الفصل الأول :
1 ـ النظرية الاجتماعية
2 ـ النظرية السياســية
3 ـ الفلسفة السياســية
الفصل الثاني :
سعادة والفكر الغربي
1 ـ إميل دوركهايــــم
2 ـ كارل ماركس وفريدريك انجلز
3 ـ ماكس فيبر
الفصل الثالث :
مدرحيات التلامذة
1 ـ مدرحية الأمين حيدر الحاج اسماعيل
2 ـ مدرحية لبيب زويا
3 ـ مدرحية كامل المقدم
4 ـ مدرحية الأمين أنيس فاخوري
5 ـ مدرحية جورج عبد المسيح
6 ـ مدرحية هشام شرابي
7 ـ مدرحية الأمين انعام رعد
8 ـ مدرحية وليد زيدان
9 ـ مدرحية علي عمران
10 ـ مدرحية الدكتور عادل ضاهر
الفصل الأول
تمهيد
مما لا شك فيه ان سعادة كعالم اجتماع انزوى في ظل الحزب الذي أنشأه / الحزب السوري القومي الاجتماعي/ ولم يظهر كعالم اجتماع أبدع في مجال هذا العلم، عُرف سعادة بزعيم للحزب بلا منازع، وقضى حياته مناضلا فيما سعى اليه حزبه، آمن بالحزب وسيلة لبلوغ أهدافه التي تجلت في دعوته لوحدة سورية الطبيعية، فتعثر سعيه بجملة من العوامل السياسية تحديدا، أشدها موقفه من الصهيونية العالمية، التي عملت ـ وما تزال ـ على اجهاض أي مسعى لهذا الحزب في تحقيق غايته، آزرتها في ذلك قوى جبارة، ماديا ومعنويا ـ أمريكا والغرب الأوروبي ـ لتأثر مصالحها في مسعى الحزب لتحقيق هدفه أيضا، وتعاونت معها قوى داخلية رجعية / دينية، عرقية، ثقافية../ وسياسية أبرزها كان حزب البعث العربي الاشتراكي ممثلا بأحد قياديه الثلاث "أكرم الحوراني"، في الوقوف في وجه أي محاولة لانتشال أمته مما هي فيه، فتآمرت عليه واغتالت زعيمه في أبشع جرائم التاريخ السياسي على الاطلاق ومن ثم عملت على اغتيال حزبه في قضية اغتيال المالكي مهزلة التاريخ القضائي في الشرق الأوسط إن لم يكن العالم ..
لم يكن سعادة مجرد قائد وزعيم لحزب، حتى ولا رجلا استثنائيا تخطى زمانه بعشرات السنين، إن لم يكن قد تخطاه بقرون، اذ ما قيس ما دعى اليه والحالة الاجتماعية التي عمل في وسطها، لم يكن سعادة رجلا سياسيا، وإن يكن حزبه قد ألزمه بالعمل السياسي، كان سعادة مفكرا وعالما في الاجتماع والانثروبولوجيا قبل أي شيء آخر، وكان رائدا في فكره وعلمه، سبق الكثيرين من العلماء الذين تناولوا أي من العلمين( علم الاجتماع وعلم الانثروبولوجيا)، تخطى ما قبله وما بعده بعشرات السنين، على الرغم من أن ما تناوله في علم الاجتماع والانثروبولوجيا ــــ الذي كان ما يزال علما يحبو في محاولته أن يكون علما معترفا به ــــ تجاوز كل ما جاء به علماء الاجتماع قبله وبعده،
لقد تجلت عبقرية سعادة في مؤلفه العظيم والرائع/ نشؤ الأمم/ والذي لقي مصير مؤلِفه من التهميش والاهمال والاغتيال العلمي، المقصود تخطيطا وتنفيذا، حيث لم يقف ذلك على تلك القوى الخارجية والداخلية التي سعت بمختلف قواها المادية والمعنوية على طمس ما جاء به من حقائق في علمين كانا في طفولتها بينما كان مؤلف سعادة قد بلغ بهما سن الرشد، لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه الى تلامذة سعادة، الذين لم يتبصروا في ما جاء به من تعاقدوا معه على تحقيق ما انتهى اليه قدوتهم في مؤلفه المشار اليه، بل إن المتابع لما كتبه الأوائل منهم وما تلاهم، بقي في حدود التكرار والاجترار والاسقاط لفكر معلمهم على وقائع هي بطبيعة الحال واقعية، لكنها لم تكن لتعبر أو تظهر محتوى ومضمون وجوهر ما جاء به نشؤ الأمم ، أكثر من ذلك لم يسعوا لترجمته للغات الأخرى لأسباب أبرزها ما سبق ذكره..
مدخل:
إن دراسة معمقة في فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية / المدرحية / لم تحظَ حتى الآن باهتمام أي من المفكرين القوميين الاجتماعيين أو سواهم من المفكرين السوريين أو العرب ،عدا بعض الاسقاطات على بعض الوقائع الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، التي حاولت أن تقدم تعريفا لهذه الفلسفة فهامت حولها دون أن تبلغ جوهرها، وتحددها كما هو متبع في الفلسفات الأخرى، التي تبدأ بالتعريف عن نفسها بمقولة رئيس تختزل كل جوانبها العامة والخاصة ، لذا كان لابد، لإيضاح هذه الفلسفة، من تعريفها وفق ما دلل عليه سعادة دون زيادة ولا نقصان، فكل ما سيلي ، لا يعدو كونه تعريفا بهذه الفلسفة، أو بالأحرى رسم معالمها كما جاءت في مؤلف سعادة العظيم /نشؤ الأمم/.
تقوم الفلسفة المدرحية على مقولة رئيس، ينضوي تحتها كل ما كتبه سعادة أو تحدث به / خطب ومقالات ورسائل وأحاديث../ مقولة تحكم فكر سعادة الفلسفي والاجتماعي والسياسي والثقافي.. الخ، بكل تفرعات أي مما سبق، مقولة رئيس تقول:" المادة تعين الشكل"(1) ولتأكيد ما تقدم نسوق جملة من الأمثلة التي قالها سعادة أو كتبها في مختلف هذا وذاك:
يقول سعادة:" ..لا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته أي أن يكون الشيء موجوداً. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود.." (2) فعلى مبدأ / أن المادة تعين الشكل/ يلعب الوجود في القول الآنف ذكره دور (المادة) بينما تلعب المعرفة دور (الشكل)، ذلك أن الوجود هو محتوى المعرفة، فالمعرفة هي التي تعكس الوجود في الفكر الإنساني، فكما يقول سعادة:" لا يكفي تحديد الوجود لقيام الحقيقة فالوجود يجب أن يصير معرفة ليكون حقيقة.. لا يمكننا أن نتصور وجوداً بلا معرفة. فلا يمكننا أن نقول إن لأي وجود مفترض، غير مدرك بالمعرفة، قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة.." فالوجود هو الذي يحدد محتوى، مضمون، جوهر، باطن (مادة) المعرفة بحيث تأني المعرفة على شاكلته دون زيادة أو نقصان، هكذا يبقى الجوهر محددا للمظهر، أو الباطن للظاهر، أو المحتوى (للشكل)..
في مؤلفه الرائع "نشؤ الأمم" يبتدئ سعادة بالتأكيد على أن الانسان قد نشأ بالتطور، وأن تطوره ـ اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا..(الشكل) جاء مطابقا لخصائص بيئته (المادة)، فأياً كان موضوع التطور، أو محتواه أو مضمونه أو جوهره، فإنه يأتي مطابقا للبيئة الطبيعية التي يجري التطور فيها، هنا البيئة هي المادة التي تصوغ التطور بحيث يأخذ التطور دور الشكل المطابق كليا لخصائص البيئة، يقول:" .. والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن.."
فالسلالات جاءت تلبية لمتطلبات البيئة الطبيعية، بمعنى آخر إن العضوية راحت تتكيف مع تلك التطورات البيئية، وبنتيجة هذا التكيف نشأت خصائص عضوية متوافقة كل التوافق مع خصائص تلك البيئات في تطورها، فالسلالات إذن هي شكل تلك التطورات التي حدثت في البيئة، وتاليا تمايزت واحدة عن الأخرى بخصائص تطورات بيئتها الطبيعية، هنا البيئة هي (المادة) التي حددت للسلالة خصائصها فجاءت مطابقة في (الشكل) لتلك الخصائص، فالمادة( التطورات البيئية) اقتضت (شكلا) لها هو السلالات.
والسلالات بدورها خضعت لمقتضيات التمازج السلالي نتيجة الارتحال لبيئات تمكنها من الحياة، فتمازجت مع سلالة أو سلالات أخرى، ووفق مبدأ / أن الصبغة الوراثية القوية تتغلب على الصبغة الأضعف/ كان المزيج السلالي الناتج هو السلالة التي راحت أيضا تتكيف مع البيئة النازلة بها، هكذا يمكننا القول أن (المادة) هي التمازج بين السلالات أما المزيج السلالي الناتج هو( الشكل) الذي تختلف به الجماعات البشرية بعضها عن بعض بين مزيج متفوق وآخر وضيع متخلف وفق تلك الخصائص التي اكتسبها من تكيفه مع التطورات البيئية ، يقول سعادة :" وإذا بحثنا في عوامل الامتزاج وجدنا بينها عاملين بارزين هما الزّواج الخارجيّ والحرب. والزّواج الخارجيّ هو عادة تحريم تزاوج الجنسين في القبيلة الواحدة وجعله بين رجال قبيلة ونساء قبيلة أخرى. بل هو أكثر من عادة، إنّه من شروط شرف الأخلاق(67). فإذا دفعت عوامل المهاجرة قبائل من سلالتين أو ثلاث في جهة واحدة حتّى تلاصقت وتفاعلت، إمّا بالحرب وإمّا بتبادل المنتوجات والزّواج الخارجيّ، حصل الاختلاط الدّمويّ وابتدأ نشوء الجماعة المطلقة مع الإقامة بالأرض.."
هكذا، يكون التمازج بين سلالتين أو أكثر ، بأي عامل كان، هو (المادة) التي تعين (الشكل) الذي هو كما يقول سعادة: "فإذا دفعت عوامل المهاجرة قبائل من سلالتين أو ثلاث في جهة واحدة حتّى تلاصقت وتفاعلت، إمّا بالحرب وإمّا بتبادل المنتوجات والزّواج الخارجيّ، حصل الاختلاط الدّمويّ وابتدأ نشوء الجماعة المطلقة مع الإقامة بالأرض.."
وحتى لا تتكرر أمثلتنا للتأكيد أن الفلسفة المدرحية هي هذه المقولة التي اختصرت مختلف الفلسفات الأخرى بمقولتها الرائدة ( المادة تعين الشكل) ، والتي من خلالها تبلغ الفلسفة غايتها في إيجاد قانون يمكن له تفسير مختلف مظاهر الحياة البيولوجية والفيزيولوجية والسيكولوجية للإنسان الفرد كذلك مختلف مظاهرها الاجتماعية والفلسفية والسياسية والاقتصادية والثقافية.. الخ. فهذه المقولة (المادة تعين الشكل) هي التي ستكون نبراسنا في توضيح فلسفة سعادة الاجتماعية في مقولته الرائدة الثانية ( دورة الحياة الاجتماعيةـ الاقتصادية) ـ المجتمع، أي( النظرية الاجتماعية) كذلك في توضيح مقولته الثالثة (النظرية السياسية) وهي( القومية الاجتماعية) ـ الأمة، ، وكذلك أيضا في مقولته الرابعة (الانسان المجتمع) ـ الدولة، أي الفلسفة السياسية عند سعادة.
بداية لا بد لنا من التنبيه والتنويه الى أن سعادة ـ وعلى خلاف علماء الاجتماع الآخرين ـ عندما يستشهد بغيره من هؤلاء، فهو يستشهد لسببين، الأول للشرح وتاليا نقض ما جاء به غيره من نظريات تتعارض وعلم الاجتماع من حيث هو علم موضوعي له قوانينه المتعارضة كليا وأي موقف ذاتي يستهدف البناء على ما يأتي به هذا العلم من حقائق لا يمكن تجيرها لخدمة أغراض سياسية، على سبيل المثال، نظرية الحتمية البيئية التي جاء بها الألماني/ فريدريك راتزل/ والتي تتلخص في أن / الدولة كائن عضوي يكبر وتزداد احتياجاته باستمرار، وأن الحدود هي أشبه بجلد الكائن العضوي، والذي يجب أن يتمدد باستمرار مع نموه../ دون التمييز بين الأمة والدولة حيث حدود الأمة الطبيعية هي الحدود التي تشكل البوتقة التي تنصهر فيها مختلف ردود فعل الجماعة النازلة بها على محرضاتها، وحيث تنتهي فيها حدود التفاعل الاجتماعي، بحيث يمكن للدولة أن تتوسع دون أن تتوسع معها حدود تفاعل الجماعة وبيئتها، لكنه، سعادة ، يستشهد بتلميذ راتزل / بواس/ الذي يقول أن للعضوية حدودا للتكيف مع الواقع البيئي لا يمكنها أن تتعداه، لتدعيم وجهة نظره من أن / أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيراً يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعاً لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته../ وعلى سبيل المثال أيضا، على خلاف مع أنجلز الذي يعتمد كليا على ما جاء به /هنري جيمس مورغان/ في كتابه/ المجتمع القديم/ أو كتاب / حق الأم/ لمؤلفه / يوهان ياكوب باخوفين/ الذي يسميه أنجلز بترجمته الانكليزية/ باتشوفين/ وذلك في كتاب أنجلز الشهير / أصل العائلة والملكية والدولة/ والذي تشغل به كتابات مورغان وباخوفين اضافة لآخرين، أكثر من ثلثيه، سعادة يوجز في استشهاداته كثيرا، ويقدم الخلاصة نقدا أو نقضا لما جاء ت به استشهاداته ليستنبط في نهاية تحليله وتركيبه نظريته.
سعادة يمضي في تحليله لما جاء به علماء الاجتماع الآخرين، على النسق الذي جاء به /انشتاين/ في معالجته لميكانيك نيوتن، حيث تساءل أنشتاين عن العلاقة بين سرعة الضوء ومنبعه، والتي كانت المقدمة لقيام النظرية النسبية العامة والخاصة، سعادة يحلل ومن ثم يستخلص فيركب ما استخلصه ليستنبط نظريته على نسق ما جاء به في مناقشته للفارق بين عوالم الكائنات الحية حيث يقول:" نرى أيضاً من متابعة درسنا عالم الحشرات والحيوانات الدّنيا من الوجهة البيولوجيّة أنّ هنالك أنواعاً من الزّنابير تجري في حياتها على أسلوب فرديّ مطلق. وحين ندقّق في هذه الظاهرة الّتي تخالف ظواهر النّحل يتّضح لنا أنّ السّبب هو في حيويّة هذه الزّنابير الجنسيّة، فإنّ اكتمال جهازها الجنسيّ هو السّبب الظّاهر الوحيد الّذي نستطيع بواسطته تعليل حياتها الفرديّة، كما أنّ ضمور الجهاز التّناسليّ في النّمل والنّحل هو أقوى عامل في تجمهرها حول ملكاتها وبيوضها.
ولسنا نطيل الشّرح في موضوع يبعدنا التّوغّل فيه عن متّجه هدفنا في هذا الكتاب ونحن ما عرضنا لبعض نواحي الاجتماع الحيوانيّ البيولوجيّة إلاّ لنوضح بالدّليل والأمثلة أنّ الاجتماع في الكائنات الحيّة أنواع، لكلّ نوع منها خصائص لا تتعدّاه إلى نوع آخر وأنّ تطبيق الاجتماع الإنسانيّ على مظاهر التّجمهر في الحشرات والحيوانات الدّنيا أو بالعكس غلط فادح سببه جهل مرتكبيه العوامل البيولوجيّة المختلفة في أنواع الاجتماع المختلفة.."
ما يجب ان نلفت اليه الانتباه ايضا، هو أن سعادة كعالم اجتماع لا يستغني عن علم الأنثروبولوجيا ( علم الانسان) الذي قام عليه علم الاجتماع، مع العلم أن علم الانثروبولوجيا( علم الانسان) قد سبق من حيث الظهور على مسرح العلم، علم الاجتماع، الذي يمكن اعتبار مقدماته في كل ما جاءت به كتابات مونتسيكيو وسان سيمون وديفد هيوم وآدم سميث.. ويمكننا أن نعتبر عام 1861 هو العام الذي ابتدأ به علم الانثروبولوجيا بظهور كتاب ( السير هنري مين) تحت عنوان( القانون القديم) ومن ثم ظهور كتاب (باخوفين) ـ حق الأم ـ الذي يأتي انجلز على ذكره في كتاب( أصل العائلة والملكية والدولة) باسم (باتشوفين) ومن ثم كتاب (فوستل دي كولينج) ـ المدنية القديمة ـ 1864 وكتاب ( ماكلينان) ـ الزواج البدائي ـ عام 1865 وكتاب ( السير ادوارد تايلور) ـ أبحاث في التاريخ القديم للجنس البشري ـ و كتاب الحضارة البدائية عام 1871 ـ ومن ثم كتاب (لويس هنري مورغان) ـ أنساق روابط الدم والمصاهر في العائلة الانسانية ـ والذي يعتمده (انجلز) كمصدر رئيس لكتابه المشار اليه..
مع بداية القرن العشرين، ظهرت كتابات في علم الاجتماع، استندت لما جاء في علم الانثروبولوجيا، كان أبرزها كتابات (جيمس فرايزر) و (اميل دوركهايم) و (راد بروان ) و (مالينوفسكي) و (البوث سيمث) .. وظهرت بالتالي مدارس لمجمل هذه الأفكار / مدرسة الانتشار الحضاري و المدرسة الوظيفية والمدرسة البيئية التي ظهرت في أواسط اربعينيات القرن العشرين ( وضع سعادة مؤلفه نشؤ الأمم في عام 1936 ، أي قبل ظهور المدرسة البيئية بعشرة أعوام) ..
وتتداخل في بحثه عن حقيقة (قوانين) التطور البشري نشؤا وارتقاء، عواملا وأسبابا ونتائج مختلف علوم الانثروبولوجيا وعلم الأحياء وعلوم الفيزياء ومختلف العلوم التي لها علاقة بالعلوم الانسانية.. ويقدم في مؤلفه المومأ اليه، قواعد جديدة لهذا العلم التي اكتشفها علماء الاجتماع بعده بعدة عقود..
لذا كان من المفيد في مقدمة بحثنا، التعريج على موضوعات هذا العلم والتعريف بها ودلالاتها، حتى يكون لدينا إلماما بأهمية الموضوعات التي أثارها سعادة في موضوع علم كان ما يزال جنينيا على مستوى الدراسات المتخصصة، التي نشهدها اليوم..
إذا كان علم الأنثروبولوجيا سابق في الظهور على علم الاجتماع، بحيث يمكن اعتبار العلم الثاني مشتق من العلم الأول ومستند عليه، فيمكننا القول أن علم الاجتماع يقوم في المحصلة على تلك الموضوعات التي تناولها الأول مضيفا عليها موضوعاته الخاصة التي اقتضتها موضوعات الأول،
علم انتروبولوجيا :
لهذا العلم تفرعات عدة تنضوي تحت عناوين كبرى هي على التوالي:
(1) علم الإنسان الطبيعي
(2) الأنثروبولوجيا الاجتماعية
(3) الأنثروبولوجيا الحضارية (أو الثقافية)
(4) الأنثروبولوجيا التطبيقية
ما يهمنا في هذا المجال هو ( 1 ,2) ، ذلك أنها تدرس البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والنظم الاجتماعية مثل العائلة، والفخذ، والعشيرة، والقرابة، والزواج، والطبقات والطوائف الاجتماعية، والنظم الاقتصادية، كالإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، والمقايضة، والنقود، والنظم السياسية، كالقوانين، والعقوبات، والسلطة والحكومة، والنظم العقائدية، كالسحر والدين. اضافة الى ظهور الإنسان على الأرض كسلالةٍ مُتميزة، واكتسابه صفات خاصة كالسير منتصباً، والقدرة على استعمال اليدين، والقدرة على الكلام، وكبر الدماغ، ثم تدرس تطوره حياتيا. وانتشاره على الأرض، وتدرس السلالات البشرية القديمة وصفاتها، والعناصر البشرية المُعاصرة وصفاتها وأوصافها الجسمّية المُختلفة، وتوزيع تلكَ العناصر على قارات الأرض، وتضع مقاييس وضوابط لتلكَ العناصر، كطول القامة، وشكل الجمجمة، ولون الشعر وكثافته، ولون العين وأشكالها، ولون البشرة، وأشكال الأنوف. وتدرس الوراثة، وانتقال ميزات الجنس البشري من جيلٍ لآخر.. ويطلق على كل ما تقدم علم ( الانسان الطبيعي)
ويهتم فرع الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة بتحليل البناء الاجتماعي للمجتمعات الإنسانية وخاصة المُجتمعات البدائية التي يظهر فيها بوضوح تكامل ووحدة البناء الاجتماعي، وهكذا يتركز اهتمام هذا الفرع بالقطاع الاجتماعي للحضارة، ويتمّيز بالدراسة العميقة التفصيلية للبناء الاجتماعي وتوضيح الترابط والتأثير المتبادل بين النظم الاجتماعية
أما علم الاجتماع، فيختص في دراسة المجتمع الإنسانيّ؛ ويبحث في علاقة الناس مع بعضهم البعض، وما ينتُج عن هذه العلاقات من ظواهر اجتماعيّة تختلف باختلاف المجتمعات الإنسانيّة، وتتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، وتُستنبَط بعد كل هذه الملاحظات والمشاهدات قوانين عِلم الاجتماع التي تُحدّد مدى تقدّم المجتمع وازدهاره أو تخلّفه وتراجعه.."
بالطبع، لم يكن علم الأنثروبولوجيا قد تطور وبلغ هذا المستوى من الدقة في تشعب وتفرع موضوعاته، عندما وضع سعادة مؤلفه نشؤ الأمم، مع ذلك نراه في مؤلفه المذكور يمر على أكثر هذه الموضوعات ويستنبط منها مقولاته..
في مؤلفه /نشؤ الأمم/، يتناول سعادة بدقة مذهلة ما يمكن اعتباره عروض عابرة للمجتمعات الانسانية تناولتها مختلف تلك المدارس، بينما تناولها سعادة بدقة تكاد تكون متناهية في ما وصل اليه من نتائج، فهو يبتدئ بدراسة ظاهرة الانسان نشؤا وارتقاء منذ اللحظة التي انتصبت قامته فيها محررة يديه ومطلقة شرارة الفكر الأولى، وصولا لمرحلة يقظته اجتماعيا وتاليا قوميا، وما يترتب على ذلك بدئا من تأسيس حزبه وانتهاء باغتياله ..
وهكذا على مدى صفحات مؤلفه العظيم/ نشؤ الأمم/ لا يأتي على ذكر مصطلح دون تعريفه والمرور تاريخيا على تطوراته ..
سعادة في مؤلفه الرائع/ نشؤ الأمم/ يدحض مختلف النظريات التي قام عليها علم الاجتماع الغربي والأمريكي والماركسي،
سعادة يعيد دراسة التاريخ البشري في محاولة منه لاستخراج مقولات التطور التي انتهت بالبشرية لما هي عليه مجتمعا ودولة ، ولتحديد البنية المادية والنفسية لكليهما، وذلك عبر مقولته / دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية/ ..والتي تعني أن مختلف التجمعات البشرية خضعت بطريقة أو بأخرى لمقتضيات بيئاتها الجغرافية وعبر تتالي أجيالها، راحت تكرر ما درج عليه الأولون من هذه الجماعات، هذه التكرارية في الاستجابة لما تقتضيه البيئة الطبيعية، هي التي يطلق عليها سعادة ( دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية) والتي يقيمها على بديهيات لا تترك مجالا للشك في صحتها، والتي نأتي على ذكرها، مع التنويه، أننا وفي السياق سنشير الى المقولة التي سبق وأشرنا الى أنها تحكم فكر سعادة، على أي نحو أخذ به، وتاليا لما يشكل (المادة) ولما يشكل ( الشكل)
يبتدئ، سعادة، في دراسته أحوال الاجتماع البشري ـ على خلاف علماء الاجتماع كافة ـ ببديهيات..
أولى هذه البديهيات كما يقدمها سعادة هي أنه :" في فلسفة العلم الطّبيعيّ .. التّعليل العلميّ يقرّر أو يرجّح، أسبقيّة الأرض (المادة) على الحياة (الشكل).. ومهما يكن من شيء فإنّنا لا نعرف الحياة إلاّ على الأرض ولا نعرفها تقدّمت إلاّ بتقدّم الأرض في الصّلاح للحياة.."
البديهية الثانية هي:" أنّ الأرض (المادة)، مع كونها وحدة جوّيّة مقسّمة بحسب طبيعتها إلى أقاليم (شكل) تتنوّع فيها مقوّمات الحياة وتتفاوت، وفي بعضها تنتفي بالمرّة كما في القطبين.." البديهية الثالثة هي:" تختلف علاقة الطّبيعة بالنّبات والحيوان عنها بالإنسان. فالعلاقة الأولى علاقة مفردة أو وحيدة الطّرف.. أمّا علاقة الطّبيعة بالإنسان فهي مزدوجة.. فالأرض تكيّف (مادة) الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل (شكل) ويكيّفها. وإلى هذه العلاقة المتينة يعود تفوّق الإنسان على بقيّة الحيوانات في تنازع البقاء. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى (مادة) هذا التّكييف (شكل) وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة. وفي الوقت الّذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيويّة يجد نفسه مضطرّاً لتكييف حاجاته (شكل) حسب خصائص (مادة) الأرض النّازل فيها.."
البديهية الرابعة:" قلنا إنّ الأرض مقسّمة بحسب تكوّنها إلى أقاليم وبيئات ولكلّ إقليم خصائص تختلف عن خصائص الإقليم الآخر، لا توجد مادّة واحدة تمدّ الطّبيعة بها إمداداً مستمرّاً ولكلّ بيئة خصائص تتميّز عن خصائص البيئة الأخرى. وهذه الخصائص (المادة) هي الّتي تعيّن وجهة (الشكل) تقدّم الإنسان في سدّ حاجاته مداورة ــ أي مدنيّته. بل إنّ البيئة هامّة لتقدّم الإنسان بقدر ما هي الأرض عموماً هامّة لحياته.."
البديهة الخامسة: "إنّ تقسّم (مادة) الأرض إلى بيئات هو السّبب المباشر لتوزّع (شكل) النّوع البشريّ جماعات. فالبيئة كانت ولا تزال تحدّد الجماعة، لأنّ لكلّ بيئة جغرافيّتها وخصائصها..فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها لأنّ الاستنباط (الشكل) والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص (مادة) البيئة الطّبيعيّة.."
البديهة السادسة: "وهكذا نرى الجماعات البشريّة قد تأثّرت كلّ جماعة منها بمواد بيئتها وجرت على أساليب (شكل) توافق طبيعة (مادة) هذه البيئة، فتنوّعت أساليب الجماعات ومجاري حياتها حسب تنوّع بيئاتها.."
هذه هي البديهيات التي بنى عليها سعادة رؤيته للتطور البشري، نشؤا وارتقاءً، مع التذكير بالمفهوم المدرحي للمادي والنفسي (الروحي) والذي يجب أن يبقى ماثلا في الذهن، لا يبارحه، طوال هذه الدراسة ـ المقدمة.
فالمادي هو: كل ما ليس له علاقة بالإنسان وجودا ومعرفة( الوجود برمته( مادة)، دوران الأرض حول نفسها (مادة)، دوران القمر حول الأرض (مادة)، دوران الأرض حول الشمس (مادة) هوذا مفهوم المادة الذي يعنيه سعادة بهذا المصطلح (مادة).
اما المفهوم المدرحي للنفسي أو ( الروحي، مجازا) فهو كل ما له علاقة بالوجود الانساني ، وجودا ومعرفة، ( الثقافي نفسي ـ روحي)، السياسي ( نفسي ـ روحي) ، الفني ( رسم نحت موسيقى علوم على اختلافها.. الدين الحرف الرقم.. المحراث المنجل ، كل ما هو صناعي.. الخ ( نفسي ـ روحي )
1 ـ النظرية الاجتماعية
"دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية":
يبني سعادة نظريته الاجتماعية على مقولته / دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية/ وعلى البديهية السادسة، الآنف ذكرها، بديهية أن التطورات البيئية (المادة) تبقى ثابتة لمدى زمني طويل بحيث تبقى هي هي في تأثيرها على ردود فعل ( نفسي ـ روحي) الانسان في مختلف أطوار نشأته وتطوره فهي الثابت الوحيد الذي يواجهه الانسان في مختلف أجياله، بمعنى آخر، إن التطورات البيئية لا تواكب التطورات الانسانية، وبحيث تبقى التطورات البيئية هي الثابت بينما تأتي ردود فعل الانسان كمتحول أو تابع لتلك التطورات فهي ـ التطورات ـ لا تأبه بالإنسان ومختلف تحولاته أو تغيراته، وعليه، ف(دورة الحياة) هي (المادة) التي تحدد (الشكل) أو متجه التطور عبر ردود الفعل الانسانية، وعليه أيضا، فهي المقولة التي ترسم معالم التطور البشري منذ أن انتصبت قامة الانسان الفرد وصولا الى بلوغه مرحلة الجماعة الشاعرة بشخصيتها ـ القومية، وتلَخص هذه المقولة بأنها المسار الذي سارت به البشرية كافة، نشأة وتطورا، وهي المقولة التي تحكم مختلف النزالات البشرية وفي أية بقعة نزلتها، وفي أية مرحلة من مراحل تطورها، فأي تطور طرأ على أية جماعة كائنة ما كانت، يخضع لهذه المقولة، في شقيها المادي (دورة الحياة) والنفسي ـ الشكل أي التطورات (الاجتماعية ـ الاقتصادية). وتاليا، فكل ما هو اجتماعي ـ اقتصادي يأتي على نحو ما هي عليه البيئة الطبيعية التي ينزل فيها ويتفاعل معها على تتالي أجيال تلك النزالة.
سعادة، كعالم انثروبولوجي، يعيد تقسيم التطور البشري الى عصرين..
العصر الاحتكاكي الأول:
يقول: / ولذلك فضّلنا أن نسمّي عصر الـHomo (Sapiens (الانسان العاقل) عصر التّفاعل وما قبله عصر الاحتكاك. ويظهر أنّ الاحتكاك ابتدأ من الدّرجة الّتي نجد الشمّبنزي عليها اليوم، أي من درجة عقل بعض الأشياء المحيطة واستخدامها. وقد لا تكون هذه الأشياء الأغصان المتّخذة لبناء العرازيل، كما يفعل الشمّبنزيّ، إذ يرجّح أنّ النّوع القرديّ المجهّز بالاستعداد للتّطور نحو الإنسانيّة لم يكن يقطن الغابات الّتي لا تساعد على تولّد الخصائص الإنسانية كتحرير الذّراعين والمشي على القدمين. ويظهر أنّ الاحتكاك ارتقى إلى تناول النّار واستعمالها لأغراض متعدّدة(82)، وأنّ فجر الإنسانية مقرون بفجر الثّقافة الإنسانيّة.. فاستعمال النّار هو الخطوة الفاصلة الّتي عيّنت للإنسان السّابق اتجاهه.. أعدّت النّار الإنسان السّابق لدخول العصر الحجريّ(84) الّذي هو بدء الإنسان الّذي ولّى الحيوان ظهره وبدء الثّقافة الإنسانيّة. ومنذ تلك العصور المتطاولة في القدم لم تفارق النّار الإنسان ولا قطع الإنسان صلته بها.. وظلّت صناعة الأحجار ثقافته الوحيدة طول الحقب المبتدئة من الحقبة الشّليّة الدّنيا إلى الشّليّة العليا إلى الأشوليّة، التي خلف فيها الإنسان النيندرتالي الإنسان الهيدلبرغي، إلى المستريّة الدّنيا إلى المستريّة العليا الّتي هي نهاية الإنسان النيندرتالي، أو على الأرجح الشّكل النيندرتالي Homo NeandertalensisPrimigenius. وهذه الحقب تعادل نحو 250000 سنة من الزّمان الجليديّ(86). وعند هذا الحدّ ينتهي القسمان الأوّلان من العصر الحجريّ السّابق وبنهايتهما تتمّ مدة الاحتكاك. /
العصر الاحتكاكي الثاني:
يقول سعادة : / ليس لنا من أدّلة (على) اجتماعيّة إنسان هذه العصر الاحتكاكيّ ونفسيّته سوى آثار مواقده وبقاياه العظميّة وأدواته الحجريّة وكلّها تدلّ على حالة الخروج من الحيوانيّة وبدء الإدراك وانحصار الأعمال الإنسانيّة في الاشتغال بأدوات الفتك. ولا شكّ في أنّ نفسيّته كانت لا تزال في بداءة وعيها. أمّا اجتماعيّته فلم تكن نوعيّة مطلقة، إذ أنّ تنقيبات قريانفتش ــ كرامبرقر 1905 - 1899 (87)(Gorjanovic. Kramberger) في كرابينا من أعمال كرواطية دلّت على أنّ الإنسان النيندرتالي كان يأكل نوعه. وحالة معيشته كانت على درجة سدّ الحاجة مباشرة./
عصر التفاعل:
في هذا العصر، / ابتدأ (الانسان) يدرك طبائع المواد المحيطة به.. فهو قد حسّن أدواته الحجريّة تحسيناً كبيراً واخترع أدوات جديدة من العظم ونوّع الجميع لمختلف الأغراض. وقد فسح له هذا الارتقاء الاقتصاديّ المجال لبروز الحاجات النفسيّة مع الإدراك فأخذ الإنسان ينقش في الطّبيعة ويحفر في كهوفه، على الحيطان، وعلى الأدوات العاجيّة والعظميّة رسوماً جميلة تدلّ على سلامة ذوق.. ومع ذلك فإنّنا لا نجد تغيّراً خطيراً في وسائل سدّ الحاجة. فالإنسان لا يزال صيّاداً وإن كان قد حسّن عدّة الصّيد باختراع القوس والسّنان للرّماية. وقد يكون أضاف إلى صيد حيوان البرّ صيد حيوان البحر.. ولكنّنا نلاحظ أنّ هنالك بداءة جديدة لأشكال الإنسان العاقل تجعلنا نسميّه [الإنسان العاقل الحديث] Homo Sapiensrecensتمييزاً له عن إنسان العصر الحجريّ السّابق../ التغير الخطير في هذا العصر هو/ ظاهرة تدجين الحيوان باقتناء الكلب ونلاحظ أيضاً أنّ الأدوات الحجريّة تتّخذ وجهة أغراض جديدة، فنجد بعضها خشناً قاسياً ــ ولعلّه لغرض العزق أو الحفر في الأرض ــ ونجد بينها الفأس الحجريّة وإذا بنا في مدخل العصر الحجريّ المتأخّر المتصّل بعصرنا الحاليّ في بعض السّلالات الابتدائيّة..
في مجرى هذين العصرين الحجريّين اللاّحق والمتأخّر تمّ نطق الإنسان وارتقى إلى مرتبة لغة وارتقت أحوال معاشه بتدجين الحيوان والتّنبه لطبائع المادّة ولكنّها ظلّت على مستوى سدّ الحاجة مباشرة، الأخذ ممّا تقدّمه الأرض من حيوان ونبات بريّ، وفوقها قليلاً إذ نرى ابتداء النّسيج وصناعة الخزف. والرّابطة الاجتماعيّة هي الرّابطة الدّمويّة، رابطة القبيلة.. . وممّا لا شكّ فيه أنّه بينما كانت أوربة في إبّان العصر الحجريّ المتأخّر وكان بعض مناطقها الشّماليّة (سكندينافية) لا يزال في بدء هذا العصر، إذا بالعصر المعدنيّ ينبثق في سورية ــ (بلاد الكلدان ــ بابل وأرض كنعان) ــ وفي مصر.
يتضح مما تقدم أن سعادة يقيم دراسته على مبدأ التفاعل بين الانسان الفرد والطبيعة، وليبقى هذا النشاط نبراسه في تقييم التطور الانساني، بحيث تظهر للوجود صفة الانسان العاقل حيث راح الانسان يعقل طبائع المادة التي يتعامل معها تحت ضغط سد حاجته مداورة، من هنا نرى سعادة يعطي النار قيمتها، كأداة قوَّت في الانسان حاجته للاجتماع، والتي بدورها عملت على ظهور النطق وارتقائه لمرتبة اللغة، يضاف الى ذلك ثباته في الأرض وتاليا تدجين الحيوان، الذي قدم له وفرة في سد الحاجة مع ضرورة حاجته للزراعة التي حفزت لديه ضرورة الثبات في الأرض النازل بها، والتي بدورها أيضا، دفعته للارتحال بحثا عن بقاع تمكنه من الزراعة في سد الحاجة، وفي المحصلة كانت اجتماعيته هي التي تقود مختلف توجهاته حيث رابطة الدم هي الرابطة الاجتماعية الأولى، رابطة القبيلة. سد الحاجة مداورة، هو ما يطلق عليه سعادة الرابطة الاقتصادية، حيث لا يمكن تصور حياة دون غذاء، فردية كانت أم جماعية(اجتماعية)..
يقدم سعادة نظريته الاجتماعية، على نحو من ( دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية) عندما يقول :" حتّى العصر المعدنيّ كانت الثّقافة البشريّة عامّة تناولت النّوع الإنسانيّ بكامله. فجميع البشر كانوا صيّادين وصانعي أدوات حجريّة وجامعي القوت النّباتيّ ممّا تقدّمه الأرض الكريمة. ولكن لمّا حصل الاتجاه الزّراعيّ في العصر الحجريّ المتأخّر القصير الأمد ظهر عامل جديد في ترقية حياة البشر لم تشترك فيه جميع سلالاته أو شعوبه. ومع الزّراعة والاشتغال بالمعادن يرتقي عصر التّفاعل إلى ما نسميّه التّفاعلّ العمرانيّ أو الثّقافة العمرانيّة.. /
ما يسميه سعادة ( العصر الاحتكاكي) لم يتناوله سواه من علماء الاجتماع( وليس علماء الانثروبولوجيا) لبيان الأسس التي قام عليها الاجتماع البشري، اذ ابتدأوا جميعا من المرحلة التي ظهرت بها القبيلة حيث الرابطة هي رابطة الدم، ولعل أنجلز في كتابه( أصل العائلة والملكية والدولة) يبقى المثال الأوفى لما نذهب اليه، حيث اعتمد كليا على ما جاء به لويس هنري مورغان في كتابه (المجتمع القديم) والذي انكب على دراسة القبائل الهندية ( الايروكيوس ) ليستخرج منها مقولات الاجتماع البشري في مراحله الثلاث/ الوحشية والبربرية والمدنية/ وليعممها على مختلف الجماعات البشرية ولينتقي منها أنجلز ما يتفق واطروحته ( المادية التاريخية) التي تنتهي للقول بــ( التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية) والتي هي بالتعريف ( المجتمع في مرحلة ما من مراحل تطوره) حيث تقسيم العمل بين الرجل والمرأة كان السبب المباشر لقيام العائلة التي يعتبرها أنجلز بدورها السبب المباشر لقيام الملكية التي انتهت بقيام الدولة.. يبحث أنجلز في الحقوق الأمومية، التي أوردها مورغان، كما يستند الى باخوفين في كتابه (حق الأم)، للتأكيد على أن تنازل المرأة عن حقوقها جعل من الرجل صاحب الملكية وليتمتع الأخير بحق الوراثة..، أنجلز في كتابه المومأ اليه، لا يتطرق الى المرحلة الوحشية وفق مورغان والتي يسميها سعادة بالعصر الاحتكاكي، واستطرادا، اسطورة( آدم وحواء) التي تبتدئ بعد مرحلة الوحشية وبعد قيام العائلة الزوجية ( رجل مع امرأة) وهي مرحلة متقدمة جدا من مراحل التطور البشري سبقها وفق تصنيف سعادة أدوار الزواج الطوطمي والزواج القائم على حقوق المرأة ومن ثم زواج الرجل الواحد بامرأة واحدة ويليه تكوين الأسرة التي جاءت الأسطورة في هذا العصر ، بمعنى أن تلك الأسطورة جاءت بعد قرون سحيقة في القدم من التطور الاجتماعي ، بمعنى آخر انها لم تكن هي بادئة عهد البشرية كما تدعي التوراة...
