في كتابه التنويري الجريء، يقول المفكر فرح أنطون: «موقفٌ صعب أنا فيه بين ناريْن. فمِن جهة يعزّ علَيّ أن أجهر بما في ضميري لأنه مؤلم، ومن جهة أخرى يعزّ علَيّ أن أكذب وأخادعك. ولكنّ الحقيقة هي عندي يا بُنَي أثمن من كل شيء. ولذلك أنا أصرح لك بها». (أورشليم الجديدة ص43).
ذَكَّرَتْنا بالمقولة المبدئية أعلاه مقابلة تلفزيونية منذ أيام للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ورد فيها قولُه المؤسف: «حزب الله قوة عسكرية إيرانية في لبنان»!!!! وطبيعي أن يستتبع هذا القول ردود فعل سلبية محقة، وذلك لعدة أسباب منها محاولة البطريرك الخطيرة، وهو غير ذي صفة تقريرية هنا، أن ينقض توافقاً سياسياً وطنياً على ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، تجلى في بيانات الحكومات اللبنانية المتعاقبة التي باتت تُضَمِّن بيانها الوزاري النص على حق لبنان وشعبه في تحرير أرضه. ومن تلك الأسباب أيضاً أن البطريرك ليس الجهةَ المُخولة بتصنيف المكونات اللبنانية ولا الجهة القادرة على انتزاع هويتها الوطنية. ومنها أن حزب الله- الذي يمثل شريحة لبنانية كبرى والذي بلغ عدد ناخِبِي كتلته النيابية أضخم رقم شعبي في الإنتخابات النيابية الأخيرة- ليس حجر شطرنج في لعبة الإعلام ولا في حلبة السياسة الإستهلاكية ولا في المسلسل الطويل للأمزجة الطائفية، الذي اعتاد البؤس اللبناني أن يتفرج على حلقاته السوداء التي لا تنتهي.
إن الحق ليس أمنية والعدالة ليست تمنيات. إنهما قيمتان معرفيتان ساميتان وتَجَلِّيان إلهيّان عظيمان، مرتبطان بالحرية الإنسانية. لذلك كتب يوحنا الحبيب على لسان السيد المسيح: “تعرفون الحق، والحق يحرركم”. وليس من ولاء لأرضنا وشعبنا وحياتنا الكريمة خارج مسيرة التضحية والوفاء والدفاع العملي عن هذا الكيان النازف، في ملحمة التصدي لجريمة إستضعافه، منذ ابتدعت الدولُ المنتصرة في الحرب العالمية الثانية «إسرائيلها» التي ما زالت تقضم وتتوسع وتحتل وتُهَوّد وتضطهد وتَعزل وتعتدي وتخطف وتقصف وتُغِير وتنتهك السيادة التي لم تَحمِها إلا المقاومة، بعد أن امتنع العالم عن تزويد الجيش اللبناني البطل بالعُدة الإستراتيجية الفاعلة لردع العدوان المستمر من قِبَل الصهاينة على لبنان، قبل وبعد احتلالهم لفلسطين ثم للجولان والضفة الغربية والقدس وسيناء. هل نسي بعض اللبنانيين أنّ في الجنوب أرضاً لبنانية ما زالت محتلة؟ وأن المقاومة هي التي حررتْ معظم الأرض عام 2000 وهي التي منعت العدو من تجديد احتلاله للأرض المحررة عام 2006؟
إننا نتألم حتى الأعماق لأن مسؤولين ومواطنين يتجاهلون واقعاً ناجزاً فرض نفسه على المنطقة والعالم، مفاده أن المقاومة عامِلُ القوة الأمضى للبنان، ومعادلتُه الوازنة المقتدِرة في الردع الواجب، بعد أن كان «وطنُ الأرز» مستباحاً للعربدة الإسرائيلية جواً وبراً وبحراً منذ عام 1948. فَمَنْ هم أولئك الراغبون في التنازل عن معالم القوة التي هي القول الفصل في إثبات الحق أو إنكاره؟ ومَنْ همُ المُساوِمون على مكامن البأس في وجه البؤس؟ إننا نسأل: هل ينسى لبنان شلال نزيفه على يد العَدوّ منذ زرع الإستعمار جسم الإحتلال المصطنَع على تراب أمتنا؟ هل نسيَ شعبنا مجزرة حولا الوحشية؟ هل نسي الإعتداءَ المُوَثّق على الطائرة اللبنانية المدنية فوق مرجعيون عام 1950؟ هل غابت عن ذهنه عملية العام 1968 في مطار بيروت الدولي حيث قامت فرقة كوماندوس إسرائيلية بتدمير ثلاث عشرة طائرة مدنية لشركة طيران الشرق الأوسط، قبل أن تنسحب تحت جنح الظلام من غير ردّ أو تَصَدٍّ أو مقاومة؟ هل شُطِبَتْ أهوال اجتياح 1982 من ذاكرتنا الجمْعية قبل أن تفيق بيروت وسائر المناطق من مأساتها المُرَوّعة، أو قبل أن تجفّ دماء المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا؟ هل سَهَوْنا عن أن المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية هي التي كانت رأس الحربة في الذود عن حياض لبنان الذي داس شارون مقدساته وكرامة قصره الجمهوري قبل نشوء حزب الله وشَمّاعة الفوبيا الإيرانية؟ هل اندملَتْ جراح مجزرةِ سحمر ومجزرتَيْ قانا لتنسى المؤسسة الدينية، في جميع الطوائف، رائحة الأطفال المَشْوِية لحومهم بنيران القذائف المُحَرّمة دولياً والألغام التي ما زالت بقاياها تنفجر بأهلنا الجنوبيين الأُصَلاء... اللبنانيين قبل غيرهم، وقبل إعلان غورو، بسنين ضوئية من الصمود والعطاء والإباء؟
أخيراً، وفي أوْج الصدمة الوطنية من التصريح التصنيفيّ المؤسف لسيد بكركي، يعنينا توجيه تحية التقدير والإكبار لظاهرة المقاومة النبيلة. أولاً لأنها ثقافة وطنية وإنسانية فاعلة قبل أن تكون «قوة عسكرية» أو ميدانية. وثانياً لأن المقاومة المنبثقة من أصالة شعبنا تمثل روح الكرامة والعزيمة فيه. وهي، في المبدأ والممارسة والأخلاق، ليست تهمة بل فضيلة. نحن مقاومون، إذاً نحن موجودون. فالمقاومة دمٌ غالٍ ورايةُ قضية... إنها وسامُ شرفٍ ووقفة عزّ، وكفى بالناس إيذاءً وتضليلاً.