإضافة إلى الصهاينة الموزعين في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وروسيا القابضين على المال والسلطة والإعلام، تحولت «إسرائيل» خلال العقود الأخيرة إلى واحة عالمية لإستقطاب الشركات الناشئة، لا سيما تلك المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات المتطورة، ومنها برامج التجسُّس الإلكترونية. وباتت تبيع منتجاتها بأغلى الأسعار إلى الأنظمة العالمية بحجة محاربة الإرهاب، وتعقّب المعارضين والتخلص منهم.
ومنذ ثلاثة عقود، يتم توجيه المتفوقين من المجندين الإسرائيليين للعمل في وحدة المخابرات 8200، بحيث يتعلمون تطوير الأسلحة الرقمية وبرمجيات القرصنة الإلكترونية. يتبوأ خريجو هذه الوحدة مناصب عليا في شركات المراقبة والتجسس بوصفهم أدمغة أمنية عالمية، ومنهم متخصصون في جمع المعلومات الحسَّاسة من شبكات التواصل الاجتماعي العربية وتحليلها والاستفادة من نتائجها.
من جهة أخرى الأنظمة العربية التي تحكم أكثر من 365 مليون إنسان وتملك ثروات طبيعية ومالية خيالية، لا قيمة علمية وازنة لها في سوق إنتاج المعرفة.
منتجو المعرفة ومالكوها أصبحوا حكّام العالم الجدد، أما مستهلكو المعرفة هم العبيد الجدد.
ثالثاً: مستقبل الخصوصية على الإنترنت
قادة في قطاع تكنولوجيا المعلومات، وخاصة في أوروبا، يحذّرون من الانتهاكات التي ترتكبها البوابات التي فقدت ثقة عامة الناس في الشركات التي تتاجر في بيانات مستخدميها الشخصية متجاهلة «الحق في الخصوصية»، وحرية احتفاظ كل فرد بالسيطرة على تلك اللمحات من حياته على الإنترنت، والتي يجب أن تكون قابلة للنقل عبر البوابات المتنوعة.
رابعاً: الأخبار الكاذبة وأزمة الحقيقة
في كتاب جورج أورويل «نظرة إلى الحرب الإسبانية»، يشرح المؤلف كيف يرى أن «التاريخ توقف في عام 1936»، لأنه اكتشف في إسبانيا لأول مرة «تقارير صحافية لا تربطها أية علاقة بالحقائق». وهناك شعر بأن «مفهوم الحقيقة الموضوعية» الذي خربته الفاشية، بدأ «يتلاشى من العالَم». لقد تراجع الصدق أمام صعود الأخبار الكاذبة.
الديمقراطية الرقمية وفّرت إمكانية الوصول إلى كمّ واسع من المعلومات. لقد تحولت شبكة الإنترنت إلى حشد ضخم من المعارف متاح بالمجان للجميع، حيث يستطيع أي شخص أن يظهر مسلحاً بآرائه واعتقاداته وحقيقته الشخصية.
وفي نهاية هذه التحولات، انتهينا إلى التسليم بأن كل ما نتلقّاه وكأنه حقيقة من دون تدقيق.
كنا نتصور أننا نضفي الطابع الديمقراطي على «شجاعة الحقيقة» التي كانت عزيزة للغاية على فوكو. تصوّرنا أننا نعطي كل صديق للحقيقة الوسائل الفنية التي تمكّنه من المساهمة، بجرأة ولكن بتواضع، في مغامرات المعرفة. ولكن ما حدث بدلاً من ذلك هو أننا أطلقنا موجة من الفوضى والبلبلة في خليط من اليقين والشك.
