لم تحُلْ أزمة البنزين وجائحة كورونا دون التلبية الواسعة للقوميين الإجتماعيين، مسؤولين وأعضاء، يوم أمس حيث ساحة الشهيد خالد علوان ذات الرمزية الخاصة لهم ولأهل بيروت المقاوِمة. ولم تنجح المحاولات، التي سبقت الإحتفال، في منع إقامته أو في الحدّ من حضور الحشد الذي انتظم على مدى شارع الحمراء من أجل إحياء عيد المقاومة والتحرير، وإعلان التضامن القومي الداوي مع فلسطين كلها، التي اختصرتْ غزةُ المقاوِمة وقفة عزها بالصمود والردود الصاروخية الموجِعة، على عدوّ مهووسٍ بالتنكيل والتدمير والتقتيل غير عابئ بِعِيد ولا بأطفال ونساء ولا بأبنية سكنية ولا بمدنيين عُزّل... إلا من الكرامة والعنفوان. لذلك قال الشاعر النوعي محمود درويش عن مسقط رأسه الفلسطيني المرفوع: «رأيتُ بلاداً يلبسها الشهداء ويرتفعون بها أعلى منها».
عَوْدٌ على بدء، إلى رأس بيروت، حيث حضر بأعدادٍ ضخمة الأشبالُ والزهرات بِزَيّ البراءة ونقاء الطفولة، كما حضرَتْ بوميض البطولة عناصرُ رمزية من نسور الزوبعة. صحيح أن بعض الشعارات التي رددها نفر من المشاركين لا تليق بحزب النهضة بقدر ما تسيء له، إلا أنّ أمراً لا يرقى إليه الشك لأنه كان لافتاً للقاصي والداني، وهو حِرص اللجنة المنظِّمة على تظهير مشهد ثلاثي يختلط فيه العامل الحزبي ووزْناته الداخلية بالرسائل السياسية للأصدقاء والحلفاء قبل الأخصام والأعداء. ولعل المشهد الثاني ينطق بواقع الحضور الشبابي الكثيف، في حين يلتقط العقل قبل العَيْن استهدافَ حَفْرِ الذاكرة الجَماعية ببصمة الشهداء الواخزة، لعل الجيل الجديد يقتدي بباذِلي الدمِ الأغلى لأن التربية الأجدى تكون بالقدوة. والشهادة، أصلاً، واحدة من القيم المُثلى التي يجب أن تكون ممتدة في حياتنا، راسخة في أفئدتنا حتى لا تعصِف فيها الأهواءُ والمصالح الصغرى. من هنا أهمية أن لا يكون بين القيم ما هو مطبوع بالإلتباس، فمعرفة القيم – بمعانيها ومغازيها - ثقافة أصيلة في المناضلين المؤمنين بقيمتَيْ قَسَمهم وانتمائهم، والعمل بموجبَيْ وعيهم وسلوكهم النضاليّيْن.
تنتظم في سُلّم القيم فضائلُ أخرى منها: النظام، المناقبية، الصدق، الوفاء للقضية، الشعور بالمسؤولية، العقلية الأخلاقية، الإنصاف، إتيان الخير العام، الصبر، العفة، التواضع، الإستقامة، الشجاعة، النبل، الرصانة، النفسية الصراعية، الوحدة الروحية، المعرفة العقدية – العِلمية - السياسية. وكل تهميش لهذه الفضائل والمزايا القِيَمية هو تهميش لجوهر القضية وإنسانها الجديد الموعود. قال سعاده: «نحن وحدة روحية قبل كل شيء، ثم منظمة قومية».
أعترف، بدون مُزَينات، أنني لم أحضر الإحتفال، ومع ذلك حرّكَ احتفالُ الحمراء شجوني والجروح. لكنني، كما يقول جلال الدين الرومي، ممتنّ لكل جراحاتي، فجراحنا «هي التشققات التي يدخل منها النور». لذلك يدعونا جلال الدين إلى الإعتصام بالشعاعات التي تخرق العتمة بسرعة الضوء لتُدرِكنا: «أَبْقِ عينيك على النور لِتَعبُر كل هذا الظلام».
عجيبٌ هذا الحزب الإقتحامي، الذي ينهض بعد تَعَثُّر ويتفولذ بعد تَصَدع. عجيبةٌ قوته الروحية الحفّازة حتى في مناخٍ إنقسامي لا يُنكَر... ومُذهلةٌ عجينتُه المباركة، وخميرته المسكونة بفينيق متأهب أبداً للوثوب، لا من رماد السكون والموت بل من شعلة الحركة التي لا تهدأ، ومن جُذوة الحياة التي لا تستكين.