سعادة في نظريته الاجتماعية / دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية/ يقيم هذه النظرية على جملة من المبادئ أبرزها كما يقول:" لا يمكننا أن ندرس الثّقافة ومراتبها ونتتبّع تطوّرها إلاّ في سياق التّفاعل.. والمقياس الّذي نقيس به قيمة أيّة مرتبة ثقافيّة هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السّبيل، لأنّ كلّ تطوّر في الحياة الاجتماعيّة وأنظمة الاجتماع لا يمكن أن يحدث إلاّ ضمن نطاق هذه العلاقة.." بمعنى آخر، إن العلاقة بين الانسان وبيئته، التفاعل، ليس مطلقا، بل نسبيا، بحيث تعود نسبيته الى ممكنات البيئة ومقدرة الانسان على الاستفادة منها، وعليه، فنسبة الجهد المبذول في الزمن الذي يخرج به الانتاج كسلعة، كما ونوعا، هي المقياس الذي يعتمده سعادة في تصنيف التفاعل المجدي من غير المجدي، أي :
إن المرتبة الدنيا أو المتأخرة أو المتخلفة هي التي يكون فيها الجهد في الزمن أكبر بكثير من الانتاج كماً ونوعاً.
المرتبة المتوسطة، او المراوحة في المكان، أو الراكدة، غير المتقدمة، المتطورة، المجدية، تبقى على نحو أن الجهد المبذول في الزمن المطلوب للإنتاج، تبقى مساوية للإنتاج في الكم والنوع.
المرتبة الثالثة، المجدية، المتقدمة، المتطورة، التي تسمح للرقي في اطراد تقدمه هي تلك التي يكون فيها الانتاج أكبر في الكم والنوع، من الجهد في الزمن، وتاليا هي المرتبة التي تسمح باطراد التقدم والرقي، فكلما تناهى الجهد الى أقل ما يمكن ، والزمن الى أدنى ما يمكن مقابل تناهي الانتاج، كماً ونوعاً الى منتهى ما يمكن، فإن التفاعل، العمل الانساني، يكون قد بلغ مبتغاه، لذلك يبقى السؤال في العملية الاقتصادية على الدوام هو: كيف يمكننا بلوغ المرتبة التي يتناهى بها الجهد الى أقل ما يمكن وكذا الزمن الى ادنى ما يمكن، مقابل أعظم انتاج ممكن كما ونوعا، لأن في ذلك توفيرا للطاقة الانسانية والزمن الانساني، وبما يعني أن الاقتصاد، مبدأً ووسيلةً وغاية، مهمته هي اطالة متوسط عمر الانسان لا العكس، استهلاكه طاقة وزمناً..
ثاني هذه المبادئ هو:" أن النّظام الاجتماعيّ هو دائماً حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له.. والتّطور الاجتماعيّ، نشوءاً وارتقاءً هو وفاق لتطوّر التّفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادّية."
بما يعني أن سعادة يمايز بين جماعة وأخرى على نسبة قطبي هذه المعادلة / الأرض الصالحة والقوم المؤهلون/ هذا على الصعيد المادي، بينما يأتي التمايز الثقافي (النفسي) على نسبة الجهد في الزمن مقابل الانتاج ، كما ونوعا ذلك أن الاقتصاد " لا يعني حقيقة سوى سدّ الحاجة أو تأمين سدّها بأقل مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنين.. والمقياس الّذي نقيس به قيمة أيّة مرتبة ثقافيّة هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السّبيل.."
في دراسته لمراحل التطور البشري ينتقل سعادة بسلاسة في رسم معالمه، فمن الصيد الى التدجين الى تربية الماشية والرعي الذي تطلب الارتحال الى مناطق معشوشبة وتاليا الاقامة في الارض، ومن التقاط الثمار وما تجود به الأرض من أعشاب الى الزراعة التي تتطلب مصادر مائية وتاليا الاقامة في الأرض، ومن نحت الحجارة الى التعدين أو ما يسميه سعادة ب(العصر المعدني) ومن تربية الماشية والزراعة والتعدين، الى الصناعة التي اقتضت نشؤ ما يمكن تسميته بمبدأ المقايضة أو المبادلة كما يصفه سعادة، حيث ظهرت للوجود المتاجرة في الفائض الحيواني والزراعي والصناعي بهدف الحصول على المواد التي لا تقدمها البيئة الطبيعية، يقول:" تأتي أخيراً المرتبة الثّالثة، التي أطلقنا عليها اسم ثقافة الإنتاج التّجاريّ، وهي الثّقافة القائمة على زراعة المحاصيل الكبيرة وإنشاء الصّناعات الكبرى. وهذه هي مرتبة التّمدّن الحديث الّتي أخرجتها من المرتبة الثّانية التّجارة التي ولّدت الأساس النّقديّ والرّسماليّ وحوّلت عمليّة المبادلة الأوّلية، إلى تجارة أنترنسيونيّة وأكسبت الحاجة إلى الآلة المحقّقة الأغراض معنى اقتصادياً عالياً وجعلت الآلة من أهمّ عوامل ترقية هذه الثّقافة.."
على الصعيد الثقافي ( النفسي) ينتقل سعادة من اكتشاف النار الى الاجتماع حولها فنشؤ الحالة الاجتماعية الأولية الى العائلة( لكن ليس بالمعني الحديث للمصطلح) والنطق، ومن زيادة أفراد عدد العائلة الواحدة الى القبيلة الى العشيرة الى القرية فالمدينة حيث يقول:".. نرى أنّ النّظام الاجتماعيّ ابتدأ من مرتبة الشيّوعيّة في نظام العشيرة الدّمويّ حيث الأرض التي تحتلّها العشيرة وتربتها مشاع للعشيرة كلّها.. والعائلة نظام اقتصاديّ قبل كلّ شيء(98) قائم على قاعدة توزيع العمل الّذي ابتدأ في الأصل بين الجنسين.. ولولا هذا النّظام التّعاونيّ الاقتصاديّ لكان نشوء العائلة الموحّدة تأخّر كثيراً..( نجد مما تقدم) أساسان للكيان الاجتماعيّ الأوّليّ هما: نظام الوحدة الاجتماعيّة المنصرفة إلى الاهتمام بالغذاء الّذي هو قوام الحياة، ..ونظام الوحدة العائليّة المنصرفة إلى الاهتمام باقتسام العمل وهو بدء تنظيم التعاون. وحالة المرأة، على هذا المستوى الثّقافيّ، تدعو إلى تأمّلنا.. أن الإقامة الّتي تتطلّبها الزّراعة أوجدت فكرة التّملك العقاريّ ..ومن ثمّ أوجدت استقلال العائلة والكيان الاقتصاديّ لها.. فأدّى ذلك إلى الأخذ بتمييز العمل ونشوء طبقة الصّناع من أسرى الحرب المستعبدين عند أصحاب البيوتات الكبيرة.. وهكذا نرى التّمييز الاجتماعيّ يقود التّمييز الاقتصاديّ فيكون الأشراف الملاّكون طبقة دونها طبقة العامّة من أرقّاء أو داخلين في نظام المنزل القائم بنفسه.. وفي نظام القبيلة الّذي تتّحد فيه القرى.. بحيث يبرز الشّيخ أو الأمير على رأس القبيلة أو مجموعة القرى المتقاربة. ومن هذه النّقطة تبتدئ الحياة السياسيّة.. "
نشأت المدينة وفيها ارتقت شؤون المأكل واللّباس وازدادت الصّناعات اليدويّة واتّسع نطاق التّمييز الصّناعيّ (وهذا التّمييز كان، طبعاً، بين الذّكور) فتناول صناعات عالية كصناعة الطّبّ وفنوناّ كفنّ الحرب وفنّ النّحت والنّقش، وفنّ الكتابة الأوّليّة الهيرغليفيّة في مصر والمسماريّة في شنعار (بابل).. كان هذا التّطور بداءة عودة الاقتصاد الاجتماعيّ بدلاً من الاقتصاد الفرديّ العائليّ .. وقيامها على سدّ جميع حاجاتها بعملها الخاصّ في بقعة صغيرة من الأرض المحوّلة إلى بستان زراعيّ غنيّ خصب، ولكنّ أهميّة العائلة الاقتصاديّة لم تتلاش، في هذا الطّور، بالمرّة، بل احتفظت بكثير من خصائصها الاقتصاديّة حتى مجيء عصر الآلة المعروف بعصر الثّورة الصّناعيّة فأخرج الصّناعات اليدويّة الباقية من بيوتها وأخرج الصّناع من المصانع بالمئات والألوف، وأوجد هذا العصر، فيما أوجد، الآلة المنزليّة الّتي أخذت معظم عمل المرأة في بيتها وزال توزيع العمل بين الجنسين ولم يعد الزّواج مبدأ اقتصاديّاً يقوم على تقسيم العمل، الرّجل لأعمال التّحصيل والمرأة لأعمال التّدبير. فاضطرّت المرأة إلى إيجاد عمل لها خارج المنزل بدافع الحاجة إلى إيجاد عمل يشغلها وبدافع الحاجة المعاشيّة في نظام توزيع العمل والثرّوة الرّسماليّ الحاضر. ومن هذه الحالة نشأ تمييز العمل بين الإناث أيضاً وظهرت الحركة النّسائيّة الحديثة. وهذه الظّاهرة الاجتماعيّة الحديثة هي السّبب في حياة المرأة العصريّة، الغربيّة خصوصاً، الّتي يريد الكتاب الّذين لم يعنوا بدرس سنن الاجتماع، أن يفضّلوا المرأة الشّرقيّة عليها، لحشمة هذه وحيائها ولسفور تلك وإقدامها وتطرّفها.."
"..إنّ الثّورة الصّناعيّة وضعت الاجتماع على أساس جديد. فهي لم تقتصر على سلب العائلة صناعاتها وصاحب الحرفة الفرديّة حرفته، بل هي أوجدت المعامل والمصانع الكبيرة الّتي تضمّ مئات وألوفاً من العمّال في كلّ معمل أو مصنع. فنشأت في المدن والمناطق الصّناعيّة هذه الطّبقة من العمّال، الّتي عرفت في التّعابير العصريّة بلفظة [بروليتارية] (Proletariat)، والّتي أصبحت في العقود الأخيرة قوة سياسيّة هائلة، لأنّها تختلف عن الطّبقة الزّراعيّة المتّصفة بالجمود(109) الّتي، لبعدها عن مراكز الثّقافة المتمدّنة وانتشارها على أبعاد شاسعة، لم تتسنّ لها وسائل الاتحاد وتنظيم صفوفها وتكوين قوّة سياسيّة متحرّكة.
قادت الأبجديّة العالم في طريق المعرفة والعلم وتفوّق القوى العقليّة على صعوبات الطّبيعة إلى الآلة الاقتصاديّة الّتي وضعت في يد الرّسماليّ قوّة لم يكن يحلم بها، ففاقت قوّة الرّسمال المتعاظم أيّة قوّة أخرى مناقبيّة أو مادّية. فقضت هذه القوّة الجديدة على النّظام القديم: النبلاء والأحرار والعبيد، ووضعت نظاماً جديداً: الرّسماليّون ومزاولو المهن الحرّة والعمّال، أو ما عبّر عنه بالطّبقة العليا والطّبقة الوسطى والطّبقة الدّنيا.. أوجدت الأبجديّة والتّجارة اتجاهاً ثقافيّاً جديداً انتهى إلى عصر الآلة الصّناعيّة الّذي هو عصر التّمدن الحديث. وهذا العصر فسح للثّقافة العقليّة أوسع مجال ورقّى التّفاعل الاجتماعيّ إلى درجة عالية جدّاً.
منذ الفترة الّتي ظهرت فيها الأبجديّة إلى جانب التّجارة واتّحد هذان العاملان في التّفاعل الاقتصاديّ الاجتماعيّ، اتّجه الاجتماع البشريّ نحو الحياة النّفسّية (العقليّة).. المتعدّدة تعدّد القوميّات، وللخصائص النّفسيّة الّتي تنكشف عنها في أمم عددها عدد البيئات.."
المبدأ الثالث هو ان :"العقليّة الاجتماعيّة نتيجة تطوّرات التّفاعل الماديّ لتأمين الحياة الاجتماعيّة.."
لكن، ماذا يعني سعادة بـــ (العقلية الاجتماعية) ؟ ومن ثم (التفاعل المادي)؟ وما المقصود بــ( الحياة الاجتماعية)؟
بداية علينا التمييز بين العقلية الاجتماعية التي يتناولها في مبحثه عن كيفية حدوث التطور في العقلية الاجتماعية ومدى ارتباطها بالبيئة الطبيعية وتاليا نشؤ وتمايز الحياة الاجتماعية بين الأقوام والشعوب والمجتمعات، وبين تلك التي يدعوا لها في نظريته السياسية (القومية الاجتماعية)! التي يشتقها من الأولى والتي تدور حول سلوكيات كافة أفراد المجتمع بين بعضهم البعض، والمؤثرات الثقافية والدينية والسياسية في ذلك و التي تحدد مجمل علاقاتهم ورؤاهم ، بمعنى آخر ما يمكن أن نطلق عليه مجازا مصطلح (التقاليد) الموروثة ومدى علاقتها بالعادات التي يكتسبها الفرد وتاليا المجتمع من خلال الحياة اليومية التي يئد بها نفسه، وتاليا أيضا بينهم كمجموع والدولة، بمختلف مؤسساتها وتفرعاتها واشكالياتها التاريخية والاثنية على وجه الخصوص، مما يدخلنا في علم آخر يفرض نفسه على علم الاجتماع وهو علم النفس الاجتماعي، والذي تناوله سعادة في مبدئه الثالث الذي تقوم عليه نظريته الاجتماعية(دورة الحياة الاجتماعية ـ الافتصادية) قبل غيره من علماء الاجتماع!!..ولنفهم تاليا ما يقوله سعادة بصدد العقلية الاجتماعية أو ما يعنيه بهذا المصطلح..
فعلم النفس يدرس سلوك الفرد، والخبرة التي يمر بها الفرد مع البيئة الاجتماعية المحيطة به، ويدرس الفرد من خلال الاهتمام بالخصائص والعمليات التي تنمو لدى الإنسان، وكيفية القيام بوظائفه، في حين ان علم الاجتماع يختص بالخبرة والسلوك الاجتماعي الذي ينتج من خلال الأمور، والأعمال، والتنظيمات الاجتماعية، والتي يعمل على تطويرها، وحالته النفسية تنعكس على جانبه الاجتماعي، فهناك علاقة مباشرة بين الطرفين، وأيضاً المجتمع والثقافة المتعارف عليها، جميعها تعمل على تكوين شخصية الفرد، وتحدد طريقة تفكيره، وسلوكه، والطرق التي يعبر بها عن نفسه..
في العودة للمقولة الرئيس ( المادة تعين الشكل) تشغل محرضات البيئة (المادة) التي تتشكل من خلالها العقلية الاجتماعية أو (الشكل)،وعلى مبدأه الأول الآنف ذكره، تتحدد السوية الثقافية التي عليها مختلف شعوب الأرض، أي وفق المراتب الثقافية الثلاث للجهد في الزمن مقابل الانتاج. وعلى قاعدة / الأرض الصالحة والقوم المؤهلون/ ليبني اطروحته في العلاقة بين البيئة والعقلية الاجتماعية، ففي دراسته لتطور العقلية الاجتماعية للشعوب، يقدم سعادة الكثير من الأمثلة التي تؤكد ما يذهب اليه من تأثير البيئة الطبيعية على مختلف الأساليب التي جرت عليها تلك الشعوب في سياق تكوين عقليتها الاجتماعية بما في ذلك المؤثرات التاريخية الموضوعية (المادية) التي تتعرض لها الجماعات في مجرى تطورها التاريخي، كالحروب والغزوات التي تتعرض لها طمعا بمدخرات بيئتها الطبيعية، يقدم سعادة لنا مثالا على ما تقدم عندما يقول:" .. وما يروى، مثلاً، عن كرم العرب وفروسيّتهم والشّعور بالشّرف عندهم وضيافتهم، يروى مثله عن أهل بلاد النّار (تراد لفويقو) وهنود أميركا والفيجيين والطنقوسيين(77) فهذه الصّفات المشتركة تظهر بقوّة في الشّعوب الّتي لمّا تحرّكها الثّقافة الزّراعيّة التجاريّة وساعدتها أحوال معاشها الضّيّقة على حصر قواها النّفسّية في بعض المظاهر المحدودة. ونرى أذواق هذه الجماعات مشتركة حتى في الطّعام. فهم، لجوعهم، يزدردون الطّعام بطريقة لا تسمح بالتّلذّذ به على حدّ الجماعات الرّاقية.. كما وتشترك هذه الجماعات في العادات الاجتماعيّة والأذواق بحكم مستوييهم الاقتصاديّين المتقاربين. فترى الضّيافة الّتي تفرضها عليهم أحوال معاشهم صفة عامّة عندهم على السّواء وكذلك تعاملهم فيما بينهم، وخصوصاً معاملتهم المرأة(76). وإذا أمعنّا النّظر في كلّ مرتبة من المراتب المتقدّمة وجدنا أنّ الأولى منها ابتدائية جدّاً في العمران فهي لا تدخل في نطاق الثّقافة العمرانيّة إلاّ من حيث إنّها طور تمهيديّ لها والصّحيح أنّ أهل هذه الثّقافة يدخلون في المجتمع البدويّ الّذي وصفناه آنفاً. فإذا كان لهم حياة عقليّة فهي محدودة جدّاً. وهم خارج نطاق شعوب آسية وأوربة المتمدّنة. فبين الشّعوب الّتي لها إلمام وقسط من هذه الزّراعة، بعض هنود أميركا الشّماليّة كالموهكان والأركوى والبنكا والمندان وغيرهم، وبعض هنود أميركا الجنوبيّة أيضاً كالبكايري والقواراني في البرازيل. وهم يمارسون إلى جانبها الصّيد. وسكّان جزائر المحيط الهادي وجزائر المحيط الهنديّ يمارسون هذه الزّراعة مع صيد السّمك. وزرّاعو أفريقيا الّذين لا يدخلون في عداد الصّيادين والرّعاة تقوم حياتهم على هذه الزّراعة فقط كقبائل زمبازي ومكلاكه ونيام ــ نيام وغيرها(93). والسّبب في بقاء هذه المرتبة خارج نطاق العمران نسبة العمل إلى مقدار الحاصل الغذائيّ." يضيف :" وأحوال هذا المجتمع، أو الجماعات، الاجتماعيّة هي بحكم الضّرورة متابعة لأحوالهم الاقتصاديّة ومطاوعة لها. فنظامهم الاجتماعيّ يقوم على الرّابطة الدّمويّة المنتهية بالقبيلة. والفرد في هذا النّظام ككلّ فرد آخر بدون فرق أو ميزة، أي إنّ قيمته هي في الغالب عدديّة عامّة لا نوعيّة خاصّة، لأنّ فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة، وكذلك نرى أنّ نظامهم يخلو من الحقوق الشّخصيّة والملك الفرديّ وإذا وجد شيء من ذلك فهو في صورة أوّليّة غامضة. ومن درسنا أحوال العرب الذين هم في جوارنا نرى أنّ الفرد لا يكون عندهم سوى وحدة عدديّة في القبيلة سواء في ذلك أهل الوبر وأهل المدر، والانتساب إلى إحدى القبائل هو ضرورة(74). ومن هذه الحقيقة ندرك أهميّة الثّأر الّذي يعني حقّ القبيلة لا حقّ الفرد كما سيجيء ويرى فقدان الملك الشخصيّ عندهم في أنّ الفرد لا يمكنه الاعتماد على نفسه في الدّفاع عن الممتلك وفي أنّه إذا فقد أحد مقتنياته توجّب على بقيّة أفراد القبيلة أن يعطوا كلّ واحد من ماله ما يعوّض على الرّجل خسارته(75).
وهكذا نرى أيضا كيف".. أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها، إذ الحياة العقليّة لا يمكن أن تأخذ مجراها إلاّ حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات. ولذلك نجد التّطوّر الثقافيّ بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى ممّا في سواه..
يمكننا عبر قنوات التواصل التأكد مما تقدم، من خلال مقارنتنا لقضايا اجتماعية تعكس النظام والعقلية الاجتماعية، على سبيل المثال ما سمي ( فضيحة مونيكا) حيث مثل الرئيس الأمريكي أمام المحكمة وعلى مرأى من العالم اجتمع، معترفا بعلاقته مع مونيكا، ومع ذلك فقد استمر برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، بل وأعيد انتخابه لولاية ثانية، بينما كانت نتائج ما عرف حينها بقضية (بروفومو) والتي استدعت استقالة رئيس وزراء بريطانيا (ماكميلان) وكذلك وزير دفاعه وانتهت بانتحار الطبيب الذي احتوى كريستين كلر محور القضية ..
ننتهي من كل ما تقدم للقول، بأن نظرية سعادة الاجتماعية تتلخص بأن دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية، والتي تمثل خط التطور البشري بكامله نشؤاً وارتقاءً تقوم على حقيقة أن النظام الاجتماعي والعقلية الاجتماعية هما دائماً حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له ومقياس الأنظمة الاجتماعية في كونها متقدمة، متخلفة ، متأخرة ، يبقى على الدوام، الجهد في الزمن مقابل الانتاج، فالدولة، كما سيجيئ لاحقا، ومن حيث هي شأن ثقافي، تبقى نسبة الحقوق الى الواجبات هي مقياس لديموقراطيتها، دكتاتوريتها، تيوقراطيتها.. الخ
2 ـ النظرية السياسية : القومية الاجتماعية
عندما أسس سعادة حزبه كان قد وضع مبادئه قبل تأسيسه، وكانت على قسمين، الأول ، وهو "المبادئ الأساسية" والتي تختص بتحديد ماهية الأمة من الوجهة القومية، أي ككيان مستقل مميز، لا تشوب مجرى تطوره /نشؤاً وارتقاءً/ أية شائبة على الرغم من تعرضه ككيان له شخصيته الاعتبارية تاريخيا، لجملة طويلة من الاجتياحات الحربية التي فعلت فعلها في بنيته الاجتماعية، والتي بقيت، نظاما وعقلية اجتماعيين متميزين، وعلى ما هي عليه رغم المؤثرات الخارجية والتي رغم سطوتها لم تحل دون تأثير النفسية السورية في المحتل أيا كان وأيا كانت المدة الزمنية التي بقيت الأمة تحت تأثيره، ولعل أبرز مؤثرات هذه النفسية ظهرت في احتلالين حملا معهما تراثا لا يمكن بأية حال نكران مؤثراته على مجرى التطور الاجتماعي السوري، الأول الروماني، حيث حكم روما أباطرة سوريون على مدى خمسين عاما، أما الثاني فكان الفتح العربي الذي حمل معه رسالته الدينية والتي طبعت الشعب السوري بطابعها لكنه كان فاعلا فيها في مختلف جوانبها الفكرية ..
القسم الثاني من المبادئ كان له سمته الاصلاحية التي قامت كما يقول سعادة على المبادئ الأساسية وأبرزها مبدأ / الأمة مجتمع واحد/ " إلى هذا المبدأ الأساسي تعود بعض المبادئ الإصلاحية التي سيرد ذكرها وتفصيلها. عن الدولة، إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب ــ وهذا المبدأ هو من أهم المبادئ التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كل سوري. فهو أساس الوحدة القومية الحقيقي ودليل الوجدان القومي. والضمان لحياة الشخصية السورية واستمرارها. أمة واحدة ــ مجتمع واحد. فوحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح ووحدة المصالح هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي المصلحة العامة الواحدة التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية".
وكما هو واضح من النص أعلاه، أن سعادة يعتبر أن القومية متضمنة بديهيا الوجهة الاجتماعية، لذا أطلق على حزبه / الحزب السوري القومي/ ومع مرور الوقت، واللغط الذي رافق مسيرة الحزب، والوسط الذي نشأ به الحزب، اضافة لمجموع الشعب المتلبس جلباب الدين دونما وعي بما هو متجلببٌ به، ولهشاشة الثقافة التي راحت تنهل من الثقافة الغربية وتحاول طبع المجتمع السوري بطابعها، ولكثرة التساؤلات التي طرحت حول علاقة الحزب بالمسألة الدينية تحديدا، ومن ثم الطبقية ثانيا، والروابط العنصرية والاثنية التي راحت تحدد مواقفها من الحزب بناء على مختلف الخلفيات المذكورة أعلاه، كان لا بدَّ من اضافة البعد الاجتماعي لإزالة مختلف الالتباسات، فأضحى الحزب يعرف بــ(الحزب السوري القومي الاجتماعي) والذي أثار جدلا واسعا في الأوساط السياسية، داخليا وخارجيا، حول تغيير منهجية الحزب بتغيير تسميته..
بالنسبة لسعادة الذي كان يدرك أن الأوساط التي لغطت بإضافة الاجتماعي لمسمى الحزب ، لم تكن قد وعت أنه لم يغير شيئا في ما ادعته، بقدر ما كان قد أوضح أن الحزب قد أسس فكرته السياسية على مبدأ القومية وهذه بناء على اسطورته السياسية التي سبق وأوضحها في مؤلفه الرائع والعظيم نشؤ الأمم، تحت مسمى ( الاثم الكنعاني) حيث يقول:" ...ما دمنا قد بلغنا حدّ الوجدان القوميّ الّذي هو أبرز الظّواهر الاجتماعيّة العامّة العصريّة فقد بلغنا هذا الدّين الاجتماعيّ الخصوصيّ الّذي أعطى الكنعانيّون فكرته الأساسيّة للعالم ونعت في بعض الظّروف بالخديعة الكنعانيّة(238) أو الإثم الكنعانيّ.. إنّ الكنعانيّين، من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أوّل شعب تمشّى على قاعدة محبّة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقاً للوجدان القوميّ، للشّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فارتحلت جماعة منهم من حوالي البحر الميت إلى الشّمال الغربيّ ونزلت على السّاحل أمام لبنان وعرفت في التّاريخ باسم الفينيقيّين(239) الذي أصبح أشهر من اسم كنعان ولكنّها ظلّت محافظة على نسبها الكنعانيّ فظلّ الفينيقيّون يسمّون أنفسهم كنعانيّين...أنشأ الفينيقيّون (الكنعانيّون) الدّولة المدنيّة فكانت طرازاً جرى عليه الإغريق والرّومان. ومع ما نشأ عندهم من الدّول فإنّهم لم يتحاربوا وظلّوا محافظين على صفة الشّعب الواحد المتضامن في الحياة وكانت زعامة فينيقية تنتقل من مدينة إلى مدينة، من دولة إلى دولة بعامل التّقدّم والكبر وازدياد المصالح والنّفوذ كانتقال الزّعامة من مدينة صيدا إلى مدينة صور الّتي أسّست أوّل إمبراطورية بحريّة في التّاريخ.. وباكراً أسّس الفينيقيّون الملكيّة الانتخابيّة وجعلوا الملك منتخباً لمدّة الحياة فسبقوا كلّ الشّعوب والدّول التاريخيّة إلى تأسيس الدّولة الدّيمقراطيّة. وما الدّولة الدّيمقراطيّة سوى دولة الشّعب أو دولة الأمّة. هي الدّولة القوميّة المنبثقة من إرادة المجتمع الشّاعر بوجوده وكيانه..
وإنّ المحافظة على الرّباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيّين ظلّ ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السّوريّ وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريات الّتي أنشأوها فظلّت الحقوق المدنيّة في الزّواج والاختلاط وجميع المظاهر الاجتماعيّة والثّقافيّة واحدة لهم جميعاً ولم يكن هنالك استثناء إلاّ في الحقوق السّياسيّة.
ومع أنّ الفينيقيّين (الكنعانيّين) أنشأوا الإمبراطورية البحريّة فإنّ انتشارهم كان انتشاراً قوميّاً بإنشاء جاليات استعماريّة تظلّ مرتبطة بالأرض الأمّ وتتضامن معها في السّرّاء والضّرّاء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالرّوابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظّاهرة القوميّة الأولى في العالم الّتي إليها يعود الفضل في نشر المدنيّة في البحر السّوريّ والّتي خبت نارها قبل أن تكتمل بما هبّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان..."
يؤسس سعادة على اسطورته السياسية ( الاثم الكنعاني) فكرته السياسية / القومية / والتي تتناولها مبادئه الأساسية والتي تشكل (المادة) التي يبني عليها مبادئه الاصلاحية، يقول: "تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي". وفي ضوء ذلك تكون" القضية السورية هي قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.. يمثل هذا المبدأ فكرة أن جميع المسائل الحقوقية والسياسية التي لها علاقة بأرض سورية أو جماعة سورية هي أجزاء من قضية واحدة غير قابلة التجزئة أو الاختلاط بشؤون خارجية يمكن أن تلغي فكرة وحدة المصالح السورية ووحدة الإرادة السورية.. وعليه تكون " سورية للسوريين والسوريون أمة تامة.." لكن ماذا عنى لسعادة مبدأ، أن تكون القضية السورية هي قضية قومية، هي كذلك لأن " القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري." وتاليا كان عليه تعريف كل من الأمة والوطن، يقول:" الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.. وهكذا نرى أن مبدأ القومية السورية ليس مؤسساً على مبدأ وحدة سلالية ، بل على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزيج سلالي متجانس ، الذي هو المبدأ الوحيد الجامع لمصالح الشعب السوري ، الموحد لأهدافه ومثله العليا ، المنقذ القضية القومية من تنافر العصبيات الدموية البربرية والتفكك القومي." أما الوطن السوري فهو "الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة.." سعادة في مقولتيه الأمة والوطن، يؤكد أن الأمة هي وحدة الشعب، هي ليست تاريخا وآمالا وعادات وتقاليد وآلاما مشتركة ولا لغة ودينا..، هي وحدة حياة، دورة حياة اجتماعية ـ اقتصادية ليس إلا. أما الوطن فهو الرحم (البيئة) الذي تكونت به الأمة وترعرعت به واستمدت من غناه شخصيتها، نظاما وعقلية، وتميزت بسخائه عن بقية الأمم بل وتقدمت عليها بشتى مجالات الحياة..، فاذا كانت الأمة هي وحدة الشعب، فهي أيضا :" مجتمع واحد.." ولذلك كله " فمصلحة سورية فوق كل مصلحة."..
3 ـالفلسفة السياسية عند سعادة:
(الانسان ـ المجتمع) أو الدولة:
يحاول هذا البحث التعريف بمدلولات مصطلح " الاقتصاد القومي الاجتماعي " وفق طروحات أنطون سعادة العامة والخاصة ، في محاولة للإجابة على جملة من تساؤلات تتعلق بالمناط بهذا الاقتصاد آنياً ومرحلياً ومستقبلياً ، في عالم يلعب فيه الاقتصاد الدور الأبرز في تحديد سياسات الدول على اختلافها ،وفي أجواء ما تعانيه الأمة السورية من إشكالات مصيرية تهدد وجودها في محاولتها النهوض من تحت ركام تاريخ استعماري واكبها على مدى يزيد على الألفي عام .
بداية ، علينا الإقرار بأن سعادة ليس بعالم اقتصاد بقدر ما هو باحثٌ في علم الاجتماع يحاول ايجاد دورٍ لأمته بين الأمم ، بما يعني أنه يرى الاقتصاد شأناً ـ على أهميته ـ لا يختلف عن الشؤون الأخرى المتعلقة بما تعنيه له الأمة ، أي أنه اقتصادٌ قومي بالدرجة الأولى ، ومن حيث هو كذلك ، فهو اقتصاد اجتماعي ، بمعنى أنه خاضعٌ بكليته لمتطلبات المجتمع المعني بتأمين احتياجاته .
لم يضع سعادة نظرية اقتصادية ، كما أنه لم يبحث في الاقتصاد كعلم يهتم / بفن إدارة الموارد المحدودة لسد احتياجات غير محدودة / أو في النشاط الاقتصادي، الذي يشتمل على جميع تصرفات الأفراد، التي تتصل بكل من الإنتاج و التوزيع و الاستهلاك والتبادل، وما يتفرع عنها من ظواهر اقتصادية مثل التنمية والدخل والادخار والاستثمار والتضخم والدورات الاقتصادية والبطالة وغيرها.
كذلك لم يقدم سعادة بحثا في تاريخ الفكر الاقتصادي كفرع من فروع علم الاقتصاد، والذي يهتم بدراسة التطورات التي حدثت في علم الاقتصاد، وجعلته على ما هو عليه الآن، خصوصًا في النظرية الاقتصادية بشقيها الجزئي والكلي، بالإضافة إلى إن هذا الجزء يدرس الأفكار التي قدمها علماء الاقتصاد عبر الزمن..
لم يضع سعادة ، على سبيل المثال، بحثا على نحو ما ذهب إليه "أدم سيمث " في كتابه "ثروة الأمم " أو "جون كينز " في كتابه الشهير «النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود» أيضا كتاب «الآثار الاقتصادية للسلام» أو كارل ماركس في كتابه الضخم والشهير / رأس المال / أو " ميلتون فريدمان " في كتابه «الرأسمالية والحرية»، أو " ديفد ريكاردو " صاحب نظرية قانون الميزة النسبية ، أو في مجمل أبحاثه في الحلول للمشكلات المطروحة في عصره مثل التضخم وانخفاض قيمة العملة الورقية وارتفاع أسعار الذهب ، والتي لخصها في كتابه اليتيم «مبادئ الإقتصاد السياسي والضرائب»
ولسعادة مبرراته في هدا المجال ، فالأمة التي تنكب القيام بمهمة نهوضها ، كانت ـ ولم تزل ـ على سوية من التخلف ينعدم فيها أي مجال للبحث في موضوع لا تمت إليه بصلة، وتحديدا في النصف الأول من القرن العشرين ، حيث الحالة الزراعية التي وجدت عليها لم تكن تسمح حتى مجرد النظر فيها ، فهي حالة ركود وتواكل خاضع بكليته لإقطاعي لا يفقه سوى درجة دنيا متخلفة من مصلحته الفردية تقوده في ذلك عادات وتقاليد ومفاهيم ليس لها علاقة بكيفية تطوير اقطاعيته على الأقل ، كان وارثا لمختلف مفاهيم السلطنة العثمانية (الرجل المريض ـ وفي هذا التوصيف ، دلالة على الحالة التي كانت عليها حال الأمة ) ولم تكن الآلة قد دخلت مجالات الانتاج بشكل فعلي حيث كانت ما تزال آلة بدائية على نحو " النول والمحراث .." وعلى نحو ما كانت مفاهيم الاقطاعي وآلته ، كانت العلاقات التجارية مجرد علاقات مقايضة لم تدخل بعد سوق التعاملات ، حتى النقد كان ما يزال على حاله المتخلفة ، " النقد الذهبي ـ الليرة العثمنلي " ولم تكن قد دخلت بعد العملة الورقية ، ولم تكن المصارف سوى رأس مال أجنبي يُوظف للإستثمار ..
في مجمل ما كتبه سعادة أو قاله أو نقل عنه ، لم يكن سوى مُقَيّم لما هو مطروح من نظريات ، لم يرَ فيها مخرجا للمأزق الذي وجد عليه أمته السورية ، بمعنى آخر ، يبدي سعادة اهتمامه بما يتعلق بالاقتصاد من وجهة نظر معيارية ، أما القول بأنه صاحب نظرية في الاقتصاد ، فمحض افتراء من قبل من يدعون فهم ما تناوله سعادة في هذا الشأن ..
سعادة ، تناول الاقتصاد من وجهة نظر قومية اجتماعية ، وبما يُخْرِجُ أمته مما هي عليه من فساد على مختلف الأصعدة ، معتبرا أن " الاقتصاد مفتاح القضية كلها" ، لذا ، فنحن لا نطالع في ما طرحه سعادة سوى مبادئ وأهداف ، أما الوسائل والعلاقات الانتاجية على اختلافها ( وهي موضوع علم الاقتصاد ) فبقيت بمخزونه الفكري ، ريثما تتحقق وحدة أمته القومية والاجتماعية ، وهو مُحقٌ في ذلك ، لأنه لم يَشأ أن يسحب ما تعانيه أمته في عام1948 على مستقبلها ، على نحو ما ذهب اليه كارل ماركس ، حيث مقاربات الحال الاقتصادي الذي عايشه دفعت به لتصور ما يمكن أن يقود اليه مستقبلا ، وإن كان ماركس قد أصاب في كثير من رؤاه المستقبلية ، فإنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن من يأتي بعده قادر على الخروج من المأزق الاقتصادي الذي نبه اليه ماركس ، خير مثال على ما تقدم هو المخرج الذي قدمه (كينز) لما سُميَ ب (الكساد الكبير ) الذي عانت منه الولايات المتحدة الأمريكية عا م 1929 ، وتاليا العالم ، والذي صبّ في مصلحتها أخيرا ، وفي ما تلى من أعوام ، كان النظام الرأسمالي أقدر على الصمود في مواجهة أزماته الدورية والمتكررة والمتلاحقة من الاتحاد السوفيتي الذي انهار مخلفا وراءه كوارث منتجه " ديكتاتورية البروليتاريا " وكانت قد سبقته الى ذلك الاشتراكية النازية في دكتاتورية الدولة ..
من هنا نجد سعادة يُنهي مبادئه وأهدافه بالقول : " إن ما أعطي الآن هو قواعد عامة ومعلومات أساسية لا غنى عنها للتقدم بعد إلى النظر في أمور اختصاصية " وعليه ، فسعادة ، يحدد في مجمل ما يقدمه في الشأن الاقتصادي ، جملة من المبادئ التي لا غنى عنها لبلوغ الأهداف التي حددتها رؤيته لما تعانيه أمته ، يقول : "العملية الاقتصادية، الاقتصاد كموضوع لأمة ولشعب لا يمكن أن ينظر إليه إلا بالمنظار القومي بمنظار المجتمع الموحد، الأمة التي هي وحدة جماعة ووحدة أرض، وحدة اقتصاد .."وعليه يمكننا القول أن ما قدمه سعادة في هذا الشأن يمكن تصنيفه تحت عنوان / الاقتصاد القومي الاجتماعي / دون أية تفصيلات أو توضيحات من قبله ، أو كتابات في هذا الشأن وملحقاته ، وإن شئنا وضع سعادة في مجال علم الاقتصاد يمكننا القول بأنه صاحب نظرية "الاقتصاد القومي الاجتماعي" دون أية تفصيلات ، أو يمكننا القول ، أن سعادة دعا الى اقتصاد عالمي محوره الشأن القومي بما يفيد الشأن الاجتماعي في السياسات الاقتصادية الداخلية والخارجية للدول ، أيضا ، كعنوان ، دون أية تفصيلات ، قد تقحم سعادة في ما التبس على البعض فهمه ..
