وفاء لشهداءِ مجزرةِ حلبا الأبطال وإعتزازاً بوقفتِهم البطولية، وقفةِ العزِّ دفاعاً عن كرامةِ الحزبِ ووجودِهِ وتاريخِهِ ودفاعاً عن وحدةِ المجتمعِ ومقاومتِهِ وعن عكار معقلِ الرجالِ والأبطالِ ومنبِتِ الشهداءِ علي طالب وفدوى غانم وغيرِهِما من المقاومينَ الأبرار... إعتزازاً بهؤلاءِ الشهداءِ وتخليداً لنفوسِهِم النبيلةِ التي عَشِقَتْ التضحيةَ والفداءَ في سبيلِ عزِّ الأمةِ وانتصارِها، جئنا اليومَ لِنُكّرِمَهم في هذا اللقاءِ الفكري ولِنَرفَعَ لأرواحهم الطاهرِة تحيةَ إجلالٍ وافتخارٍ مؤكدين أولاً، بأننا لسنا جماعةً تئنُّ وتتأوهُ وتبكي من أَلمِها بل جماعةٌ تعتّزُ بجراحِها لأنها جراحَ أعزاءٍ لا جراحَ أذلاءٍ ومقهورين. ومؤكدينَ ثانياً، بأننا لن ننسى أحفادَ البرابرِة والمغولِ الذين ارتكبوا هذه المجزرةَ الفظيعةَ ولن ننسى أسيادَهُم الذين حرَّضوا على المجزرِة بعد ان رهنوا أنفسَهم لأعداءِ الأمةِ وباعوا الوطنَ بفضةٍ من اليهود.. فهؤلاء، مهما طالَ الزمنُ، سينتصرُ الحقُ على باطِلِهِم وسينالونَ عقابَ العدالة الذي يستحقون..
تكريم الشهداء:
والحقَ نقولُ، أيها الحاضرونَ المحترمون، أنَّ أفضَلَ تكريمٍ لِشهدائِنا الأبطالِ يكونُ بوَقفةِ تأملٍ هادىءٍ وعميقٍ في أنوارِ التعاليمِ السوريةِ القوميةِ الإجتماعيةِ التي آمنَ بها هؤلاءُ الشهداءُ وحملوها في عقولِهِم مصارعينَ الباطلَ وغير مُتوانينَ عن بذلِ أنفسِهِم لبناءِ الحياةِ الحرةِ الكريمةِ التي سينعمُ بها شعبُنا السوريُ عندما يأخذُ بهذهِ التعاليمِ السامية...
ونُكرِّمُ شهدائنا، أفضلَ تكريمٍ، عندما نلجأُ إلى مِيزةِ الإنسانِ الأساسيةِ، إلى قوةِ العقلِ، مَوْهِبَةِ اللهِ في الإنسانِ والشرعِ الأساسيِ الأعلى الذي بواسطتِه نعي ونفكرُ ونُميّزُ ونُعيّنُ الأهدافَ ونرسمُ الخُططَ ونفعلُ في الوجودِ... فلو سلَّطنا نورَ العقلِ على ما يعتري مجتمعَنا من مشاكلَ وأزماتٍ، ولو اعتمدنا مبدأَ "مصلحةُ الأمةِ وخيرُها" مقياساً نقيسُ به كل ما ُيعرَضُ علينا من مسائلَ، لو فعلنا ذلك، لَتبيَّنَ لنا بوضوحٍ أسبابَ الفِتنِ والمجازرِ والمصائبِ والويلاتِ التي تمزِّقُ مجتَمَعَنا وتزيدُ حالةَ أمتِنا سوءاً ينعكس على حياتِها ومصالِحها، بينما عدُّوُنا المترّبصُ بنا شراً ينتهزُ جَهلَنا وتفكُّكَنا وإنقساماتِنا ويعملُ بتخطيطٍ دقيقٍ على اجتثاثِنا من أرضِنا وتحقيقِ حُلمِهِ التوراتي.