لذلك علينا أن لا نعطي لكل ما ينشر على «غوغل» أهمية لا يستحقها. متى تتصاعد نوبة الصحوة، انطلاقاً من بدء عملية التشكيك الانتقادي؟
معيار الحداثة السياسية هو الانتقال من حزب القبيلة إلى حزب العلمانية التعدّدية، وإحداث قطيعة مع تلك الأشكال التقليدية للتربية المتوارثة
خامساً: أكذوبة الرأي العامّ
يُشكِّك عالِم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، في وجود مقولة اسمها الرأي العامّ من الأساس، وذلك في مقالة له بعنوان «الرأي العامّ غير موجود» (نُشرت عام 1973 في مجلّة «الأزمنة الحديثة » Les temps modernes، العدد 318. يقول بيار بورديو: «عمليّات سبر الآراء في الوقت الحالي هي أداة للعمل السياسي»، وإنّ الوظيفة الأساسية التي وُجدت من أجلها الإحصاءات والاستفتاءات هي ترسيخ وَهم زائف يروِّج لأكذوبة الرأي العامّ. ما تروِّج له وسائل الإعلام من نسب مئويّة (ستّون بالمئة من الفرنسيّين يؤيّدون كذا أو كذا) لا تعدو أن تكون فقاعة مُصطنَعة، ترمي بالدرجة الأولى إلى التستّر عن طريق هذه النِّسب المئوية: «معلومٌ أنّ كلّ ممارسة للقوّة، تحمل معها خطاباً يسعى إلى إضفاء الشرعيّة على مَن يُمارِس هذه القوّة... فرجل السياسة كان يقول إنّ الله معنا، ويُقابِل هذا القول في أيامنا هذه: الرأي العامّ معنا».
في العالم العربي ما زال الإنسان رازحاً تحت نير التشظّي والإنقسام بين ذاتَين: ذات المواطنين وذات الرعايا، وهذا راجع لكونه ما زال يعيش ضمن بنيات راكدة تقليدية مُتهالِكة. تُهمِّش الثقافة العلميّة، وتفتح المجال أمام الثقافات البدائيّة، التي تعتمد العصبيات والمذهبيات وأساطيرها، والسحر وتقنياته. وتعمل على إنجاب ثقافة بدوية انطوائية سرعان ما تتحوّل إلى معتقلات ذاتية يرتضيها الفرد لنفسه حفاظاً على أمنه ومنبع رزقه.
تغييب الفرد الواعي النقدي المستقل يلغي الرأي العام الفاعل المشارك بحرية، إذ يتحول إلى مسير في قطيع وهذا ما تقوم به وسائل الإعلام والتواصل التي سلبت الإنسان حريته وإرادته.
لا سبيل أمام المواطن، من أجل تخطّي هذه المحنة، سوى تبنّي مؤسّسة العقل ومؤسّسة العِلم، حتّى يجد نفسه أمام فرصة حقيقية لتنوير ذاته بوعيه، ولإنتاج حداثته؛ وإلّا سيظل لصيقاً بمؤسّسة البداوة وبمؤسّسة التبرير الديني، وما ينتجّ عنها من استغلاق سياسي يستبدل المتعدّد بالواحد الأوحد.
معيار الحداثة السياسية إذن، كما سبق وأعلن المحلّل النفسي مصطفى صفوان في كتابه «لماذا العرب ليسوا أحراراً»، هو الإنتقال من حزب القبيلة إلى حزب العلمانية التعدّدية، وإحداث قطيعة كاملة مع تلك الأشكال البدوية التقليدية للتربية والمتوارثة عن الماضي.
سادساً: الإستجابة الوطنية
أمام واقع التحكم والتفرد والهيمنة والأزمات الإشكالية، كيف تواجه الدولة الوطنية مصيرها وهويتها وغدها؟
1- الأسواق مفتوحة، تدخلها شركات أميركية ذات انتشار دولي احتكاري، حيث العالم كله «سوق داخلي» لها. وهذا ما لا يتوفر حتى عند كبريات شبكات التلفزة الأوروبية والعربية التي ستفقد سلطتها الاحتكارية نتيجة تشتت المشاهدين وتفتت موارد الإعلانات.
هذا الخطر القاتل سوف يهدّد قطاع الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، ما ينعكس على ثقافة البلد ووظيفة الثقافة في حماية المصالح الوطنية.
2- إن عالم البث التلفزيوني التقليدي محكوم بضوابط، ترعاه هيئات ناظمة، على خلاف عالم الإنترنت المنفلت من الضوابط. لذلك هناك عجز كامل عن حماية حق الملكية التجارية والأدبية خاصة ذات الطابع الوطني. وهذا سيكون له أثر بالغ على الثقافة الوطنية، وميول المشاهدين وقناعاتهم وخياراتهم التي ستتصف بالعولمة فيما سيختفى منها ـ تدريجياً ولكن بخطى ثابتة ـ كل ما له صلة بالخصائص المحلية الوطنية، ما سيطرح إشكاليات عدة تبدأ بالاستهلاك ونمط الثقافة إلى أساليب الحياة كافة، سواء على الصعيد الفردي الخاص أو العام.