سعادة كباحث في علم الاجتماع ، قدم مقولة ( الدورة الاجتماعية ـ الاقتصادية ) منطلقا من مفهومه للقومية ، القائمة على الوحدة الطبيعية لأمته (البيئة ) من حيث أن مواصفات وخصائص البيئة ، وفق سعادة ، تنعكس على نفسية الشعب فيضحى على صورتها ومثالها ، وهو هنا، يعارض كارل ماركس في مقولته ( التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية ) من حيث هي المجتمع في مرحلة ما من مراحل تطوره ، مقدما الاجتماع على الاقتصاد باعتبار أن الأول سابق للثاني وأنه بوتقته التي لا قيام له بدونها ..
يُقدم سعادة ، مقولة أخرى ، هي الوجه المعياري لمقولته الأولى ، ونقصد ( الانسان ـ المجتمع ) والتي هي أعلى مراتب الوحدة الاجتماعية ، مقابل الطبقة التي قدمها ماركس على نحو ديكتاتورية البروليتاريا ، مقاربا ـ سعادة ـ في ذلك " جان جاك روسو " في كتابه ( العقد الاجتماعي ) مع بعض التمايز الذي يعود لتخصيص سعادة مقولته بالمجتمع القومي بينما يتحدث روسو عن (الدولة ـ المجتمع ) من الوجهة السياسية في كتابه الآنف الذكر
بين النظرية الاجتماعية (دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية ) والنظرية السياسية( القومية الاجتماعية) و الفلسفة السياسية ( الانسان ـ المجتمع ) ـ ( الدولة) تراوح رؤى سعادة الاقتصادية ، مبادئ وأهداف .
فالاقتصاد عند سعادة ، من حيث أنه قومي ، يعني أنه اقصاد يقوم بداية على مبدأ إلغاء التجزئة بحيث تتكامل دورة "الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية " وتعود لسياقها التاريخي ، مما يعني ، أيضا ، أنه لا يمكن قيام اقتصاد قومي اجتماعي في كيانٍ بمعزل عن الكيانات الأخرى التي تتشكل منها أمته ، فواقع التجزئة يلغي التكامل بين جزئيات الاقتصاد ويحول دون استقلاليته مما يحول بالتالي دون اشباع احتياجات الأمة وتاليا أيضا دون كونه اقتصاداً اجتماعياً مستقلا ،
الاقتصاد القومي ، هو بالضرورة عند سعادة ، اجتماعي ، بمعنى أن غايته ليست اقتصادية بحتة ، إنما هي تأمين سد الحاجة الاجتماعية وهذه بدورها تخضع لمقاييس قيمية ـ معيارية ـ تتحدد من خلالها المرتبة الثقافية التي يجب أن يكون عليها المجتمع أو وفق مصطلحات سعادة ، "الانسان ـ المجتمع " مما يعني بالضرورة ، أيضا ،وفق تصنيف سعادة للمراتب الثقافية للمجتمعات ، تناهي الجهد والزمن الى الحد الأدنى مقابل الحد الأقصى للإنتاج كما نوعيا ، مما يوفر لأبناء المجتمع حياةً تليق بهم ، وبما يضمن حق وجمال وخير حياتهم دون تمييز في الحقوق والواجبات ، والتي تخضع بدورها ، أيضاً ، لمقاييس الظرف الموضوعي الذي تمر به الأمة ، فتضيق الحقوق لحساب الواجبات في الظرف الطارئ لتأخذ سياقها العام في الظرف الاعتيادي ،بمعنى آخر ، تضيق الواجبات لحساب الحقوق ، بما يعني أيضا تناهي الوجبات لأدنى ما يمكن مقابل تناهي الحقوق لأقصى ما يمكن ، وهذه هي الحال المثالية لمقولة سعادة الفلسفية " الانسان ـ المجتمع " ـ "الدولة"
"الانسان ـ المجتمع " ـ " الدولة" الذي أراد سعادة أن تبلغه أمته، هو المرتبة الثقافية المثلى التي يطمح لخدمتها الاقتصاد ، من حيث كونه الرابطة الاجتماعية الأولى التي يقوم عليها الاجتماع ، وهي المرتبة التي تلقي على الاقتصاد أعباء عليه القيام بها وتأمينها وفق مبدأ " أقل جهد وزمن مقابل أقصى كم نوعي من الانتاج "، وبما يضمن مصلحة الأمة والدولة في توالد أجيالها ، فكما "الانسان ـ المجتمع" ـ " الدولة" ، هو المجتمع الذي تنتفي فيه الفوارق الطبقية والطائفية والعنصرية والعرقية والجنسية والثقافية.. الخ ،كذلك المجتمع بأجياله ،أي عدم تمايز جيل عن آخر ،فلا يحق لجيل ، مثلاً ، من أجيال الأمة أن يحتكر لمصلحته مصالح الأجيال التي لم تولد بعد ،
عند سعادة " الدولة وجدت لتبقى " بأي معنى أُخذت به ، ومن حيث هي دولة قومية ، مصلحة الدولة التي يتحدث عنها سعادة تبقى في استمراريتها في تأمين استمرارية مجتمعها القائمة على خدمته وتقدمه ورقيه ، دون ذلك أيُ معنى للدولة ليس له من مبرر ، الدولة القومية هي حكما عند سعادة ، دولة ديموقراطية ، الديموقراطية ليست ديموقراطية انتخابية ، أو صندوق اقتراع ، إنها نسق حياة ، طريقة واسلوب وكيفية تفكير ، إنها تربية ، نفسية ، نهج ، سلوك ، يومي ، تجد "الأنا " ذاتها في " النحن " إنها بهذا المعنى تعبيرية ، تعبير عن المرتبة الثقافية التي بلغها المجتمع ، الأمة ، الدولة ، ديموقراطية تعبيرية ، التعبيرية هنا ، هي المسلكية العامة لمجموع الشعب ، الشعب هنا أيضا وأيضا ، ليس مجموعا عدديّاً ، إنه وحدة حياة ، بمعنى أنه يعي مهماته في مصلحة المجموع ، المصلحة الفردية هي مصلحة عابرة ،تتلاشى " كتساقط أوراق الخريف " يميز سعادة هنا بين المصلحة والمنفعة ، المصلحة مركبة ، عامة وفردية ، بينما تأتي المنفعة في حدود الفردية فقط ، الفردية هنا ، هي المنفعة على حساب المجموع القومي ، الرأسمال الفردي ، هو ملك عام ، لا يجوز التصرف به بما لا يتوافق والمصلحة العامة ، ذلك أن الافراد مؤتمنون عليه لا أكثر ولا أقل ، عند سعادة ، ما من انتاج إلاّ وهو انتاج جمعي ، مجتمعي ، من هنا كان على " كل عضو في الدولة أن يكون منتجا بطريقة من الطرق " بما يفيد انتفاء البطالة من المجتمع الذي أراد سعادة قيامه ، بمعنى آخر ، على الدولة مهمة توليد فرص عمل مكافئة لقوى الانتاج المنخرطة حديثا في سوق العمل ، " أن يكون " منتجا .. تعني انتفاء أية مبررات تقدمها الدولة او حكومتها لتحييد ، لتجميد ، لإبعاد ،لإهمال ، للتغاضي ، عن جزء ما ، كائن ما كان ، من الطاقة الانتاجية تحت أيٍّ مُسمى أو مبرر ، بما يعني، في الحال المعاكسة ، تقصيرا من الدولة تحاسب عليه ، قيمة الدولة ، عند سعادة ، بمدى قيامها بالموكل لها من مهام ، بالواجبات الملقاة على عاتقها ، ذلك أن مسؤولياتها ليست وظيفية بمعنى ما من المعاني ، هي انتاجية ويقاس نجاحها بمدى ما تنتجه وفق المقولة العامة للإنتاج ، أقل جهد و زمن ، الدولة عند سعادة مؤسسة انتاجية ، لا وظيفية استهلاكية ، لا يمكن للدولة أن تكون عبئاً على المجتمع ـ الأمة ، تشاركه بما ينتجه ، عليها أن تنتج مقومات استمراريتها من حيث أنها وجدت لتبقى ، الدولة هي الإبن العاق للمجتمع ، لم تكن لتكون بدونه ، ولدت في رحمه ، وتطورت في سياقه ، وتنكرت له عندما احتاج إليها في تدبر أموره ، سخَّرَتْهُ لخدمتها وتطاولت عليه وتحولت لأداة قمع لكل ما من شأنه النيل من سلطتها وطغيانها ، هنا سعادة ، في مقولته " الانسان المجتمع " ـ "الدولة" يعيدها لبيت الطاعة ، لخدمة مَنْ أوجدها ، ونمت وكبرت في أحضانه ، في "صيانة مصلحة الأمة والدولة" ، يضع سعادة حجر الأساس لماهية الدولة والأمة ،المصطلح " صيانة " يحمل توجهات عدة ،من حيث معناه ، تأمين ، حماية ،الحفاظ على مصلحة الأمة والدولة ، هنا ، يقدم سعادة الأمة على الدولة ، ويؤكد على ضرورة اصلاح (الوجه الآخر لمصطلح صيانة ) ما هي عليه في سياق عملية الانتاج ، الهدف ـ حماية ، حفظ ، استمرارية الدولة في قيامها بمهامها ، ومن الوجهة الأخرى تعديل ، تكييف ، تغيير ، تبديل ، تطوير تشريعاتها بما يتناسب والمهام الموكلة لها ، على مبدأ " الدين لتشريف الحياة وليست الحياة لتشريف الدين " القانون في خدمة الانسان وليس الانسان في خدمة القانون ، في الدولة ، عند سعادة ، لا تشريعات سرمدية ، مقدسة ، إلاهية ، لم تهبط التشريعات والدساتير والقوانين بأنظمتها ، من السماء ، هي من صنع الانسان لخدمته وتأمين مصالحه ،يقول : / في المبادئ التي تمت للإنسان الحر بصلة ، لا يمكن الاستناد لأي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة انسانية أو لها علاقة بالانسان ـ المجتمع . / بما يعني أيضاً ، أنه لا يمكن ، في ما يتعلق بالإنسان ـ المجتمع ـ " الدولة" إخضاعه لجملة مبررات تراها الدولة محقة ويراها المجتمع غير ذلك لكونها تمسُّ بشكل أو بآخر بحقوقه التي اكتسبها في عمليته الانتاجية ، كل ما تراه الدولة محِقاً ليس بالضرورة أن يكون كذلك بالنسبة للمجتمع ، ذلك أن التقرير هنا ليس مجرد قرار إنه مصلحة الأمة والدولة ،كل ما له علاقة بالانسان خاضع لمقولته في كون " العقل شرعاً أعلى " لا يعلى عليه ، في العقل ، لا ارتجال ، كل ما يمت للعقل بصلة خاضع للدرس، للاختبار والتجريب ، على أن يكون مستمدا من الخبرة ، الخبرة هنا، تراكم معرفي في العمل ، كإنتاج ، وليست مجرد تراكم زمني على حساب الأمة والدولة ،العقل له مواصفات الحقيقة من حيث هي " وجود ومعرفة " على سبيل المثال لا الحصر ، في التشريع ، تشريع الحلول للقضايا المطروحة ، القانون ياتي كحل منطقي ، عقلي ،موضوعي لما هي عليه القضية في صيرورتها أنيا ومرحليا ، العقل أيضا هنا ، وعي ، فهم ، ادراك ، متابعة ، ملاحقة لكل كبيرة وصغيرة بكل ما يتعلق بمصلحة الأمة والدولة ، وعي مجتمعي ، حتى لا يؤخذ المجتمع على حين غرة ويُضلل من قبل الدولة ، وعي القضية في صيرورتها أنيا، مرحليا ، مستقبليا ،يعني أن على المجتمع تتبع الدولة في طروحات مشروعها حل القضية قانونيا ، حقوقيّاً ، والقانون ـ الحل ، خاضع بدوره للعقل ، العقل هنا ليس بمعناه البيلوجي أو الفيزيولوجي أو حتى السيكولوجي ، إنه مصلحة الأمة والدولة ، في استمرارية قيامها بمهامها ،في خدمتها للمجتمع ـ الأمة والمتمثلة في أكبر انتاج كما نوعيا ، في تناهي الجهد والزمن الى أقل ما يمكن ، العقل هنا يكمن في مدى نجاعة الحلول المطروحة ، لا في مدى منطقيته أو صوابية حلوله النظرية غير القابلة للتطبيق ، في مقدار سده الاحتياجات غير المحدودة للمجتمع ـ الأمة ، من الموارد المحدودة ، هذه الأخيرة ، لا يمكن لها أن تحدد احتياجات الأمة ـ المجتمع بمحدوديتها ، لا يمكن قياس وتفصيل احتياجات الأمة وفق مقاسات موارد الدولة المحدودة ، العقل ، هنا ، هو في ابتداع الطرق والوسائل التي تحقق جمال حياة المجتمع ، هنا الجمال ليس صورة ، إنه وفق معادلة الانتاج ، مدى تمتع المواطن بحياته ، في إطالة متوسط عمره ، في زمن الراحة التي يقضيها في حياته ، في نسبة الحريرات المصروفة بالعمل المنتج الى نسبة الحريرات التي يقدمها الانتاج لأفراد الأمة ، فإذا كان قد صرف ، على سبيل المثال ، ثلاثين حريرة مقابل ثلاثين أخرى كمردود انتاجي ،فالحالة الثقافية للمجتمع تكون في حالة ركود ، ثلاثين حريرة طاقة انتاجية ، تقابلها ، مثلاً ، ستون أو سبعون أو حتى ثمانون وكلما ازدادت هذه النسبة كانت الدولة ناجحة في إطالة متوسط عمر مواطنيها ، أو في استمتاعهم في الحياة هذا ما يعنيه أقل جهد مقابل أكبر انتاج، العقل هو معرفة الكيفية والوسيلة لتحقيق الغاية ، و لأن " المجتمع معرفة والمعرفة قوة .." كان الانتاج " غلالاً وصناعةً وفكراً " في حده الأعظم ،هو المعيار الوحيد للمعرفة ، لمصداقية المعرفة ، لصحة المعرفة ، لسلامتها ،والأخيرة تعني خروج المعرفة على مفهوم المنفعة ، الفردية ، الطبقية ، المذهبية ، العرقية ، العنصرية ، الثقافية ، السياسية ، الجنسية ،.. لعموم المجموع المجتمعي ، دون ذلك لا يمكن تحقيق المساواة والعدالة في التوزيع للمنتج القومي ، أو في المصطلحات الاقتصادية ـ متوسط دخل الفرد ـ بين مجموع أعضاء الدولة ، المواطنين ، مع ضرورة التمييز بين المساواة و العدالة ، ليست كل مساواة عدالة وليست كل عدالة مساواة ، التمايز بين هذه وتلك ، لا يمكن أن يمسّ الحقوق كما لا يعفي من الواجبات ، والمعادلة هنا بالغة الصعوبة ، على الدولة بما هي تشريع وتنفيذ أن تخضع في مطلق ما تعنيه ، للقضاء ، حيث القضاء هو ما تقتضيه مصلحة الأمة والدولة ،لم يكن سعادة من المؤمنين بـ ( إن الأعمال بالنيات ) وإنما بـ ( إن النيات بالأعمال ) بما يعني ، أن العمل يفصح من تلقاء ذاته عن ماهيته ، دون تبرير لمنتجه ، سلبا أو إيجاباً ، أن على الهدف أن يتحقق في المنطلق عبر الوسيلة ، ليس هناك من تبرير لأي عمل بالغاية المرجوة منه ، العمل هو المقياس ، التبرير مرفوض مهما تكن عوامله ومسبباته وما شاكل ، يبقى التبرير فكرة ناقصة ، لا هي تقنع ولا يقتنع بها أحد ، طالما أنها لم تؤدِ للمرجوِ منها ، والقضاء هنا ليس مجرد مؤسسة قانونية ، إنه أيضا مؤسسة انتاجية ، الواجبات كما الحقوق إحدى مهماته ، على القضاء أن ينتج من الحقوق الحدَّ الأعظم مقابل الحد الأدنى من الواجبات ، على الحقوق أن تطغى على الواجبات ، انتاجية القضاء تقاس بمدى ما ينتجه من حقوق لكافة أفراد الشعب ،نعيد ونكرر ، القضاء ليس مجرد مؤسسة قانونية ، إنه مؤسسة انتاج حقوقي ، ومن حيث هي كذلك ، كان عليها أن تنتج من الحقوق كما نوعيا ، وليس مجرد كمٍ نظري ، بما يعني أن القضاء كمؤسسة انتاجية يتضمن في ما يتضمنه مؤسسات أخرى ، اقتصادية ثقافية ، سياسية ، اجتماعية ..الخ ، كلٌ منها تُعنى باختصاصها ، وتقدم مبرراتها لهذ الاقتضاء ومسبباته ووسائله وغاياته ، وهذه هي القوة التي تعنيها المعرفة ، القوة ليست قوة عسكرية وحسب ، هي كذلك في مدى صيانتها لمصلحة الأمة والدولة ، داخليا وخارجيا ،داخليا من حيث هي تحقيق واستمرارية ، ديمومة الحق والخير والجمال الدي تنعم به الأمة ـ المجتمع ،خارجيا في مدى تأمينها موارد الدولة المحدودة لتحقيق حاجات المجتمع غير المحدودة ، ندخل هنا في سياق السياسة الخارجية التي على الدولة انتهاجها في محاولتها استكمال مواردها المحدودة بما يلبي احتياجات المجتمع غير المحدودة ، في السياسة الخارجية ، يترك سعادة تقرير ما يمكن أن يكون عليه العالم لكيفية تطوره بتساؤله : " هل يصبح العالم أمة واحدة ؟ يجيب : مَنْ يدري ."وعليه فهو لا يرى العالم إلاّ على نحو ما هو عليه الآن ، تنازع بقاء ، ليس بالضرورة انتفاء الآخر بقدر ما هو بقاء الأصلح والأقدر على الحياة بتأمين مقوماتها ، يطرح سعادة وفق رؤيته ، أن العالم ، من حيث هو متعدد البيئات الطبيعية ، فهو بطبيعة الحال ، متعدد في أممه وتاليا في إمكاناته ، وعليه ، في حالٍ كهذه ، أن يوجد المخرج لتنازع بقائه مع الآخر ، المخرج الذي يقدمه سعادة هو في قيام أمم الأرض على مبدأ وحدة بيئاتها ، لا يرى مثلا في " عصبة الأمم " حلاً لمشاكل العالم ، من منطلق أن الدولة ككيان سياسي لا تشكل أمة ، كما يدل عليه مصطلح " عصبة الأمم " أو في ما بعد " الأمم المتحدة " هذه الدول التي أوجدتها مطامع استعمارية لا تمثل أمة ، الدول ذات "السيادة " هي الدول القومية القائمة على أساس وحدة بيئتها الطبيعية باعتراف العالم بها ،الدول المصطنعة ( او وفق مصطلحات علم السياسة ، الدول الحديثة ) ، ليست دولا بالمعنى الحقيقي للدولة ،ذلك أنها نشأت وفق مخططات الدول الاستعمارية لنهب خيراتها ، وسيادتها مجرد وهم تعيش به شعوبها ، طالما أنها لم تمتلك زمام انتاج حياتها ، الدولة ذات السيادة عن سعادة ، هي الدولة القومية ، والدولة القومية هي الدولة التي تجتمع في كامل بيئتها ، فإذا ما كان العالم على هذا النحو أمكن إيجاد حلول لمشاكله المتعلقة بوجوده ،الدول الحديثة أو الدول ككيان سياسي تجزيئي للبيئة الطبيعية تنتج في الغالب مشاكل وجودها ، هي في نزاع داخلي أولاً وقبل أي شأن آخر وهي في نزاع مع جوارها ، في هذا النزاع المزدوج ، تهدر البقية الباقية من عوامل استمرارية الدولة ككيان سياسي لتبقى تتخبط في تبعات هذا الشذوذ التاريخي ، يقدم سعادة النموذج اللبناني مثالا على ذلك ، في مشكلاته الداخلية وفي مشكلاته الخارجية وتحديدا الجمهورية الشامية ـ والتي نشأت على غراره ، والتي لعلة في ذاتها ، أحاطت به من كل جانب فبات مطالبا بالتوفيق بين حتمية العلاقة مع الشام واستقلاليته غير الممكنة في أية قرارات اقتصادية خارجة أو متعارضة مع الدولة المجاورة له ، هذه الحال يمكن تعميمها على مختلف الدول في العالم التي جُزئت بيئتها فتنازعت بقاءها مع من سلخت عنهم وتاليا ، باتت ، كل منها تجد ضالتها في الدول التي أوجدتها ، وهذا ما كلفها استقلاليتها الموهومة وانخراطها في سياسة الأحلاف والتبعية للحفاظ على كيانها السياسي وباتت أيضا عرضة للانهيار في أي وقت تتعرض فيه لأزمة مصيرية قد تعصف بها .. سعادة يقدم مشروعه العالمي ، كحلٍ لمشكلات العالم ، من الوجهة السياسية والاقتصادية وكذلك الاجتماعية والثقافية ، حيث يرى أن الحالة الاستعمارية التي سبقت قيام هذه الدول وجشع الدول الاستعمارية واعتمادها سياسات الهيمنة وتقسيم العالم وفق احتياجات مواردها الاقتصادية ، هو الذي يدفع بالعالم نحو الهاوية ويزيد من مشكلاته ويشكل العامل الأول والأخير لانهيار الدول الحديثة والعظمى معا ويعرض العالم للفناء ، ... في خضم هذا الصراع ، كيف يمكن للدولة استكمال مواردها المحدودة لسد احتياجات غير محدودة ؟، لا يقدم سعادة في مشروعه اجابة وافية لهذا السؤال ، هناك نتف مما قاله أو كتبه يمكن الاستفادة منه مبدئيا في ما يتعلق بالنظرية الاقتصادية الجزئية ، ونتف أخرى يمكن لها أن تدخل في سياق النظرية الاقتصادية الكلية ، لكن هذه أو تلك لا يمكن الاستناد عليها لبناء إحدى النظريتين ، لأسباب عدة أبرزها الحاجة لدراسات إحصائية استقصائية تتحدد من خلالها الحالة التي عليها أمته وتاليا كيفية الخروج من هذه الحال ، خاصة وأن أمته كما يقول في مؤلفه الرائع " نشؤ الأمم" : تعاني ما تعانيه على مختلف الأصعدة.
الفصل الثاني
سعادة في مواجهة الفكر الغربي
وقد لا تتضح ، صورة ما تقدم وأهميته ، على مستوى النظريات الأخرى ، إلاَّ بتناولها ،من الوجهة الاجتماعية ـ الاقتصادية ،
إميل دوركهايم ، كارل ماركس، ماكس فيبر ، انطون سعادة
كما سبق وأشرنا الى أن أهمية " نشؤ الأمم " لا يمكن أن تتضح كإسهام في علم الاجتماع ، إلا عبر مقارنته بغيره من مؤلفات علماء الاجتماع الذين كانت لهم اسهاماتهم في هذا العلم ، وجدير بالملاحظة ، أن هذا المؤلف قد حورب بشكل خفي ومن وراء الكواليس حتى لا تتم دراسته على مستوى علم الاجتماع ، ولقد وقفت الصهيونية العالمية وراء ذلك لأنه يناقض كليا ما قامت عليه ، نضيف ، أن المتعاقدين مع سعادة ، ولضحالة في ثقافتهم العامة وفي علم الاجتماع ، على وجه الخصوص ، ، قد جانبوا البحث به أو هم ـ كما سبق واسلفنا ـ أنهم لم يستنبطوا من مقولاته ما يمكنهم من استشراف مستقبل امتهم بل وحزبهم كمؤسسة ينطبق عليها ما جاء به هذا المؤلف العظيم ، ولانشغالهم بمشاكل الحزب الداخلية ، والتي طغت على كل اهتمام آخر ، من جهة ولما يتطلبه البحث المقارن من جهد من جهة ثانية ،مع ضرورة لفت النظر لمحاولة أو محاولتين في هذا المجال ، لم تنالا ما تستحقانه من عناية ودراسة واهتمام ..
بداية ، لا بدَّ لنا من تحديد مفهوم النظرية عموما والنظرية الاجتماعية والسياسية على وجه الخصوص ، أيضا . تجنبا للوقوع في مأزق مفهوم ودلالات المصطلحات .
مفهوم النظرية :
في العلوم الانسانية وتحديدا في علم الاجتماع والسياسة ، هناك الكثير من التعريفات التي تتناول مفهوم النظرية تبعا لمنطق ومنهج ومعيار النظرية بذاتها ، لكنها ، على اختلافها ، تبقى تتفق في المنحى العام لتعريف النظرية من حيث أنها ـ قانون عام مُسْتقى من المتكرر في موضوع النظرية ، ذلك أن التكرارية تعني الموضوعية التي لا يمكن تجنبها مهما حاولنا ذلك ،وأنه من خلال هذه التكرارية يمكننا تفسير مختلف الظواهر التي يتناولها موضوع النظرية تحديدا ـ وعليه فإن على النظرية أن تكون ذات خصائص ومواصفات تسمح باستنباط مستجدات صيرورة موضوعها والتنبؤ بها قبل حدوثها ، وهي لذلك عليها أن تكون متماسكة من حيث البناء ومتسقة من حيث المنهج وغير متناقضة من حيث النتائج .
ويثير تعريف النظرية الكثير من الاشكاليات المتشابكة والمعقدة من حيث مفهوم النظرية وتصنيفها وأنماطها ووظائفها وقدرتها على توجيه البحث في موضوعها وأخيراً قدرتها على الكشف عن الثغرات في معارفنا ..وإن كنا نكتفي بالتعريف دون مشتقاته فما ذلك إلا بدافع بقائنا في فلك محور بحثنا
من الجهة الأخرى ، لن نتناول أعمال من سبقوا سعادة في هذا العلم إلا من الوجهة الاجتماعية ـ السياسية ، على الرغم من ضرورة تناول تلك الأعمال لبيان أهمية ما قدمه سعادة في مجال علم الاجتماع "1".
في محاولتنا مقارنة ما قدمه سعادة من اسهام في مجال علم الاجتماع ، لا بد من التنويه الى أنه كان من المفيد أن نبدأ بابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع الأقرب للمقارن من غيره ، لكن وجهة البحث تحول دون ذلك .
إميل دوركهايم (1858ـ 1917)
بداية ، أيضا ، لا بدّ لنا من التنويه أن ما دفعنا لتناول نظرية دوركهايم الوظيفية ، هو أنها تزامنت مع مؤلف سعادة الذي وضعه في عام 1936 ، وأنها النظرية التي شغلت بمقولاتها علماء كُثُر وبذلت جهود كبيرة من أجل توطيدها كمقولات جوهرية في علم الاجتماع ، لكنها ولعلة في ذاتها ، لم تكن في مستوى التحدي الذي واجهته في النصف الثاني من القرن العشرين وتحديدا في العالم الغربي وأمريكا ، حيث التطورات العلمية التي دفعت لأخرى اقتصادية حالت دون اعتبارها النظرية الأوفر حظا من النظريات الأخرى لما أحدثته من تغيرات في البنى الاجتماعية ، أثبتت بما لا يقبل الجدل فيه أن النظرية الوظيفية عاجزة عن تفسير اسباب وكيفية ونتائج حدوث مثل هذه التطورات ، هذه التطورات التي أكدت ما سبق ونوه عنه سعادة في أن "التّطوّر الاجتماعيّ هو دائماً على نسبة التّطوّر الاقتصاديّ"
ولا بأس أيضا من التنويه بأن الأهمية التي اكتسبتها النظرية الوظيفية كانت نتيجة انتصار الفلسفة المادية لماركس في روسيا ، والتي وضعت الاختيار الديموقراطي الغربي على المحك مقابل ديكتاتورية الطبقة العاملة ـ ممثلة بديكتاتورية الدولة ـ والرأسمالية مقابل الاشتراكية ، على الرغم من وجود نظريات أخرى في علم الاجتماع كــ ـ نظرية التوافق ونظرية الصراع ونظرية الفعل ـ والتي بقيت في الظل على الرغم من اسهاماتها في بيان بعض الحقائق للتطور المجتمعي منطلقا ووسيلة وغاية.
النظرية الوظيفية :
يتناول دوركهايم ورفاقه / مالينوفسكي وارد ، كليف بروان ، ايفانو بريشار ، وميرفورتس ، وماكس غلوكمان ، تالكوتبارسونز.. / ، المجتمع من حيث هو كذلك دون التطرق لفكرة التطور التي قادت اليه ليكون كذلك ، أي تناوله من حيث أنه وجود موضوعي بالنسبة للأفراد الذين يشكلون بنيته الأساسية ، ولا يتطرق دوركهايم للاقتصادي في البنى الاجتماعية باعتباره مُتَضَمَناً بها ..
يركّز دوركهايم على دور الوظيفة الاجتماعية في بيان صيرورة أن المجتمع من حيث هو كيان قائم بذاته يجد فيه الفرد نفسه مجبرا غير مختار للدور الذي يمكنه القيام به ، فصحيح أننا نعتقد أننا نختار ما نعتقده ونؤمن به ، لكننا في الحقيقة نحن نتكيف ونتلاءم مع ما نشأنا عليه ، فالمجتمع كوجود موضوعي سابق على الأفراد لا بد لهم من الانصياع لمعطياته ، فكما أن الطبيعة سابقة لوجود الحياة ، فنحن ملزمون بالتوافق معها ، كذلك المجتمع بأسبقيته على وجود الفرد يحتم عليه تقبل ما هو قائم خارجه ، ويشدد دوركهايم على أن القوانين الاجتماعية لا تختلف عن تلك التي في الطبيعة ومن هنا فالعلم أقدر على اكتشافها عبر العلوم أو الطريقة الوضعية ، ذلك أن الوضعية هي الطريقة الكفيلة باكتشاف الحقائق الاجتماعية ،باعتبارها قابلة للتجريب ، أي أننا بمجرد امتلاكنا الدليل للعلاقات السببية ـ والتي يمكن تحديدها عن طريق الحواس ـ نكون قد امتلكنا الدليل المادي للفعل ، من هنا يرى دوركهايم أن الخلل الاجتماعي سببه " نقص أو ضعف" في المعايير التنظيمية للمجتمع ، وعليه فإن حرية الفرد تتكون في ظل التخلص من الانقياد الأعمى لقوى الجهل المادية وفي المقابل فإن (الذكاء) هو الرد أو الرفض الفعلي لهذه القوى وتاليا الحفاظ على النظام والتناغم والاتفاق في الشؤون الاجتماعية
بالنسبة لدوركهايم ، فان البنى الاجتماعية تتكون من مجموعة من المعايير والقيم والتي بدورها تحدد سلوك الفرد الاجتماعي ، ذلك أنها سابقة لوجودهم ، وأنهم من خلال التنشئة التي تشكل محتوى الفكر لديهم يتقبلون ويتكيفون مع القوانين الاجتماعية التي لا تختلف عن قوانين الطبيعة ، وعليه فالنظام الاجتماعي يضحى نابعا من الالتزام والذي هو شرط حرية الفرد ، هكذا يكون النظام الاجتماعي والتناغم والاتفاق مشكلا لشؤون المجتمع ..
ولا يمكن فهم ما تقدم عند دوركهابم إلا من خلال التشابه الفعلي بين المجتمع والكائن الحي، فالمجتمع هو كائن حي له خلاياه ( مؤسساته )التي تعمل بشكل متسق مع غيرها من الخلايا وبتناغم كلي ، وهي اذ تقوم بما هي مسؤولة عنه ـ والذي يمثل بطبيعة الحال ما ترغب به وتتطلع اليه ـ تحقق ذاتها بالعمل المتناغم والمتكامل مع سواها من الخلايا ، شريطة قيام الخلايا الأخرى بما هو مناط بها ، وهكذا تمثل الخلية الفرد وبتعاضدها مع سواها تشكل أجهزة الجسم ، فالكبد مثلا هو مجموعة من الخلايا المتناغمة والمتسقة بعضها مع البعض ،وهو لذلك أقرب ما يكون للمؤسسة الاجتماعية ، وبهذا التعاضد والتكافل ، تتشكل مختلف المؤسسات الاجتماعية ، والتي ، أيضا ، بتعاضدها وتكافلها يستطيع الجسم الحي ـ المجتمع ، القيام بوأد نفسه ، وفي الحالة المعاكسة لحالة التناغم هذه يعتل الجسم ويختل ولا يعد بقادر على القيام بما هو مسؤول عنه ، حياته ، معرضا نفسه للتفكك والانحلال والموت ،من هنا يرى دوركهايم إن الحركات السياسية الاجتماعية هي حاجة اجتماعية لتشخيص الحالة الاجتماعية التي يكون عليها المجتمع والتي تكون عليها مهمة التنبؤ والتنبيه للخلل قبل حدوثه فهي كالعوارض التي تنتاب الجسم الحي مدللة على حدوث خلل ما يجب التنبه اليه بإعادة تأصيل القيم الاجتماعية بشكل سليم للوصول لمجتمع صحي سليم مترابط يسود الود بين أفراده ويتم تحديد دور كل منهم بداخله .
لا يعتقد دوركهايم أن الدين حركة سياسية ، لكنه يتخذ من وظيفته الهدف منه، وهذه الوظيفة وفق تعبيره هي " توحيد الأفراد داخل النظام الاجتماعي وتاليا فهو وسيلة للتضامن الاجتماعي وتماسكه " اذ أن الدين يبقى في ماهيته ليس مجرد طقوس وعبادات تختلف الى هذا الحد أو ذاك ، بقدر ما هو عامل محوري لتوحيد المجتمع واستمراره ،لذا فالدين يتواجد حيث تحتاج كل الأنظمة الاجتماعية للترابط والتوحد ، ولأنه كذلك فإنه في الحال المعاكسة ، أي في الحال التي لا يكون فيها جامعا لكل القائلين به ـ رغم اختلافاتهم ـ فإن " الفرق ستتنافس وتتقاتل تجاه المصادر المحدودة المتاحة في المجتمع الذي يعشون به ومن ثم سيقومون بسحق كل منهم الآخر " وعليه فإن المهم بالنسبة للوظيفيين ، ليس الدين كمعتقد من حيث الماهية بل بالتأثيرات الاجتماعية المصاحبة لهذه المعتقدات .
أن افتقار النظرية الوظيفية عند دوركهايم لدور الاقتصاد في العملية الاجتماعية دفع ب " مالينوفسكي " ـ وهو عالم أنثروبولوجي ـ لسد هذه الثغرة وبيان أثر الاقتصاد في السياسة والاجتماع ، وذلك بدراسته الميدانية لمجموعة من القبائل البدائية تنتشر على مجموعة من الجزر الصغيرة على ساحل غينيا الجديدة وكل ما استخلصه على مدى أربعة أعوام كان مجرد تطبيق لنظرية سعادة في أن البيئة الطبيعية بما تقدمه من امكانات لسد الحاجات البشرية تبقى هي التي ترسم للمجتمع متجهاته في السياسة والاجتماع ، والخطأ الذي وقع به مالينوفسكي هو في تعميمه ما استقاه من هذه الدراسة الميدانية على المجتمعات الاخرى وفق مفهوم دوركهايم لمعنى الوظيفية وقد شاركه في هذا الاتجاه مجموعة من العلماء الانثروبيلوجيين الآخرين دون التنبه لما يعنيه هذا التعميم من أن دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية من حيث مواصفاتها وخصائصها تبقى في نطاق البيئة الطبيعة التي أوجدتها ولا يمكن تعميم هذه الخصائص والمواصفات على بيئات أخرى تختلف عن هذه البيئة أو تلك الى هذا الحد أو ذاك من حيث محدودية الموارد الطبيعية التي تطبع الصيغ التي من خلالها تنتظم جملة العلاقات السياسية والمجتمعية ، فالعلاقات الداخلية ، أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية أم ثقافية .. ، تبقى في نوعيتها وخصائصها ومواصفاتها ، خاصة بالبيئة التي انتجتها ،هذا التعميم الذي وقعت به النظرية الوظيفية ناتج عن افتقارها لفكرة التطور وأدى بها لفقدان النسق التطوري أو المتكرر في العملية الاجتماعية والذي هو القانون العام لمجرى تطور المجتمع في أية مرحلة من مراحله فردا كان أم مجتمعا ، والذي يتحكم بصيرورة المجتمع وهذا يعني فقدانها القدرة على التنبؤ بالمشاكل التي يمكن لها أن تنشأ في هذا المجرى ...
(2) المادية التاريخية
/ كارل ماركس وفريدريك انغلز / 1820 ـ 1895
لم يكن كارل ماركس معاصرا لسعادة بقدر ما كان فكره مقارعا للفكر القومي الاجتماعي عبر الحزب الشيوعي الذي تأسس في عشرينيات القرن المنصرم ، مدعوما وبقوة من الاتحاد السوفيتي الحديث النشأة ، وعلى ما نعتقد ، فإن مؤلف نشؤ الأمم كان بمثابة الرد على المادية التاريخية بشقيها الفلسفي والاجتماعي ،
يكمن الخلاف الفلسفي بين ماركس وسعادة في ثنائية كارل ماركس (ابيض ـ أسود ، سالب ـ موجب ، يروليتارية ـ برجوازية ..) وثلاثية سعادة ،(جذب ـ نبذ ـ انعدام جاذبية ، إلكترون ـ بروتون ـ نيترون ) على سبيل المثال ،وعليه ، فإن تتبعنا لهذا الاختلاف يحفزنا للتعريف بكل من المادية الديالكتيكية وإسقاطاتها على المجتمع الانساني في ماديتها التاريخية ، مؤكدين في توجهنا هذا على أن الكثير من المتابعين لم يقرؤوا أو يدرسوا كلتا النظريتين أو حتى يطلعوا على واحدة منهما بالشكل الذي يجعلهم بقادرين على استخلاص النتائج المرجوة منهما ، شأتهم في ذلك شأن الماركسيين في مجملهم ما كانوا على اطلاع بما هم مؤمنون به على نسق القوميين الاجتماعيين الذين اكتفوا بما سمعوه تواترا عن عقيدتهم أو تصفحوا بعضا مما كَتَبَهُ سعادة دون التعمق والتأمل الفلسفي بما جاء به ، فجاءت قناعاتهم بناء على خلفيات ثقافية تنوعت فيها مصادرها ومتجهاتها وتباينت فيها أيضا إطروحاتهم الفكرية حول ما استخلصوه من هذا الفكر ، وأيضا على غرار الماركسيين ..