مجزرة حلبا:
مجزرةُ حلبا البشعةُ التي ارتَكَبَتْها جماعةٌ من الوحوشِ الهمجيةِ المتخلّفةِ هي ليست إلا إفرازاً من إفرازاتِ الجهلِ والتخلفِ والتعصّبِ المذهبيّ وإنعدامِ الوعيِ القوميِ في مجتمعِنا. هي فعلٌ إجراميٌ بربّريٌ إرهابيٌّ بإمتيازٍ لا نجدُ لهُ مثيلاً إلاّ في الإجرامِ الصهيونيِّ ومجازِرِه الإرهابيةِ بحقِّ شعبِنا في لبنانَ وفلسطين. وهي نوعٌ من الهستيريا الجنونيةِ ومظهرٌ همجيٌّ من مظاهرِ المجتمعِ الرجعيِّ القبليِّ الجاهلي، المجتمعِ الطائفيِّ المتخلفِ المنقسمِ على نفسِه إلى دويلاتٍ طائفيةٍ وإماراتٍ مذهبيةٍ متنافرةٍ تعُمُّ فيها ثقافةُ الخوفِ والتقوقعِ والإنغلاقِ والإنعزالِ، ثقافةُ التعصّبِ والحُقدِ والتكفيرِ والكراهيةِ، ثقافةُ الولاءِ للمرجعياتِ الطائفيةِ والعشائريةِ والعائليةِ أولاً والإستزلامِ لِزعيمِ هذه الطائفةِ أو تلكَ، وثقافةُ الفوضى والإستهتارِ واللامبالاةِ والإتكاليةِ والمحسوبيةِ والتكاذبِ والفساد.
مرض الطائفية:
إنَّ القياداتِ والمرجعياتِ الطائفيةَ هي التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من أحوالٍ بإستغلالِها لحالةِ الطائفيةِ واعتمادِها ثقافةَ الإلغاءِ والتكفيرِ وَوَضْعِها الحواجزَ والسدودَ بين أبناءِ الشعبِ الواحدِ لتحويلِهِ إلى مجموعاتٍٍ متمايزةٍ متقاتلةٍ تتناتشُ السلطةَ ومكاسِبَها. فما هي ماهيةُ الطائفيةِ ووظائِفِها وكيف نتخلصُ منها؟
الطائفيةُ هي عصبّيةُ الولاءِ للطائفة. هي نوعٌ من التقوقعِ والإنعزالِ والإنغلاقِ والإنحيازِ اللاعقلانيِّ والتعصّبِ الأعمى لطائفةٍ معينة.. وهي نوعٌ من التطّرفِ والإستعلاءِ والكراهيةِ لذواتِ الآخرينَ من أبناءِ الطوائفِ الأُخرى. والطوائفُ، كما يقولُ الأمينُ يوسف الأشقر، وهو أحدُ رؤوساءِ الحزبِ السابقين، "هي مقبرةُ الفضائلِ ومُوَلِّدةُ الرذائلِ متى اعتبرناها انتماءنا الأول والأخير".
إن الطائفيةَ هي سُمٌ يسري في شرايينِ حياتِنا وهي آفةٌ من آفاتِ مُجتمعِنا وعقبةٌ تحولُ دونَ وِحدتِه.. هي شرٌ تفتيتيٌ مدّمرٌ ومرضٌ سرطانيٌ قاتلٌ وهي "لعنةُ الأمة"، كما يصِفُها سعاده لأنها تُعمي بصيرةَ الأمةِ وتُفَكِّكُ جِسمَها الإجتماعي.. "إن أعظمَ تفسخٍ وتفككٍ تُصابُ بِهِما أمةٌ من الأمم"، يقولُ سعاده، "هما التفسخُ والتفككُ الناتجانِ عن تحويلِ الطوائفِ إلى أممٍ بالمعنى الحرفي، وتحويلِ الحزبياتِ الدينيةِ إلى قومياتٍ تتضاربُ في الأهدافِ والمقاصدِ". وقَبْلَ سعاده حذَّرَ الأديبُ والفيلسوفُ السوريُ جبران خليل جبران من تحويلِ الطوائفِ إلى أممٍ بِقولِهِ الحكيم:: "ويلٌ لأمةٍ كلُّ طائفةٍ فيها أمة". وللأسف، هذا ما فعلته الطائفيةُ في لبنان إذ حوَّلتْ الكيانَ اللبنانيَّ إلى مجتمعاتٍ متمايزةٍ وكانتوناتٍ طائفيةٍ لها أنظمتُها القضائيةُ وقوانينُها الخاصةُ في الإرثِ والزواج ِوالأحوالِ الشخصيةِ ولها مرجعياتُها وامتيازاتُها ومؤسساتُها الطائفيةُ من مدارسَ وجامعاتٍ ومستشفياتٍ ودورِ أيتامٍ وإذاعاتٍ وفضائياتٍ وغيرُها من المؤسساتِ الإجتماعيةِ والخيريةِ والإقتصاديةِ والرياضيةِ والخدماتيةِ والإعلاميةِ والثقافية...