3- إن الشبكات الوطنية أصبحت تقليدية وباتت في حالة تردٍّ تقني، ومتأخرة جداً عن نظيراتها المعولمة، وتطويرها يحتاج إلى كلفة عالية وهذا ما لا يقوى عليه القطاع الخاص.
سابعاً: الإنسان وحيداً في العولمة
كتب أحدهم على فايسبوك: «عقلي يتعرّض للإنتهاك على مدار الساعة، على هذا «الفايسبوك» وعبر شاشات التلفزيون. لست فاعلاً على أي أرض. أنا أتلقّى فقط، وأتلقّى ما يريدون هم أن أتلقّاه، وإذا ناقش عقلي المغدور ما وصله وأعمل المنطق فيه، يتعرّض للقمع المباشر منَ الجميع. أشعر أني أصبحت «خروفاً» يُساق إلى الذبح ويُقال له إنّ المناسبة هي عيد ميلاده. سيُذبَح احتفالاً به».
وعن هذا التسلط العالمي والفراغ الوطني اعتبر عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu أن الإعلام الجديد يمارس نوعاً من الإحتكار «المونوبول» في تشكيل عقول شريحة مهمّة من الناس، وذلك بتعبئته أوقاتهم القليلة بالفراغ أو باللاشيء، الأمر الذي ينأى بالمواطن عن المعلومات الملائمة التي ينبغي أن يمتلكها بغية ممارسة حقوقه الديموقراطيّة.
سابعاً: البحث عن المعنى
لعلّ التحدّي الأكبر يكمن في حرص الإعلام الوطني على صدقيته التي لا توفرها المعلومات الموجودة في المواقع الإلكترونية، لأنها منقولة ومترجمة ومقتبَسة من مصادر عالمية من دون تدقيق؛ بحيث يغدو هذا التنوّع مخادعاً وزائفاً. هل يصمد الإعلام الوطني على البقاء كسلطة رابعة في المجتمع؟ ويحافظ بالتالي على مهنة الصحافي كمراقب وناقد ودافع للتغيير، بعد محاولات تحويل الإعلامي إلى داعية لشركات الإعلان التي تموّل الصحافة الإلكترونية المجانية.
إن اعتماد شعار النوعية قبل أيّ اعتبار آخر، هو التحدّي الأكبر للإعلام الإلكتروني المستقبلي، المبنيّ على ثوابت مهنيّة وأخلاقية حتى يعطى معنى نهضوي لدوره.
ثامناً: العولمة والخصوصيات الوطنية
- المستوى التكنولوجي والتربوي في الدولة الوطنية يسمح بالمشاركة والإبداع لإنتاج أشكال وبرامج ووسائط تعبر عن الخاص الوطني وتحافظ على ما هو أصيل.
- الالتزام بوعي الهوية يعزز الشعور الوطني ويعطي أولوية لدعم الإنتاج المحلي وتفضيله على الأجنبي لأنه يعبّر عن عادات وتقاليد وثقافة وخصوصيات.
- الشعور الوطني في الصين مثلاً أدى إلى إعطاء أولوية استعمال البرامج الوطنية الصينية حتى ولو كانت أقل جودة.
- العمل من أجل إنشاء فضاء مشترك بين دول متقاربة جغرافياً ما يوسّع السوق المحلية ويعزز القدرات في المنافسة: إما توسع السوق أو تخرج من السوق.
تاسعا: تعريب الإنترنت
تواجه اللغة العربية عدداً من مواطن القصور في سياق السعي لتوسيـع دائرة الدخول إلى المحتوى العربي على الإنترنت. لذا لا بدّ من توجيه اهتمام أكبر لتطوير اللغة العربية كي تضم مصطلحات جديـدة في ميداني الأعمال والتكنولوجيا. ولا شك في أن الترجمة غير السليمة غدت سبباً أكيداً لضياع المعنى الحقيقي لنصوص ومصطلحات بذاتها. ينبغي أن تبذل جهود إلى تعريب الإنترنت على مستويات عدة.
عاشراً: جاهلية ما بعد الحداثة وفائض معلومات وقلة تفكير
قيل: أنا أفكر إذن أنا موجود... أنا أفكر إذن أنا أقول لا
التفكير هو بداية الطريق إلى معرفة الواقع وتغييره. لذلك تعتمد الولايات المتحدة في تثبيت سلطتها وهيمنتها على فائض المعلومات وتعميم نمط حياتها التبسيطي والأناني من جهة، ومن جهة أخرى انعدام المحتوى النهضوي التنموي ومنع التفكير لأنه يؤدي حكماً إلى النقد والرفض والتغيير.