المادية الديالكتيكية :
هي باختصار شديد : إن منطق الحياة (الانسان والمجتمع ) هو منطق الطبيعة التي أوجدتها ، أي منطقا جدليا (ديالكتيكيا ) لأته يحمل في ذاته السلب والايجاب ، بكل ما يعنياه من تضاد ، صراع ، تناقض . لذا جاءت المقولات المادية لدى ماركس ، رداً على مقولات هيغل و فويرباخ ودوهرنغ التي انتهجت نهج الدين في تفسير مجمل الطروحات الفلسفية والاجتماعية ، متبنية الطرح البرجوازي الذي أبقى على التصنيف الطبقي للمجتمع من أن "الله" قد خلق العالم بما فيه الانسان مبررا هذا الخلق بشتى المبررات التي تجعل منه كيانا غير مدرك بالنسبة للإنسان الذي تبقى وظيفته مرضاة خالقه...، يقول ماركس في هذا الصدد : "إن أسلوبي الديالكتيكي لا يختلف عن الديالكتيك الهيغلي وحسب، بل هو نقيضه المباشر. فهيغل يحول عمليـة التفكير، التي يطلق عليها اسم الفكرة حتى إلى ذات مستقلة، انها خالق العالم الحقيقي، ويجعل العالم الحقيقي مجـرد شـكل خارجي ظواهريُ للفكرةُ. أما بالنسبة لي، فعلى العكس من ذلك، ليس المثال سوى العـالم المـادي الـذي يعكـسه الـدماغ الإنساني ويترجمه إلى أشكال من الفكر." يضيف أنغلز " إن النظرية المادية العالمية هي ببساطة إدراك الطبيعة كما هي، بدون أي تحفظ" بمعنى آخر ،وعلى النقيض الميتافيزيقي ، فإن الماركسية تؤكد على النهج العلمي الذي يرى العالم وجودا مستقلا كل الاستقلال عن فكرة الخلق المباشر، ذلك أن ما نفكر به يأتي انعكاسا لوجود موضوعي (مادي ) يوجد خارج فكرنا وليس العكس ، الطبيعة بالتحديد ، وعليه ، فإنه لا يمكننا فهم الطبيعة ـ طبيعة الأشياء والكائنات الحية ، إلاّ بمعرفة وفهم سياقها العام الذي يتمحور حول كونها كلاًّ واحدا لا يمكن تجزئته أو عزل شظاياه أو تجلياته بعضها عن بعض ، حتى على المستوى النظري ، فهي كلٌ مترابط بعضه مع بعض عضويا بحيث أن كلاً منها يعتمد على الآخر في ظاهراته وتجلياته ، لذا كانت المادية الديالكتيكية في نهجها وأسلوبها وتفهمها وتفسيرها وفكرتها إسقاطا فلسفيا لما هي عليه الظواهر الطبيعية بكل مواصفاتها وخصائصها وتجلياتها على الحياة بما فيها الكيان الاجتماعي ،وطالما أن "المادي" هو الوجود الحقيقي والفعلي، فإن أبرز خصائصه التناقض ، لأنه يحمل في ذاته كل ما هو سلبي وايجابي بآن واحد ، طبيعة كان أم مجتمعاً ، وعليه فإن المادية الديالكتيكية مترابطة هي أيضا ترابطا كليا بعضها مع بعض ترابط الطبيعة العضوي باعتبارها انعكاسا لها ، بحيث لا يمكن فهم هذه الفلسفة بعزل مقولاتها بعضها عن بعض بل لا بد من أخذها كلاً متكاملاً ، بدئا من كون الديالكتيك هو النقيض المباشر للميتافيزيقا مرورا بالطبيعة والانسان فردا كان أم مجتمعا في سياقه العام ، أي ، في حركته الدائمة ، في تغير وتطور مستمر ويكتسب مختلف خصائصه من الوجود المادي (الموضوعي) الذي لا يمكن فهم حركته التطورية إلاً من حيث أنها لا تحدث بصورة عرضية بل نتيجة تراكمات كمية غير محسوسة وتدريجية ، تطورٌ يبدأ كميا لينتج تطورا كيفيا ( كتحول الأوكسجين الى أوزون بمجرد إضافة إلكترون واحد ) هكذا تؤدي الزيادة والنقصان الكمي البحت الى طفرة كيفية ، بمعنى أن الزيادة والنقصان الكمي ما هو إلا تجلٍ للتناقض الذاتي في المادة التي تحمل بين جنبيها السلبي والايجابي معا ، أو كما يقول لينين " إن الديالكتيك بمعناه الاعتيادي هو دراسة التناقضات في جوهر الأشياء .. إن التطور هو صراع الأضداد " هكذا يبدو الديالكتيك كقانون لتطور المادة المتحركة أبداً الى الأمام والأعلى ،وعليه فإن المادية الديالكتيكية تعتبر أن المادة ، الطبيعة ، الوجود ، هي حقائق موضوعية موجودة خارج وعينا ومستقلة عنه ،والذي يبقى انعكاسا لها بكل ما في الكلمة من معنى ، وتاليا فإن الفصل بين الفكر والمادة المفكرة تبدو عملية شبه مستحيلة ذلك أن المادة هي الذات لجميع التغيرات ، إن المادة ، الطبيعة ، الوجود ـ الجسم الطبيعي ـ هي الأساس بينما تأتي الروح ، الوعي ، الاحساس ، الكيان النفسي ، هي الثانوية ، والفكرة الرئيسية التي تؤكدها المادية هي أنه ، وبناءً على ما تقدم ، فإن معرفة الوجود معرفةً موثوقة ممكنة طالما أنها خاضعة للتجربة والتطبيق ، على أن لا يعني ما تقدم أن لا أهمية ولا معنى للروح ، الوعي ، الاحساس ، الكيان النفسي ، بل على العكس تماما ، فماركس يرى أن " اختزال الأفكار الى مجرد أنها انعكاس للأوضاع المادية هو ببساطة خطأ منطقي فالتفكير والوجود المادي متميزان يقينا وفي نفس الوقت متداخلان في وحدة كل مع الآخر إذ أنه مما لا جدال فيه أنه لا يمكننا أن نخلق تصورا مثاليا ما لم نكن قد تصورنا أيضا مجالا ماديا ، فقطبا التضاد يخلق كل منهما الآخر ويحدده " هكذا " تصبح النظرية قوة مادية عندما تستحوذ على الجماهير " أو كما يقول ستالين "..وهكذا فان الآراء والنظريات والمؤسسات السياسية، لدى نشوئها على أساس المهام الملحـة لتطـور حيـاة المجتمـع المادية، على أساس تطور الكيان الاجتماعي، تقوم هي ذاتها برد فعلها على حياة المجتمع الماديـة وتخلـق الظـروف الضرورية لتنفيذ المهام الملحة لحياة المجتمع المادية تنفيذا كاملا وتجعل المزيد من تقدمها أمرا ممكنا."
ما تقدم يأتي تجسيدا لمقولات الماركسية الأساسية وهي :
(1)عمليات التراكم الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية،
(2) التناقض بين مكونات الأشياء يعد الأساس في حركتها
(3) وما من شيء في الطبيعة والحياة الاجتماعية إلا ويحمل في مكوناته قدراً من التناقض ينتج صراعاً مستمراً بينها
(4) وأن الصراع بين المكونات يؤدي باستمرار إلى ما يعرف بنفي النفي، فكل مرحلة من مراحل التطور تنفي بالضرورة المراحل السابقة،
(5) ولا يمكن أن تتعايش المراحل مع بعضها إلا لفترات مؤقتة توصف بالتناقض، ولايمكن أن يكون بينها أي وفاق أو استقرار.
وأخيرا ، فإن المادية التاريخية هي نتاج تطبيق المنطق الجدلي على التطور التاريخي للمجتمع ،
في المصطلحات الديالكتيكية والمدرحية
مدخل:
تعرضت الماركسية ( المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية) عبر مسيرتها الطويلة 1840 تاريخ (صدور البيان الشيوعي) و1983 ( بداية انهيار الاتحاد السوفيتي) لكثير من التطورات عبر الاجتهادات الكثيرة التي مارستها الأحزاب الشيوعية(الليلينية، التروتسكية ، الماوية ..) من خلال تجربتها في محاولتها وضع حلول للمشكلات الكثيرة التي واجهتها في التطبيق العملي لنظريتها الفلسفية والتاريخية وحتى التنظيمية، مما دفع بالكثيرين للتقليل من أهميتها في التطورات التي دفعت هي نفسها اليها، والتي يمكن اختصارها بكيفية اعتماد الرأسمالية لمقولات الماركسية دون تسميتها / النقابات، حقوق العمال والفلاحين والنساء والأطفال وحتى البيئة الرخاء الاجتماعي، الشيخوخة الخ.. / في محاولتها صد الاندفاع الشعبي نحو الماركسية الشيوعية، بينما تبنت الماركسية السوفيتية ( اللينينية ) دكتاتورية الدولة، التي اتهمت فيها الدولة الرأسمالية من حيث أنها ( الدولة) أداة قمع أولا وأخير داعية الى تلاشيها في مجتمعها المشاعي الأخير وتحولها في أحسن حالاتها الى ما يشبه مصلحة البريد، بينما مارست في التطبيق السوفيتي للماركسية ـ اللينينية أبشع أنواع القمع ، خاصة في العهد الستاليني وما بعده، وفي محاولتها نشر تعاليمها حول العالم، استهلكت مختلف طاقات الاتحاد السوفيتي مما أوقعها في أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة ، مما كان له أثره في الانهيار الأخير للاتحاد السوفيتي، بينما بقيت في الصين ( الماوية) دكتاتورية تنأى بنفسها عن كل القضايا خارج حدودها و تسخر مجمل الجهد الصيني لمنافسة اقتصادات عالمية، فخرجت للعالم كقوة اقتصادية منافسة لأكبر اقتصاد في العالم "الولايات المتحدة الأمريكية"، كما تمكنت كوبا من مقاومة الحصار المفروض عليها غربيا لمدى زمني يزيد على النصف قرن..
نحن هنا نتناول ما انتهت اليه في الاتحاد السوفيتي من الوجهة النظرية أي (الماركسية اللينينية)..
في محاولتنا وضع هذه الدراسة في مستوى الثقافة العامة وبشكل يطرح المفاهيم الفلسفية في أبسط صورها وإشكالياتها سعيا وراء تثبيت جملة من هذه المفاهيم مركزين على بعض النماذج دون أخرى مما يضفى على البحث صفة التكرارية حينا والاستطراد والاسهاب حينا أخر..
يأتي القسم الأول من هذه الدراسة متناولا المقدمات في الفلسفتين ( المصطلحات الفلسفية والتاريخيةـ الاجتماعية) بغية بيان نقاط الالتقاء والاختلاف، على أن نتناول في القسمين الأخرين (الثاني والثالث) المحاور التي تستند اليها كلا الفلسفتين المادية الديالكتيكية والمدرحية من جهة والمادية التاريخية والقومية الاجتماعية من جهة أخرى..
تمهيد:
مواصفات البحث النقدي:
إذا كان للبحث النقدي من مواصفات يتمتع ويتميز بها عن سواه من الأبحاث، فإن هذه المواصفات لتبدو أكثر إلحاحا عند تناول فلسفتين متعارضتين الى هذا الحد أو ذاك، خاصة إذا كان الباحث بذاته منتميا وملتزما بإحداهما دون الأخرى، كما هي الحال هنا، فما هي المواصفات التي عليه الالتزام بها ليأتي البحث في منتهى الدقة والشفافية على الرغم من تشابك هذا وذك لدقة ورهافة وتعقُدِ البحث فلسفيا واجتماعيا؟
الموضوعية:
بمعنى التجرد في الحكم والتنزه والترفع عن كل ما من شأنه أن يودي بصحة وسلامة التأويل والاجتهاد اللذين نعتمدهما ها هنا باعتبارهما السبيل الوحيد للخلوص بنتائج مرضية، لكن الموضوعية متناقضة والالتزام، بشكل عام فما مدى تعارضها مع وضع كالذي نحن به؟
سؤالٌ لا بدَّ من طرحه لنتبين من خلاله مدى التزام الباحث أولا بالفلسفة التي يلتزم بيان مفاهيمها وتاليا مستوى الموضوعية التي يدعي ضرورة اعتمادها منهجا لهذا البحث المقارن!
اذا كانت المدرحية قد اعتمدت مبدأ " أنه في المبادئ التي تمت الى الانسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد الى أي قولٍ استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان ـ المجتمع "فمدى التزام الباحث بهذا المبدأ لا بد وأن ينعكس على ما يطرحه من مقارنات بين الفلسفتين موضوع البحث..
المعرفة:
إذ لا معنى للموضوعية في ظل ضيق الأفق أو المعرفة الجزئية أو المجتزأة أو الحرفية القاتلة التي لا ترى أفقا للمفردة أو المصطلح في الإطار العام والتي تأتي عليها أيٌ من الفلسفتين في الوجه الخاص.. خاصة وأن القومية الاجتماعية تنص في إحدى مقولاتها المعرفية على " أن الوضوح ـ معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة ـ قاعدة لا بدَّ من اتباعها في أية قضية من قضايا الفكر الإنساني " وعلى ذلك تؤكد القومية الاجتماعية في مقولتها المعرفية الثانية على " أنه بعد الاطلاع يمكن تكوين رأي وحينئذٍ لا يبقى مجال لحدوث بلبلة.. وهذا لا يتم إلا بالدرس المنظم والوعي الصحيح لأن الأمور تحتاج الى تفسير وتوضيح بالنسبة للمسائل الكبرى التي تواجهها.."
وحدة القضية:
وحتى يبلغ البحث النقدي مرتجاه، هدفا، لا بدَّ له من قضية يعالجها تكون محور موضوعيته، وهذا ما سنحاول تبيانه في سياق القسم الأول من هذه الدراسة (المصطلحات)، ويشكل بالتالي مرتكزا أساسياً لنا، فعبر وحدة القضية ننتقل للقضايا الفرعية التي تتناولها القضية الأساس، لنصل في نهاية المطاف لماهية تناول إحدى الفلسفتين قضايا لم تتطرق لها الفلسفة الأخرى..
مواصفات خاصة:
إذا كان ما تقدم من مواصفات ملازمة لأي بحث نقدي أيا كان موضوعه، فلا بدَّ لهذا البحث بالذات، من مواصفات خاصة تحول بينه وبين الخروج العقدي عن العقيدة التي التزم بها الباحث، عبر الاجتهاد أو التأويل غير المستند لمرتكزات أساسية في الفكر القومي الاجتماعي، عملا بالقاعدة المعرفية الأولى التي سبق ونوهنا لها والتي تفترض أنه" علينا أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف تعالج الأمور.."
من جهة أخرى، أنه " اذا كان شرط اعترافنا بحق أو خير أو جمال في العالم هو أن نرى نحن ذلك الحق وذلك الخير وذلك الجمال أو أن نشترك في رؤيته.." بما يعني أنه إذا كانت لنا نظرة الى الحياة والكون والفن نابعة عن عقيدتنا، فلسنا بهذه الحال مضطرون للاستشهاد بغير هذه النظرة كمقياس للحقائق التي نأخذ بها، فلسنا بأي حال من الأحوال مضطرون للذهاب الى الفلاسفة الغربيين أو الشرقيين للتأكيد على صحة وجهة نظرنا في ما نراه حقا وخيرا وجمالاً،خاصة وأنهم غير متفقون على ما يمكن من خلاله اعتمادهم كمراجع لنظرتنا الخاصة ، وبما لا يعني" أنه لا يمكن لنفسيتنا أن تتفاعل مع النفسيات الأخرى.. بل يفسح المجال لهذا التفاعل.." على قاعدة " أن الاستقلال الفكري والشعوري والنفسي لا يعني مطلقا الانعزال عن العالم أو الانعزال التفاعل مع العالم "
مواصفات خاصة:
إذا كان ما تقدم من مواصفات ملازمة لأي بحث نقدي أيا كان موضوعه، فلا بدَّ لهذا البحث بالذات، من مواصفات خاصة تحول بينه وبين الخروج العقدي عن العقيدة التي التزم بها الباحث، عبر الاجتهاد أو التأويل غير المستند لمرتكزات أساسية في الفكر القومي الاجتماعي، عملا بالقاعدة المعرفية الأولى التي سبق ونوهنا لها والتي تفترض أنه" علينا أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف تعالج الأمور.."
من جهة أخرى، أنه " اذا كان شرط اعترافنا بحق أو خير أو جمال في العالم هو أن نرى نحن ذلك الحق وذلك الخير وذلك الجمال أو أن نشترك في رؤيته.." بما يعني أنه إذا كانت لنا نظرة الى الحياة والكون والفن نابعة عن عقيدتنا، فلسنا بهذه الحال مضطرون للاستشهاد بغير هذه النظرة كمقياس للحقائق التي نأخذ بها، فلسنا بأي حال من الأحوال مضطرون للذهاب الى الفلاسفة الغربيين أو الشرقيين للتأكيد على صحة وجهة نظرنا في ما نراه حقا وخيرا وجمالاً، خاصة وأنهم غير متفقون على ما يمكن من خلاله اعتمادهم كمراجع لنظرتنا الخاصة، وبما لا يعني" أنه لا يمكن لنفسيتنا أن تتفاعل مع النفسيات الأخرى.. بل يفسح المجال لهذا التفاعل.." على قاعدة " أن الاستقلال الفكري والشعوري والنفسي لا يعني مطلقا الانعزال عن العالم أو الانعزال التفاعل مع العالم "
وعليه يمكننا التقدم لدراسة مقارنة بين الفلسفتين المادية التاريخية والقومية الاجتماعية باعتبارهما التطبيق العملي لموقفين فلسفيين عُرفا بالفلسفة المادية الديالكتيكية والمدرحية..
من حيث المبدأ، لا يمكن المقارنة بين مسألتين، كائنا ما كانتا، إلا إذا تناولتا موضوعا واحدا، فوحدة الموضوع شرط لازم وكافٍ لقيام المقارنة، وإلا فنحن نعبث في موضوعٍ لا علاقة له بالآخر المعني بالمقارنة.
بداية، لا بدَّ لنا من التنويه أن ما يدفعنا لمقارنة الفلسفتين الديالكتيكية والمدرحية، كونهما فلسفتين لهما موضوع واحد هو الكون والحياة الإنسانية، فهما إسقاطان لمقولات كونية على حياة الانسان وصيرورته، بينما اقتصرت باقي الفلسفات على واحدٍ من هذين الموضوعين، مادي، رأى أن الكون وفي مجمله الانسان، ليس بمخلوق وأنه علة ذاته، وأن الانسان، وتحديدا وعيه، ليس مستمدا إلا من ذاته، وأن موضوع وعيهِ هو الكون والحياة، وأن له من القدرات ما يمكنه من النفاذ لجوهر الوجود، ومعرفة كنههِ ومساره في صيرورته، بينما اقتصرت الفلسفات الروحية( المثالية) على مبدأ أنه يستحيل كون الشيء علة ذاته وأن وعيه ليس بأكثر من ظلالٍ للذات الكبرى والأسمى (الله) وأن المعرفة لا تتعدى الظاهر من الأشياء لأن الجوهر غير مدرك بل ويستحيل ادراكه، وبين هذه وتلك ظهرت فلسفات حاولت التوفيق بين الموقفين الآنفي الذكر، واستعارت في محاولتها هذه مقولات ومفاهيم تارة من هنا وتارة أخرى من هناك، فراوحت في ذات الاشكالية المعرفية التي لم تنتهي الى ما كانت عازمة على توضيحه، ميزة المادية الديالكتيكية والمدرحية، أن لهما مقولات ومفاهيم خاصة بكلٍ منهما، رغم وحدة الموضوع، تفترقان هنا وتتحدان في رؤيتهما هناك، فكلا الفلسفتين تقولان بأن الهدف الفلسفي يبقى في كونه اختصارا لجملة القوانين الفاعلة في الكون والحياة، بمعنى أنه يمكن معرفة بداية وصيرورة كليهما وفق قانون واحد أو قانونين أو ثلاثة على الأكثر، وعلى القدر الذي تُختصر فيه مختلف قوانين حركة الصيرورة الكونية والإنسانية، تكون الفلسفة قد بلغت مرتجاها. على سبيل المثال، تختصر الديالكتيكية حركة الوجود والانسان بقانون التناقض، فالتناقض جوهر الأشياء، بينما ترى المدرحية أن التفاعل (خارج إطار المفهوم الكيمائي للمفردة) هو جوهر الأشياء، ذلك أن الوجود والحياة في علاقات تبادلية مع مكوناتهما وأن التناقض ما هو إلا شكل من أشكال التفاعل، وأن الهدف الفلسفي يبقى مقتصرا على محاولة تسخير الوجود لخدمة الحياة بمعرفة مسار صيرورتها والحيلولة دون حركة الحياة ومتجهاتها مع مسار هذه الصيرورة او التناقض معها، وعليه فإن ما تسعى الفلسفة اليه هو تلك القوانين التفسيرية لمختلف الظواهر بهدف تغبرها أو تسخيرها لخدمة الانسان..
التساؤل الذي يطرحه ما تقدم هو: كيف يمكن لهذه القوانين أن تكون تفسيرية وتغيرية بآن؟ وماهية الحقائق التي تأتي بها ومدى صحتها ومقياس ذلك؟ أي كيف تكون الحقائق حقائقا بالفعل؟
تقدم المدرحية أولى شروطها لما سبق، بالقول:" الناموس( القانون أو المقولة) اصطلاح بشري لمجرى من مجاري الحياة أو الطبيعة يُقصد به تعين حدوث فعل أو خاصة من أفعال وخواص الحياة أو الطبيعة، لا أن الطبيعة وضعت لكائناتها هذه القوانين وأمرتها بالسير عليها، وفي كل النواميس التي نكتشفها، يجب أن لا ننسى أننا نستخرج النواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب والمجرى الطبيعي الذي نعرفه بها، فكوننا اكتشفنا ناموسا أو ناموسين من نواميس الحياة العامة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع ونواميسه الأخرى، فالنواميس لا تمحو خصائص الأنواع.."( نشوء الأمم ص 129) .
يتضح من هذا التعريف المدرحي للناموس (القانون أو المقولة) أنه:
- 1 صياغة بشرية، أي أنه يحتمل الخطأ والصواب.
- 2 موضوعه الحياة والطبيعة.
- 3 شرط صحته، عدم تضاربه والمجرى الذي نعرفه به.
- 4 ليس هو الناموس المطلق أو الأخير في سلسلة نواميس الحياة أو الطبيعة.
- 5 لا يتعارض وغيره من النواميس العامة أو الخاصة " فالعام لا يمحو الخاص"
القوانين في المادية الديالكتيكية :
يتجلى الموقف ذاته في المادية الديالكتيكية فهي ترى" أن مقولات الديالكتيك ( التناقض، الجدل) وقوانينه لم تخترع اختراعا بل استخلصت من الطبيعة والحياة الاجتماعية أي أنها تعكس القوانين الموضوعية القائمة بشكل مستقل عن وعي الانسان .. إن أي قانون إنما يشمل ويعبر عن جوهر كمية كبرى من الظواهر، إلا أن كلا من هذه الظواهر يتمتع بخصائص خاصة.. إن العام لا يوجد خارج المحدود الخاص الفردي.." (المادية الديالكتيكية ـ تأليف مجموعة من الأساتذة السوفييت)
هكذا ليس ثمة خلاف بين الفلسفتين، حول كون النواميس أو القوانين أو المقولات مستخرجة من الحياة والطبيعة ومن ثم فهي شأن انساني كذلك عي الشأن العام في الترابط بين مكوناتهما( الحياة والطبيعة) وأنها لم تخترع والعام فيها لا يتعارض والخاص وأن شرط صحة النواميس أو القوانين عدم تضاربه مع غيره عبر الممارسة التي تقول بها كلا الفلسفتين ميدانا أو ساحة لحصة ما تأتيان به.
" تنويه : سوف نعمد الى ااختصار البحث على مصطلح واحد في كل حلقة لتمكين المتابع من استيعاب مجمل حلقات هذا البحث، علما أن لانتقاداتكم أثرها البالغ في توجيهه الوجهة الصحيحة والسليمة للحيلولة دون أي خروج عقدي.."
لو لم تكن الحقيقة مضمون، جوهر، الناموس، القانون، المقولة، لم يكن للأخيرة قيمة، فالمقولة (الناموس ـ القانون) هي مظهر، شكل الحقيقة، التي تعمل على تفسير الوجود (ماديا كان أم روحيا) وتالياً، فإننا أمام ضرورة تعريف الحقيقة، مضمونها، تبدياتها، ظهوراتها، مقياسها، كي تكون ما هي عليه، أي كيف للشيء أن يكون حقيقيا، أي مترابطا متماسكا، كيف يمكننا بلوغ مرتبة حقيقة الشيء، جوهره، مضمونه، محتواه، وتاليا أيضا ما علاقة الحقيقة بقطبيها (الوجود والمعرفة)، كيف نعرف؟ وماذا نعرف؟ ولماذا نعرف؟ تساؤلاتٌ لا بدَّ من الإجابة عليها حتى يمكننا القول عن هذا الشيء أنه حقيقي! فليس كل ما نوده أو نعرفه هو بالضرورة حقيقي!!
الحقيقة في المدرحية:
ترى المدرحية أن الحقيقة قيمة نفسية انسانية، ذلك "أن الانسان وحده هو الذي بميز بين الحقيقة والباطل(الوهم) بالمعرفة.."(1) وهكذا فالحقيقة من حيث هي قيمة، هي علاقة الانسان بمحيطه المادي والروحي، هي علاقة بين شرطي قيامها إذ" لا بدَّ لقيام الحقيقة من شرطين: الأول الوجود بذاته، أي أن يكون الشيء موجودا والثاني أن تتمَّ المعرفة لهذا الوجود "(2) مما يعني:
أن الحقيقة من حيث هي قيمة، هي علاقة تنتفي بانتفاء أحد قطبيها (الوجود والمعرفة)، فليس الوجود غير المستند للمعرفة، أي غير المعروف، قيمة، ذلك أن المعرفة هي التي تعطي الوجود لا تكون له بدونها، يضاف لما تقدم " أنه لا يمكننا تصور وجوا بدون معرفة أو أن نقول لأي وجود مفترض قيم الحقيقة" على أن لا يعني هذا أن الوجود غير المعروف ليس موجودا، إنما ليست له قيمة الحقيقة لأن لا علاقة للإنسان به عبر المعرفة، الوعي، المسألة هنا بالغة الدقة: فالمدرحية لا ترى أن الوجود من حيث هو فاعلية لها خصائصها أو كما يقول انشتاين " الوجود جملة من العلاقات" لا يمارس هذه الفاعلية بمختلف خصائصها إلا في اللحظة التي عرفه بها الانسان، المدرحية لا تقول أن الجاذبية لم توجد قبل رؤية نيوتن لتفاحته تسقط، بل ترى أن اكتشاف الجاذبية سمح بتفسير الكثير من الظاهرات المبهمة بالنسبة للإنسان، والتي كان يراها أو يتأثر بها، كما سمح بالخروج الى فلك الأرض وكتشاف خبايا الكون، وتسخير كل مكتشفاته التي قامت على مبدأ الجاذبية لصالح الانسان أو بالأحرى لمعرفة الانسان..
ثم أن المدرحية لا ترى في المعرفة غير المستندة لوجود ما، أن لها، أيضا، قيمة الحقيقة، بل تبقى مجرد تخيل، تصور، تهيؤ، مجرد افتراض ينتظر ما يؤكد مضمونه، أو كما تقول "كل مطلق (وجود) غير واضح(معروف) هو نسبي ( مفترض) مهما قيل أنه مطلق غير نسبي، كل مطلق مبهم هو لا شيء، المطلق الذي هو شيء، هو المطلق الواضح فإذا وجدنا أمامنا مطلقا غير واضح، أو افترضنا أي مطلق افتراضا وابتدأنا نحوم حول هذا المطلق ومعرفته فإننا نكون قد عينا مبهما للخروج من جدل لم نصل به للحقيقة .." المطلق والنسبي هما في المدرحية مفهومان للتمييز بين المعرفة والافتراض، فالمطلق غير الواضح، ومن منطلق "أن الوضوح هو معرفة الأشياء والأمور معرفة صحيحة" هو كل معرفة تحاول أن تؤكد ذاتها دون أن يكون لها أي تأثير في الوجود، في الكون، في الحياة، لذا كان المطلق المبهم هو نسبي أي مجرد افتراض ينتظر الوقائع لتؤكده.
الحقيقة في المادية الديالكتيكية:
ترى المادية الديالكتيكية أن" جوهر الحقيقة قائم في موضوعيتها وبانعدام الموضوعية تنعدم الحقيقة " لذا كانت " الحقيقة موضوعية بالضرورة" وكانت "الحقيقة الموضوعية شكل من أشكال المعرفة الإنسانية إذ لا معنى للحديث عن الحقيقة دون الانسان ووعيه، لكنها موضوعية من حيث المضمون" وعليه، تقول المادية الديالكتيكية: "إذا ما عكست المعرفة ما هو موجود في العالم عكسا أميناً(صحيحاً) فإن هذه المعرفة تعتبر حقيقة موضوعية" وهذا ما دفع لينين للقول:" أن تكون ماديا يعني أن تعترف بالحقيقة الموضوعية التي تعرفنا عليها حواسنا.."
فإذا كانت المادة هي مقولة فلسفية للدلالة على الواقع الموضوعي الذي تعرفنا عليه حواسنا ويوجد بشكل مستقل عنها فإن ما تعنيه المادية الديالكتيكية بــ "الموضوعي" هو، كل ما لا يرتبط وجوده بوجود أو معرفة أو وعي أو رغبة الانسان، وتاليا هو كل ما تعرفنا عليه حواسنا.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل "الوجود" في المدرحية هو ما تعبر عنه المادية الديالكتيكية بــ " الموضوعي"؟ على اعتبار أن الفلسفتين معا تؤكدان المعرفة لقيام الحقيقة؟
ملاحظة:
مصادر البحث هي نشؤ الأمم، المحاضرات العشر، المادية الديالكتيكيةـ تأليف مجموعة من الأساتذة السوفييت
لا بدَّ لنا من تذكير (المتابعين) أن الفلسفة المدرحية من حيث هي فلسفة اجتماعية تدرس الانسان نشؤاً وارتقاءً، عوامل وأسباب ونتائج، أو كما يقول سعادة:" فموضوع فلسفة الزعيم، هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون"،بمعنى آخر، إن الفلسفة المدرحية، ترى الوجود، في وحدته، غير القابل لتشظيات الوعي في محاولة الأخير فهمه، كما وترى أن الوعي في وحدته أيضا، ولا يقبل تشظياته أيضا، بمعنى أن تناقض مختلف الفلسفات بعضها ببعض ونزوعها للكلية في تفسير الظاهرات الكونية والاجتماعية يعكس تشظيات الوعي في فهم الوجود،" لا يمكن أن يتناقض إنسان سعاده في نفسه في صدد هل الريح ساخنة أم باردة متى كانت ساخنة أو باردة.."
بمعنى آخر، إن الوجود الفيزيائي ليس غير الكيميائي لكن بصورة أخرى وكما هذا ليس سوى العضوي بتجلياته في الوعي الإنساني، فالرياضة على سبيل المثال، من حيث هي صياغة الوجود بعلاقات رياضية هي في آن هندسة مستوية وفراغية ومثلثية ووصفية وتفاضلية وتكاملية..وما حاجة مختلف العلوم رغم تفرعاتها الى الرياضة، إلا دليل على هذه الوحدة، هكذا يمكن تطبيق العلاقات الرياضية في مجال الفيزياء والكمياء وأيضا العلاقات الإنسانية، فلولا تلك الوحدة لما أمكننا ذلك، وأن تعدد النظريات ليس بأكثر من تشظيات للوعي، لفهم الوجود، هذا لجهة الوجود أما لجهة الوعي، فليست الفلسفة سوى المنطق وهذا ليس سوى المنهج، والدين ليس سوى هذه الفلسفة منطقا ومنهجا، كذلك العلم ليس سوى تلك الفلسفة وكذلك مختلف أنواع الفنون، موسيقى ورسم وأدب.. وأن مختلف تنوعات ذلك ليست سوى وحدة تتمظهر للوعي في أشكال شتى وإلا فما معنى أن الوجود محتوى الوعي؟!، ليس المضمون سوى شكله وليس المحتوى سوى مظهره كما وليس الجوهر سوى تبدياته، هذه هي المدرحية والتي من خلالها نفهم كيف أن الحقيقة وجوداً ومعرفة، إذ ليست الحقيقة سوى وجود تمظهر معرفة أو مضمونا في شكل معرفة، الحقيقة ليست وجودا بلا معرفة ولا معرفة بلا وجود، هي وجود معرفي..
.....................
سبق لنا وتساءلنا:" هل (الوجود) الذي تقول به المدرحية هو (الموضوعي) الذي تقول به المادية الديالكتيكية؟"
هذا السؤال وما يتفرع عنه من تساؤلات عدة يبقى محورها يدور حول كون (الوجود أو الموضوعي) مستقلاً عن (الوعي) ويوجد خارجه ولا يتعلق بمعرفته أو رغبته وتلعب (الحواس) دور الوسيط بينهما، لكن وقبل الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نعرف المعنى من مصطلح (الاستقلال عن الوعي) وتاليا، ما المقصود (بالوعي)؟ وكيف تلعب (الحواس) دور الوسيط؟
إذا ما فُهم بـ(الاستقلال عن الوعي ـ "الموضوعي") ديالكتيكيا، كون الشيء موجوداً حتى تتم له المعرفة، بغض النظر عن كون المقصود بالوعي الله او الفرداً أم الطبقةً أم المجتمع، فإن ذلك لا يتعارض مع مفهوم الوجود في المدرحية، باعتبار أنها تؤكد على ضرورة "كون الشيء موجودا بذاته" لتتم له المعرفة(وعيه) أما إذا فُهمَ من (الاستقلال عن الوعي) أن الموضوعي، من حيث هو محتوى الوعي، فإن القوانين التي تسري على الأول تسري على الثاني، فثمة تعارض بين الفلسفتين!
فالمادية الديالكتيكية، ترى أن المجتمع من حيث هو شكل خاص لحركة المادة، فقوانين هذه الحركة (حركة المادة) والتي جوهرها التضاد أو التناقض أو الجدل، لا بدَّ من أن تنطبق على حركة المجتمع( الوعي)، ليس هذا وحسب بل ويجب تطبيقها بإزالة عوائق هذا التطبيق! تقول "إن المجتمع، من حيث هو شكل من أشكال حركة المادة، فإن القوانين الشاملة لحركة المادة تفعل فيه (في المجتمع) على الرغم من أنها تتجلى هنا (في المجتمع) في شكل خاص، ولهذا نجد أن القوانين (الاجتماعية) المكتشفة فيه (في المجتمع) من قبل المادية الديالكتيكية ـ بخلاف قوانين الفيزياء والكمياء وغيرها ـ لا يمكن تعميمها على معرفة الحياة الاجتماعية بل ينبغي فعل هذا التعميم أيضا"
في المدرحية لا يمكن تعميم أو شمول حركة المادة بمختلف صورها وأشكالها على الحياة الاجتماعية أو تلك التي لها علاقة بالإنسان ـ المجتمع، حيث ترى أنه" في المبادئ التي تمت الى الانسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد الى أي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية أو لها علاقة بالإنسان ـ المجتمع" و " لا أن الطبيعة وضعت لكائناتها هذه النواميس وأمرتها بالسير عليها.." بما يتعارض كليا مع المقولة الديالكتيكية (بل ينبغي فعل هذا التعميم أيضا) والسؤال: هل يمكننا تعميم القوانين المادية على الحياة الاجتماعية أم لا؟ بمعنى آخر، هل تسري هذه القوانين كما في المادة على الحياة الاجتماعية؟
فعلى سبيل المثال لا الحصر، هل كون دوران الأرض في فلك الشمس، باعتباره قانونا موضوعيا، يقارب بوجه من الوجوه دوران (فعل ـ عمل) الفرد في فلك المجتمع؟ وتاليا ما يسري على الأرض من قوانين باعتبارها جزء من المجموعة الشمسية، يسري على الفرد باعتباره جزء من المجتمع؟ مما يدفعنا للسؤال عما إذ كانت حتمية دوران الأرض حول الشمس هي حتمية دوران (فعل ـ عمل) الفرد في فلك المجتمع أو حتمية دوران المجتمع في فلك الإنسانية؟
مما لا شك فيه أن العلاقة بين الفرد والمجتمع هي علاقة عضوية لا انفصام في أي من عواملها وأسبابها وحتى بعض نتائجها، بما يفيد وكأنها علاقة حتمية من حيث ان الكائن البشري هو كائن اجتماعي بالضرورة، على اعتبار أن اجتماعية الانسان سابقة لإنسانيته، بل وكون "الاجتماعية صفة (خاصة) موروثة في الإنسانية" على ما تذهب اليه المدرحية، هذه الخاصة، لا تفيد بأن الفرد يتماهى مع القوانين الاجتماعية كما تتماهى الأرض في جملة خصائصها الفيزيائية مع محورها الذي تدور في فلكه كما بقية الكواكب في المجموعة الشمسية وغيرها من المجموعات الشمسية الأخرى كما تتماهى مجمل هذه المجموعات والنجوم في دورانها في فلك مجرتها وهذه أيضا في فلك عناقيدها، أو كما يقول انشتاين ان الكون مجرد علاقات فيزيائية، ففي الاجتماع الإنساني خاصة تميزه عن اجتماعية الحيوان وعن أي نوع من تلك العلاقات الفيزيائية التي تحكم الكون بصرامة متناهية، الخاصة التي تقول بها المدرحية هي" استعداد الفرد لبروز شخصيته" هذه الخاصة مفقودة في بقية التجمعات الحيوانية والفيزيائية، وبها تتمايز العلاقات الإنسانية عن تلك العلاقات التي تحكم التجمعات الأخرى وعلى الرغم من وجود بعض الخصائص التي قد تتشابه بها مختلف التجمعات كخاصة الفعل ورد الفعل في عالم الانسان وعالم الفيزياء، " تكيف الأرض الانسان وهو يرد الفعل ويكيفها لكنها هي التي تحدد مدى هذا التكيف وشكله ونوعيته " على ما تذهب المدرحية أيضا، ومع ذلك تبقى الشخصية الفردية هي ميزة للفرد لا تتمتع بها أي من جزئيات المجموعات الأخرى، فعلاقة الجذب والنبذ بين الأرض والشمس هي ذاتها العلاقة بين الأرض والقمر، تختلف فقط من حيث القوة التي تعود فيزيائيا للكتلة المعنية، لكن علاقة الفرد بالمجتمع من حيث هي علاقة جذب ونبذ، لا تخضع لذات قوانين الكتلة، ذلك أن " العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية" على ما تذهب اليه أيضا المدرحية، إن لكاريزما الفرد، في هذه الحالة من القوة ما يستطيع الفرد من خلالها قيادة كتل بشرية أكبر بكثير من كتلته المادية، ومع ذلك فهي على كبرها وقوتها تتمحور حول أصغرها بل وتدور في فلكه، كماركس الذي ألهم لينين قائد ثورة أكتوبر وماو قائد ثورة الصين و هوشمنه في فيتنام وكاسترو في كوبا..
