لطالما كنتُ أعتقد يقيناً بأنني أعرف طبائع الرفقاء القوميين الاجتماعيين، أو غالبيتهم على الأقل، كما تتجلى في تصرفاتهم وعلاقاتهم الحزبية والاجتماعية. فأنا أحمل على كتفيّ أكثر من خمس وستين سنة، منها حوالي الخمسين سنة في العمل الحزبي المتواصل... ناهيك عن التجارب الحياتية والخبرات المتراكمة في الوطن وفي المغترب البريطاني حيث قضيت ـ وما زلت ـ أربعين سنة ونيف.
ولكن الشكوك بدأت تتسلل إلى نفسي خلال السنتين الماضيتين. وأخذت تنتابني أحاسيس مُقلقة بأن مجهولاتي باتت أكبر من معلوماتي، خصوصاً عندما أسمع وأقرأ وأتابع ما يتحفنا به "رفقاء" يصرّون على أن يكون لهم في كل عرس... قرص! ودفعتني الشكوك إلى طرح تساؤلات حول ما وصلنا إليه جميعاً: هل كانت التصرفات التي نعايشها اليوم موجودة من الأساس، وأنا الذي عميت عن رؤيتها على حقيقتها؟ أم أن الظروف الأمنية والاقتصادية والاجتماعية زعزعت قيمنا المناقبية المتميزة، فطلع علينا أشخاصٌ لا مهمة لهم في هذه الحياة سوى التربص بالآخرين والتهويش عليهم ظلماً وعدواناً؟
وأعترف بأنني جرّبت التمسك بأعذار واهية. قلتُ في نفسي: ربما نشأت ممارسات النكد والتحطيم والسخرية والأستذة والاستعلاء (حتى ولو على خازوق!) بسبب القلق الناجم عن انتشار وباء الكورونا؟ أو لعل العزلة الاجتماعية المفروضة على الناس، والفراغ القاتل المرتبط بها، أفرزا النزعة الفردية التي لا ترى في الآخرين إلا الأسوأ... فتستيقظ نرجسية بعضهم على معارك وهمية مع طواحين الهواء التي تديرها "غازات التفكير"، حسب تعبير أديبنا الكبير سعيد تقي الدين؟
لكن سرعان ما استرجعت القواعد الأصيلة في انتمائنا الحزبي وتفكيرنا العقائدي. القومية الاجتماعية تمنحنا مزايا يفتقدها عناصر الأحزاب الأخرى. نحن نمتلك ـ أو يُفترض أن نمتلك ـ وحدة الروح ووحدة الاتجاه، وقيماً مناقبية تحكم العلاقات بين الرفقاء، وبينهم وبين المواطنين. هذا هو إيماننا وتلك هي تعاملاتنا. وليس صحيحاً ما قاله لي أحدهم في معرض التفسير أو التبرير إن الرفقاء "الديناصورات" من أمثالنا إنقرضوا أو هم مقيمون في قواقع تعزلهم عمّا حدث من تبدلات خلال العقود الثلاثة الماضية في الحزب وفي المجتمع!
هذا كلام غير دقيق، ولولا أنه صادر عن رفيق صادق موثوق لما استحق مني أية إشارة. نحن أمام حقائق دامغة من واجبنا أن نتعاطى معها بالأسلوب القومي الاجتماعي الذي تعلمناه من سعاده: الصدق مع الأمة، والأهم الصدق مع الذات. إذ يبدو لي أنه خلال العقود الثلاثة الماضية نشأ في "الحزب" على غفلة من الزمن "رفقاء" لا علاقة لهم بالحزب نهائياً. هم يختلفون عنا بكل شيء إلا بكلمة "رفيق" التي انتحلوها، فبدت عليهم فضفاضة مشلشلة. جاءت ولادتهم في "الحزب" غير طبيعية، إما لأن الحمل تم خارج الرحم أو لأنهم نتاج تلقيح صناعي داخل الأنابيب. وفي جميع الأحوال (مرّة أخرى نستعين بالمبدع سعيد تقي الدين)، هم مجرد حالة تناسلية عابرة!
نحن لا نعمم، ولن نعمم. هؤلاء قلة محدودة تسرّبت إلى حياتنا الحزبية عندما سهت أعين النواطير. لكنهم موجودون، ويمارسون فذلكات تخريبية تحت ستار الثرثرة الخارجة عن فكرنا والمنفلتة من موجبات مناقبنا. وسأعرض في الفقرات التالية نموذجاً لما يصفع أعيننا كل ساعة من كل يوم من كل أسبوع من كل سنة!
أريدكم أن تتصوروا معي شخصية قد تكون حقيقية أو قد تكون وهمية. ولتسهيل الأمر عليكم أؤكد أنها متواجدة بيننا بنسبة تسعين في المائة (هذا ما تثبته يومياً وسائل التواصل الاجتماعي حيث تسود ثقافة الأصابع المتهورة!). صاحبنا هذا (ربما صاحبتنا أيضاً) يستيقظ صباحاً فقط لكي يسمح للشمس بأن تشرق على الكون. وقبل طرد بقايا النعاس عن عينيه، يطمئن إلى أن الكرة الأرضية ما زالت تدور، فيتبسّم بارتياح. وبما أن البشرية بأسرها تنتظر بلهفة وتشوّق وتوّقع ما ستبدعه أصابعه الرقيقة، فهو يتكرّم على الناس بتغريدة أو تغريدتين (تويتر) معلناً بدء حركة التاريخ في ذلك اليوم. فالحياة كما نعرفها هجعت في سريره عندما آوى إلى النوم... ولن تدور عجلتها من جديد إلا بتغريدته التي هي بمثابة أمر انطلاق للناس أجمعين!
وإذا كان خالق الكون قد استراح في اليوم السابع، فإن صاحبنا يشعر بالاستراحة بعد التغريدة الأولى مطمئناً إلى أن البشر في أعمالهم يلهجون بالحمد والشكر على نعمة وجوده الذي لا صيرورة للحياة من دونه. ثم ينصرف إلى متعته المحببة، لعبته التي توازي عملية الخلق كلها. فرأسه محتقن بمخططات همايونية لا يعرف من أين يبدأ في تنفيذها. وخلايا دماغه تعمل على مدار الساعة، لكنها تدور مثل رحى الطاحون: مكانك راوح! ويغضب صاحبنا عندما يُدرك في قرارة ذاته ومرآة روحه أنه ضحل، وأنه أمّعة، وأنه مستهلك للأوكسجين فقط لا غير. وهو لن يقر بنقيصته، بل سيهرب إلى الأمام باحثاً عن صيد ثمين يجعله هدفاً سهلاً لساديته المشرئبة. ينتقي أي موضوع ليخلق منه قضية. يخوض معركته ولو في "قن دجاج". يُقاتل ذاته إذا لم يستجب الآخرون لاستفزازاته. كلامه مسامير وعباراته تهويش. المعادلة التي يؤمن بها تقول: إن تهشيم الآخر وتحقيره وإلغاءه هي الطريق الوحيد إلى الرفعة وإعلاء الذات المشوهة.
إنها "نهضة الذل"، حسب عبارة سعاده... وبؤس النهضة الذليلة هي!!