والطائفيةُ لا تؤمنُ بالديمقراطيةِ الفعليةِ ولا تلتقي معها فإحداهُما تُلغي الأُخرى. فهي شعورٌ بالتمايزِ عن الآخرينَ وضِدُّهم في حينَ أنَّ الديمقراطيةَ تقومُ على العدلِ وسيادةِ القانونِ والمساواةِ في الحقوقِ والواجباتِ ولا تعرفُ التمييزَ بين المواطنينَ على أساسِ الدينِ أو العِرْقِ أو الجنسِ أو اللون.
والطائفيةُ التي جسَّدَها القانونُ والدستورُ والأعرافُ نظامَ امتيازاتٍ وحقوقٍ في المجتمعِ والتي ارتكزَ عليها النظامُ السياسيُ الفاسدُ هي نقيضُ القانونِ ووحدةِ المؤسساتِ والمجتمعِ لأنها تقضي على مفهومِ الولاءِ للوطنِ والمصلحةِ العامةِ وتمنعُ وصولَ القياداتِ الوطنيةِ الصالحةِ لبناءِ الدولةِ وتُشَجِّعُ الجريمةَ الطائفيةَ وتُكرِّسُ الفسادَ وتحميَ الفاسدينَ والمجرمينَ ودهاقنِة السياسةِ الطائفيينَ الإنتهازيينَ الذين ينهَبونَ مؤسساتِ الدولةِ ويَهْدِرونَ الأموالَ العامةَ ويدُوسون على حكمِ القانونِ ويتاجرونَ بحقوقِ الشعبِ ويُسَّخِرون آلامَهُ وأوجاعَهُ لِخدمةِ مصالحِهِم الخصوصيةِ ومآرِبهم الشخصية.
الطائفيةُ نشأَتْ وتطورتْ في ظلِّ السيطرةِ العثمانيةِ والإستعمارِ الفرنسي وبفعلِ نظامِ المِلَلِ والإمتيازاتِ الأجنبيةِ والإرسالياتِ والمدارسِ الطائفيةِ التبشيريةِ وتحولتْ في وقتِنا الحاليِّ إلى نظامٍ متكاملٍ للإمتيازاتِ الطائفيةِ وإلى اداةٍ وظيفيةٍ تستعمِلُها الطبقةُ الإقطاعيةُ الحاكمةُ لِخدمةِ مصالحِها الإقتصاديةِ والسياسيةِ وتعبرُ من خلالِها القوى الإستعماريةُ الغربيةُ التي لا تريدُ وحدَتَنا القوميةَ وتُوَّظِفُها الصهيونيةُ العالميةُ الطامعةُ بأرضِنا وحقوقِنا والتي تحاولُ تفتيتَنا وإيجادَ نماذجَ مشابهةً لدولتِها التيوقراطيةِ العنصريةِ العدوانيةِ القائمةِ على الإغتصابِ والإرهابِ والمعتقداتِ التلموديةِ المتحجرة..