إن خاصية بروز شخصية الفرد وتاليا كاريزما الفرد لا يمكن ردها الى أي من قوانين المادة التي لا تتمتع بتلك الخصائص التي يتمتع بها الفرد الإنساني كالاختيار والإرادة، فصحيح كل الصحة أن الفرد ملزم بل ومجبر في أحيان كثيرة للعمل والفعل وفق ظروف وأحوال واوضاع مجتمعه، لكنه، بميزة الاختيار يخرج على هذا الإلزام والإجبار، فكما تقول المدرحية" لا يختار الفرد مجتمعه إلا بقدر ما يختار أمه وأبيه، لكنه فد يفضل أمه على أبيه"، بمعنى أن الفرد قد يختار العيش أو الحياة في مجتمع آخر بديلا عن مجتمعه الذي ولد فيه، بمعنى آخر يستطيع الفرد الخروج عن محوره الذي ولد فيه، وبما يعني أيضا انتفاء ذلك في عالم المادة، فالحتمية أيا كانت وبأي شكل وجدت به، لا يمكن تطبيقها بأي من أشكالها على المجتمع حيث الفرد يمتلك من خاصية بروز شخصيته، الاختيار ومن ثم الإرادة، التي تقرر المصلحة من هذا الفعل أو ذاك كما تذهب المدرحية ". وإذا كانت المصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع فواحدهما سلبيّ وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة، فالمصلحة هي الّتي تقرّر العلاقات جميعها والإرادة هي الّتي تحقّقها. وبديهيّ أنّه لا إرادة حيث لا مصلحة،. فالمصلحة هي طلب حصول ارتياح النفس. وتحقيق ارتياح النّفس هو غرض الإرادة.."
تقرُّ المدرحية في مقولتها الرئيس "أن المادة تعين الشكل " لكن ليس بمعنى الحتمية، بل بمعنى أن الانسان قادر على التكيف، مع مستلزمات وقوانين المادة، هذه الخاصية مفقودة في مختلف التجمعات الأخرى، الحيوانية والمادية، فإذا كان التضاد في المادية الديالكتيكية يشكل جوهر الأشياء، فهو كما في المادة كذلك في الحياة الاجتماعية، لكنه هنا لا يعني قطعاً أن الانسان يعيش حالة التناقض والتضاد هذه إلا بمسعى خاصية أخرى هي خاصية التكيف ـ الانسجام، مع محيطه، بما يمكن قوله أيضا على علاقة التوازن الكوني بين أجرامه، لكنها في المثال الأخير هي علاقة لا تطور فيها كما في عالم الإنسانية، إن خاصية التكيف، التغير، التطور، هي خاصية إنسانية محضة، مفقودة أيضا في العالم المادي، إن التضاد الذي نجده في عالم المادة، وإن وُجدَ في عالم الانسان ، على شكل "صراع طبقي" أو صراع القديم والجديد" أو صراع الطبقة الكادحة والبرجوازية والرأسمالية والإمبريالية" لكنه هنا على غير النحو الذي نجده في العالم المادي، فالتضاد الذي نجده في الفرد الإنساني هو تضاد فاعل ينحى منحى التغير، التكيف، التطور الذاتي في عالم الانسان فيدفعه هذا التضاد لمناحي أخرى تستهدف التوافق بينه وبين ذاته من جهة ومحيطه من جهة أخرى وبأشكال مختلفة بين فرد وآخر، وبين مجتمع وآخر وما دليلنا على ذلك سوى ما تقرُّه المادية الديالكتيكية ذاتها في تعريفها "للتشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية " من كونها " المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره" وتاليا تباين المجتمعات بين بعضها البعض في كون أحدها يعيش حالة الاقطاع بينما يعيش آخر مرحلة البرجوازية وثالث في مرحلة الامبريالية، وفي ذات الوقت، هذا التباين من حيث هو تعبير عن " التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية" هو ما ينفي عن المجتمعات الإنسانية خاصية الحتمية التي نجدها في العالم المادي، وخير مثال على صحة ما تذهب اليه المدرحية هو في قول المادية الديالكتيكية" أن القوانين (الاجتماعية) المكتشفة فيه (في المجتمع) من قبل المادية الديالكتيكية ـ بخلاف قوانين الفيزياء والكمياء وغيرها ـ لا يمكن تعميمها على معرفة الحياة الاجتماعية بل ينبغي فعل هذا التعميم أيضا " بما يعني أنه اذا لم تكن القوانين الاجتماعية التي تكشف عنها المادية الديالكتيكية غير قادرة على الفعل التلقائي( الحتمي) فإنه ينبغي على الانسان، فردا كان أم طبقة أم مجتمعا، القيام بذلك، مما يفيد أن الحتمية التي تحكم العالم المادي، بقوانين صارمة، لا تحكم المجتمع الإنساني بذات القوانين من حيث أن الأولى ثابتة غير متحولة أو متكيِّفة او متغيرة كما في العالم الإنساني.
الوعي (المعرفة) في كلتا الفلسفتين:
في المادية الديالكتيكية:
تبقى المقولة الرئيس في المادية الديالكتيكية تتمحور حول تساؤلها " ما هو الأسبق: الطبيعة، (الوجود، المادة) أم الروح(العقل، الوعي، الفكرة) ؟ ما الذي كان أولا، المادة قبل الوعي، أم بالعكس، الوعي قبل المادة " ومن البديهي أن ندرك، أن المقصود بهذا التساؤل هو "الله" وتاليا يمكننا صياغة تساؤلها على النحو التالي: هل الفكرة، الله، كائنا ما كان تعريفه، سابق للوجود؟ أي هل الوجود مخلوق؟ ومنه يمكننا اشتقاق التساؤلات المتفرعة من كون الوعي سابق للمادة أم العكس؟
التساؤل المتقدم كان في بدايات ظهور المادية الديالكتيكية (1840) حيث كان الصراع على أشده بين المثالية ( هيغل ، كانت، وسواهما) والمادية، (ماركس، أنغلز، فويرباخ، روزا لوكسنبورغ..) والذي حُسم في نهاية المطاف لصالح المادية الديالكتية، فالعلوم قد أثبتت أن المكان والزمان في وحدتهما قد ولدا معا، فلا أسبقة للزمان على المكان ولا العكس أيضا، فنظرية الانفجار الكبير( اشعاع هوغينغ) التي قال بها "ستيفن هوغينغ" قد أثبتت ما تقدم!! * أو كما يقول انشتاين " القمر موجود حتى لو لم أنظر اليه.."
كان الطرح المادي الديالكتيكي، بتساؤله عن :"ماهية العلاقة بين الفكر والوجود أو الروح بالطبيعة..هل الوجود، المادة تحدد الوعي، الفكر، أم بالعكس " ردا على مجمل الفلسفات المثالية التي ترى "الله" خالقا لما نحن فيه ومسيرا لأقدارنا، ورفضا للتواكلية التي تفرضها تلك الفلسفات" توكل على الله" ومن هنا جاءت مقولة لينين الشهيرة "الدين افيون الشعوب" إذ كان لينين واثقا بأن لدى الانسان القدرة على تغير مجرى حياته، بالإرادة والاختيار، ليس " الوعي سوى خاصة من خواص المادة الرفيعة التطور، بمثابة نتاج لفاعلية الدماغ (المخ والمخيخ والبصلة السيسائية) نتاج المخ، وظيفة المخ، وبالتالي فإن المخ هو عضو التفكير، عضو الوعي،.. إن الوعي هو الحالة الداخلية للمادة، .. ولا يمكن اطلاقا الفصل بين الوعي والمادة المفكرة ولا ينبغي النظر الى الفكرة، الى الوعي ، على أنه مادة، أو شيء مادي.. إن الوعي الفكرة لا تتمتع بخصائص فيزيائية كالتي تتمتع بها الاجسام المادية.." على أن لا يعني ما تقدم "أن الوعي يعود الى عالم ما من من عوالم ما وراء الطبيعة" مؤكدة ما ذهب اليه "بافلوف" أن توافق الديناميكية مع البنية هو أحد أهم المبادئ الأساسية في نظرية النشاط العصبي العلوي"
الوعي في الفلسفة المدرحية:
أسبقية الوجود ـ الطبيعة على الوعي تؤكده المدرحية بقولها :" لم يعد الادراك البشري.. يقنع بالتّعليلات الخياليّة البحتة المعزوّة إلى افتراض وجود شخصيّة وراء نظام الكون تُحْدِثُ النّظام وتَحْدُثُ بلا نظام، إليها ينسب كلّ ما يقف أمامه عقل الطّفل وعقل البالغ المجرّد من العلم حائراً.. فالانسان جزء من الحياة نشأ بالتطور حتى بلغ شكله الحالي..إن التطور الانساني ، نشوءاً وارتقاءً كان وفاقا لمقتضيات تطورات الطبيعة أو البيئة ، أي أنه تطور محتم بالاختيار الطبيعي، لا مفضل بالاختيار العقلي.." أما الوعي، الفكرة، العقل ، فكما في المادية الديالكتيكية ترى المدرحية أنه"..نتيجة تطورات الدماغ الفيزيائية" لكن المدرحية تذهب لأبعد من كون الوعي نتيجة لتطورات الدماغ، فتربط بين ( المادة المفكرة) والفكرة، العقل"إن هناك علاقة وثيقة بين الشكل والروح، بين فراسة الانسان التشريحية الخارجية ونفسيته ومقدرته العقلية .. إن هناك علاقة بين الفيزياء ونفسية الانسان وأشكاليه الفيزيائية ، بين السيكولوجيا والفيزيولوجيا.."وتمضي المدرحية مؤكدة أنه"..لا يمكننا فهم بعض الأفعال والأحداث الشخصية دون أن نعلم فيزيولوجيا الشخص، إن هناك علاقةبين المقدرة العقلية وبين أشكال الانسان الفيزيائية" لكن المدرحية لا تقصر موضوع الوعي على الانسان الفرد، بل تمضي معممة مفهوم الوعي على المجتمع بقولها:" لا يمكننا أن نفهم فهما صحيحا نفسيات الأفراد والجماعات البشرية إلا بفهم فيزيولوجيتها.." على أن لا يعني ما تقدم أن الوعي، العقل، الفكرة، مجرد شيء مادي، بإعلانها:" ليست قيمة الحق ولا قيمة الحقيقة والخير والجمال مادية فهي لا تقاس بالسنتيمترات أأو بالأمتار المكعبة ولا بالأواقي والأرطال .."هكذا، نجد أنفسنا ثانية في وحدة مفهوم الوعي بين الفلسفتين، لكن الافتراق قائم بينهما عندما تأخذ كلا الفلسفتين مفهوم الوعي من جانب، المادية الديالكتيكية في مفهوم الانسان ـ الفرد، والمدرحية مفهوم الانسان ـ المجتمع، على الرغم من قول المادية الديالكتيكية :" إن المجتمع، من حيث هو شكل من أشكال حركة المادة، فإن القوانين الشاملة لحركة المادة تفعل فيه (في المجتمع) على الرغم من أنها تتجلى هنا (في المجتمع) في شكل خاص " دونما توضيح مفهوم هذا الشكل الخاص للوعي في المجتمع، تاركة للمدرحية تحديد هذا ( المفهوم الخاص) ،في القول:" فموضوع فلسفة الزعيم، هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون" بما يعني أن الوعي في المدرحية يأخذ بعدا آخر غير البعد الفردي حيث الحس( الحواس) هي صلة الوعي بالوجود من حيث أن هذا الأخير موضوعا محددا للأول، أو كما تذهب المدرحية بقولها :" لا يمكن أن يتناقض انسان سعادة في نفسه في صدد هل الريح ساخنة أم باردة متى كانت ساخنة أو باردة، كما يختلف انسان السفسطائيين بعضهم مع بعض متى كان الواحد حاراً والآخر بارداً فتكون المعرفة على أساس الحس فيختلف الحس بين الحار والبارد وتختلف المعرفة.." المعرفة في المدرحية ليست معرفة فردية تتم عن طريق الحواس وحسب، يقول سعادة:".. يتَّضح أنّ ما عناه أفروطقورس بالإنسان هو الفرد الإنساني الذي تؤخذ حواسه أساساً ومقياساً للمعرفة. وهو واضح من سؤال سقراط: "ألا يقول (أفروطقورس) إنّ الأشياء هي لك كما تظهر لك، وهي لي كما تظهر لي، وإنني أنا وأنت أناس"؟ وجواب ثياتيطس: "بلى، إنه يقول هكذا". فتكون المعرفة، بهذه الطريقة، مجزَّأة على الناس، مختلفة ومتناقضة باختلاف أحوالهم بعضهم عن بعض وتناقض إحساسهم حسب عوارض حواسهم. هذه الطريقة توصل إلى الفوضى التي تجعل من كل فرد مقياساً وحكماً لما هو موجود وما هو غير موجود، كالقول المنسوب، على لسان سقراط، إلى أفروطقورس: "إني، لنفسي، َحكَمٌ في ما هو موجود وما ليس موجوداً لي" ..( ويضيف سعادة قائلاً):" إنّ الإنسان، في عُرف السفسطائيين، هو الفرد ـ كل فرد هو لنفسه مقياس الحقيقة شعوراً ومعرفة، فلا تكون هناك حقيقة واحدة بل حقائق عددها عدد الأفراد وعدد الحالات التي يمر بها الأفراد. " إن وحدة الوجود التي تشكل مفهوما محوريا، بل وجوهريا في الفلسفة المدرحية ، لا بد وأن تتجلى في الوعي ، في وحدة الوعي لا في تشظياته:" فلا تكون هناك حقيقة واحدة بل حقائق عددها عدد الأفراد وعدد الحالات التي يمر بها الأفراد. " وحدة الوجود ووحدة الوعي إذن هي في كون المعرفة معرفة واحدة طالما أن الوجود موضوع الوعي، واحد، وكما سبق وأشرنا الى أن الحقيقة هي وجود معرفي، والحقيقة بذاتها، من حيث هي "قيمة نفسية انسانية " ، والحقيقة هي جوهر المعرفة، والمعرفة هي معرفة الاشياء على حقيقتها،وتاليا، القيم الانسانية، هي الحقائق التي يؤمن بصحتها أو حقيقتها الانسان، ولما كانت فلسفة القيم في المدرحية قيما اجتماعية، كانت الحقيقة بحد ذاتها اجتماعية، ومن هنا قول سعادة" فموضوع فلسفة الزعيم، هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون.."وعليه يقول سعادة أيضا:" إنّ الإنسان الحقيقي هو المجتمع لا الفرد، وإنّ الفرد هو مجرد إمكانية إنسانية.. شرط الحق، في الإنسانية، ليكون حقاً، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه ـ أن لا يكون حقاً عددياً، بل حقاً اجتماعياً لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد، بل يمتد في المجتمع بلا حدود.."الوعي ـ المعرفة في المدرحية اذن هي معرفة اجتماعية ومن هنا يأخذ الاحساس دوره، كوسيلة تصل الوعي بالوجود، دوره كناقل، فقط دون أن يكون له دور آخر في المعرفة ، وهو بحد ذاته مشكلة في صلة المعرفة ـ الوعي بالوجود لأنه يتعثر كثيرا في بلوغ جوهر الوجود أو حقيقته،وإلا فما حاجة الانسان لتلك الأدوات التي يستخدمها لبلوغ أعماق الكون وتصويرها بدقة متناهية ، لو كانت الحواس هي سبيله الوحيد للمعرفة؟! فتكون المعرفة قاصرة قصور الحواس عن ادراكه ما هية الذرة على سبيل المثال،من هنا يقول سعادة:" إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج أمرىء آخر، أو تأويله أو حسه الصحيح.." بمعنى آخر، إن الوعي هو وعي اجتماعي لا وعي فردي، وكما الاحساس يبقى في حالة الوسيط بين الوعي والوجود ، كذلك الفرد هو مجرد وسيط بين المجتمع ـ أيا كان تعريفه ـ والمعرفة ـ الوعي، وما أدل على ما نذهب اليه سوى تلك الأبحاث التي تخضع لها أية نظرية فتصوب خطأها وتتجه بها باتجاه جعلها حقيقة تؤدي غرضها في الوصول الى حقائق أخرى..أو كما يقول سعادة" كلما صعدنا قمة بدت لنا آفاق قمم أخرى.." المعرفة اذن في المدرحية ليست فردية انها اجتماعية بالضرورة ، فالنطق والذي هو "أبا العقل" كما تأخذ به المدرحية من العالم "لتزيرس كيقر" لم يكن لينشأ لو لم يكن الانسان في حالته الاجتماعية بحاجة لتبادل المعلومات ، أيا كانت، مع الآخر، أيضا أيا كان،يقول سعادة: " ومهما يكن من أمر تقديرنا نشوء النّطق فلا بدّ لنا من التّسليم بأنّ النّطق وحده كفل تحويل الاكتشافات والاختبارات التّطوريّة الأوّليّة إلى معارف اجتماعيّة وراثيّة (اجتماعيّاً). ..
الوعي ـ المعرفة، يكتسب خاصيته الاجتماعية من كونه تراكم خبرات، ومن حيث كينونته الاجتماعية، يبقى الفرد "مجرد إمكانية"، بمعنى أن الفرد الإنساني يبقى إمكانية تطوير، كشف، ابتكار، للخبرة المتراكمة لديه، فماركس، كما سعادة، "مجرد إمكانية" ابتكرت بناء على ما تراكم لديها من معرفة، نظريتها الفلسفية، فماركس جعل من الديالكتيك الهيغيلي موضوعته الأساسية، كما فعل "انغلز" في ماديته التاريخية أعمال ومكتشفات "مورغان" قاعدة لأبحاثه الاجتماعية مُسقطا المقولات الديالكتيكية عليها، كما سعادة جعل من تحديد "ميكور" للمتحد أساسا لفكرة الأمة من حيث هي " متحد طبيعي"، أو هي" المتحد الأتم"..
نعود للسؤال الرئيس الذي تفرَّعت عنه مختلف التساؤلات السابقة: هل يلعب "الموضوعي" في المادية الديالكتيكية، دور " الوجود" في المدرحية؟ فيما إذ كان الوجود "موضوع الوعي" هو المجتمع؟ وكان المجتمع مقياسا للوعي؟ وما هو دور الحس "الحواس" والى ماذا ينحل في حالٍ من هذا النوع؟
وعلى الرغم من أن البحث في إجابات لما تقدم يبقى من خصائص القسم الثاني من هذه الدراسة، / بين المادية التاريخية والقومية الاجتماعية/ فإننا هنا نتناول المجتمع من حيث النظرة الفلسفية وليس من الوجهة التاريخية، لذا نحن معنيون للإجابة على ما تقدم، ببيان ما لذي تعنيه كلتا الفلسفتين بالمجتمع وتاليا الوعي الاجتماعي والحس الاجتماعي، وهل يصحُّ قبل هذا وذاك اعتماد المجتمع مقياسا للوعي؟
المجتمع والوعي الاجتماعي في المادية الديالكتيكية:
ترى المادية الديالكتيكية "أن كل جيل يصادف عندما يلج باب الحياة ظروفا حياتية مادية جاهزة فيدخل في علاقات مادية ضرورية تكون قاعدتها مسرحا لأفعاله ومنطلقا له.." على هذه القاعدة تُسقط المقولات الديالكتيكية على المجتمع فيبدو لها " أنه على الرغم من أن الناس هم من يصنعون التاريخ، فإن الذي يحدد تطور المجتمع ليست إرادة الناس ورغباتهم وإنما الظروف المادية للحياة الاجتماعية والقوانين المادية التي تعمل في قاعدة الحياة المادية نفسها.." هذه القوانين " تنشأ وتعمل بصورة مستقلة عن معرفتنا لها، عن رغباتنا، في أن يعمل هذا القانون أو ذاك، بما يعني أن الناس لا يستطيعون تعديل هذه القوانين أو احلالها أو ابطالها، حتى ولا يستطيعون صنع قوانين جديدة وانما يستطيعون اكتشافها فقط.."
أبرز القوانين التي تأخذ بها المادية التاريخية هو قانون تطابق "أو توافق علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج" وتعرِّف قانون التطابق هذا بأنه" علاقة الناس بالطبيعة ومدى سيطرتهم عليها.. أو الناس وخبرتهم في الإنتاج ومهارتهم في العمل.." مضيفة الى ما تقدم موضوع العمل ووسائله، بينما تعرِّف علاقات الإنتاج بأنها " علاقة الناس بعضهم ببعض أو العلاقات المادية القائمة بين الناس في عملية الإنتاج وتوزع الخبرات المادية ومكان الفئات والطبقات في المجتمع وعلاقات ملكية وسائل الإنتاج.." وتاليا فإن " علاقات الإنتاج التي قامت على أساس قوى الإنتاج تؤلف أساس الأفكار والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية وهي شكل تطور قوى الإنتاج ومحتوى البنيان الفوقي وتؤلف القاعدة الاقتصادية هذه الأفكار والمؤسسات والعلاقات ومستوى التطور لقوى الإنتاج هو ما يقف وجها لوجه أمام كل جيل بحيث لا يكون لهذا الجيل مفر أو محيد عن الانخراط فيها والعمل من خلالها والتطلع للمستقبل عبرها ووضع الحلول لمشكلاتها وهي بالتالي غير مرتبطة بوجوده أو رغبته وتوجد خارج وعيه، لذا كانت موضوعية بالنسبة له، وكانت من حيث هي الشكل المادي للمجتمع هي الواقع الاجتماعي الذي يواجهه كل جيل.." وعليه "فإن نشاط الناس تحدده القوانين الموضوعية لواقعهم الاجتماعي.." وتخلص المادية التاريخية مما تقدم لتعريف الواقع الاجتماعي بأنه " علاقة الناس بالطبيعة وعلاقاتهم بعضهم ببعض" لذا كانت هذه العلاقة المزدوجة علاقة موضوعية، ملزم بإقامتها الناس أجمعين ولا مهرب لهم منها، حتى ولا من نتائجها ولا يتجسد المجتمع إلا من خلالها..
يقول لينين " أن تكون ماديا هو أن تعترف بالحقيقة الموضوعية.." لذا كان المجتمع، " من حيث هو شكل هذا الواقع الموضوعي، هو وفق المادية الديالكتيكية شكل اجتماعي لحركة المادة، لحركة الواقع الموضوعي لعلاقات الناس بعضهم ببعض، شكل تطابق قوى وعلاقات الإنتاج.."
المجتمع من حيث هو شكل اجتماعي لحركة المادة هو من جهة أخرى ـ وفق المادية الديالكتيكية ـ كواقع اجتماعي " جزء من الواقع بشكل عام متضمنا للحياة المادية للمجتمع وهو يوجد خارج وعي المجتمع ويحدده.." لذا " فإن وضع الحدود بين الواقع ككل والواقع الاجتماعي عملية ضرورية جدا لفهم المجتمع كشكل خاص من أشكال حركة المادة وللكشف عن منابع حركته الذاتية.." هذه الحركة الذاتية للمجتمع تتضح من خلال " كون التأثير المتبادل بين المجتمع والطبيعة ذا طابع ديالكتيكي معقد، فالوسط الجغرافي يخلق إمكانيات معينة لتطور الانتاج لكن استخدام هذه الإمكانيات يرتبط بالمجتمع ذاته وبمتطلباته، وبمستوى تطور الإنتاج وعلاقات الإنتاج ، لهذا فإن الشروط الطبيعية يمكن أن تُستَغل من قبل الناس بأشكال متباينة ويمكن أن تؤثر على تطور المجتمع بأشكال مختلفة أيضا تعود لمستوى التطور الاجتماعي.."
يمكننا تلخيص ما تقدم بأن المادية التاريخية ترى المجتمع هو:" مجتمع تاريخي معين ومشخص، أي أنه المجتمع في مرحلة من مراحل تطوره.." وتاليا هو من حيث التعريف، وكشكل من أشكال حركة المادة:" التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية" المتجسدة في أسلوب انتاج، كوحدة لكل علاقات وقوى الإنتاج.. وتنتهي المادية التاريخية للتحذير من الفهم المغلوط للمجتمع من حيث هو شكل من أشكال حركة المادة بالقول:" إن علاقة الانسان بالطبيعة في عملية النشاط التاريخي، لا ينبغي النظر اليها كعلاقة انسان معين وإنما كعلاقة المجتمع بالطبية ومن هنا فإن "العلاقات الاجتماعية عامل جوهري بالتأثير المتبادل بين المجتمع والطبيعة.."
يتضح جليا أن المقصود بالوعي في المادية التاريخية هو المجتمع، بمعنى أن الوعي اجتماعي وليس فردي، وهو الفاعل الحقيقي في المجتمع، لكن هذا الوعي الاجتماعي يرتبط ديالكتيكيا، بقوى وعلاقات ووسائل الإنتاج أي أنه وعي طبقي محدد بالطبقة التي ينتمي اليها الفرد، من هنا كان الوعي البرجوازي يختلف من حيث المضمون عن الوعي الاقطاعي وهذا عن الوعي المشاعي، وعليه يكون الوعي الطبقي رهن بالحالة الاجتماعية التي يمر بها المجتمع، كشكل من أشكال حركة المادة ، أو وفق "التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية" السائدة والتي هي "المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره" .
المجتمع والوعي الاجتماعي في الفلسفة المدرحية:
يشغل مفهوم المجتمع في الفلسفة المدرحية حيِّزا كبيرا ومهماً بل وجوهريا، فهو المحور النووي الذي تدور حوله مختلف طروحاتها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، فهو الانسان، و"الحقيقة الإنسانية الكبرى" ليس هذا وحسب بل انه "الإنسان ـ المجتمع". هو" فلسفة الإنسان الجديدة. والشريعة الأساسية للإنسان" وهو فوق كل ما تقدم "معرفة" المجتمع ـ الانسان، هو الأمة، "جسما ومكانا"، فهو "وحدة الشعب المتولدة من تاريخ طويل.."، لا يقتصر مفهوم المجتمع على جيل أو مرحلة، المجتمع في المدرحية هو استمرارية توالد الأجيال وتفاعلها مع مقومات بيئتها، هو واقع اجتماعي، هو "المتحد الأتم"، هو "دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" اليه تعود مختلف القيم، واليه تعود نسبيتها، هو "العقل الذي لا يجوز أن تعطله شريعة أخرى" هو الخروج من " سفسطة الجزئيات الى فلسفة الكليات" هو الخروج أيضا من "حدود فردية الانسان المنحصرة في إمكاناته الى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون" لذا فالفلسفة المدرحية " تنظر إلى الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى ـ حقيقة المجتمع، لا من زاوية الفرد، الذي هو في حد ذاته وضمن ذلك الحد، مجرّد إمكانية إنسانية".. المجتمع في المدرحية هو" مركب اجتماعي ـ اقتصادي ـ نفسي" هو " الأمة جسما ومكاناً" وعليه كانت الأمة " واقعا اجتماعيا بحتاً"..
تقيم المدرحية نظرتها الى المجتمع على قاعدتين، موضوعية وذاتية، موضوعية الوجود الاجتماعي تقوم على المقولة الرئيس في المدرحية "المادة تعين الشكل" من حيث أن "المادة ـ البيئة" هي البوتقة التي ينصهر ويتبلور ويصقل بها "الشكل ـ الوجود الاجتماعي" على مختلف الصعد والمستويات، ذلك "أن التطور الاجتماعي، نشؤا وارتقاءً، هو وفاقا لتطور التفاعل بين الانسان والبيئة بدافع الحاجة المادية.." وعليه تقول المدرحية بأن المجتمع، كنظام وعقلية، هو" حاصل تفاعل الانسان والبيئة بطريقة معينة وموافق له ومنبعث منه.." هذا من حيث النظام، أما العقلية الاجتماعية فهي "نتيجة تطورات التفاعل المادي لتأمين الحياة الاجتماعية.." من منطلق " أن الاقتصاد هو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع البشري.." حيث "التطور الاجتماعي هو دائما على نسبة التطور الاقتصادي.." على اعتبار أن، " المصلحة الاقتصادية أساسية في كل مجتمع.." هي كذلك " لأنها تخدم كل مصلحة أخرى حيوية ونفسية.." بناءً على ما تقدم تتمايز المجتمعات بعضها عن بعض "فإذا كانت مصالح الحياة، مصالح كل متحد.." فهذا لا يعني "أن مصالح أي متحد مصالح كل متحد، لأن مصالح المتحد ليست مصالح بيولوجية فقط، بل مصالح نفسية(عقلية) ومصالح حيوية (نوعية).. وجميع هذه المصالح لا تقوم إلا على المصلحة الاقتصادية.." وبما أنه " لا يمكننا الفصل بين الحياة ومقوماتها.." أبرزت المدرحية الوجهة الذاتية من الوجود الاجتماعي من حيث أن " المجتمع مركب اجتماعي ـ اقتصادي ـ نفسي" بالقول" إذا كانت الأرض هي الجانب الإيجابي (بمعنى أن الأرض تقدم مختلف إمكاناتها دفعة واحدة والى الأبد) أما الجانب السلبي الفاعل فهو نحن.." (بمعنى أن الانسان هو الذي يختار مما تقدمه الأرض ـ البيئة، من مقومات بما يتناسب وتطلعاته وحاجياته، التي تلهمه إياها تلك الإمكانيات التي تقدمها البيئة،) وعليه، تقف موضوعية البيئة في حدود متطلبات الانسان الحيوية والنفسية " فالتاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض.. (ذلك) أن العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية.." فالمجتمع من حيث هو "مركب اجتماعي ـ اقتصادي ـ نفسي" يبقى هو " الكل الذاتي" على أن لا يعني ما تقدم "التجرد الوجودي والاتجاه نحو الغيب وترك محل الكيان الذاتي في الوجود.." كما ولا يعني أننا " ممن يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود الى ما وراء الوجود.." بما يعني " أننا الفنان الذي يستخدم ما تقدمه الطبيعة من إمكانات.." وأن " حقيقتنا هي حقيقة النمو الذاتي من داخلنا والتوسع على مدى ما تقدمه الطبيعة وما تستطيعه مقدرتنا.."
هكذا لا تختلف كلٌ من المادية الديالكتيكية والمدرحية في ماهية الاجتماع البشري ومكوناته ومقوماته وخصائصه وميزاته، ويبقى الخلاف بينهما حول كونه، جيل من أجياله أو فرد من أفراده أو هو في مرحلة ما من مراحل تطوره أو هو طبقة تتجسد في " التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية" أم أنه استمرارية توالد أجياله وتفاعلها على مدى تاريخي طويل وبيئتها الطبيعية وتاليا يتجسد في " دورة اجتماعية ـ اقتصادية" تختلف في خصائصها وميزاتها عن دورة اجتماعية أخرى لها من الخصائص والميزات ما يُمايزها عن غيرها أيضا، مما يبرر تشكل دورات أجتماعية ـ اقتصادية مختلفة على وجه الأرض، وتاليا أيضا أمما مختلفة اختلاف بيئاتها ومستوى تعاطيها وممكنات تلك البيئات، وليبقى تساؤل كل من الفلسفتين قائماً: هل يتطور الاجتماع البشري الى "تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية" واحدة أم أنه يبقى على حاله كواقع "دورات اجتماعية ـ اقتصادية " تتقارب مصالحها إذ ما تجاوزت تجزئتها البيئية وأقامت "دوراتها الاجتماعية ـ الاقتصادية"؟
الحس (الحواس) بين الفردي والاجتماعي:
سبق لنا وأشرنا الى دور الحس (الحواس) في المعرفة( الوعي) من حيث أنه الوسيلة الوحيدة للإنسان لبلوغ حقيقة، جوهر، محتوى، مضمون، وعيه (معرفته)، أي وجوده، ونضيف هنا، أن الحواس بصورتها الراهنة، ما هي إلا استجابة عضوية لمؤثرات الطبيعة، فلولا وجود الصوت لما كان هناك سمع، كذلك لولا النور، لما كان هناك بصر، وكذا ما تبقى من حواس، فعلى سبيل المثال لو لم تكن الخاصة الاجتماعية ملازمة للإنسان منذ أن انتصبت قامته وأُطلقت يداه لتأمين مستلزمات حياته، والتي يعتبرها -أي اجتماعية الانسان - سعادة خاصة ملازمة للإنسانية، بل وأكثر من ذلك خاصة (موروثة) فيها، بما يعني أنها أقدم من الإنسانية، وأن هذه الأخيرة إحدى نتائج اجتماعيَّته، لولا هذه الخاصة لما كان النطق، والذي يعتبره( كيكر) ويعتمده سعادة (أبا العقل)، هكذا هي الحواس بمجملها كواسطة أو وسيلة للمعرفة (الوعي)، وهي على المستوى الفيزيولوجي، فردية من حيث آلية عملها، وهي موضوعية من حيث المنشأ، واجتماعية من حيث الكيفية والنتائج، وعليه يمكننا فهم قول سعادة:" إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج أمرئ آخر، أو تأويله أو حسه الصحيح.." الحس، (الحواس) قاصرة من حيث هي وسيلة عن إدراك الجوهر، المضمون، المحتوى، لأي وجود كان، معينها الرئيس هو العقل، (المخ والمخيخ والبصلة السسيائية) في التحليل والتركيب والاستنتاج والتأويل والاجتهاد. الخ وهي بحاجة لأدوات (مجهر، تليسكوب..) لتصحيح وتصويب ما تنقله للعقل، الذي يعكف على مواد معرفته بأدواته، التحليل والتركيب و. الخ، في محاولته الكشف عما تعنيه مواده (معلوماته)، نحن نعرف الوجود وفق الآلية التي يعمل بها العقل، فإذا ما تغيرت هذه الآلية، تغير فهمنا أو معرفتنا للوجود المحيط بنا والذي نحن جزء منه، لذا فنحن باعتمادنا على حواسنا كناقل لما في الوجود الى العقل، ووفق منهجية العقل نعرف ، نعي، وجودنا، تعمل منهجية العقل على تجزئة الوجود، أيا كان، موضوعيا أو اجتماعيا، فوفق هذه المنهجية، الآلية، هناك وجود فيزيائي، كيميائي، عضوي، اجتماعي، فردي. الخ، كما وأن هذه المعرفة قاصرة عن معرفة الوجود معرفة كلية، فهي على سبيل المثال، ترى المكان ذو أبعاد ثلاث مضافا اليها الزمن، لكنما واقع الحال، ليس كذلك، فالوجود، ذو أبعاد قد تصل الى الستة عشرة بعدا، بمعنى أنك في آن واحد تهبط وتعلو، تسير يمينا بينما أنت سائر يسارا، تمضي بخطٍ مستقيم بينما أنت في خط حلزوني تمضي دائريا بينما أنت في حالٍ كروي، كل ما تقدم يجري بآن واحد، كل ما تنقله حواسنا ويعمل في ضوئها عقلنا هو كلٌ متكامل لا تجزئة فيه، الكون كعلاقات فيزيائية، وفق "أنشتاين"، هو بآن واحد علاقات كيميائية، رياضية.. الخ، وكذا الوجود الاجتماعي، ليس فردا ولا جيلا ولا طبقة ولا طائفة ولا مذهبا ولا عرقا ولا أي من هذه أو تلك في تفرعاتها، هو "كلٌ ذاتي" وفق ما تذهب اليه المدرحية، تتداخل مختلف جزئياته، تداخلا عضوياً (سلالياً، عرقيا..) فيزيائياً (ثقافيا، سياسيا، طبقيَّاً..).. بشكل يصعب الفصل بين أيٍ منها فصلاً جوهرياً يُحيلها الى وحدة كاملة متكاملة منعزلة عن سواها مكتفية بذاتها تغرد خارج سربها الاجتماعي، لتبقى في الحال جزء مما حولها تتأثر وتؤثر به، جزء من كلٍ ذاتي، لا يحتمل التجزئة وفق منهجية عقلٍ علمي، علماني، طائفي، طبقي، عنصري، جنسي (ذكوري أو انثوي) ثقافي، سياسي..
بناءً على ما تقدم، يمكننا فهم ما ترمي اليه المادية الديالكتيكية في اسقاطاتها الاجتماعية من قولها:" إن نظرات الناس وميولهم لا يمكن أن تصبح موضوعا للبحث المادي التاريخي إلا عندما تتجسد بهذه الوسيلة أو تلك.." من منطلق" أن الأفكار والميول والعواطف والآلام عندما تبقى ذاتية محضة، ولا تخرج الى الواقع أو تتجسد في كلام شفهي أو مكتوب أو أفعال أو انتاج فني أو غيره، آنئذٍ لا تبلغ الناس الآخرين وبالتالي لا يمكن أن يكون لها تأثير في المجتمع.." إذن، وحتى يصبح للأفكار تأثير في المجتمع، لا بدَّ لها من القول أو الفعل.. وهذه هي صيغ حسية.." فالكلمة لا يمكن أن تكون كذلك لو لم تُنطَق، أي تتجسد ماديا، لتُنقل عبر الحس الى العقل ليتخذ منها موقفا.." هكذا، وفق المادية التاريخية، يبقى الحس صلة وصلٍ بين الوعي وموضوعه.
لا تفصل المدرحية بين الحس والشؤن النفسية الأخرى، فهي تعتبر" أن عمل الإحساس والفكر كلٌ نفسي لا يمكن أن يُزال العقل منه.." منطلق المدرحية في ما تذهب اليه، ليس نفيا للحس كصلة وصل بين الوعي وموضوعه، بقدر ما هو تنبيه الى أننا في دراستنا للحس لا يجب علينا أن نراه عملا فيزيولوجيا بحتا، اذ لا تُحدث الكلمة، ذات الأثر في فردين، كالأثر الذي يتركه التيار الكهربائي مثلا، الكلمة هنا لها مدلول مصلحي، بمعنى أن الكلمة المنطوقة تطرح، بمجرد نُطْقِها، سؤالاً أين مصلحتي في هذا، والسؤال هنا قد يكون مُوعى أو غير مُوعى، لكنه سؤالٌ يجسد موقفا، يختلف من شخص لآخر، وهذا ما نجد تفسيره في نسبية القيم بين الأفراد من جهة والمجتمعات تاليا من جهة أخرى، فالحس في المدرحية ينحل الى المصلحة التي هي" طلب حصول ارتياح النفس" وهي أيضا غير المنفعة، المصلحة في المدرحية هي " كل ما يولد عملا اجتماعيا.." ولكونها كذلك، كان الحس اجتماعيا، أو كلٌ نفسي لا يمكن أن يُزال العقل منه.."
هكذا تختلف المادية الديالكتيكية عن المدرحية باعتبارها الحس أو ( الحواس) مجرد
فعل فيزيولوجي بينما هو في واقع الحال انعكاس للمصلحة والتي هي ـ كما سبق وذكرـ "كل ما يولد عملا اجتماعيا" بمعنى آخر كل ما يشارك بإنتاجه الكل الاجتماعي. وعليه قول المدرحية بأن الحس (الحواس) إنما هي تنحل في نهاية الأمر الى حسٍ اجتماعي يتطلب من الفرد أن " يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه.."