المشكلة ليست في الآلة بل بالنظام الذي يستعملها ويديرها. التكنولوجيا تقرب المسافات وتعزز التواصل بين الأقارب والأهل وأبناء الأمة الواحدة ومع المحيط المهني والنفسي (أهواء متقاربة عبر الحدود والحواجز ). لكن المسألة هي كيف يستعمل الإنسان والنظام والمجتمع الوسائط لتشغيلها في الصراع من أجل التحرير والحرية والنهضة. إنها عولمة المعرفة ضد أممية السلطة.
الحادي عشر: الخطاب الجديد: الأموات يحكمون الأحياء
الشعوب الحية تعرف كيف تستفيد من الذاكرة التاريخية ومن عبر الماضي ولا تبقى أسيرة الأيام الغابرة ولا تستسلم لسلطة الأموات الذين يتحكمون بالحاضر وبالمستقبل. الشعوب الحية تسلّم الراية لقيادة واعية تعبر عن توق الشعب إلى بناء غد مشرق يحقق المصالح ويصون الحقوق دون أن يفرط بالهوية والأصيل من تراثه. والقيادة الرائدة تجمع بين الذاكرة الحية والخيال المبدع.
الخطاب الجديد هو مدار منافسة بين نوعين من القيادة ومبارزة بين أسلوبين ولغتين. القيادة التقليدية تستعمل لغة خشبية على مثالها بينما القيادة الواعدة تستعمل لغة جديدة تشبهها.
الخاتمة: صورتنا وحقنا في الحياة
والسؤال الملحّ الآن: كيف ندخل العولمة مع خصوصياتنا الوطنية في زمن الإعلام الإلكتروني الجديد؟
فائض المعلومات والبيانات وانتشار الشبكات بحد ذاته لا يبني نهضة وتنمية. وقيمة التكنولوجيا وفعلها يتجسد بتفاعلها مع الإنسان لتصبح معرفة ووعياً.
العالم العربي مأزوم ويواجه تحدي الفوضى والضياع وربيعه الفعلي يفتش عنه عبّر خصوصياته، لذا يسعى إلى بناء نظام مدني ديموقراطي مقاوم يواجه قوى التكفير والإلغاء والردة ومحاولات الهيمنة والاحتواء الخارجي. وللإعلام دور في تفجير معاناته.
الإعلام الإلكتروني صورة من الواقع بكل تناقضاته، ما يهمنا هو كيفية مواجهة الغزو الذي يجتاح المواقع والمنابر في ظل غياب إعلام مقاوم علمي مدني نهضوي فاعل. خصوصيتنا الوطنية تزول مع سقوط الدولة الوطنية الديموقراطية المقاومة. والبداية تنطلق بإنتاج صورة تعبر عنا وقادرة على اختصار الوقت وفرض توازن زمني جديد مقاوم لحروب التدمير والإلغاء من أجل إنقاذ الإنسان والعالم من الزوال في زمن نواجه فيه الأوبئة والحروب.
في زمن كورونا، التحدّي الأكبر الذي يواجه العالم اليوم هو البقاء على قيد الحياة، بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وعلى الإعلام والتقنيات دور أساسي في هذه المعركة. وبدلاً من أن يكون وسيلة لصراع القوى من الأجدى استخدامه لتقدّم ورقي الإنسان والحياة.
الكارثة البيئيّة التي ستهدد بقاءنا على قيد الحياة في المستقبل لا تقلّ خطورة عن الأسلحة النووية والكيميائيّة والحروب الفتاكة. بالإضافة إلى تأمين الموارد الأساسيّة لحياة الإنسان كالمياه والغذاء والبيئة السليمة.
قبل نصف قرن، حذّر «برتراند راسل» و«ألبرت آينشتاين» من أننا نواجه خياراً «صارماً ومميتاً لا مفرّ منه» يتمثّل في السؤال التالي: هل يجب علينا القضاء على البشريّة أم على البشريّة التخلي عن الحروب؟». وهذا السؤال ما زال ملحّاً الآن مع إضافة المخاطر المعاصرة. من هنا ضرورة تحقيق تغييرات اجتماعيّة - اقتصاديّة أخلاقية عملية ملموسة في الواقع المعاش. وللإعلام دور أساسي في التعبير عن المعنى الجديد لحياة الإنسان. أسئلة كثيرة تفتش عن أجوبة للزمن الآتي.