هذا المرضُ الخبيثُ الذي يعشعشُ في النفوسِ والنصوصِ وينخرُ نخراً في بنى المجتمعِ السياسيةِ والإجتماعيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ فَيُعطِّلَّها ويُدَمِّرَها... هذا المرضُ الذي يعرقلُ الإنصهارَ الإجتماعيَّ ويمنعُ التآخيَ والتفاعلَ والإشتراكَ في الحياةِ الواحدةِ ويحُولُ دونَ تحقيقِ المصلحةِ العامةِ وبناءِ الوطنِ على أساسِ المواطنيةِ الحقةِ ودولةِ الحريةِ والعدلِ والمؤسسات... هذا المرضُ هو أصلُ البلاءِ وسببُ الفِتَنِ المذهبيةِ والمِحَنِ والمصائبِ والدمارِ الماديِّ والنفسي.
الدولة العصرية الديمقراطية:
إن إلغاءَ الطائفيةِ وبترَها من حياتِنا هو السبيلُ الوحيدُ لبناءِ الدولةِ العصريةِ المدنيةِ، الدولةِ الديمقراطيةِ المنبثقةِ عن إرادةِ الشعبِ التي تُساوى بين كلِّ المواطنينَ في الحقوقِ والواجباتِ والتي تصونُ الإنسانَ وتحترمُ حقوقَهُ فلا يضطرُّ لأن يطأطىءَ رأسَهُ للمرجعياتِ المذهبيةِ التي لا تريدُ له إلاّ العبودية. إن بناءَ الدولةِ المدنيةِ الحديثةِ، دولةِ المواطنِ بلا تمييزٍ يستوجبُ منا إجتثاثَ الطائفيةِ من كل بُنَى المجتمعِ ومجالاتِ الحياةِ التي تتغلغلُ فيها ويستوجبُ منا القضاءَ على العقليةِ الطائفيةِ وخُططِ تفكيرِها والتخلصَ من قضاياها الإجتماعيةِ والسياسيةِ العقيمةِ وأساليبِها في التعليمِ وفي التربيةِ وفي الإداراتِ والوظائفِ وفي قوانينِ الإنتخابِ والأحزابِ والصحافةِ والإعلامِ وفي كل سياساتِ الدولةِ الفاسدةِ القائمةِ على النظامِ الطائفيِّ والمحاصصةِ الطائفيةِ والمصالحِ الطائفية. وأولى الخطواتِ المطلوبةِ هي التشريعُ لقانونٍ إنتخابيِّ عصريِّ يعتمدُ لبنانَ دائرةً واحدةً على قاعدةِ النسبيةِ وإعتمادُ تشريعٍ وقضاءٍ مدنيين يتساوى امامهُما جميعُ المواطنينَ في أحوالِهِم الشخصيةِ وحقوقِهِم العامة.
الإصلاح الحقيقي:
والحقَ نقولُ انه لا يُمكِنُ للنوابِ الذينَ قامتْ نيابتُهم عن الشعبِ على أساسِ العائلةِ والدينِ والمالِ ولا للسياسيينَ المشعوذينَ والإقطاعيينَ والنفعيينَ المتسلطينَ على الشعبِ الذين يدُوسُون على حقوقِهِ وينهبونَ خيراتِه... لا يُمكِنُ لهؤلاءِ ان يُغَيِّروا حالة البلاد وأن يأتوا بالإصلاحِ.. فهؤلاءُ لم نجنِ على أيديِهم إلا التقهقرَ والإحباطَ واليأٍسَ والعجزَ والمديونيةَ والهجرةَ والكوارثَ والدمار.
الإصلاحُ إما ان يكون إصلاحاً حقيقياً جذرياً أو يكونَ إصلاحاً شكلياً فاسدا. الإصلاحُ الشكليُّ هو إصلاحٌ تدجيليٌّ غايتُه إبقاءُ القديمٍ على قِدَمِه. أما الإصلاحُ الحقيقيُّ فغايتُهُ إصلاحُ العلةِ في أهلِها وإيصالُ الشعبِ إلى خيرِه.
إن الإصلاحَ الحقيقيَّ، الجذريَّ، يحتاجُ إلى حركةٍ إصلاحيةٍ تغييريةٍ تُقدّمُ الأُسسَ الواضحةَ لبناءِ الدولةِ الديمقراطيةِ وتأتيَ بالمبادىءِ الجديدةِ التي توّحدُ الشعبَ على أساسِ الإنتماءِ لمجتمعٍ واحدٍ..
