لولا القدس لَما التهَبَتْ غزة، ولا انتفضَت الضفة، ولا تحرّك الداخل الفلسطيني الأسير منذ 1948... لولا القدس لَما تحرك الشارع في بعض الدول العربية المكمومة شعوبُها، قبل، بثقافة الإنهزام وطقوس الإستسلام قبل القمع الرسمي العنفي... لولا القدس لَما استفاق الضمير الأوروبي، ولو بعناوين إنسانية، على وخْز الضحايا من النساء والشيوخ والأطفال، وعلى التدمير المُمَنهج للمباني المدنية التي حاول الإعلام المعادي تلغيمها بإعلامه الذي انفجر هذه المرة بأكاذيبه قبل أبراج غزة، الصامدة بإرادة أهلها قبل حجارتها، والتي ارتقى شهداؤها عالياً قبل أن يعصف بمبانيها الإنهيار.
إنها ملحمة المقاومة قبل أي عنوان آخَر. والمفارقة أن دولاً عِدة لم تتأثر بشهداء القِطاع والمدن الفلسطينية الأخرى بمقدار ما هالها الضررُ اللاحق بالكيان الغاصب وعاصمة احتلاله. أما ما تَمَخضتْ عنه مواقف وزراء الخارجية في بعض الدول الكبرى فكان بالفعل مخزياً لِمُعلِنيه قبل سامعيه وقارئيه. فما معنى الإعلان عن دعم ما يُسَمى «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»؟ فهل العَدوّ في موقع الدفاع أم في موقع الإعتداء الصارخ؟ وأي حق في قيام الإحتلال على أشلاء أهل الأرض وأطلال ممتلكاتهم؟ أليس الكيان الغاصب باطلاً اخترعته الحركة الصهيونية وفرضه داعموها بالتزوير التاريخي وبقوة الإرهاب السياسي والعسكري والإقتصادي والأمني؟ نحن ندرك تمام الإدراك أن الأمن والإقتصاد والسياسة لا تخضع للعواطف بل للمصالح، إلا أنّ ذلك لا يعني إهدار مصالح مشروعة لمصلحة مصالح أخرى مزعومة لأن ذلك الإهدار يمثل جريمة كبرى ضد العدالة هي جريمة إعدام الأخلاق على مقصلة الأهواء والمؤامرات. لكنّ المشكلة تكمن في أن بينَ الناس مَنْ يشعر دون أن يرى، وبينهم من يرى دون أن يشعر. يقول الشاعر الضرير علي الحصري القيرواني في القصيدة الشهيرة التي مطلعها (يا ليلُ، الصّبُّ متى غدُه؟):» كلا، لا ذنبَ لمنْ قَتَلَتْ عيناه ولم تقتُلْ يده/ يا من جَحَدَتْ عيناه دمي وعلى خَدّيهِ تَوَرُّدُه/ خدّاكَ قدِ اعترفا بدمي فعلامَ جفونك تَجْحدُه»؟!!
هذه هي باختصار، المعادلة الوطنية الفلسطينية مع بعض العرب، الذين لن يكونوا ملكيين أكثر من سلطة فلسطينية متداعية فرّطَتْ بحقوق شعبها وشهدائها، فأسقطتها اتفاقية أوسلو في محرّمات معلنة سبق أن حلّلتْها لنفسها في الخفاء. أما سلطة الشعب العادلة فتفرز القمح عن الزؤان، وتعرف العزّ من الهوان. فإذا كان حيّ الشيخ جراح يحفّز بيت المَقْدِس، فالمسجد الأقصى يُلهبه، وكنيسة القيامة تؤازره بالسَّاعد الناصِر. وإذا كانت القدس تستنفر كامل فلسطين، فإن فلسطين الحبيبة تستنفر القضية القومية التي ينبغي أن يستهدي بمنارتها المؤمنون والعلمانيون على حد سواء. فالأرض والشعب أولويتان مقدَّستان في منظومة المقدسات الأخرى، الجامعة لشتّى العناصر والمكونات والمعتقدات. ولعل اللافت الأبرز في خط التطور البياني من خلال المعركة الأخيرة المحتدمة هو النبض الفلسطيني المشارِك، على طريقته المتاحة، في رفْد المعركة بخفق الداخل، المحاصَر منذ 1948، بطوق الإحتلال المدجج بآلات القمع والإرهاب. وهذا يدل على أن القضية حية في نفوس أهلها جميعاً، من الجليل وسائر الداخل التاريخي إلى الضفة الغربية لنهر الأردن، إلى القدس الأبية، إلى قطاع غزة المُحرَّر بالإرادة الحديدية والمقاومة الأبية، بمختلف فصائلها المقاوِمة لا المقاوِلة.
منصورةٌ فلسطين مهما طال الزمن وغَلَتِ التضحيات... محفورٌ حقها في الوجدان، الفلسطيني والقومي. لذلك عبّرتْ أطياف شعبنا الوفيةُ، في فلسطين ولبنان وسورية والعراق، وفي المغتربات التي لم تُجهِض فيها الحكوماتُ المنحازة للعدو التحركاتِ ومسيرات التضامن الحاشدة، عن سُكنَى فلسطين الحبيبة في القلب والعقل والجوارح، فاستحقّتْ أن يصطبغ هذا العام بلونها الزاهي المقاوِم. لكنّ المهم ألا تنسى أجيالنا ما يجري اليوم ولا ما جرى في الماضي ولا ما سيجري في الغد القريب أو البعيد... المُهِمّ أن يتواصل الكفاح بزخمه الميداني والشعبي والسياسي والإعلامي والنفسي بعد تأمين مستلزمات الصمود اللوجستية العملانية، وتفعيلها مادياً ومعنوياً ورؤيوياً. المجد لبطلات المقاومة وأبطالها الأبرار. المجد لدفق الشهداءِ-الأمانات. لقد طفح الكيل وطال الإنتظار، فما مِنْ فجرٍ للحرية أنقى من فجر فلسطين، وما من ذراع حبيبة أَوْلى بالعناق الإستراتيجي من ذراع فلسطين.