يصطخب 8 تموز، في دورة حياتنا، ذاكرةً متأجّجة لا ذكرى باردةً. يجتاح فينا الفكرَ والوجدان. فما أعْظَمَ العقل حين يتنكّب أيضاً دور الضمير، وما أصْدَقهما حين تصطبغ مسؤوليتُهما بدم الشهادة. وإذا كان فِعلُ الوجود يستثير الغياب، وفِعلُ الغياب يستثير الوجود، فلأن العباقرة كواكبُ خارج المدار، يَعبَق بهم فضاءُ المعرفة الحق والوجود الخلّاق.
لم تنبع قوة الرائد النهضوي أنطون سعاده من جَمعِهِ، دستورياً، بين السلطتين التشريعية والإجرائية، بقدر ما نَبَعَتْ من قدوته الفكرية والنضالية والمناقبية. ذلك أن القائد هو الشخصية المحورية في الحزب والمؤسسة والحركة والتيار، في آفاق النجاحات وتبعات الإخفاقات، في عمليات التنظيم والإنابة والمراقبة والمحاسبة، في تحفيز الإمكانات وإدارة الطاقات، في العمل السياسي الاستشرافي العملاني، البعيد عن النظرة الرومانسية والمراهقة السياسية.
إن القائد، الذي تتماهى صفاته في شخصية سعاده مع المؤسس والزعيم والمعَلّم، هو محرّك الجميع والنموذجُ الأرفع. هذه هي حال القادة الرسوليين، الذين يبتكرون المفاهيم الرؤيوية ويَحْيَوْنها ذهناً وإيماناً وسلوكيات، كما يجسدونها مجاهدةً أخلاقية متواصلة، هي الشرط الطوعيّ الأمثل لصدقية المبادئ وأهلية حامليها.
باستقامة القائد يستقيم الأفراد وتستقر المؤسسة، كما يستوي العمل والإنتاج واستثمارُهما للمصلحة القومية العليا. ولعل الجانب الأهم في عملية إعداد المسؤول المفوض، المدير، الناظر، المنفذ العام، المندوب، العميد، إلخ هو البناء الروحي ـ النفسي ـ القِيَمي لشخصيته، من دون أن ننسى المعنى العميق الذي تنطوي عليه ثقافة العضوية في الحزب السوري القومي الاجتماعي، بما هي انتماء كلّيّ إلى بيئة اجتماعية ـ إنسانية مغايرة، ينسلخ فيها المنتمون عن ولاءات لاشيئية متخلفة من جهة، في حين أنهم من جهة أخرى يعتنقون ولاءً جديداً جوهرُه النهضة المنبعثة والتغيير الخلّاق.
لقد أجمع علماء الإدارة والتربية على أصولٍ إدارية ـ قيَمية خمسة، تتفرّع عنها قِيم فرعية أخرى، وهذه الأصول هي:
1 ـ الحكمة التي من دلالاتها حُسْن التدبير، الاستثمار الأمثل للموارد والطاقات، الرؤية الاستراتيجية، الموضوعية، الرأي الثاقب، إلى آخره.
2 ـ الشجاعة، وتتضمّن الحزم، الإقدام، المروءة، ضبط النفْس، الكرم، الشهامة، الثبات.
3 ـ العفّة، وتتضمّن الكفّ عن المنافع الشخصية، القناعة، الإيثار، الصبر.
4 ـ العدل، ويتفرّع عنه العمل بقاعدة الثواب والعقاب، التقدير السديد، الاستقامة، التزام الدستور والقوانين.
5 ـ الصدق، وتتفرّع عنه قيم فرعية مثل الشفافية، الأمانة، الإخلاص، التطابق بين القلب واللسان، احترام النفْس والآخرين وفقاً لمنطق المؤسسات الدستورية.
وقد جَزَمت الثقافات المختلفة بأهمية هذه الأصول وضرورة الاحتكام لأخلاقياتها، خصوصاً في شخصية المسؤول والقائد، حيث يَحْدُث خلل كبير متى فُقِد أحدها، لا على مستوى المسؤول فقط بل على مستوى الأفراد والمؤسسة وبالتالي على مستوى العمل ككل، فتسود الفوضى الدخيلة على النظام الأصيل، ويعمّ التفلت عوضاً عن الانضباط… لذلك تمسَّك سعاده بهذه الأصول المبدئية العامة وعَزّزَها بأصول دستورية غائِيّة وبقواعد أخلاقية جديدة، معمّدة بالعقيدة الهادية، وعاملة لتحقيق المصالح القومية العليا، بمُفاعِل الإنسان الجديد الذي تستحيل دونَه إقامةُ النظام الجديد. قال سعاده: «كلّ من مشى في الحق قبل أن يمشي الكلّ، صار قدوةً ومُعَلماً». جريدة الزوبعة في 1 تموز 1943 .
كبيرةٌ هي مسؤولية تمّوز، ليس فقط بِداعي الخسارة الكبرى المبكرة لاستمرار قيادة سعاده، الفكرية والميدانية، الحزبية والقومية، لعملية البناء والتوعية والكفاح ضد أمراض الداخل وأعداء الخارج… إنها كبيرة لأنها تُلقي على الحركة النهضوية مهمة الاستمرار التصاعدي في خطّ الصراع. والحزبُ السوري القومي الاجتماعي قبِلَ الاضطلاع بهذه المهمة الجليلة منذ تأسيسه، بل بمجرّد تأسيسه. وتابع بعد استشهاد سعاده يحمل الشعلة الوضّاءة في ملحمة نضاله، وما زال يكتب كل يومٍ في ديوان عطائه صفحاتٍ مشرقات من التنوير العقلاني، حروفُها مسكوبة من شلال الإيمان والبذل والتفاني والاستشهاد.