الإصلاحُ الحقيقيُّ يحتاجُ إلى قوانينَ تمنعُ نشوءَ الأحزابِ والجمعياتِ السياسيةِ الطائفيةِ ويحتاجُ إلى إيجادِ المؤسساتِ القوميةِ اللاطائفيةِ التي تُربّي الأجيالَ الصاعدةَ وترعاها فتغرسُ فيها مبادىءَ الحياةِ الجديدةِ القائمةِ على الأخلاقِ القوميةِ والأخاءِ القوميِّ والولاءِ للوطنِ والدفاعِ عنه.
الحركة السورية القومية الإجتماعية:
هذه الحركةُ الإصلاحيةُ التغييريةُ أوجدِها سعاده يومَ أنشأَ الحركةَ السوريةَ القوميةَ الإجتماعيةَ حركةَ نهوضٍ للمجتمعِ بِأكملِه. ومنذُ اليومِ الذي نشأتْ فيهِ هذهِ الحركةُ كان نشوءُها حرباً معلَنَةً على الحزبياتِ الدينيةِ والفئاتِ الرجعيةِ والتشكيلاتِ السياسيةِ القائمةِ على القضايا الخصوصيةِ الفاسدةِ والعقائدِ الزائفةِ والمبادىءِ اللاقوميةِ المُنتحَلَةِ وعلى خدمةِ المصالحِ الأجنبيةِ المرتبطةِ بها... وكان نشوءُ الحركةِ القوميةِ حرباً معلنةً على المذلةِ والأنانيةِ والتبعيةِ والإتكاليةِ والفسادِ والفوضى والغشِ والتزييفِ والنفاقِ وكلِّ المثالبِ الأخلاقيةِ التي تزِّيفُ حقيقةَ نفسيةِ الأمةِ الأصليةِ والتي تخدعُ الشبابَ وتُغرِّرُ بِهِم فيندفعونَ إلى حضيضِ المُثُل السفلى في خدمةِ القضايا الخسيسةِ والتشكيلاتِ الرجعية.
نشأت الحركةُ القوميةُ الإجتماعيةُ، كما يقولُ سعاده، "فكراً جديداً وحياةً جديدةً وِجْهَتُهُما ذروةُ الشرفِ والمجدِ، يصارعانِ فكراً قديماً وحياةً قديمةً وِجْهَتُهُما حضيضُ اللؤِم والذل".
الفكر القومي الإجتماعي الجديد:
هذا الفكرُ القوميُّ الإجتماعيُّ الجديدُ المرتكزُ على حقائقِ العلومِ ومناهجِها وعلى المنطقِ وقوانينِه، هذا الفكرُ العقلانيُّ الفلسفيُّ الشاملُ الذي يصبُ إهتمامَه على قضايا الوجودِ والفعلِ فيه لتحسينِ الحياةِ وتجويدِها.. كشفَ ان إنعدامَ الوعيِ لِهويتِنا القوميةِ ولِحقيقتِنا الإجتماعيةِ وجوداً ومصلحةً ومصيراً هو السببُ الرئيسيُّ لكلِ المآسي والويلاتِ التي نعاني منها اليومَ من ضعفٍ وتشرذمٍ وفرقةٍِ وإنقساماتٍ، من تخبطٍ وعطشٍ نفسيٍ وتفسخٍ روحيٍ، من عصبياتٍ كيانيةٍ وفئويةٍ وأحقادٍ مذهبيةٍ لا تُوّلِدُ إلا الفتنَ والحروبَ والمجازرَ والأحزان...