المادية التاريخية :
هي بالتعريف " إسقاط لمبادئ المادية الديالكتيكية على الحياة الاجتماعية أو هي تطبيق مبادئ المادية الديالكتيكية على الظواهر الاجتماعية وعلى دراسة المجتمع وتاريخه " والتي يمكن تلخيصها بالمجتمعات الخمس التي مرت وستمر البشرية جمعاء بها ، وهي على التوالي : المشاعية البدائية ـ النظام القديم ـ الاقطاع ـ الرأسمالية ـ الاشتراكية ـ الشيوعية ،وتتميز كل مرحلة عن الأخرى بأسلوب الانتاج ، والذي اعتمد من قبل الماركسية كمعيار للتصنيف التاريخي للمجتمع ، وهي ليست متواقتة في كل المجتمعات أي في ذات الوقت ، إذ قد نلحظ أن مجتمعا ما ، ما يزال في مرحلة الاقطاع ومجتمعا آخر ، بذات الوقت ، في مرحلة الرأسمالية ، لكن السمة الرئيسة لمختلف المجتمعات هي واحدة ، حيث يبقى أسلوب الانتاج هو المقرر لكل مواصفات وخصائص هذا المجتمع أو ذاك ، كما وأنه يقرر ماهية العلاقة بين البناء التحتي ( من لا يملكون )ممثلا بالطبقة الكادحة البروليتارية (الطبقة العمالية أو بائعي الجهد ) وبين البناء الفوقي ( من يملكون ) متمثلا بالمؤسسات التي تخدمه وتوطد سلطته عبر القانون ، الدين ، الثقافة ، التعليم ، الأسرة ..الخ .
بين طبقة كادحة لا تملك سوى الجهد الذاتي الخاص بها وطبقة مالكة كل شيء ، يكون هكذا يكون صراع الأضداد في كل زمان ومكان ، وعلى ما ينتهي عليه هذا الصراع ، يكون النسق الاجتماعي القائم ، فالمجتمع ، هو تجسيد للمادة في صراع أضدادها ( السالب والموجب ) وعليه يكون منحى تطورها ، فالتطور حتمي ، طالما وجدت قوى متضادة ، لكنه ليس في ذات المنحى في كل المجتمعات ، ومصطلح التطور ، لا يحمل في طياته معنى التقدم ، فقد يكون نحو التخلف والتراجع لكنه بطبيعة الحال يعني التغير ، التبدل ، التكيف ، وهذا الأخير هو ما تمارسه الدولة عبر أدواتها لتكييف المجتمع وفق متطلبات وجودها وخدمة لمالكي وسائل الانتاج على حساب الطبقة التي لا تملك ،
بناء عليه ، فإن المادية التاريخية ،" تجيب عن ماهية العلاقة بين الكيان الاجتماعي والوعي الاجتماعي ، بين ظروف تطور حياة المجتمع وتطور الحياة الروحية " كما يقول ستالين ، الذي يتساءل ليجيب عن ماهية الظروف المادية لحياة المجتمع ؟
" لا شك أن مفهوم "ظروف حياة المجتمع المادية" تتضمن قبل كل شيء الطبيعة المحيطة بـالمجتمع، البيئـة الجغرافيـة " ويضيف متسائلا :" فمـا هـو الدور الذي تلعبه البيئة الجغرافية في تطور المجتمع؟ هل البيئة الجغرافية هي القـوة الرئيـسية التـي تقـرر ملامـح المجتمع، طابع النظام الاجتماعي للإنسان، والانتقال من نظام إلى آخر؟" وفي إجابته يرد على مقولة هيغل الشهيرة " إن لون البشرة مستمد من لون تربة البيئة .." يقول : " لاشك إن البيئة الجغرافية هي احد الظروف الدائمة اللامفر منها في تطور المجتمع، وتؤثر طبعا علـى تطـور المجتمـع وتسرع أو تؤخر تطوره. إلا أن تأثيرها ليس تأثيرا مقررا طالما أن تغيرات وتطورات المجتمع تجري أسرع بما لا يقاس من تغيرات وتطورات البيئة الجغرافية.
لهذا فإن البيئة الجغرافية لا يمكن أن تكون السبب الرئيس، السبب المقرر، في التطـور الاجتمـاعي، إذ أن مـا يبقى غير متغير تقريبا في مضمار عشرات الألوف من السنين لا يمكن أن يكون سبب التطور الرئيس فيما تطـرأ عليـه تغييرات أساسية خلال بضع مئات من السنين.." وعليه فالسؤال يبقى دون إجابة مكررا ذاته : عن ما هي القوة الرئيسية في جملة الظروف المادية للحياة الاجتماعية التي تقرر ملامح المجتمع وطابع النظام الاجتماعي وتطور المجتمع من نظام الى آخر ؟ تجيب الماركسية على سؤالها بالقول إنه طريقة انتاج القيم المادية أي ادوات الانتاج إضافة للقوى البشرية المؤهلة للقيام بالإنتاج (التجربة الاجتماعية والمهارة العملية ) وهذا ما يشكل قوى الانتاج ، لذا فالإنتاج في مختلف مراحل التاريخ يبقى انتاجا جمعيا .
يقول ماركس: "في الإنتاج لا يعمل الناس على الطبيعة فقط بل يعملون على بعضهم البعض وضـمن هـذه الارتباطـات والعلاقات الاجتماعية فقط يحدث عملهم على الطبيعة، إنتاجهم
. وكيفما يكون أسلوب إنتاج مجتمع ما، هكذا يكون، بصورة أساسية، المجتمع نفسه، آراؤه ونظرياتـه، وجهـات نظـره السياسية ومؤسساته السياسية. أو، لوضع ذلك بمزيد من البساطة، كيفما يكون أسلوب حياة الإنسان، هكذا يكون أسلوب تفكيره."
يمكن فهم ما تقدم على أن الانتاج أو بالأحرى أسلوب الانتاج هو مفتاح دراسة قوانين تاريخ المجتمع وتاليا الحياة الاقتصادية للمجتمع ، المتمثلة في قوانين تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج ذلك أن التطور يبدأ من الأولى عبر الثانية ، وعليه فالتضاد يبدأ عندما لا تنسجم علاقات الانتاج مع طابع قوى الانتاج ،مع من يملك وسائل الانتاج ويتحكم بها ومع من لا يملك ، ذلك أن تطور أدوات الانتاج يتبعه تغير وتطور المجتمع .
يقول ستالين في كتيبه " المادية الديالكتيكية " : هكذا هو اعتماد تطور علاقات الإنتاج على تطور قوى الإنتاج في المجتمع، وبالدرجـة الرئيـسية، علـى تطـور أدوات الإنتاج، هذا الاعتماد الذي بفضله تؤدي تغييرات وتطورات قوى الإنتاج، عاجلا أم آجلا، إلى تغييرات وتطورات علاقـات الإنتاج. هذا يعني أن نشوء قوى انتاج جديدة تفترض نشوء علاقات انتاج مطابقة لها ، وهذا ما يحدث في قلب النظام المتداعي عبر قوى الانتاج وعلاقاته المطابقة لها ، يقول ماركس:
"في الإنتاج الاجتماعي الذي ينجزه الناس يـدخلون فـي علاقات محددة لا مفر منها ومستقلة عن إراداتهم، علاقات إنتاج تنسجم مع مرحلة محددة مـن تطـور قـوى إنتـاجهم المادية". ، بما يعني أنه في كل مرحلة من مراحل تطور قوى الانتاج تدخل علاقات الانتاج في نمط ينسجم وهذا التطور كما وتدخل في صراع مع علاقات انتاج سابقة لها لتحلَّ محلها و بالنتيجة أو المحصلة تنهار البناءات الفوقية المتمثلة في الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفلسفية أو البناء الأيديولوجي (العقائدي ) للمجتمع مما يدفع بالأخير لتشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية جديدة ، تنسجم فيها قوى الانتاج وعلاقات الانتاج ليأخذ ، هنا ، مفهوم التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية أهمية كبيرة في دراسة المجتمع والتغير الاجتماعي، وينظر إليها على أنها بمنزلة النظام الذي يحدد في كل مرحلة تاريخية معطاة خصائص المجتمع وأبعاده وطبيعة المشكلات التي يعانيها الناس في ذلك الحين، إضافة إلى أنه يحدد أيضاً أنماط السلوك الإنساني وأشكال الفعل التي يمارسها الأفراد في كل مرحلة تاريخية.
إن وجود الانسان هو الذي يقرر وعيه وليس العكس ، هكذا أيضا تدخل قوى الانتاج بصراع مع علاقات الانتاج القائمة أو بصراع مع علاقات الملكية السائدة حيث ينهار البناء الفوقي بما يمثله من مؤسسات ونظم ومعاير وأخلاق وقيم وثقافة .. لتحلَّ محلَّهُ قيم أخرى ، هكذا نلحظ كيف أن الانسان هو ابن زمانه ومجتمعه وطبقته كما وأن لكل مرحلة من مراحل التطور هذه ، انسان آخر يختلف الى هذا الحد أو ذاك عن ما سبقه..
أصل العائلة والملكية والدولة
فردريك أنغلز 1820 ـ1895
قد لا يختلف مؤلف "أصل العائلة والملكية والدولة" ،عن " نشؤ الأمم "في ما يسوقه من أدلة على تطور المجتمع ، إذ أن كليهما يقران بنشؤ الإنسان بالتطور ، كقاعدة تبنى عليها مختلف مقولاتهما ، بل إننا نذهب للاعتقاد أن مؤلف " نشؤ الأمم " جاء ردا مباشرا على مؤلف " أصل العائلة والملكية والدولة " ذلك أنه ينهج ذات النهج العلمي في تتبع آثار التطور المجتمعي في الاستقصاء والتحليل والتركيب ، وتاليا بناء النتائج التي يحاول كليهما الوصول إليها ،
في " أصل العائلة والملكية والدولة " يحاول " أنغلز " ـــ معتمدا على ما ساقه " مورغان (1) " في كتابه "المجتمع القديم "من معلومات حول تطور الحياة الاجتماعية لدى القبائل الهندية في أمريكا الشمالية ـــ، الوصول لجملة من النتائج التي تدعم التوجه المادي للتاريخ ، من حيث أن كل ظاهرة اجتماعية تحمل في جوهرها تناقضاتها وتاليا عوامل فنائها ، هذا من جهة ، أما الوجهة الثانية فتبقى خلاصتها في أن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة كان السبب المباشر في ظهور العائلة الزوجية وتاليا ظهور الملكية الفردية ومن ثمَّ الدولة ..
يُقَسّم " أنغلز " ـ كما مورغان ـ التاريخ البشري الى ثلاث مراحل هي الوحشية والبربرية والمدنية ، وكل من المرحلتين الأوليتين الى مراحل ثلاث ، دنيا ووسطى وعليا وكل من هذه المراحل لها نظامها الاجتماعي الذي يميزها عن المرحلة الأخرى ..
المرحلة الوحشية الدنيا : وهي المرحلة التي تظهر " طفولة البشرية " حيث عاش الانسان مرحلة أشبه بالحيوانية هائما على وجهه متغذيا بجذور النبات وبعض الثمار البرية ، جامعا وملتقطا .
المرحلة الوحشية الوسطى : وتُظهر هذه المرحلة تقدما ملحوظا للإنسان قليلا عما كان عليه في المرحلة السابقة باهتدائه الى اكتشاف النار واستخدامها في طهي الطعام وإضاءة الكهوف وبها أيضا تعرف الانسان على أنواع جديدة من الأطعمة كاللحوم والأسماك .
مرحلة التوحش العليا : وفيها يخترع الانسان القوس والسهم مما ساعده على تغير غذائه واقتصاده بشكل عام ، حيث أصبح صائدا للحيوانات معتمدا على لحومها ، وفي هذه المرحلة كان الانتقال الى كون الانسان منتجا لغذائه ، هكذا يمكن القول أن انتقال الانسان لهذه المرحلة الانتاجية يتقدم خطوة أخرى الى شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي والديني .
المرحلة البربرية الدنيا : في هذه المرحلة تمت صناعة الفخار وهي المقدمة الأولى للصناعات اللاحقة وتاليا نشؤ الجماعات الاجتماعية .
المرحلة البربرية الوسطى : وفيها تمكن الانسان من صهر المعادن وصناعة الأدوات المعدنية وبداية اختراعه للكتابة الصورية ،
المرحلة البربرية العليا : وفيها توصل الانسان الى المرحلة المدنية التي تميزت باختراع الحروف الهجائبة والكتابة وهي المرحلة التي ما زالت ممتدة حتى الوقت الراهن .
ما تقدم ، يوجزه أنغلز بالقول : ، يجب ملاحظة أنه في المرحلة البربرية كان مدى التطور واحد في مختلف الشعوب من حيث استخدام الأدوات غير الحجرية واستئناس الحيوان والزراعة ، لكن وفيما بعد ذلك، يبدأ الاختلاف بين الشعوب وعلى ما يبدو أن القطعان الحيوانية في المناطق المناسبة كانت دافعا لحياة الرعي .. وقد تكون الفائدة الغذائية العظيمة للحم واللبن سببا في تفوق (الآريين والساميين ) على غيرهم من الشعوب ..التطور اللاحق كان في استخدام الحديد واختراع المحراث و" اختراع الحروف الكتابية واستخدامها في تدوين الآداب وفي هذه المرحلة التي امتدت في النصف الشرقي من العالم فقط حدث تطور في الانتاج يفوق التطور الذي حدث في كل العصور السابقة مجتمعة " فــ " هوميروس " يخبرنا في أناشيده عن صناعة العجلات وصناعة الزيت والنبيذ وبناء السفن وبدء الفن الهندسي وبناء المدن ذات الأسوار والأبراج .. مما يدعو للاعتقاد أن ما تقدم كان الدافع لظهور المدنية..
ظهور العائلة والتي بها تبدأ المدنية ـ وفق أنغلز ـ ، نلحظ أنها تتكون من أب وأم وأولاد .. وتختلف فيها القرابة بين أبناء الأخوة والأخوات .. وقد تتشابه في مجتمعات وتختلف في مجتمعات أخرى .. وهي تعبر عن البعد والقرب من الشخص والمساواة من عدمها في علاقات روابط الدم ونظام القرابة وهذا، بطبيعة الحال ليس مجرد تنوع إنه يحمل في طياته كيفية تكوّن النظام الاجتماعي لتلك الشعوب .. يقول ماركس " وبينما تستمر العائلة في تطورها فإن نظام علاقات الدم يصبح جامدا ، وبينما يستمر نظام علاقات الدم موجودا في شكله العادي ، فإن تطور العائلة يطوره " فكيف يمكننا تتبع تشكل النظام الاجتماعي بدئا من الحالة الحيوانية للإنسان ؟ يؤكد أنغلز في إجابته على هذا السؤال بالقول "إن الرجوع الى اشكال الزواج لدى الحيوانات للاستدلال بها على الانسان يؤدي حتما الى الخطأ " وعلى الرغم من صحة ما يؤكده أنغلز فإن مورغان يذهب بصيغة أخرى للسؤال للقول :" لا بدَّ من افتراض حالة ، وإن لم يقم الدليل عليها ـ، اشْتُقَ منها شكل الأسرة في الحالة الوحشية الدنيا وهي حالة " الاختلاط الجنسي " بين أعضاء " القطيع البدائي " حيث كان الجميع إخوة وأخوات آباء وأمهات أزواجا وزوجات ولم يكن للمحارم فيها من وجود مع امكانية أن نطلق عليها مصطلح " العائلة العصبية " .." ليتساءل أنغلز : " فماذا تعني المعاشرة الجنسية المختلطة اذن ؟ يجيب أنغلز " لا يمكننا فهم الظروف البدائية إذا نظرنا لها بمنظار البغاء.. لكننا نستطيع تتبع تشكل العائلة من خلال :
1 ـ العائلة المبنية على رابطة الدم ، حيث كافة الأجيال هي أزواج وزوجات .
2 ـ عائلة " الرفاق الأعزاء " وحيث مُنعت الأصول والفروع من ممارسة العلاقات الجنسية ومن ثمَّ الأخوة والأخوات الطبيعيين من ممارستها .. نشأت تقسيمات عائلية جديدة ، حيث الأخوات مع بنات الأعمام والأخوال و العمات والخالات يشكلن زوجات مشتركات لأزواج مشتركين ، ليسوا أخوتهم الذكور ،ولا يعتبرون أنفسهم أخوة بل رفاقا أعزاء .. ويلاحظ أنه بهذا المنع قد قفزت المجتمعات الآخذة بها ، بتطورها بخطوات أسرع من تلك التي بقيت فيها العائلة المبنية على رابطة الدم .. ولما لم يكن في هذه الحالة تبين الأب الفعلي للولد ، فإن الحالة المقابلة وهي الأم كانت الحالة الحقيقية الوحيدة التي يعزى لها تشكل القبيلة .. حيث يزداد التعاضد والتضامن الداخلي ويأخذ منحى وطابعا اجتماعيا ودينيا دفع لتشكل قبائل عدة تشكلت منها العشيرة .. هذا الشكل الجماعي من الزواج هو الشكل الذي انبثقت منه العائلة الزوجية وكان انتشاره في مختلف المجتمعات ..
كانت المرأة تشغل منصبا محترما في مختلف مراحل الوحشية والبربرية ، وتمثل القوة العليا في القبيلة لكن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة هو الشرخ الذي وضع حدا لاستمرارية العائلة المنتسبة للأم وأنهى حالة الوئام السائدة في القبيلة ـ العشيرة ، فحيث اختصت المرأة بملكية ما هو بداخل المنزل والأولاد ، اختص الرجل بما هو في خارجه ، أي بتأمين مأكله ، وعليه كان لا بد مع التطور الناشئ من الاستقرار والزراعة وتربية الحيوان والرعي من أن ينتقل النسب للأب للحفاظ على هذه الثروة ، يقول أنغلز :
" ففي العالم القديم (مثل الآريين في الأرض الهندية ذات الأنهار الخمسة ، وأرض القرقيز ، ومثل الأوكس والجاكارتس والجنس " السامي " عند نهري دجلة والفرات ..) حيث اتسع نطاق استئناس الحيوان وازداد عدد القطعان بطريقة جعلتها مصدرا غير متوقع للثروة مما سبب نموا في العلاقات الاجتماعية .. إذ وبانتشار تربية القطعان الحيوانية واستخدام المعادن ثم ظهور الزراعة تغير الوضع السابق كلية فباتت المرأة تُشترى وحيث أن زيادة القطعان كان بمعدل أكثر من ازدياد أفراد العائلة تم استخدام أسرى الحروب للرعاية .. وحيث أن انتاج الطعام كان من اختصاص الرجل وتاليا وسائل انتاجه ،فقد تحطم المجتمع المؤسس على العائلة المكونة من فردين حيث انتساب لقبيلة الأم وبات من الطبيعي أن ينتسب الأولاد الى الأب بهدف توريثهم الثروة ..إن هذه الثورة على الانتساب للأم كانت من حيث النتائج من أشد التجارب تأثيرا في تاريخ الانسان ..إن إنهاء الانتساب للأم هو الهزيمة التاريخية العالمية للجنس المؤنث .. وما يفسر هذه الهزيمة المنكرة هو معنى العائلة عند الرومان التي كانت تعبيرا عن " عبد الأسرة " ومن ثم " مجموعة العبيد " ولاحقا باتت تعني " الميراث الذي ينتقل بوصية " وأخيراكانت تعبيرا عن تنظيم اجتماعي يفيد " رئيس وتحت سلطته زوجة وأبناء وعبيد " لذا يقول ماركس : " إن العائلة الحديثة تحتوي على ذرية من العبيد ومن رقيق الأرض لأنها مرتبطة أساسا بالعمل الزراعي .. لذا كانت العائلة تحتوي بداخلها كل الصراع الذي تطور بعد ذلك على نطاق واسع في المجتمع والدولة "
2 ـ العائلة الزوجية بالمعنى الحديث
لقد ظهر هذا الشكل من الزواج بين الطور الأوسط من البربرية والطور الأعلى .. ( نلفت عناية المتابع الى أن اسطورة آدم وليليت وحواء التوراتية تعبير عن هذه المرحلة المتقدمة من تاريخ التطور البشري وليست بدايته ..) وترافق هذا الشكل ببروز نظام اجتماعي أخر هو البغاء والخيانة الزوجية والزنا ..حيث تعتبر العلاقات غير المشروعة نظاما اجتماعيا شأنها في ذلك شأن أي نظام اجتماعي آخر .. " لقد انتصر الرجال على النساء ولكن تتويج المنتصر بالعار قام به المهزوم بشجاعة " ، هو ذا الشكل الأول للعائلة المبني على أسس اقتصادية وليست طبيعية ..وهكذا يظل الزواج زواج مصلحة ويتحول في أغلب الأحيان الى دعارة طائشة.. حيث لم يظهر الزواج باعتباره توافقا بين الرجل والمرأة بل بصيغة خضوع جنس لآخر .. يقول ماركس : " إن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة ، كان الشكل الأول للصراع الطبقي فقد ظهر بظهور الرق والملكية الفردية " .. وهكذا يعتبر الانتصار النهائي للعائلة الزوجية إحدى علامات بدء المدنية ..
يضيف أنغلز " إن الانتساب للأب وجمع الثروات الطائلة بقصد توريثها للأبناء ، والاختلاف في الثروة خلق الخطوط الأولى للأرستقراطية الوراثية الملكية ، والرق الذي كان أول أمره محددا بأسرى الحرب ثم مهد الطريق لاستعباد الزملاء في القبيلة وفي السلالة نفسها وتحول الحروب القديمة بين القبائل الى غارات منتظمة في البر والبحر ، من الاستلاء على الحيوانات والعبيد والنفائس كوسيلة عادية لكسب العيش ، كل ذلك كان سببا في تمجيد الثروة ، وتمرد الناس على التنظيمات القبلية القديمة لكي يحللوا لأنفسهم سرقة الثروات بالإكراه ، وأصبح المجتمع في حاجة قصوى الى نظام يحمي الملكية الجديدة للأفراد ضد التقاليد الجماعية القبلية ويجعل هذه الملكية مقدسة باعتبارها الهدف الأعلى للمجتمع الانساني ، ويديم التقسيم الطبقي للمجتمع ، ويحمي حق الطبقة المالكة في استغلال الطبقة التي لا تملك ، ومعنى ذلك أن المجتمع الجديد كان في حاجة الى ظهور سلطة الدولة ، وهكذا اخترعت الدولة . "
تقف الماركسية عموما ، والمادية التاريخية تحديدا ، موقفا عدائيا من العائلة الزوجية بالمعنى الحديث للمصطلح ، إذ تعتبرها مؤسسة قائمة على توطيد الصراع الطبقي في المجتمع باعتبارها تقوم في الجوهر على الملكية الفردية بهدف التوريث وهي تساهم بطريقة أو بأخرى على تقبل المجتمع لمختلف العادات والتقاليد الاقطاعية والبرجوازية والرأسمالية وفق تسلسلها التاريخي ، فهي تقوم ـ كما مرَّ آنفا ، على الرابطة الاقتصادية دون الرابطة الطبيعية يقول أنغلز بهذا الصدد " .. ما نستطيع استنتاجه حاليا عن تنظيم العلاقات الجنسية بعد تصفية علاقات الانتاج الرأسمالي يعتبر استنتاجا ذا طابع سلبي يحدد ما سيختفي من الزواج ، ولكن ما سيزيد من الزواج ؟ هذا هو ما سيستقر بعد نمو جيل جديد ، جيل من الرجال لم تسنح لهم الفرصة( يقصد في المجتمع الاشتراكي ) أبدا لشراء استسلام المرأة سواء بالمال أو بأي وسيلة أخرى من وسائل السيطرة الاجتماعية ، وجيل من النساء لم يضطررن للاستسلام لأي رجل لأي سبب سوى الحب الحقيقي ولن تخاف المرأة من أن تمنح نفسها لمن تحب خشية النتائج الاجتماعية .. " أما مورغان فيشير الى " .. أن الثقافة الأوروبية الآن ـ تاريخ كتابته " المجتمع القديم " ـ فتمثل المرحلة السابعة ( أي بعد المراحل الست السابقة في عصري الوحشية و البربرية ) وهي مرحلة انتقالية ، بطبيعة الحال ، لا بدَّ لها أن تفضي بحكم قوانين التطور الحتمية ، الى بعث الحرية والمساواة والاخاء كما عرفتها العشائر القديمة ..
نضيف في هذا السياق ، أن ما تنبأ به مورغان وأنغلز ، في ما يتعلق بتطور البناء العائلي ، أنه خرج على شكله القديم ، كزواج اقتصادي خاضع كلية للطقس الديني ، الى ما تم التعارف عليه ب " الزواج المدني " حيث المساواة بين المرأة والرجل بكامل حقوق الزوجية بما فيه الإرثية القائمة على الملكية أساسا ، بما فيها الأولاد كشكل من أشكال الإرث ، بما يفيد أن التطور الذي رافق العائلة القائمة على الملكية وتاليا الإرث ، لم يكن كما تنبأ به ماركس وأنغلز في المادية الديالكتية وتاليا التاريخية ، يضاف الى ما تقدم ما قاله سعادة من "إن الشيوعية والرأسمالية ، صنوان " بما يفيد أن كليهما ، وفق المنظور المادي يحملان في ذاتهما عوامل فنائهما إذا ما صح المنطق الديالكتيكي وهذا ما أثبتته تناقضات الماركسية بشقيها الفلسفي والاجتماعي ، بما تعرضت له قبل وفاة أنغلز وبعده بظهور عدة مدارس ماركسية حاولت تكييفها مع الوقائع المستجدة في الحياة الاجتماعية كان أبرزها " الماركسية الانسانية " للإيطالي " أنطونيو كرامشي 1891 ـ 1937 والمدرسة النقدية وأبرز دعاتها " هربرت ماركيوز وتيودور أدورنو 1903ـ 1969 وماكس هوركهايمر 1895 ـ 1973 والماركسية الانسانية والتي صبت جلّ اهتمامها على البناء الفوقي للمجتمع واعطائه دورا أكبر مما أعطاه ماركس حيث لم يعد كافيا أن تؤمن الطبقة العاملة بالتغيير بل لا بذَّ من اعطاء البناء الفوقي أهمية قصوى نظرا لاستمرار انتعاش وبقاء النظام الرأسمالي بهدف التنافس الأيديولوجي متناقضة مع المدرسة النقدية التي فقدت كل الأمل الوضع الثوري للطبقة العاملة ، بينما بقيت الماركسية الانسانية في تفائلها ...
وفي اعتقادنا أن كلا النظامين مهددان بالتلاشي ذلك أن سعادة أكد في أربعينيات القرن الماضي " أن الشيوعية والرأسمالية صنوان "
بناء على مقولة سعادة في "أن الشيوعية والرأسمالية صنوان " يمكننا القول أن المنطق الجدلي ، باعتباره منطقا موضوعيا " ماديا " يحمل في ذاته تناقضاته ، كما في الوجود الموضوعي ( الجماد والنبات والحيوان والانسان ) ، وتاليا عوامل فنائه ، فإذا ما خرج هذا المنطق عن محتواه أي أنه لا يحمل في ذاته تناقضاته وتاليا عوامل فنائه ، كان بإمكاننا القول أن هناك ما قد يخرج على هذا المنطق المادي.."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) لويس هنري مورغان (1818-1881)
محام و أنثروبولوجي أمريكي و من رواد المدرسة التطورية اهتم في بداية حياته بدراسة هنود الايروكيز وغيرهم من سكان الشمال الشرقي الأمريكي الأصليين
ماكسيميليان كارل إميل فيبر
أو /ماكس فيير /
1864ـ 1920
هو عالم اجتماع ألماني ، وواحد من علماء الاجتماع الذي شغل مناصب سياسية ومارس التدريس في مجال علومه ، من هنا تكتسب أعماله الفكرية مصداقيتها فهي ناتجة عن ممارسة علومه ميدانيا ، بل و مستقاة من واقع الحياة العملية.. واليه تعود تعريفات في علم الاجتماع والسياسة ، منها على سبيل المثال لا الحصر : البيروقراطية وفي كتابه " السياسة كمهنة " يعرف الدولة بأنها / الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية /
والفكرة المركزية في فكره كانت " التركيز على العلاقة المتبادلة بين التشكيلات القانونية والسياسية والثقافية في جانب، والنشاط الاقتصادي في الجانب الآخر. " توفي فيبر قبل أن يتم كتابه " الاقتصاد والمجتمع " الذي جمع بعد وفاته...
ومن أبرز ما كتبه فيبر أو "ويبر " كتاب / الأخلاق البروستانتية وروح الرأسمالية / والذي يجيب به على سؤال مركزي يحمل الكثير من المعاني والتفسيرات وحتى الاجتهادات وهو ـ من وجهة نظرنا ـ سؤالٌ منطقي فرضه واقع لا يمكن نكران نتائجه التاريخية على العالم أجمع :
" : لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط ؟ " بمعنى آخر: لماذا تطورت العقلانية في هذه المنطقة من العالم أكثر مما حصل في سواها؟
وفق فيبر يأتي الجواب على أنه " اذا كانت الحداثة تعني عقلنة العالم: أي دراسة العالم بشكل علمي، موضوعي، عقلاني لا بشكل غيبي، ميتافيزيقي، خرافي . فالفرق يكمن هنا ، بين مجتمعات الحداثة والمجتمعات التقليدية. فهذه الأخيرة تسيطر عليها الرؤيا القديمة المليئة بالخرافات والمعجزات والأساطير. أما في مجتمعات الحداثة فقد تبخرت كل هذه الأساطير والخرافات وتم نزع السحر عن العالم وبدا العالم على حقيقته المادية والفيزيائية والبيولوجية."
الفعل الاجتماعي هو الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع عند ماكس فيبر ولقد عرفه بأنه " صورة للسلوك الإنساني الذي يشتمل على الإتجاه الداخلي أو الخارجي الذي يكون معَبراً عنه بواسطة الاقدام أو الإحجام عن الفعل، إنه يكون الفعل عندما يخصص الفرد معنى ذاتياً معيناً لسلوكه، والفعل يصبح اجتماعياً عندما يرتبط ـ المعنى الذاتي المعطي لهذا الفعل بواسطة الفرد ـ بسلوك الأفراد الآخرين ويكون موجهاً نحو سلوكهم."
ووفقاً لمنظور فيبر وتعريفه للفعل الاجتماعي لابد من فهم السلوك الاجتماعي أو الظواهر الاجتماعية على مستويين، المستوى الأول هو أن نفهم الفعل الاجتماعي على مستوى المعنى للأفراد أنفسهم، أما المستوى الثاني فهو أن نفهم هذا الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي بين جماعات الأفراد. ولكي نفهم عمل الفرد وأفعاله أو سلوكه الاجتماعي على مستوى المعنى لابد من النظر إلى دوافع الفرد ونواياه واهتماماته والمعاني الذاتية التي يعطيها لأفعاله والتي لم تكمن خلف سلوكه، أي أنه لابد من فهم معنى الفعل أو السلوك على المستوى الفردي ومن وجهة نظر الفرد نفسه صاحب هذا السلوك وبنفس الطريقة لابد من النظر إلى النوايا والدوافع والأسباب والاهتمامات التي تكمن وراء سلوك الجماعة التي يعتبر الفرد عضواً فيها. أي أنه لابد من فهم الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي ومن وجهة نظر الفرد كعضو في جماعة.
فهم المعنى أو القصد ، في كل ما تقدم هو بيت القصيد عند فيبر والذي يُعرفه بأنه " السلوك في ضوء الغرض والمرمى الذي يسعى إلى تحقيقه الفاعل."
ـ يرى ماكس فيبر "إن العالم كما هو ناجم عن الفعل الاجتماعي الذي يقوم به الأفراد لمجرد أنهم قرروا القيام بذلك بهدف تحقيق الأهداف التي يرغبون في تحقيقها نتيجة اختيار أهدافهم مع مراعاة الظروف المحيطة بهم وليتصرفوا بالطريقة التي يختارون أن يتصرفوا بها ،" هذا باختصار مفرط محور النظرية الفيبرية في تأكيدها على أن نشؤ الرأسمالية لم يكن نتاجا لتطور قوى ووسائل الانتاج بقدر ما كان مترافقا مع تطور الأفكار والمعتقدات ..، هكذا يتشكل البناء الاجتماعي نتيجة الفعل الاجتماعي وأساليب المعيشة التي تُعتبر نتاج الاختيار للدوافع التي تدفع لهذا دون ذاك ،إن وجود الفعل الاجتماعي يخلق الظروف الاجتماعية المعيقة للقوى البنائية وبخاصة الفعل الذي ليس له معنى عقلي في الأصل فيتم اختيارها في ضوء إدراك الفاعل أو الفعل لهذه المعوقات ، من هنا يبدو أن السؤال الأهم في موضوع علم الاجتماع هو : لماذا يقوم الأفراد بالاختيارات التي يقومون بها ؟ أي أن على النظريات الاجتماعية أن تُعنى بالمعاني التي وراء الأفعال لا بالنظام الاجتماعي وهذا ما يميز علم الاجتماع عن العلم الطبيعي مثلا ، فعلماء الأخير لا يمتلكون القدرة على أن يكونوا مكان موضوعهم ليشرحوا سلوكه ويعللوه ، كذلك فإن على علماء الاجتماع أن لا يجعلوا من أنفسهم مكان أي فرد ليشرحوا ويعللوا اختياره هذا دون ذاك ، لذا فإن على علم الاجتماع أن يستخدم المدى الواسع والشامل لكل المفاهيم التصورية ، وأبرزها ، وفق فيبر :
(1) أنماط الفعل
ـ الفعل التقليدي : بما يعني " أنا أقوم بذلك لأنني دائما أقوم به ". وهو سلوك تمليه العادات والتقاليد والمعتقدات السائدة ومن ثم يعبر عن استجابات آلية اعتاد عليها الفاعل، ولا شك أن ضرباً من السلوك هذا شأنه سوف يظل دائماً على هامش الفعل الذي توجهه المعاني .
ـ الفعل العاطفي : بما يعني أيضا " أنا لا أستطيع التوقف عن القيام بذلك ، كل ما أقوم به من أجلك " : وهو سلوك صادر عن حالات شعورية خاصة يعيشها الفاعل والأمثلة على هذا النمط من السلوك عديدة حينما لايختار المرء الوسائل على أساس صلتها بالغايات أو القيم وإنما باعتبارها تنبع من تيار العاطفة .
الفعل الموجه قيميا : "لا شيء آخر مهم ، غير ما أهتم به ." وفي هذا النموذج يكون الفرد واعياً بالقيم المطلقة التي تحكم الفعل وهي قيم يمكن أن تكون أخلاقية أو جمالية أو دينية ويوصف الفعل بأنه موجه نحو قيمة مطلقة في الحالات التي يكون فيها مدفوعاً لتحقيق مطالب غير مشروطة ومعنى ذلك أن الاعتقاد في القيمة المطلقة واعياً ومتجهاً نحوها من أجل ذاتها خالياً من أية مطامح خاصة، ولهذا فهو يختار الوسائل التي تدعم إيمانه بالقيمة .
ـ الفعل العقلاني أو الهدف : -( أفعل هذا لأني محتاج له .)
وهو الفعل الذي له غايات محددة ووسائل واضحة، إذ أن الفاعل يضع في اعتباره الغاية والوسيلة التي يقوم بتقويمها تقويماً عقلياً فالمهندس الذي يصمم مشروعاً معمارياً والمضارب الذي يحسب ما يعود عليه بسبب مضارباته والقائد الذي يختار أفضل الخطط التي تحقق له النصر كلها أمثلة للفعل الاجتماعي الفعلي
أنماط عدم المساواة :
هي بالنتيجة وفق قدرات الفرد الذاتية التي تمنحه المهارات( أو اقتناص الفرص) في سوق العمل داخل المجتمع .
(2) أنماط السلطة : يعتبر فيبر أن السلطة من أكثر العوامل أهمية للفعل الاجتماعي ، ذلك أنها تحقيق للشرعية من خلال القوة ، لذا كانت أنماط السلطة تدور في مجملها حول المطالبة بالطاعة :
ـ السلطة التقليدية : أطعني ، لأن مختلف الشعوب تفعل ذلك
ـ السلطة الكارزمية : أطعني لأنني أستطيع تغير حياتك .
ـ السلطة العقلانية أو القانونية : أطعني لأنني الرئيس الأعلى بشكل قانوني (شرعي ) والمعين عليك .
(3) النماذج المثالية والتنظيم الاجتماعي :
من وجهة نظر فيبر ، لا يستطيع الانسان أن يلاحظ كل جوانب الحقيقة ، فقط ما يستطيعه هو الاحساس بملامح الواقع ، أما الحقيقة فهي عبارة عن مجموعة الأحداث الحتمية التي تقع من حولنا ، وعليه تبقى مهمة النظريات الاجتماعية هي أن توضح اسلوب اختيار الفرد لهذا دون ذاك وانتقاءه لما يفكر به ويستحق اهتمامه ، ذلك أن اختياره لما يفكر به يوضح ويشرح تلك الأحداث والأشياء ، فالحقيقة الموضوعية غير متاحة في النظريات الاجتماعية ، ذلك أن كل المعرفة الخالصة بالحقيقة " أو الواقع الثقافي " هي دائما معرفة من وجهات نظر خاصة ، طالما أن ما يفكر فيه الفرد يوجد معتمدا على ما يفكر به في جوهر شيء آخر ، من هنا تختلف النظريات الاجتماعية بعضها مع البعض الآخر ، وعلى الرغم من أن فيبر يسلط ضوء فلسفته على فلسفته بالذات ، بإقراره بأنه لا يعرف الحقيقة حول الواقع أو الحقيقة المطلقة ، إلا أنه يعترف أنه يملك رؤيته الخاصة حولها ، وعلى العكس من المادية الديالكتيكية ، يؤكد فيبر أن الأفكار والمعتقدات تنشأ أولا ثم تسمح بعد ذلك بنشأة النظام الاجتماعي . لذا كان الملمح المحدد للنظام الاجتماعي ـ وتحديدا النظام الرأسمالي ـ الذي يبقى في حقيقته : كيفية النظر للأشياء ..
(4) ـ الدين والرأسمالية العقلانية :
على ما يبدو فإن السؤال الرئيس الذي كان يدور في خلد فيبر هو : ما تأثير الدين والمعتقدات الدينية على الفعل الاجتماعي ؟ وفي اجابته على تساؤله هذا يضع القاعدة الذهبية لما يعتقده : "إن الفعل العقلاني المؤسسي هو فوق كل اعتبار" .فالمشكلة الرئيسية في التاريخ العالمي للحضارة تبقى في كيفية او طريقة العيش والتصرف ، فالراسمالية الحديثة هي نتيجة العملية العقلانية المتجذرة في التأثير التاريخي للعلاقات الذهنية .. وعليه يتساءل : ما هو السبب في أن المجتمعات غير الغربية لا هي علمية ولا هي فنية ولا هي سياسية وكذلك ليست متطورة اقتصاديا ؟ مؤكدا في اجابته على دور القادة الدينيين في تشجيع الأشكال والأنماط والاتجاهات داخل المجتمعات المتخلفة ،للإبقاء على تخلفها بينما في المجتمعات الغربية يبقى التوجه الثقافي العقلاني هو التوجه الذي ينتج حضارة الغرب وتأكيدا على اتجاهه هذا يعمد فيبر للمقارنة بين البروستانتية الكالفانية والكاثوليكية حيث تشجع الأولى أتباعها على أن يركزوا على الأعمال الدنيوية باعتبارها النشاط ذو الأفضلية العظمى، وفي نفس الوقت فإنهم كانوا مجهدون ومستنزفون ليعيشوا حياة زاهدة متقشفة مقتصدة ، هذه الازدواجية كانت الفرصة الذهبية لتضع الرأسمالية جذورها وتتطور ، ولم تكن الرأسمالية الحديثة لتتجذر إلا حيث البروتستانت الكالفانيين ، لأن هؤلاء اعتمدوا تعاليم الكالفانية التي تؤكد على أن النجاح في الأمور الدنيوية والتي ترتبط بالعمل ارتباطا وثيقا ، يُعدُّ دليلا قاطعا على أن الشخص الناجح قد أصبح من الذين اختارهم الله وأرشدهم الى طريق الخلاص ، وأيا كان العمل ، الذي يقوم به الشخص فإنه يُحتم عليه أن يلتزم نظاما محددا وأن يؤديه بطريقة منتظمة ، ذلك أن الكالفانية ـ وفق فيبر ـ قد أبرزت قيمة المبادرة الفردية والتقشف والعقلانية في السلوك ، أي أنها أبرزت الأفعال الرشيدة في الانتاج والعمل والتأثير الواقعي في العالم وإدانة تكديس الأموال والبذخ المسرف ، وهذه الأفعال تتصف بالعقلانية والتنظيم في مختلف مجالات الحياة من المشروع الاقتصادي الى العلم .