هذا الفكرُ الجديدُ المدركُ لعواملِ نشوءِ الأممِ والمُنْطَلِقِ من حقائقِ التاريخِ والجغرافية والعلومِ النفسيةِ والإجتماعيةِ والإنتروبولوجيةِ كشفَ عن حقيقةِ الأمةِ الإجتماعيةِ وأوضحَ هويتَها السوريةَ وقضيتَها القوميةَ المستقلةَ وأرسى الأسسَ الثابتةَ لبناءِ وعيٍ قوميٍ سليمٍ ولتوليدٍ نهضةٍ قوميةٍ إجتماعيةٍ مُحْيِيَةٍ تستمدُ روحَها من مواهبِ الأمةِ السوريةِ ومن تاريخِها الثقافيِّ والسياسيِّ الغنيِّ بالمآثرِ الثقافيةِ والفضائلِ الإنسانيةِ والقيمِ الخلاّقةِ والمبدعةِ. هذه النهضةُ العظيمةُ التي تربطُ ماضينا بحاضِرِنا والتي تُعبِّرُ عن يقظةِ الوجدانِ القوميَِ والبطولةِ التاريخيةِ وإرادةِ الحياةِ المنتصرةِ في شعبِنا هي نهضةُ الحقِ والخيرِ والحريةِ والجمالِ التي تبغي ان تقضيَ على ظلامِ الأمةِ وان "تُقرِّبَ النفوسَ وتوَحِّدَ الشعورَ والإرادةَ وتعلنَ ابتداءَ عهدٍ جديدٍ يحلُّ فيهِ الاتحادُ محلَّ الإفتراقِ وتحظى النفوسُ بالخيرِ والسعادةِ والطمأنينة".
النهضةُ القوميةُ الإجتماعيةُ تدعونا لأن نكونَ حرباً على التعصبِ الطائفيِّ لأنَّ المجتمعَ يهلَكُ بالطائفيةِ ويحيا بالآخاءِ القوميِّ ولنا في الحروبِ الطائفيةِ التي وقعتْ في لبنانَ وما أنتجتْهُ من مآسيَ ودمارٍ الدروسُ والعبرُ.
والنهضةُ القوميةُ الإجتماعيةُ تشدّدُ علينا بِنَبذِ الحزبياتِ الدينيةِ والتآويلِ الدينيةِ البغيضةِ التي أوَّلَتْ الدينَ تأويلاً فاسداً وقالت غير ما قالَه الله.. وتعلنُ ان "ليس من سوريِّ إلا وهو مسلمٌ لربِّ العالمين. فاتقوا اللهَ واترُكوا تأويلَ الحزبياتِ الدينيةِ العمياء. فقد جمعنا الإسلامُ: منا من أسلمَ للهِ بالإنجيلِ ومنا من أسلمَ للهِ بالقرآنِ ومنا من أسلمَ للهِ بالحكمةِ... وليس لنا من عدوٍ يقاتلُننا في دينِنا وحقِنا ووطنِنا غير اليهود".
النهضةُ القوميةُ تدعو لفصلِ الدينِ عن الدولةِ وإبعادِه عن الصراعِ السياسيِّ لأنَّ الدينَ هو شأنٌ إيمانيٌ روحيٌّ بحتْ ويجبُ ان يكونَ عاملاً أخلاقياً مُنَزَّهاً وفاعلاً في سلوكِ الناسِ وفي حياتِهم وارتقائِهم. لذلك فالنهضةُ القوميةُ ترفُضُ ان تكونَ الأديانُ أحزاباً متصارِعةً في المجتمعِ فالصعودُ إلى السماءِ يقتضيِ إرتقاءً لا انحطاطاً و"إن إقتتالَنا على السماءِ أفقدَنا الأرض"، كما قالَ زعيمُ النهضةِ:
وزعيمُ النهضةِ دعانا لأن نعتصمَ بِوحْدتِنا الإجتماعيةِ وقال: في الوحدةِ الإجتماعيةِ تزولُ الحزبياتُ الدينيةُ وآثارُها السيئةُ وتضمحلُّ الأحقادُ وتحلُّ المحبةُ والتسامحُ القوميانِ محلَّها..."
الحقَ نقولُ إن الإصلاحَ عملٌ طويلٌ وجهادٌ مستمرٌّ لا يتمُّ بِعصا سحريةِ أو بتصوراتٍ خياليةٍ بل يتمُّ أولاً وأخيراً في النفوسِ، في التربيةِ القوميةِ، في إصلاحِ حالةِ الأمةِ النفسيةِ – المناقبيةِ، في بناءِ المواطنِ الصالحِ اللاطائفي، بناء الإنسانِ الجديدِ الذي يحيا لقضايا الحياةِ العاليةِ والعميقةِ، الإنسانِ-المجتمعِ المؤمنِ بنفسِهِ وإنسانيتِهِ وبِقيَمِ الحياةِ ومُثُلِها والمتسلحِ بالوجدانِ القوميِّ وبقوةِ العلمِ والمعرفةِ- معرفةِ ذاتِه وغايةِ وجودِه المجتمعيِ ومعرفةِ عدوِّه في حقيقةِ باطلِهِ ونفسيتِهِ وفي أطماعِهِ وأهدافِه..
الوجدان القومي:
والوجدانُ القوميُ، ايها الحاضرونَ المحترمونَ، هو شعورٌ إجتماعيٌّ وإنحيازٌّ عقلانيٌّ واعٍ وكلي للمجتمعِ والإهتمامِ بحاجاتِهِ ومصالِحِه وخيرِهِ وارتقائِه. هو عينُه الوعيُ القوميُ ويقظةُ الوجدانِ الإجتماعيِ وهو نوعٌ من التعصبِ للحياةِ واستمرارِها واستجادتِها. هذا الوعيُ القوميُ هو الشعورُ بشخصيةِ الجماعةِ والتعبيرِ عنها.. إنه شعورٌ روحيٌّ صادقٌ يُولِّدُ محبةَ الوطنِ ويدفعُ بأفرادِ الشعبِ الواحدِ للتعاونِ معاً لدفعِ الأخطارِ عن وطنِهِم ولتحسينِ حياتِهم الجامعةِ والنهوضِ من واقعِ إنقساماتِهم الكيانيةِ والطائفيةِ والعشائريةِ والعائليةِ إلى واقعِ الحياةِ الجديدةِ، حياةِ العزِّ والتقدمِ والفلاح.
هذه هي عقيدةُ الوجدانِ القوميِّ، أيها الحاضرونَ المحترمونَ. إنها عقيدةُ تنادي بالمحبةِ القوميةِ الصافيةِ وتعملُ للوِحدةِ والأِلفةِ والإنسجامِ بين أبناءِ المجتمعِ الواحد. تشدِّدُ على الحبِ المدرحيِّ الصافي الذي به وحدَهُ يحيا الإنسانُ وتُبْنَى الأوطان. هذا الحبُ السوريُّ الكامنُ في جوهرِ المناقبِ القوميةِ والمتفجِّرِ منها والذي ُيشكِّلُ ركيزةَ الإيمانِ القوميِّ الإجتماعيِّ هو حبُ الإنسانِ والمجتمعِ والأرضِ، حبِ العملِ والبناءِ، حبِ الخَلْقِ والإبداعِ، حبِ العطاءِ والتضحيةِ حتى الفداءِ، حبِ العزةِ والكرامةِ والحياةِ الحرةِ الشريفةِ، حبِ البطولةِ والموتِ متى كان طريقاً للحياة.
في الختام نحيي أرواحَ الشهداءِ الأبطالِ ونقولُ إن الحقيقةَ التي آمنوا بها واستشهدوا من أجلِها باقيةٌ فينا في نفوسِنا المؤمنةِ بالحياةِ والمصارعةِ لتحقيقِ المطامحِ الساميةِ والمطلبِ العظيم... وكما يقولُ الزعيمُ الخالد: "لو قضوْا على المئاتِ منا، لما تمكنوا من القضاءِ على الحقيقةِ التي تخلدُ بها نفوسُنا ولما تمكنوا من القضاءِ على بقيةٍ منا تُقيمُ الحقَ وتسحقُ الباطلَ.
- ألقيت هذه المحاضرة بمناسبة الذكرى الأولى لمجزرة حلبا البشعة وذلك بتاريخ 10 ايار 2009 في قاعة منفذية ملبورن.