يمثل ما كس فيبر النزعة الفردية في الحياة الاجتماعية ويبررها باعتبارها مصدرا من مصادر التغير الاجتماعي بما تكتنهه من أفكار ومعتقدات ، من هنا يؤكد على أن التحليل الاجتماعي يجب أن يراعي علاقات التباين والقوة والسلطة والصراع والتي يعتبرها أكثر أهمية من العوامل الاقتصادية ، كما ويشدد على الأهمية المحورية للأنساق الفكرية كوسيلة للاستمرار و التغيير في الحياة الاجتماعية وتحديدا ما يتعلق بالعلاقات البنائية ودور الأفكار ..
يبدو واضحا أن الفيبرية لا تهتم بالكيفية التي انتهى اليها المجتمع الحديث الى ما هو عليه ، بقدر ما تهتم بكونه واقعا حتميّاً علينا تقبله بما نملكه من قدرات فكرية تمتلك المعرفة الخلاقة والتي بها نستطيع بناء حياتنا كما نريد ..
عند فيبر كما هو يتصور، يبقى الفرد مقياسا للحقيقة التي يدركها تلقائيا في ما يريد فعله والقيام به ، فالفرد يستطيع أن يقارن بناء المجتمعات من خلال فهم تلك الأفعال المرتبطة بالفاعلين الذين يعشون داخلها الآن ، إلا أنه ليس من الممكن تعميم ذلك على كل المجتمعات أو حتى البناءات الاجتماعية ..
أخيرا ، تلعب الفيبرية اليوم دورا مهما في المجتمعات الغربية باعتبارها نظرية تبرر للمجتمع الغربي صرحه الرأسمالي ، دون النظر لما يخلفه من دمار على مختلف المجتمعات في العالم .
أنطون سعادة 1902ـ 1949
نشؤ الأمم 1936
(دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية )
يجمع سعادة في مؤلفه " نشؤ الأمم " كلٌ على حدة ، دوركهام وماركس وفيبر إضافة لمجموعة كبيرة من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ، لذلك فإن البحث في هذا المؤلف العظيم سيكون على نحوٍ مقارن ، خلافا لما سبق في استعراضنا لمؤلفات دوركهايم وماركس وفيبر ، وحتى يتسنى لنا البقاء في فلك محور دراستنا هذه / اجتهاد في مصطلح الاقتصاد القومي الاجتماعي / ومقولتي سعادة " الدورة الاجتماعيـــــــة ـ الاقتصاديـة " و" الانسان ـ المجتمع " .
و لا بد لنا من التنويه من أننا سنتناول المادية الديالكتيكية والتاريخية قبل تناولنا للوظيفية والفيبرية نظرا لأن الأخيرتين لا تتناولان المجتمع في سياق التطور بل من حيث هو كيان موجود بالقوة ، وهذا ما يدفعنا لمناقشة تلك الرؤيتين من خلال نشؤ الأمم بالدرجة الأولى وما كتبه سعادة وألقاه من خطبٍ وتناوله في مختلف مقالاته ودراساته وأبحاثه .
تمهيد :
التطور بما يعنيه من التغير أو التبدل أو التكيف أو الانتقال .. وجميعها مرادفات تنحى منحى أن لا شيء يبقى على حاله ، بما يعني أن سمة الحياة بأي معنى أُخذت به ، تبقى في حركتها تتطور نحو المجهول الذي يدفعنا مرغمين للبحث في ما قد يكون عليه في محاولة لطمئنة أنفسنا لما نحن مقبلون عليه ، فإذا كانت هي ذي الحقيقة التي لا جدال فيها ، فالسؤال يبقى : لما هو الوجود على هذه الحال غير المستقرة أو القلقة أو المضطربة أو التي لا تهدأ في تبدلاتها وتغيراتها وهل هي كذلك لأنها في حركتها الدائمة المستمرة نحو المجهول تضعنا أما تساؤلات لابدَّ من طرحها في محاولة لضبط ايقاع هذه الحركة بما يُطمئننا ويضعنا على طريق الاستقرار لما نحن آيلون إليه ؟
لربما كان ما تقدم هو الهاجس الذي شغل فكر مختلف الفلاسفة ( بما فيهم الأنبياء ) على مختلف العصور المعروفة ، والذين حاولوا بجهد ـ مشكورٍ لهم ـ أن يطمئنونا لصيرورة تضعنا أما حقائق لا بدَّ لنا من تقبلها مهما تكن مواقفنا منها ، وفي محاولاتهم ـ الفلاسفة ـ على مختلف ما أثاروه من موضوعات ، أبقوا ، السؤال ، دون إجابة شافية تثلج صدر الانسان ، التائق دوما الى الطمأنينة لما قد ينتهي إليه ، ذلك أنهم لم يتفقوا على إجابات تتسق الى حدٍ ما بعضها مع بعض ، بل إننا لنجد أن ما نعانيه في مشكلة الوجود ينعكس في مختلف الإجابات المتناقضة الى هذا الحدِّ أو ذاك، بما يدفعنا للاعتقاد بأن السياق الحركي للوجود إنما يتجه لما هو مقرر في حقيقته التي تبدو مستعصية على الفهم حتى الآن ، ليس لأنها طلسما لا يمكن فكَّ رموزه بل لآننا لم نفقه بعد كيف نحاوره ، أو لأننا نحاول سبر أغواره بأدوات لم تزل بدائية رغم ما نعتقد من أننا بلغنا درجة من الوعي والفهم تمكننا من ذلك .
والحال ، فإذا كان ما " يمكن أن يكون " غير متاحٍ لنا بأدواته ، فإن " ما هو كائن " يملك أدواته ، التي رغم التباس ما فيها من اشكالات ، تبقى هي المتاحة لنا في " ما كان " ، وعليه ، فإننا مطالبون بالتدقيق في ما "ما كان " لفهم الحركة التطورية التي انتهت لما " هو كائن " فلعلنا نتمكن من صياغة بعضٍ من قوانين التطور التي يمكن لها أن تشكل القاعدة التي لا غنى لنا عنها لضبط ايقاع حركة التاريخ في صيرورته ، أي أن علينا استقراء الماضي لمعرفة كيف آل بنا الأمر الى ما نحن عليه الآن ، في محاولة لرسم بعض ملامح الآتي بما قد يساهم في استقرارنا لما نحن آيلون إليه ، ما عدا ذلك تبقى اجابة سعادة عليه " من يدري " في ذمة الآتي ـ المستقبل ، دون أية حتمية تنبُئية ، على نسق الماركسية والأديان .
فـعلى الرغم مما أصاب الماركسية من تراجع سياسي اثر انهيار الاتحاد السوفيتي ، فإنها لما تزل قائمة بصيغتها " الماوية " في الصين ، وبعض البلدان الأخرى وفي مقدمتها كوبا ، بل ومنافسة قوية للغرب ـ الأوروبي والأمريكي ـ بقوة لم يعهدها الأخير من قبل ، وأن ما قيل ويقال عنها من أنها انتهت بانتهاء السوفيت ليس سوى ذرٍ للرماد في العيون ، فما يخشاه الغرب ليس سواها ممثلة بالاقتصاد الصيني وبالمقاومة التي أبدتها كوبا لأكثر من نصف قرن لمحاولات الغرب بشقيه إسقاطها .. من هنا فنحن في مقاربتنا للماركسية والقومية الاجتماعية نبقى في " ما هو كائن " في ضوء "ما كان " وليس في " ما قد يكون " .
سبق وأشرنا الى أن الخلاف الفلسفي بين ماركس وسعادة يكمن في ثنائية ماركس وثلاثية سعادة ، ونضيف هنا ،بما يتعلق بحركة التاريخ البشري ، بين الثابت والمتحول والتابع ، حيث يكمن الخلاف بـــأجلى مظاهره ،
وعلى الرغم من هذا الخلاف الجوهري ، فلا شك أن هناك كثيرا من النقاط التي يلتقيان فيها :
1 ـ حيث تؤكد كلتا النظريتين على وحدة الوجود بشقيه المادي والانساني ، اذ أن مصطلح / المدرحية / "1" الذي يستخدمه سعادة في التعبير عن فلسفته ، يدلُّ دلالة واضحة على أن الوجود بشقيه المادي والنفسي هو في وحدة لا تنفصم عراها رغم مختلف تجلياته التي تبدو في ظاهرها مغايرة بعضها لبعض .
كذلك الماركسية ، عندما تقرّ بأن الوجود " كيانا كليا مرتبطا ارتباطـا لا ينفـصم تكـون فيـه الأشـياء والظواهر مرتبطة ارتباطا عضويا وتعتمد إحداها على الأخرى وتقرر إحداها الأخرى."
2 ـ أيضا ، من حيث أسبقية الوجود على المعرفة يقول سعادة : " أنّ المادّة تعيّن الشّكل " ويضيف " لا يمكننا أن نتصور وجوداً بلا معرفة. فلا يمكننا أن نقول إن لأي وجود مفترض، غير مدرك بالمعرفة، قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل ( الوهم ) بالمعرفة .." وفي ذات الاتجاه توكد الماركسية على أنه " ليس وعي الإنسان ما يقرر وجوده، بل، على العكس، وجوده المادي هو الذي يقرر وعيه".
3 ـ تذهب النظريتان على أن فكرة الخلق المستقل والمباشر لا تقدم الدليل اللازم والكافي على كيفية ظهور الانسان بل وأن ما تقدمه من بينات في هذا الصدد قد أثبت العلم بطلانه بطلانا مطلقا يقول سعادة :" أمّا أنّ الإنسان نشأ بالتّطوّر فما لا جدال فيه وأمّا كيفيّة حدوث التّطوّر، أكان بتجمّع تغيّرات بطيئة تحت تأثير البيئة المتطوّرة أم بالتّغير الفجائيّ استعداداً للدّخول في بيئة جديدة فممّا لم يتّفق عليه العلماء لحاجتهم إلى استكمال اختباراتهم. وقد كانت النّظريّة الأولى القائلة بالتّغير البطيء وفاقاً للانتخاب هي السّائدة. ولكنّ نفراً من العلماء الحديثين يعتقدون بسبق التّطوّر لموافقة البيئة وبحدوثه دفعة واحدة " أما الماركسية فتنهي الجدال في هذا الموضوع بالقول : " الإنسان، كله نتاج عملية تطور كانت في تقدم ملايين السنين".
4 ـ اذا كان الانسان قد نشأ بالتطور ، فمراحل هذا التطور تبدو واحدة في كلتا النظريتين ، فسعادة يقول بالمرحلة المتوحشة أو البدوية ومن ثم بالمرحلة السابقة للعمران وأخيرا المرحلة العمرانية ، في الماركسية نجد المرحلة الوحشية ومن ثم المرحلة البربرية وأخيرا المدنية .
5 ـ تكاد العينات التي تقدمها كلتا النظريتين في مختلف مراحل التطور أن تكون واحدة حيث الانسان لاقط ثمار وجذور نباتات ومن ثم صيادا مكتشفا للنار مستأنسا بها بعض الحيوانات مستقرا في الأرض حيث مقومات الحياة أوفر مخترعا للمحراث زارعا حيث وفرة الانتاج ادت لاختراع العجلات ناطقا مخترعا للكتابة متقدما في الصناعة ومن ثم للتجارة ...
6 ـ تتفق النظريتان على أهمية العامل الاقتصادي في الحياة الاجتماعية بمختلف مراحلها ، يقول سعادة :" لا بدّ لنا .. من تقرير حقيقة ضروريّة لفهم تركيب المجتمع والأحوال الاجتماعيّة على إطلاقها وفي أكثر أشكالها تعقّداً، هي حقيقة الضّرورة الاقتصاديّة للاجتماع البشريّ. فالرّابطة الاقتصاديّة هي الرّابطة الاجتماعيّة الأولى في حياة الإنسان أو الأساس الماديّ الّذي يقيم الإنسان عليه عمرانه .."ويضيف :" فالاقتصاد هو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع حتّى إنّنا نرى الحالة الاقتصاديّة تؤثّر على الحالة البيولوجيّة أحيانا. والتّطوّر الاجتماعيّ هو دائماً على نسبة التّطوّر الاقتصاديّ.." يتابع مؤكداً :" إنّ رابطة الإنسان الاجتماعيّة الأولى هي الرّابطة الاقتصاديّة." أكثر من ذلك يصر على أن " الرّابطة الاقتصاديّة أساسا للرّابطة الاجتماعيّة البشريّة.." أنّه إذا كانت الرّابطة الاقتصاديّة أساس الرّابطة الاجتماعيّة البشريّة، فالعمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع.."
ونجد في الماركسية الاتجاه ذاته يقول ماركس :" . وكيفما يكون أسلوب إنتاج مجتمع ما، هكذا يكون، بصورة أساسية، المجتمع نفسه، آراؤه ونظرياتـه، وجهـات نظـره السياسية ومؤسساته السياسية. أو، لوضع ذلك بمزيد من البساطة، كيفما يكون أسلوب حياة الإنسان، هكذا يكون أسلوب تفكيره.
هذا يعني أن تاريخ تطور المجتمع هو قبل كل شيء تاريخ تطور الإنتاج، تاريخ أساليب الإنتاج التي خلف احدها الأخـر
ان مفتاح دراسة قوانين تاريخ المجتمع يجب ألا نبحث عنه في أدمغة الناس، في نظرات أراء المجتمع، بـل فـي أسلوب الإنتاج الذي مارسه المجتمع في أية فترة تاريخية، علينا إن نبحث عنـه فـي الحيـاة الاقتـصادية للمجتمـع
ولهذا فان المهمة الرئيسة لعلم التاريخ هي دراسة وكشف قوانين الإنتاج، قوانين (1) تطور قوى الانتاج (2) وعلاقات الإنتـاج،(3) قوانين تطور المجتمع الاقتصادي
. فقـوى إنتـاج المجتمـع تتغير وتتطور أولا، ثم، استنادا إلى هذه التغيرات، وبالانسجام معهـا، تتغيـر علاقـات النـاس الإنتاجيـة، علاقـاتهم الاقتصادية.
"من لايعمل لا يأكل".
العلاقات الاجتماعية ترتبط ارتباطا وثيقا بقوى الإنتاج. بالحصول على قوى إنتاج جديدة يغير الناس أسـلوب إنتـاجهم؛ ويتغير أسلوب إنتاجهم، بتغيير طريقة الحصول على رزقهم، يغيرون جميع علاقاتهم الاجتماعية. فالرحى تعطيك مجتمعـا مع السيد الإقطاعي، والطاحونة البخارية تعطيك مجتمعا مع الرأسمالي الصناعي."
إن الإنتاج الاقتصادي في كل عصر تأريخي نشأ عنه بالضرورة تركيبة اجتماعية .
ولا تقف نقاط التوافق بين النظريتين عند هذا الحد ، اذ أن هناك من التفصيلات التي تكاد تكون واحدة فيهما ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، يقول انغلز في أصل العائلة والملكية والدولة : " وبقدر ما يكون العمل غير متطور وبقدر ما يكون نطاقه محدودا ، أي بقدر ما تكون ثروة المجتمع محدودة ، بقدر ما يظهر النظام الاجتماعي المحكوم بالروابط الجنسية.." ويوافقه سعادة بقوله :" كانت القرابة الدّمويّة الوسيلة الأوليّة لتطبيق المبدأ الاقتصاديّ للاجتماع ،.. أمّا حيث لا تتوفّر هذه المقوّمات فالحالة الابتدائيّة تسود ويظلّ الاجتماع قائماً على أساس الرّابطة الدّمويّة الّتي تقتصر على أنواع من الحياة محدودة ولا أمل لها بالارتقاء في مثل هذا النّظام."
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1"ــــــ "المدرحية"ـ مصطلح ابتكره الشاعر رشيد سليم الخوري واستحسنه سعادة في التعبير عن مضمون ومحتوى وجوهر فلسفته الاجتماعية ـ
ــــــــــــــــــــ
.. لكن ، وعلى الرغم من التوافق الكبير بين المادية الديالكتيكية ـ التاريخية والقومية الاجتماعية ،يبقى جوهر الخلاف في ما سبق وأشرنا اليه أكثر من مرة ، ألا وهو ثنائية المادية الديالكتيكية ـ التاريخية وثلاثية القومية الاجتماعية ،والتي تشكل ـ ثلاثية سعادة ـ ميدان الماركسية الفعلي حيث نجد المبادئ الثلاث التي تقيم عليها الماركسية بناءها الفكري ، ونقصد (1) من الكم الى الكيف (2) التناقض جوهر حركة المادة (3) نفي النفي ، أيضا مبادئ الصراع الطبقي وهي (1) قوى الانتاج (2)أدوات الانتاج (3) علاقات الانتاج (اسلوب الانتاج ) وعند أنغلز (1 ) العائلة (2) الملكية (3) الدولة .
وبناءً على ما تقدم ، يبقى الخلاف قائما في كيفية فهم هذا السياق التطوري للمجتمع البشري .
ولا بدَّ لنا ، وقبل الولوج لمعترك هذا الاختلاف من التنويه لبعض ما لفت اليه سعادة في دراسته للتطور البشري ،وما هي نقاط ارتكاز عدم التوافق في النتائج التي توصلت اليها كلتا النظريتين ..
يتوافق كل من أنغلز وسعادة على أنه لا يمكن تعميم ما في عالم الحيوان على ما في عالم الانسان يقول أنغلز :" "إن الرجوع الى اشكال الزواج لدى الحيوانات للاستدلال بها على الانسان يؤدي حتما الى الخطأ " ويؤكد ذلك سعادة بقوله :" وإذا كان الإنسان يقع، من الوجهة الإحصائيّة، في جدول الحيوانات المتجمهرة، فلا يعني ذلك بوجه من الوجوه أنّ بينه وبين الحيوانات والحشرات المذكورة قرابة اجتماعية تمكّن من استخراج أقيسة عامّة تطبّق على كلا الحيوان والإنسان.." هنا لا يقف سعادة عند هذا الحد بل يتابع تحليله لما يمكن استخراجه من المرحلة الحيوانية التي كان بها الانسان قبل أن يصبح كذلك ، متفقا مع مورغان في ضرورة أنه "لا بدَّ من افتراض حالة ، وإن لم يقم الدليل عليها ـ، اشْتُقَ منها شكل الأسرة في الحالة الوحشية الدنيا وهي حالة " الاختلاط الجنسي " بين أعضاء " القطيع البدائي .." هذه الحالة التي يفترضها مورغان ، يتوغل بها سعادة لأنها تحمل خصائص ميزت الانسان عن الحيوان ومكنته من الانتقال لحالة متقدمة عليه ، يقول :" " فإنّ خصائص الإنسان الفيزيائيّة، كانتصابه على قدميه الّذي أطلق ليديه حريّة الاستعمال، تؤهّله للانفراد أو الازدواج في حفظ نوعه بما تجعل له من الامتياز والأرجحيّة على خصومه. فليس الاجتماع البشريّ، إذن، من الضّرورات البيولجيّة لحفظ النّوع وفاقاً لطبيعة الحال، كما هو شأن الحشرات المتجمهرة."هكذا يرى سعادة أن انتصاب الانسان على قدميه مكنه من استخدام يديه في تحصل قوته مداورة بصناعة أدواته (وسائل انتاج ) ،وهي الخاصة التي فصلته عن مرحلته الحيوانية بالتأكيد ، وهذه ميزة كان الأجدر بأنغلز ومورغان التنبه لها ، لما لها من تأثير على مستقبل انجازات الانسان في مرحلته الوحشية الدنيا وفق انغلز ،والتي نوه لها دون بيان أسبابها .
مسألة أخرى يجدر لفت النظر اليها وهي أن أنغلز يغرق في بحث عينات من أشكال العائلة لدى مختلف الشعوب مستندا لمصطلح لم يسعَ للدلالة عليه ، وهو مصطلح السلالة ، اذ أن كتاب " أصل العائلة والملكية والدولة " يتمحور كلية حول تطور شكل العائلة لدى سلالات " الإروكيوسية و الإغريقية ويربط بين السلالة والدولة في روما وكذلك بين السلالة عند السلتس والألمان ،دون بيان مدلول مصطلح " السلالة " فماركس يقول "إن الإغريق كانوا يعتبرون سلالاتهم أثرا من علم الخرافات (بدليل نسبتها الى أحد الآلهة الذي يعتبرونه أصلا لها ) فإن السلالات كانت أقدم من علم الخرافات بآلهته وأنصاف آلهته التي خلقوها هم بأنفسهم " مما يعني أن ماركس أخذ مصطلح السلالة على محمل ما هو متفق عليه من نسبتها الى أبٍ أو أمٍ واحدة ، وعلى ما يبدو ، من كتابات أنغلز في " أصل العائلة والملكية والدولة " أنه لم يميز بين السلالة كمصطلح لمدلول الأصل الواحد ـ أبا كان أم أمّا ـ ومدلولها العلمي من جهة والموقف منها من جهة أخرى ، بل يكتفي بما قد تدلُّ عليه مصطلحات العينات التي يأخذها من مختلف القبائل ، فعند الهنود الأمريكيين ، يقول أنغلز ، " كانت الأخوّة بمثابة السلالة الأم ، وتنقسم الى عدة فروع بمثابة بنات لها وتوحدهم في نفس الوقت نتيجة الأصل المشترك " باحثا عن المبدأ الاقتصادي الذي يعتبر فيه العائلة الركن الأساس في ظهور الملكية الفردية ومن ثم الدولة ، ويصب جام سخطه على هذه الثلاثية / العائلة والملكية والدولة /، بينما نجد سعادة يقف بداية لتعريف السلالة ومن ثم يستعرض نظرياتها لدى الانكليز والألمان والفرنسيين والبلجيك ومختلف العقائد السلالية الأخرى ويخلص من استعراضه لتعريف هذا المصطلح كما هو سائد لدى القائلين به والمدلول العلمي لهذا المصطلح ، فكما هو سائد يدلُّ المصطلح على " الانتساب لأب واحد متفرع من أبناء نوح أو كما روى المسعودي مستندا الى ما جاءت به الشريعة ورواه الخلف عن السّلف والباقي عن الماضي وهو أنّ السّبب في اختلاف ألوان البشر يعود إلى أنّ ملك الموت الّذي أرسله اللّه أخيراً ليأتيه بطين من الأرض يخلق منه آدم أتاه بتربة سوداء وحمراء وبيضاء فلذلك اختلفت ألوان ذرّيّته. وعلى هذا لا يكون البشر إلاّ ذرّيّة تربطها الأنساب .." لكن الواقع غير ذلك ، يقول سعادة ، لأنه " إذا تركنا وجهة التّخمين والتّقديرات التّخيّليّة في الفوارق الظاهرة في جماعات النّوع البشريّ وبحثنا عن مدلول كلمة [السّلالة] العلميّ وجدنا أنّ هذه اللّفظة هي من مصطلحات العلم الطّبيعيّ. والغرض منها تقسيم النّوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصّة ، أمّا النّوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحيّة الّتي ينتج تزاوجها نتاجاً ناجحاً وتكون له ذات المقدرة بلا حدود . فالأجناس تقبل الاختلاط والتّزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلاّ شذوذاً نادراً." ما يخلص منه سعادة وأغفله مورغان وكذلك أنغلز هو" المزيج السلالي " الذي يقول به سعادة وعليه يبقى أن لا سلالات يمكن ردها الى أب واحد أو أم واحدة كما لا يمكن أن توجد سلالات نقية خالصة فــالإرتحالات التي انتهت بالجماعات الى بيئات تمكنها من الاستمرار في حياتها والحروب وكذلك الزواج ، كلها ساهمت في تكوين مزيج سلالي قد يبدو منحطا في جماعات وراقيا في جماعات أخرى ، مقتبسا من ابن خلدون مقولته الشهيرة " النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر " هذا هو كل ما في الأمر، إن ما نحن عليه اليوم هو مزيج سلالي متجانس في بعض الشعوب منحط في أخرى، كما يؤكد سعادة .
هكذا نصل الى أهم ما في موضوع الخلاف بين النظريتين ، أي علاقة الانسان بالأرض التي يحيا عليها ، وهي العلاقة التي تتغاضى أو تتجاهل الماركسية الخوض بها وتركز على نتائجها ، أي على أهمية قوى الانتاج وأدواته واسلوبه ، أي على التشكيلة الاقتصاديةـ الاجتماعية والتي تقيم عليها مراحل التطور الاجتماعي ( المجتمع القديم ـ المشاعيةـ الاقطاعيةـ البرجوازيةـ الرأسمالية .)
والجدير بالتنويه في مجال هذه الدراسة أن نشير الى أن الخلاف الفلسفي بين ماركس وسعادة يظهر هنا بأجلي مظاهره فالعلاقة الحاكمة لما سيأتي تبقى العلاقة بين " الثابت والمتحول والتابع " ثلاثية لا ينفك سعادة في التأكيد عليها في العلاقة بين الانسان وبيئته " المحيط ـ الجسم ـ النفس "
فعلى الرغم من اقراره بأن " كل شئ يعتمد على الظروف والزمان والمكان ـ ثلاثية لم يتنبه لها ستالين ـ في كتابه " المادية الديالكتيكية "، يتساءل في شرحه لمقومات المادية التاريخية قائلا : " فما هي "ظروف حياة المجتمع المادية" وما هي معالمها المميزة؟ ليجيب :
" لا شك أن مفهوم "ظروف حياة المجتمع المادية" تتضمن قبل كل شيء الطبيعة المحيطة بـالمجتمع، البيئـة الجغرافيـة ،وهي إحدى الظروف التي لا مفر منها والدائمة في حياة المجتمع المادية، والتي تؤثر طبعا على تطور المجتمع. فمـا هـو الدور الذي تلعبه البيئة الجغرافية في تطور المجتمع؟ هل البيئة الجغرافية هي القـوة الرئيـسية التـي تقـرر ملامـح المجتمع، طابع النظام الاجتماعي للإنسان، والانتقال من نظام إلى آخر؟
إن المادية التاريخية تجيب على هذا السؤال بالسلب.
فمما لاشك فيه إن البيئة الجغرافية هي احد الظروف الدائمة التي لا مفر منها في تطور المجتمع، وتؤثر طبعا علـى تطـور المجتمـع وتسرع أو تؤخر تطوره. إلا أن تأثيرها ليس تأثيرا مقررا طالما أن تغيرات وتطورات المجتمع تجري أسرع بما لا يقاس من تغيرات وتطورات البيئة الجغرافية."
" إن البيئة الجغرافية لا يمكن أن تكون السبب الرئيس، السبب المقرر، في التطـور الاجتمـاعي، إذ أن مـا يبقى غير متغير تقريبا في مضمار عشرات الألوف من السنين لا يمكن أن يكون سبب التطور الرئيس فيما تطـرأ عليـه تغييرات أساسية خلال بضع مئات من السنين."
وإن كان أنغلز يتفق وستالين في مدى تأثير البيئة الطبيعية ، لكنه ينحى في كتابه " أصل العائلة والملكية والدولة " منحىً آخر ، فيعترف بشكل غير مباشر بنقيض ما ألمح اليه ستالين ، فيقول ".. وكان هذا الاختلاف الطبيعي في الظروف أن سار سكان كل قارة في طريق مختلف واختلفت الحدود المميزة للمراحل المختلفة في كل قارة .. وقد كان تكوين القطعان الحيوانية في الأماكن المناسبة لذلك سببا في حياة الرعي عند الجنس السامي في السهول المليئة بالحشائش عند نهر الفرات ..وقد تكون الفائدة العظيمة للحم واللبن وخاصة في تنمية الأطفال سببا في تفوق الآريين والساميين(الأسيورية عند سعادة ) على غيرهما من الأجناس.. كما وإن اختراع الحروف الكتابية واستخدامها في النصف الشرقي فقط من العالم واستخدامها في تدوين الآداب .. أحدث تطورا في الانتاج يفوق التطور الذي حدث في كل العصور السابقة مجتمعة .. في العالم القديم ،حيث اتسع نطاق استئناس الحيوانات وازداد عدد القطعان بطريقة جعلتها مصدرا غير متوقع للثروة ، كان نمو العلاقات الاجتماعية ..استطاعت الشعوب المتقدمة المسيطرة ، مثل الآريين في الأرض الهندية ذات الأنهار الخمسة وأرض القرقيز .. والجنس السامي عند نهر دجلة والفرات ، أصبح في استطاعة هذه الشعوب أن تملك قطعانا تتطلب رقابة وعناية حتى يزداد عددها وتستخرج منها الألبان واللحوم الوفيرة .. بطريقة جعلتها مصدرا غير متوقع للثروة مما سبب نموا في العلاقات الاجتماعية .. وبانتشار القطعان الحيوانية واستخدام المعادن والزراعة تغير الوضع كليةً ..اذ أصبحت هناك حاجة لمزيد من الأفراد للعناية بأمر القطعان وأصبح ممكنا أن يؤدي اسرى الحروب هذا الغرض بل أصبح في الامكان تربية أسرى الحرب كالقطيع نفسه ( العبيد أو الرق في المفهوم الماركسي ) .. فقد كانت هذه الثروات المملوكة للعائلة سببا في تحطم المجتمع القائم على عائلات مكونة من فردين وقبائل منتسبة للأم .. لذلك فعندما ازدادت الثروة الحيوانية ، المملوكة للرجل أعطته مكانة أكثر أهمية من المرأة ..واصبح الانتساب للأب هو السائد، مما سهل هذا التغيير ، إن هذه الثورة على الانتساب للأم تعتبر من إحدى التجارب الشديدة التأثير في تاريخ البشرية .." فالبيئة الطبيعية تؤثر تأثيرا كبيرا ، وفق أنغلز ليس على تقدم وتتأخر المجتمعات وحسب، بل في الانتقال من اسلوب انتاج لآخر ، متفقا مع سعادة كل الاتفاق كما سيأتي ..
إن المبدأ الفلسفي الذي ينطلق منه سعادة هو : " أن المادة تعين الشكل " وعليه يبني موقفه من البيئة الطبيعية ، هذا الموقف ينطلق أيضا من العلاقة بين الثابت والمتحول والتابع ، معتبرا أن الثابت الذي يلعب دورا قياديا هو البيئة أما المتحول فهو المجتمع الذي لا بدَّ له من التكيف باستمرار مع خصائص بيئته أما التابع فهو الفرد الذي يبقى في الدائرة التي وجد بها والتي تضطره في مجرى حياته للتكيف مع هذين القطبين اللذين يحددان له منحى هذا المجرى ، ولا ينسى سعادة أن هذه العلاقة تبقى في حركتها من حيث تبادل عناصرها مركز القيادة فيها على الرغم من تبوء البيئة مركزا متقدما فيها يقول : " . فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها .. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة. وفي الوقت الّذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيويّة يجد نفسه مضطرّاً لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النّازل فيها." ولما " لا توجد مادّة واحدة تمدّ الطّبيعة بها إمداداً مستمرّاً.." كان على الانسان أن يتكيف وخصائص الأرض ، البيئة ذلك أن " هذه الخصائص هي الّتي تعيّن وجهة تقدّم الإنسان في سدّ حاجاته مداورة ــ أي مدنيّته .." ذلك أنها كانت السبب في توزع البشر جماعات " فلو أنّ الأرض كانت سهلاً منبسطاً في درجة واحدة من الحرارة والرّطوبة، خالياً من الحدود الجغرافيّة من صحارى وجبال وأنهار وبحار، لكان من البديهيّ أنّ يؤدّي انتشار النّوع البشريّ فيها إلى إنشاء جماعة واحدة كبيرة ولكنّ الحدود الجغرافيّة الطّبيعيّة جعلت انتشار الإنسان في الأرض موافقاً للبيئات الجغرافيّة.." التي يختلف بعضها عن البعض الآخر وفق طبيعة الحال ، هذا الاختلاف هو الذي مايز الجماعات يقول :" تميّز البيئة الجماعة بما تكسبها من لون وشكل وبما تمدّها به من الموادّ الخام لسدّ حاجاتها الحيويّة من غذاء وكساء وبناء وأدوات. فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها لأنّ الاستنباط والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطّبيعيّة، موافقين لها .." فالمادة كما أسلفنا هي التي تحدد الشكل ، هكذا تتمايز الجماعات أو المجتمعات بعدما تكون " الجماعة " ـ بعامل الزمن ـ قد اكتسبت خصائص بيئتها وتمازجت أصولها وفروعها وتماهت في بيئتها ، فأضحت مجتمعا له خصائصه ،
إن السؤال الذي نحاول الاجابة عليه هو : ما تأثير البيئة الجغرافية على تطور المجتمع ؟
تلتف المادية التاريخية على تأثير البيئة بالسؤال عن المتغير (المتحول) في العلاقة المشار اليها ماركسيا ( الظروف ، الزمان ، المكان ) والدور الرئيس أو المقرر في تطور المجتمع وطابع النظام الاجتماعي وأيضا في الانتقال من تشكيلة اجتماعية الى أخرى ، دون أن تتنبه للفارق بين الثابت ( المكان ـ البيئة ) والمتحول او المتغير (الظروف ـ الزمان ـ " المجتمع " ) وتخلط بينهما في المدى الزمني ، ودون أن تتنبه أيضا لموضوعيَّتهما ، أي كونهما موضوعان "ماديان " في المفهوم الماركسي ، أي أنهما خارجان على ارادة ورغبة وامكانية المجتمع في المدى الزمني ، فالجماعة ـ المجتمع ، بتتابع أجياله ، يتغير تحت تأثير الثابت ـ المكان ، أو كما يقول سعادة : تُعدُّ " البيئة الفوارق الشكلية للجماعات البشرية ، وأن الترابط بين البيئة والجماعة في أنواع الحياة وفوارق الأشكال ومميزات العمران والاتجاه التمدني ، قويٌ جداً .. أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيراً يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعاً لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته .." وعليه كان أخذه بعامل الامتزاج بين الأقوام النازلة ـ بسبب ارتحالاها ـ في بيئة محددة المعالم ، وبالطبع تحت تأثير عامل الزمن وقوله أيضا باختلاف الجماعات بناء على هذا التأثير ، فالتطور هنا ، وكما أشرنا سابقا ، يعني التغير والتبدل والتكيف ، فلا بدَّ إذن من أن تتكيف مختلف الجماعات مع ـ الظروف (الخصائص البيئية) الجديدة عبر الزمان ـ (التاريخ ) والتي خضعت لها في هذه البيئة أو تلك ، وتتحدد صفاتها وخصائصها تبعا لذلك ، فإذا كانت البيئة الجغرافية ، وفق ستالين " تؤثر طبعا علـى تطـور المجتمـع وتسرع أو تؤخر تطوره .." فالسؤال كيف يتم ذلك اذا كان ما تحتاجه هذه ( لتتغير) لآلاف السنين ؟ بينما المجتمع يتغير في بضع من مئات منها ؟ كيف تُسرَّع أو تُبطئ البيئة التطور طالما أنها ثابت لا تتغير ، إذا ما كان المقياس هنا ، هو التغير أو المدى الزمني سريعا كان ام بطيئا ؟
لا شك أننا هنا وقبل الاجابة على ما تقدم ، بحاجة للتنويه لمصطلح " بيئة " بحيث يبقى في ذهن القارئ أن المصطلح لا يدل على وحدة خصائصها أو يلغي اختلافها وتباينها وتاليا تبيان امكاناتها أو بمعنى آخر ثرواتها الباطنية وغيرها من حيث امكانية زراعتها من جهة أو أهليتها للرعاية مثلا ، وعليه ، فإن الجماعات النازلة بها تكتسب شخصيتها مما هي عليه بيئتها ، يقول سعادة " إنّ من أهمّ مؤثّرات البيئة أو الأرض في تمييز الجماعات أنّها أهمّ عامل في تكوين [شخصيّة الجماعة]. والسّبب في ذلك هو الارتباط الوثيق المولّد حقّ الوراثة واستمرار التّشابه الشّكليّ .."
يسهب سعادة في الاجابة على التساؤلات المتقدمة في بيان العلاقة بين الثابت والمتحول يقول :" إنّ تأثير امتلاك أرض أو عقار(ثابت ، وفق سعادة بحق الوراثة ) في شخصيّة الممتلك (متحول ـ متغير أيضا بموجب حق الوراثة ) شديد جداً.. " ـــ بغض النظر عن الموقف من الملكية وكذلك الوراثة باعتبارهما جانبا من جوانب الطابع الاجتماعي الذي سارت عليه مختلف الجماعات البشرية ـــ ، يتابع قائلا :" .. أنّ الملك قد يكون أهمّ ما في الشّخص المالك، بل أهمّ منه ، لأنّ الشّخص زائل والملك هو الباقي على التّوارث.. حتى إذا زال من يديه تغيّرت شخصيته ورتبته. هكذا، مثلاً، حدث لأمراء الرّوس حين جرّدتهم الثّورة البلشفيّة من أملاكهم فخرجوا إلى العالم سائقي سيارات وخدماً بعد أن كانوا أمراء. وهكذا الجماعات شخصيّاتها مرتبطة بالأرض الّتي تملكها ارتباطاً وثيقاً، بل قوام شخصيّاتها البيئة. الوطن." من هنا كان الاختلاف بين الجماعات البشرية ، فقد تختلف البيئات اختلافا حديَّا ـ كالبيئة السورية وشبه جزيرة العرب ـ مما يؤدي بطبيعة الحال لاختلاف حديٍّ أيضا في طابع النظام الاجتماعي ، ناتج عن العلاقة بالأرض ، اذ يستحيل أن يكون المحراث أو العجلة (ادوات الانتاج) قد استنبطا في شبه جزيرة العرب مثلا ، نظرا لعدم توافق طبيعة الأرض معهما جوهريا ، وتاليا اختلاف العلاقات الاجتماعية (اسلوب الانتاج) الناتجة عن استخدامهما بما يقدمانه من نتاج على المستوى الاقتصادي الذي يساهم الى هذا الحد أو ذاك في مستوى تطور الطابع الاجتماعي وتاليا التباين بين المجتمعات ، في ظل العلاقة القائمة بين ثلاثية ( قوى الانتاج وأدوات الانتاج وتاليا اسلوب الانتاج ) وفق التصنيف الماركسي ، " فخصائص أو مزايا المجتمع البدويّ والمتوحّش. ..أنّ مستواه الاقتصاديّ لا يزال على درجة ابتدائيّة بحت فهو لا يعلو عن درجة سدّ حاجة الحياة مباشرة إلاّ قليلاً. ومن مظاهر هذه الدّرجة فقدان الصّناعة أو وقوفها عند حدّ صنع بعض الأدوات الضّروريّة.. وأسباب عيش الجماعات التي على هذه الدّرجة تقتصر على الضّروريّ ويندر أن تتعدّى إلى الحاجيّ فضلاً عن الكماليّ.. وأحوال هذا المجتمع، أو الجماعات، الاجتماعيّة هي بحكم الضّرورة متابعة لأحوالهم الاقتصاديّة ومطاوعة لها. فنظامهم الاجتماعيّ يقوم على الرّابطة الدّمويّة المنتهية بالقبيلة. والفرد في هذا النّظام ككلّ فرد آخر بدون فرق أو ميزة، أي إنّ قيمته هي في الغالب عدديّة عامّة لا نوعيّة خاصّة، لأنّ فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة، وكذلك نرى أنّ نظامهم يخلو من الحقوق الشّخصيّة والملك الفرديّ.. " هذا على افتراض أن مستوى المزيج السلالي متقارب من حيث الرقي أو الانحطاط ، مما يدفع بسعادة للقول :" لا بدّ للأرض من جماعة مؤهّلة للاستفادة منها. فحيث كانت الأرض خصبة والجماعة البشريّة عديمة الخبرة في الأرض لم ينشأ عمران، كما هو الواقع في أودية أميركا الخصبة الّتي ظلّت عديمة العمران ـــ تعترف الماركسية بهذه الحالة على لسان أنغلز في مؤلفه أصل العائلة والملكية والدولة ، كما مرَّ آنفا ـــ إلى أن جاءت أميركا أقوام جديدة راقية في خبرتها بطبيعة الأرض واستعدادها للاستفادة منها.." مضيفا " ومن هذا نستنتج أنّ الطّبيعة والجغرافية هما الطّبقة الدّاخليّة في تاريخ حياة الإنسان، فمع أنّهما تميّزان الجماعة تمييزاً واضحاً فإنّهما، فيما يختصّ بتاريخ الجماعة، لا تقدّمان الاضطراريّات إلاّ نادراً وفي حالات استثنائيّة ولكنّهما تقدّمان الإمكانيّات . إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة،." وعلى ما خلُص اليه ، يعتبر سعادة أن أبرز دليل على ذلك هو انتصاب قامة الانسان الذي كان الخطوة الأبرز في انقاله من الطور الحيواني الى الوحشي ، بينما يأتي اقتسام العمل بين الرجل والمرأة في الطور الأخير من مرحلة البربرية الخطوة الأهم في تحديد الاتجاه الى المدنية ، فاقتسام العمل ، لم يكن مجرد تجريد للمرأة من حقوقها في مرحلة العلاقة الدموية والانتساب للأم ، بل كان بدافع بروز شخصية الانسان (امرأة كان أم رجلا ) والذي ساهم في الدفع لهذا الاقتسام ، بل إننا نرجح أن يكون الدافع له هو المرأة لا الرجل ذلك أن مشاعية العلاقات الجنسية ، وبعد بروز شخصية الفرد ، دفع بالمرأة ، لاعتبارات شتى ، أن تختص برجل واحد دون الآخرين ، ذلك أن المشاعية قد بدت لها، في هذه المرحلة ،إهانة لها وحطاً من شأنها الشخصي في اباحة جسدها لمن يشاء ، وهذا بحد ذاته تحديدا لعلاقتها بالرجل الذي لم يكن هذا في صالحه ، كما نرى في استمراريته في علاقاته الجنسية المتعددة التي رافقته حتى وقتنا الحاضر ، كان القرار انثويا بحتا ، تحملت المرأة نتائجه بكل جدارة ، وما زالت الى يومنا هذا ، بهدف تكوين العائلة التي ساهمت بفعالية لانتقال المجتمع خطوة أخرى الى الأمام بظهور الملكية المولدة حق الارث ، هكذا نشأ "أساسان للكيان الاجتماعيّ الأوّليّ هما: نظام الوحدة الاجتماعيّة المنصرفة إلى الاهتمام بالغذاء الّذي هو قوام الحياة، بصرف النّظر عن أقسام العمل وهو حقّ الجماعة. ونظام الوحدة العائليّة المنصرفة إلى الاهتمام باقتسام العمل وهو بدء تنظيم التعاون. وحالة المرأة، على هذا المستوى الثّقافيّ، تدعو إلى تأمّلنا .. " كما يقول سعادة ، معتبرا أن المرأة قد فقدت جملة من ميزاتها في النظام الناشئ عن اقتسام العمل ومع ذلك فإنه يقر" بأن العائلة نظام اقتصاديّ قبل كلّ شيء.. قائم على قاعدة توزيع العمل الّذي ابتدأ في الأصل بين الجنسين.. ولولا هذا النّظام التّعاونيّ الاقتصاديّ لكان نشوء العائلة الموحّدة تأخّر كثيراً.. "
فعلى النقيض من الماركسية يخلص سعادة، بناءً على ما تقدم ، لجملة من التأثيرات البيئية على الجماعة بعامل الزمن :
1ـ النّظام الاجتماعيّ هو دائماً حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له ..
2 ـ أنّ التّطوّر الإنسانيّ، نشوءاً وارتقاءً، هو وفاقاً لمقتضيات تطوّرات الطّبيعة والبيئة..
3 ـ التّطور الاجتماعيّ، نشوءاً وارتقاءً هو وفاق لتطوّر التّفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادّية.. ،
4 ـ العقليّة الاجتماعيّة نتيجة تطوّرات التّفاعل الماديّ لتأمين الحياة الاجتماعيّة..
" وليبني قاعدته الأولى في علم الاجتماع : " لا بشر حيث لا أرض ولا جماعة حيث لا بيئة ولا تاريخ حيث لا جماعة
"الإنسان ــ المجتمع"
في ضوء ما تقدم ، يمكننا البحث في البناء النفسي (الروحي)الذي أقامه سعادة على القاعدة المادية (دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية ) لفلسفته الاجتماعية، ونقصد ( الانسان ـ المجتمع ) وبه تتكامل الرؤية المدرحية ( 1 ) التي قال بها .. يقول : " تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.. " ويضيف :" أنّ الدولة شأن ثقافيّ بحت.." ذلك أن " التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة.." وعليه فإن " ..البحث المنطقيّ العقليّ يرغّبنا في تتبّع أسباب نشوء الدّولة وردّها إلى الخاصّة الإنسانيّة النّفسيّة المعيّنة بالتّمييز بين أنانيّة المرء (نسبة إلى أنا لا اسماً لحبّ الذّات) الظّاهرة في استعمال [أنا] وبين الظّاهرة الّتي توجد [أنت] ماثلاً أمام [أنا].." ذلك أننا لا " نجد واقع الدّولة إلاّ حيث نجد في المجتمع قوّة فيزيائيّة تخضع أو ترهب.." لقد نشأت " الدّولة بعامل الحياة الإنسانية، ومنذ نشأت الدّولة أصبحت هي شخصيّة المجتمع وصورته.." مؤكداً على أنه ، على الرغم من أن الدولة شأن ثقافي لكنها في واقع الحال ليست " في ذاتها مقياساً للثّقافة العقليّة بل بما تنطوي عليه من حقوق.." وهنا بيت القصيد ، أي نسبة الحقوق الى الواجبات بغية تحديد المرتبة الثقافية التي يمكن من خلالها تصنيف الدولة أو الدول على وجه العموم .
بديهي في السياق ذاته، أن نلفت الانتباه الى أننا ندرس ها هنا الدولة القومية ، بمعنى آخر نظرية الدولة عند سعادة ، كما استخلصها من مجمل رؤاه الفلسفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بكل تفرعاتها ، فهي خلاصة تبقى في الحدود النظرية وتاليا تقبُلها للنقد والتغيير في كثير من تفصيلاتها كردٍ لتساؤلات تطرحها كثير من المتغيرات السياسية من جهة وتساؤلاتٍ يفرضها الوعي السياسي الفردي والمحلي والاقليمي والدولي على مستوىً واحد ..
إن السؤال الأبرز في مبحثنا هذا هو : ما تأثير عوامل نشأة الدولة وتطورها على مفهوم الدولة اليوم ، حقوقا وواجبات ؟ وهل يمكننا استخلاص قوانين ( مقولات )محددة تطورية تسري اليوم على مختلف الدول ؟ أم أن الدول حاليا ـ رغم تباين نشأتها وعوامل تطورها ـ تختلف عن كل ما يمكن استخلاصه من تاريخ الدولة نشأة وتطورا ؟ هل الصيرورة التاريخية للدولة تحكمها أم لا ؟ هل الدولة اليوم رهن بماضيها أم أن حاضرها هو الذي يقرر ماهيتها ؟ أم أن هذه الماهية تتحكم بها عوامل أخرى لا علاقة لها بماضيها ولا حتى بحاضرها مستقبلاً من حيث / أنها وجدت لتبقى / القاعدة الوحيدة التي تحكمها وتتحكم بها وتدفع بها أيضا لسلوكيات لا عهد لها بها ؟ هذه التساؤلات وغيرها الكثير تضعنا أمام تحديات معرفية لا بد لنا من خوض غمارها وبشكل مُتْقَنٍ مدروس منهجا ( وصفيا وتركيبيا ) للوصول لما يمكنه الاجابة الموضوعية على مختلف التساؤلات المطروحة .. لنكتشف ، معياريا ، كيف على الدولة أن تكون في واقع ماهي كائنة عليه ، بل وكيف يمكن التغيير في هذا المجال تحديدا ، وبديهي أن نحطات في مبحثنا هذا من أحكام الجهل بما نحن مقبلون عليه ، ذلك أن الجهل بما نتداوله ، يضعنا أمام تحديات لسنا بصدد بحثها والاجابة على تساؤلاتها ، ذلك أنها محكومة بمنطلقات أحكام الجهل ذاته المطلقة الرافضة من حيث المبدأ للآخر ، حوارا أو بحثا أو دراسة أو جدلا أو تحليلا أو نقاشا ..الخ .
وعلينا بادئ ذي بدء أن نُعَرِّفَ مجال ما نحن مقبلون على دراسته ، ونقصد : " السياسة " ، بما هي ميدان الدولة الوحيد والمظهر الذي تتمظهر به نشاطاتها المختلفة ..
تعريف السياسة :
ما السياسة ؟ سؤالٌ يضعنا أمام متجهاتٍ كثيرة ، كلٌ منها له منطلقاته ووسائله المعرفية وغاياته الأيديولوجية ..
هل السياسة فن الحكم أم علمه أم كلاهما معا ؟ أم أنها حكم المجتمعات المنقسمة على ذاتها أيديولوجياً ؟، أم هي التوزع السلطوي للقيمة ؟، أم هي احتمال أن يفرض شخص ( بدل فرد ) ارادته ضمن علاقة اجتماعية رغم الممانعة التي قد يواجهها ؟ ، أم أنها فردٌ يسوس آخر ؟ أم أنها أخيرا ـ وليس آخراً ـ هي الممارسة الاجتماعية للسلطة طالما أنها فنٌ أكثر منها علمٌ وطالما أن غايتها تبقى تحقيق أشكالٍ من التحالفات الممكنة بين الناس بدلاً من زرع الفتن ؟ وطالما أنها تقتضي التعاون بين مجموعاتٍ مختلفة في المجتمع لتحقيق مكاسب أو فوائد أكثر مما لو كانت تقتضي جواً تنافسيا بين تلك المجموعات كما هي في تعريف "بارسونز " ؟
هذه التعريفات للسياسة تعود في اختلافاتها للاختلاف في منطلقات بحثها أي للنسبة بين علوم الفلسفة والاجتماع والتاريخ ( أي مَنْ يقود مَنْ في هذه العلاقة الثلاثية ) ، أو للنسبة بين الفن وعلمي الاجتماع والاقتصاد (ثلاثية أيضا ) وهي ــ السياسة ــ أيضا عند سعادة تبقى في أجواء ما سبق طرحه في هذا الاجتهاد من حيث أن لكل قطب من أقطاب ثلاثيات سعادة دوراً تفرضه مستجدات المكان والزمان ، فسعادة لا يرجح قطبا على آخر إلا بناءً على دور محدد يحدده الثابت (المكان ) و المتغير (الزمان ـ ومجراه المجتمع ) والتابع ( الفرد ) وعليه فالسياسة عند سعادة ، وباعتبار أن دولته هي دولة قومية كانت " .. فن بلوغ الأغراض القومية وتحقيق الغايات القومية التي يجب على كل فرد أن يرتبط فيها لأنها رابطة المجتمع.. السياسة عندنا وسيلة لا غاية، وسيلة لبلوغ الأغراض القومية بأقصر الطرق وأقل التكاليف.. " ولأن " شرط الوضوح التعيين " ، هي علم ، يقتضي تعين ماهية الأغراض القومية ومن ثَمَّ تعين الطرق ،الوسائل ، الكيفية ، التي يتم من خلالها ضمان أقل التكاليف ، وعليه يمكن فهم السياسة على أنها ، من وجهة نظرنا " فن اقتناص الفرصة " والفرصة الجيدة هي الكم المعلوماتي الذي تمتلكه الدولة عن المحيط الدولي من جهة والمجتمعي الذي تقوده من جهة أخرى .
تعريف الدولة:
بداية لا بدَّ لنا من لفت نظر المتابعين ، لمدلولات المصطلحات الواردة أدناه على أنها قابلة للتغيير ( التطور ) في مدلولاتها ( مفاهيمها ) ذلك أنه وفق سعادة " في المبادئ التي تمت للإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد لأي قولٍ استبدادي مطلق لتقرير حقيقة انسانية أو لها علاقة بالإنسان ـــ المجتمع " والمطلق هنا هو المبهم ،وتاليا غير القابل للتغير أو التبدل أو التكيف أو التطور، يقول سعادة :" كل مطلق ليس واضحاً هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء. المطلق الذي هو شيء هو المطلق الواضح. فإذا وجدنا أمامنا مطلقاً غير واضح، إذا افترضنا أي مطلق افتراضاً وابتدأنا نحوم حول فهم هذا المطلق ومعرفته، فإننا قد عيَّنا مبهماً للخروج من جدل لم نصل فيه إلى الحقيقة. فكل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساساً لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير. " و" شرط الوضوح التعين .." أي أن نكون قادرين على فهم ما نحن مؤمنون به وأنه قابل للتغيير ، لأنه في الحال المعاكسة نكون أمام مطلق ثابت لا يتغير ولا يتبدل ،بما يعني أننا أمام طلسم مصمتْ لا حول لنا به ولا قوة ـ إرادة ، ونكون بالتالي قد عطلنا ميزة العقل الذي هو الشرع الأعلى في الانسان بما يذهب اليه سعادة قائلا : " لم يوجد العقل الإنساني عبثاً.لم يوجد ليتقيد وينشل. بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميز، ليعين الأهداف وليفعل في الوجود. وفي نظرتنا أنه لا شيء مطلقاً يمكن أن يعطل هذه القوة الأساسية وهذه الموهبة الأساسية للإنسان. العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي. هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة، فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والإدراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحط إلى درجة العجماوات المسيرة بلا عقل ولا وعي .."
الدولة بالتعريف :
هي مُجَمَّعْ مصالح مختلف المنضوين تحت سلطتها لأن وظيفتها عند سعادة " العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات .." وتبقى مرتبتها الثقافية رهن بنسبة الحقوق الى الواجبات ، يقول :" يجب أنّ ننظر إلى الحقوق إذا كنّا نريد أن نحصل على تحديد حقيقيّ للدّولة.." بغض النظر عن الشكل الذي تتمظهر به ، تيوقراطي أو دكتاتوري أو ديموقراطي أو تمثيلي أو تعبيري ..الخ ، ذلك أن " أشكال الحكم تتغير وتتطور مع تغيير أحوال الشعوب وتطورها.." يضاف لما تقدم أن الشكل ـ النظام " ليس مجرد تنظيم دوائر وصفوف.." ليس مجرد".. ترتيبات شكلية خارجية.. "بقدر ما " هو نظام الفكر والنهج، ثم نظام الأشكال التي تحقق الفكر والنهج.. " المتمثل في الدولة كنظام ــ الشكل ، وتاليا فالنظام ـ الشكل ليس دليلاً على مرتبة الدولة الثقافية ، الدليل الذي يفترضه سعادة هو نسبة الحقوق الى الواجبات بحيث ، كما أشرنا سابقا ، تتناهى الحقوق الى اقصى ما يمكن أن تصل اليه بينما تتدنى الواجبات الى أقل ما يمكن ، بالطبع تبعا للحالة التي تختصُّ بها هذه الدولة أو تلك ..
سبق وألمحنا ، في السياق أيضاً ، الى أن الدولة التي يسعى لها سعادة هي الدولة القومية ، يقول : ".. الدولة هنا هي الدولة القومية فقط. الدولة التي يصح القول فيها أنها قومية تشمل المجتمع القومي كله، ذا الدورة الاقتصادية الكاملة التامة.."
فلماذا يقول سعادة بالدولة القومية ؟ ، وليس بالدولة كما هي عليه اليوم ، سؤالٌ يفرض ذاته في عالم لم تعرف له الدولة مثيلا من قبل ، فقد شهد القرن العشرين ، انهياراً لإمبراطوريات شغلت حيِّزا مهما في التاريخ ، ونقصد الامبراطورية العثمانية والإمبراطورية البريطانية ، مما أدى لنشوء دويلات سميت بمصطلحات علم السياسة ،بــ"الدول الحديثة " (2) عكست في كل بقاع العالم ـ ومنها سورية الطبيعية ـ الأطماع الاستعمارية التي استدعت تجزئة المجتمعات الطبيعية الى كيانات أعجز من أن تقوم في وأد ذاتها ، مما أوقع العالم بمشكلات لم تكن معروفة في عهد الامبراطوريات حتى القديمة منها حيث " معدودية الدولة " كانت تقتضي اعترافا بعضوية مختلف أفراد تلك المجتمعات الطبيعية كأعضاء في الدولة ، بدئا من الإمبراطورية الرومانية ومرورا بالعثمانية والبريطانية والأوروبية عموما، ولما لم تكن الدول الحديثة دولاً بالمعنى الحقوقي والدستوري والاشتراعي والاداري ، المستخرج من تجربتها في ادارة شعوبها التي لم تكن قد الفت الاستقلال المادي والنفسي والخارجة للتو من تاريخ استعماري استمر قرونا طويلة ، فقد بدت كإقطاعات سياسية كلٌ منها تأتمر بأوامر منشئها ، حتى أنها استعارت قوانينها ودساتيرها من مستعمرها وحاولت مطابقتها مع معتقداتها الدينية والعنصرية وأوهام ماضيها الذي لم تكن قد تبينت منه إلا ما جاد به موجدها به عليها ،فقد عانت مما آلت اليه من مشكلات أبرزها المشكلات العرقية / العنصرية / والدينية والاقتصادية والثقافية وغيرها ووقوع مئات آلاف الضحايا في حروب محلية وأهلية عكست أيضا بما لا يقبل الجدل والنقاش مصالح أمم " الديموقراطيات الغربية " التي تحاول فرض ثقافاتها على مختلف الشعوب لتسويق سياساتها الاستعمارية كالتسويق مثلا للديموقراطية والحرية والمساواة الجنسية ...الخ
من هنا كان سعادة من أوائل الذين نادوا بوحدة العالم على أساس وحداته الطبيعية التي تحول دون ما تقدم بكل تأكيد ، يقول " القوميّة هي الّتي عيّنت شكل دولة البلاد العصريّة ووسّعت دائرة المساهمة في الدّولة أو معدوديّتها إلى حدود لم تكن معروفة من قبل.. " ذلك أن " الأمّة هي أتمّ متّحد .." و " المتحد هو اللفظة التي تفيد التجانس والتلاحم والتي أريد بعد الآن أن أقتصر فيها على الواقع الاجتماعي .." و" لأنّ الأمّة تنطوي على عنصر عامّ، بل حيويّ لها، مفقود من المتّحدات الأخرى ( ويقصد الدول الحديثة ) ، هو العنصر السّياسيّ.." حيث أرقاها على الاطلاق " المصالح السياسيّة وأكبر جمعيّاتها، الدّولة، التي تشمل جميع مصالح المتّحد الأتمّ الّذي هو الأمّة.." يقول :" ولكنّ القوميّة لم تقف عند حدّ القضاء على سلطة الإقطاعيين وتوحيد المرجع في الملك، الّذي أخذ تفرّده في السّلطة يتعاظم حتّى أصبح شديد الوطأة، بل سارت نحو الهدف الّذي يبرر وجودها وهو إقرار أنّ السّيادة مستمدّة من الشّعب وأنّ الشّعب لم يوجد للدّولة بل الدّولة للشّعب. هذا هو المبدأ الدّيمقراطيّ الّذي تقوم عليه القوميّة. فالدّولة الدّيمقراطيّة هي دولة قوميّة حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة عامّة ناتجة عن الشّعور بالاشتراك في حياة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة. الدّولة أصبحت تمثّل هذه الإرادة. فتمثيل الشّعب هو مبدأ ديمقراطيّ قوميّ.. "
لذلك كان لا بدَّ من التطرق لما تعنيه هذه الدولة نشأة وتطورا ، من وجهة نظر سعادة ، لبلوغ المرتبة الثقافية التي هي عليها في الوقت الراهن ولبيان موقف سعادة وامتيازه في نظريته السياسية عن علماء الاجتماع الآخرين، ذلك أنه لم يقصر أبحاثه وتاليا نظريته على ما اقتصر عليه غيره في كون المصدر الرئيس لمشروعهم السياسي التاريخ الغربي ( الاغريق والرمان ) بل تناول العالم القديم بكليته وتطرق الى العالم الجديد في أمريكا وتحديدا حضارة الانكا والازتك ، وبهذا كان امتيازه على كلٍ من النظرية الوظيفية والنظرية الفيبرية ، ولأننا نعتقد أن هناك تداخلاً شديدا بين النظريات الثلاث ، لابد من جلائه لتتضح ماهية الرؤية المدرحية لسعادة ..
نظريات نشأة الدولة :
تشكل ثلاثية الثابت والمتحول والتابع عند سعادة بوتقة جامعة صاهرة لمختلف النظريات السياسية التي تطرقت لنشأة الدولة وصيرورتها التاريخية ـ على تناقضاتها وتضادها واختلافها ـ ذلك أنها ـ العلاقة ـ لا تقدم قطباً أو عنصراً من عناصرها على أنه رائدها (على عكس النظريات الأخرى كما سيأتي ) بل تفسح المجال رحباً لكل عنصر بأن يتقدم على الآخرين وفقا للمكان ـ البيئة (كثابت) والزمان ـ ومجراه المجتمع ـ (كمتحول) وأيضا الفرد (كتابع) وفي علاقة تبادلية ديموقراطية بحتة تفرضها مستجدات ديناميكية حركة الحياةٍ لأي من عناصرها .
نشأة الدولة عند سعادة :
كما سبق وأشرنا ، أن نقطة انتقال الانسان من طور الحيوانية الى طور الانسانية ، عند سعادة، كان بانتصاب قامته واطلاق يديه في سد حاجته مداورة ، فإنه ها هنا يعيد نشأة الدولة للخاصة النفسية الانسانية التي / توجد أنت ماثلا أمام أنا / دون الخوض في موجبات هذا / المثول / أكان بدافع كارزما الفرد أم بما يتمتع به من قوة فيزيائية أكسبته المكانة التي أوجبت بروزه كشخصية متميزة ، وعلى الرغم من أنه يشير الى أن الدولة ترافقت بشكل أو بآخر مع وجود القوة التي غدت سلطة "تخضع وترهب " لكنه ، في تتبعه لنشأتها يبقى في حدود تعريفه لها كشأن ثقافي ، ولكونها كذلك ، فإن الحقوق تبقى هي بوصلته في تتبع تطورها من حالة بدائية أولية الى الحالة التي هي عليها اليوم ، يقول :" ليست الدّولة في ذاتها مقياساً للثّقافة العقليّة بل بما تنطوي عليه من حقوق. فلا بدّ لنا من إلقاء نظرة على بداءة الحقوق لكي نتمكّن من فهم نشوء الدّولة وتطوّرها في ظروفهما. يجب أنّ ننظر إلى الحقوق إذا كنّا نريد أن نحصل على تحديد حقيقيّ للدّولة.."
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ تجدر الاشارة الى أن سعادة يستخدم مصطلح ( المادي ـ الروحي ) مجازا بدل ( المادي ـ النفسي ) ذلك أن المصطلحين يحملان مفهومين متناقضين تماما ، فالروحي ، بما يعنيه من انفصال تام عن الجسد ، بينما يأتي النفسي للدلالة على وحدة النفس والجسد ، وهذا الأخير هو ما يؤمن به سعادة ويناضل من أجله .
(2) ـ يطلق مصطلح " الدول الحديثة "على كافة الدول التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى ، مثالها في سورية الطبيعية " الشام والعراق ـ بما فيه الكويت ـ والاردن وفلسطين ولبنان وقبرص " وهي دولٌ تعاني من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ، فالكيانات الناشئة أضحت جزئا من المفهوم العام وحلَّ التمايز بين كيان وآخر مكان الوحدة الروحية الجامعة ، ومع مرور الزمن بات التعصب الكياني مظهرا من مظاهر الحياة اليومية ، فالتجزئة السياسية جزأت المجتمع الواحد لعدة مجتمعات وكلٌ منها يعاني ما يعانيه من نزوعات للوحدة الجزئية كالنزوع للوحدة المذهبية أو العرقية التي عملت التجزئة على تفتيتها ، فالموارنة على سبيل المثال باتوا في كيانين والعلويون كذلك والدروز في ثلاثة كيانات والشيعة في أربعة والشركس كما الأرمن كما التركمان كما الأكراد في كيانات عدة ، وكل منها عصي على الاندماج في وحدة الكيان ـ بل ويطالب بانفصاله، حتى العائلات باتت موزعة على كيانات عدة ، وكلٌ مما تقدم راح يؤسطر حكايته العرقية او المذهبية أو العائلية بشكل يحول دون استقرار الكيان ذاته ويزيد من مشاكله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وقُولبت الدساتير والقوانين الكيانية وفقا لهذا النزوع أو التضاد والتناقض فلا حالت دون الأزمات الناشئة ولا توافقت مع الواقع المعاش وباتت الفرقة في الكيان الواحد عنوانا للنشاط اليومي ..
نشوء الدّولة وتطّورها
" الإنسان ــ المجتمع "
تبقى على الدوام ثلاثية سعادة دليلنا في بيان ما تقدمه رؤاه الفلسفية / اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا / ، كما وتبقى خصائصها منهجه في ايضاح ما تحمله هذه الرؤى ، أي تداوليتها للقيادة وفق الظروف والأحوال والأوضاع أو على وجه العموم مستجدات عوامل صيرورة الحياة ، فـ/الثابت والمتحول والتابع / ليس بمنفصل أحدها عن الآخر ، بل في علاقة تفاعلية بين بعضها البعض ،هي أقرب ما تكون للعلاقة الديموقراطية التداولية للسلطة ، بمعنى آخر ، أنه عندما يتنحى إحداها فاسحا المجال ليتبوأ آخر سدة القيادة ، فلا يعني تنحي دوره عن الفعل ، بل على العكس تماما ، يبقى دوره فاعلاً بتوجيه من القائد الأعلى في العلاقة التفاعلية ، وليس من مثال نقدمه على ما ذكر سوى تنحي الثابت (البيئة) عن دوره في تقرير متجهات الصيرورة الانسانية ، ففي بحث سعادة نشوء الدولة ، يقول :" التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة.." هنا يُعطي سعادة القيادة للعوامل النفسية والفردية .." وهو هنا يقترب من النظرية الفيبرية في ابرازها لأهمية الفرد ولدوره في الحياة الاجتماعية ، لكنه ، وفي بحثه عن الحقوق كمعيار للمرتبة الثقافية للدولة ، يُبرز دور الفرد (التابع) ، حيث (المتحول) ، المجتمع ، في طور التكوين ، وهذه مسألة لا يجب أن تغرب عن بال المتابع ، فدور الفرد يبقى هو الرائد في مرحلتي نشوء الدولة الأولية والتاريخية ، ليتنحى ـ كما سيلي ـ للمتحد ( الدولة الفومية ) بعد تكونه ـ دون أن يفقد أيٌ من خصائصه التفاعلية ، أي التأثير في مجريات الأوضاع أو الأحوال ـ فالفرد ـ في الدولة الأولية والتاريخية ـ هو الدولة على ما ذهب اليه لويس الرابع عشر/ أنا الدولة/ . وعليه ، فسعادة إذ يتناول الدولة شكلا ووظيفة ، فهو يتناولها من الوجهة الحقوقية، من وجهة مدى تمثيلها للمصلحة العامة كمنحى لتطورها نحو الوحدة القومية بسلطة الفرد ، وبأي صفة كانت ، ملكا أو قائدا أو مفكرا ..
ينتقل سعادة سريعا في بحثه عن الحقوق من حالة الفرد المتماهي في الجماعة حيث الحق والدين شئ واحد وحيث الفرد مجرد قيمة عددية لا أكثر، كما يتضح بعد ذلك في المرحلة الطوطمية ،حيث زواج الطواطم بعضها ببعض هو القاعدة الأولى التي تنتظم من خلالها القبائل والعشائر ، حيث المكان هو الجامع ، ولا شئ آخر سواه ، ومن هذه المرحلة الى أولى الحقوق وهي الحقوق الأمومية وهي هنا حقوق قبلية أو عشائرية وليست حقوقا شخصية ، تتمتع بها المرأة ، فهي مباحة لرجال الطواطم الأخرى ، وعلى الرغم من ذلك ، فبدأة الحقوق تعود للمرأة التي اعتبرت الإباحية امتهانا لها ، فرفضتها لتختصَّ برجل واحد ، فكانت سابقة للرجل في ادراك كيانها الشخصي ، لكن وعلى الرغم ، أيضا ، من كونها المسبية الأولى ، كما يشير سعادة ، كانت العامل المهم في تكوين الحياة الزوجية التي اعطت الرجل مكانته ، والتي استغلَّها في تثبيت حقوقه ، والذي بات يشعر بقوته ،بسيادته على المرأة أولا وبما يملكه من ممكنات الحياة المادية ثانياً ، هكذا بدأت الحقوق الفردية بالظهور ، خاصة وأن هذه الحقوق باتت هي السلطة الاجتماعية التي تنتظم حولها مختلف الحقوق الأخرى وتتفرع عنها ، ونقصد (العادة) ، والتي أدت في تطورها لظهور الراس في القبيلة أو العشيرة الذي قضى على الدستور الطوطمي المتعارض وسلطته ..
العادة (وهي اتفاق جمعي طوعي على منحى من مناحي الحياة التي تضمن وحدة الجماعة ) ، وهي عند سعادة ، أولى القوانين ، وهي مشتقة من ظروف الحياة وضروراتها ،يقول:" تنشأ التّقاليد من اختبارات الحياة والاعتقادات بشأنها وتنشأ العادات من ظروف الحياة واستحسان بعض أساليبها ورموزها.." وبما أنها كذلك ، فالقوة هي التي تعطي العادة مواصفاتها وخصائصها التي يفرضها بشكل مباشر أو غير مباشر ، مالكها أو مُقَرُرُها ، لذا كان الجنس القوي في المجتمع الأولي هو الرأس الذي تجتمع فيه قوة العادة ،التي مايزت بين الرجل والمرأة في الحقوق أولاً ،وبينه وبين الرجال الآخرين ثانيا ، فكانت السلطة له، لتتنحى المرأة لأعمال البيت والتربية والعناية بملكية الرجل ، والذي لم تكن القوة الفيزيائية والمادية فقط هي المعين له ، بل كان لا بدّ له من الخبرة في بسط سلطته على المجموع ، ولم تكن الخبرة سوى السن الذي يُكسبه القدرة على التمييز بين ما هو في صالح القبيلة أو العشيرة من العادة ، وليشكل الاجماع على ذلك القاعدة الشرعية للسلطة ، فبداءة الدولة عند سعادة تتمثل في ثلاثية (الجنس ، السن ، الشخصية )، مقابل الثلاثية الممثلة لها وهي (القضاء والتشريع والتنفيذ )، والتشريع ، في هذه المرحلة لا ينفصل عن العرافة والدين ، أما الدولة من حيث الشكل فهي بدون شك غير منفصلة عمّا قامت عليه ،( الجنس والسن والشخصية ) ،
يدرس ، سعادة ، الدولة وتطورها من الدولة الأولية الى الدولة التاريخية وأخيرا الدولة القومية ،الأولى هي الدولة الأولية ، حيث "نجد وظائف الدّولة تقابل بتشكيل الدّولة من الشّيخ أو الأمير وشيوخ القبيلة أو العشيرة واجتماع الشّعب. وحيث يتّسع نطاق الدّولة يسقط اجتماع الشّعب ويبقى الأمير والشّيوخ. " وللدّولة الأولية ”.. ثلاثة أشكال رئيسيّة هي الدّيمقراطيّة والأوطقراطيّة والأرستقراطيّة، أو هي حكم الشّعب وحكم الفرد المطلق وحكم الأقليّة المفضّلة.. هكذا الدّولة الأوّليّة في أشكالها السّياسيّة .." ولما كانت تفتقر للإدارة والتي بقيت متأخّرة جدّاً عن النّظام الدّستوريّ لذا فإنه " لا يصحّ مطلقاً أن نطلق على الدّولة الأوّليّة اسم منظّمة فهذا الاسم تحتفظ به الدّولة التّاريخيّة الّتي شكّلت الإدارات وسجّلت الحقوق القانونيّة.. " كما و " نظّمت الدولة المركزيّة ذات السّلطة الفرديّة الإدارة العامّة والجيش.. والحقيقة أنّ الدّولة ما كادت تشعر بوجودها وكونها سلطة في المجتمع حتّى أخذت تسيطر على المجتمع وتصرفه في أغراضها. فالدّولة هي الّتي تشكّل المجتمع وتعيّن مداه وتكيّف شؤون حياته وتمثّل شخصيّته. هكذا نجد الدّولة المنبثقة مع فجر التّاريخ، وهكذا تنشئ الدّول التّاريخ .." ، وكما سبق وأشرنا لما يقوله سعادة بهذا الصدد " لا تاريخ حيث لا جماعة " فسيكون التاريخ المكتوب دليلنا في ما نحن ذاهبون اليه ، فالتاريخ يبتدئ بتشكيل الدّولة التّاريخيّة وذلك ".. بالانتقال من التنظيم العشائريّ إلى دولة الأرض، وبتحوّل الأمير ذي القوّة السّحريّة الخرافيّة إلى ملك هو الإله أو كاهنه الأعلى " وبطبيعة الحال فقد طُبِعَتْ " الدّولة التاريخيّة في بدء نشوئها بطابع الاستبداد، لأنّ الدّولة بطبيعتها قوّة والقوّة تطلب دائماً السّيطرّة .." خاصة وأن طبيعتها كانت مستمدة من قوى فوق الجماعة " فهي كانت شيئاً فوق المتّحد الاجتماعيّ وكانت تدّعي سلطة من عالم فوق هذا العالم.." ومع ذلك ، فقد ظهر الصراع على السلطة في شكله الأولي بعدما أرتقت أحوال الجماعة الاقتصادية . بظهور طبقة الملاكين حيث بدأ الصراع على السلطة بمزاحمة الملك على سلطته على الرغم من كونه هو كل شيء ، فالخطط ، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، كانت خططه ، " وأخبار حمورابي تدلّ على كثرة ما كان يمرّ على يدي الملك من الشّؤون. فهو الّذي كان يهتمّ بالأعمال الزّراعيّة كالرّيّ وبناء المخازن لأيام الجدب وما شاكل وهو مرجع كلّ أمر كبير أو صغير.." لذا كان الفوز من نصيبه في هذا الصراع ، مما أدى لتفرده في السلطة وكان لهذا التفرد ، كما يقول سعادة " الشّأن الأعظم في تنظيم الدّولة وترتيب الإمبراطورية "بل ويضيف ، مؤكدا دور الفرد ".. والحقيقة أنّنا نجد جذور الدّيمقراطيّة الحديثة في سلطة الفرد الّتي أنقذت السّيادة من مطامح الأقليّة الممتازة.." كما وأن " سلطة الفرد كانت دائماً أقرب إلى الدّيمقراطيّة من سلطة الأرستقراطيّة المكوّنة طبقة ممتازة.. أنّ الدّولة الإمبراطورية عرفت السّيادة بمعنى التّملّك وحوّلت الثّروة العامّة إلى ملك خاصّ ولكنّ السّلطة الفرديّة أنقذت الشّعب من استبداد الطّبقة، حيث وجدت.."
جديرٌ بنا أن ننوه الى أن الدولة التاريخية تبتدئ بظهور المدن ، أي الدولة ـ المدينة ، وتمتد في التاريخ حتى منتصف القرن التاسع عشر .
في الدولة ـ المدينة ، في بابل وآشور ونينوى ..في صور وصيدون ، في أثينا و إسبارطة وروما وقرطاجة ، أخذت الحقوق في الظهور رويداً رويداً وتحديدا في الدولة ـ المدينة البحرية ،حيث " تحوّلت الرّابطة القبيليّة القديمة إلى الرابطة الاجتماعيّة الواسعة.. فزال باكراً ذلك الخضوع الأعمى للملك وزالت عن الملكيّة تلك الصّبغة الإلهيّة الّتي كانت لا تزال ترافق الملك والأسرة المالكة في الإمبراطوريات البرّيّة.. وأصبح الملك فيما بعد ينتخب انتخاباً لمدّة الحياة، فكان ذلك أصل الدّيمقراطيّة والجمهوريّة.. فحقوق أبناء المدينة الأحرار في انتخاب الملك وفي الاجتماع لتقرير المسائل الهامّة، كانت حقوقاً مشروعة وإن كانت غالباً اسميّة أكثر منها فعليّة.. في هذه المدينة ازدادت الحركة الاجتماعيّة والاختلاط الاجتماعيّ .. والاتجاه نحو الدّيمقراطيّة .. التي ارتقت في قرطاضة إلى وضوح الحقوق المدنيّة والحقوق الشّخصيّة مع بقاء الدّولة شيئاً متميّزاً عن الشّعب، مؤسّسة لا يمكن أن تعرّض لعبث الجمهور.. " وبعد أن تم اعتماد تمديد معدوديّة الدولة (عضوية الدّولة) في الدولة الرومانية ، إلى الملحقات وتكوين وحدة سياسيّة تحفظ روح الإرادة العامّة.. غدت هذه المعدودية لكافة أبناء الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور السوري كركلاّ..
وبانقسام الأمبراطورية الرومانية الى شطرين غربي وشرقي ، يبدأ الشطر الغربي بالتفكك ، بينما الشطر الشرقي يستمر على نحو من اقتسام السلطة بين رجال الدين والملك ، ويغرق في مبحث اللاهوت ولتظهر في الغرب الولايات الاقطاعية ولتغدو مصلحة الأمير الاقطاعي هي المصلحة العليا بدل مصلحة الدولة ، لكن ما لبثت هذه المصلحة أن تعرضت للمنافسة أيضا من قبل سلطة رجال الدين الذين تمكنوا من العقلية العامة لمختلف الشعوب الغربية فكانت خاضعة خضوعا مطلقا للدين المتمثل برجاله وتقولاتهم ، حيث ساهمت هذه العقلية في سيطرة رجال الدين على مجمل الإقطاعيات التي ظهرت على أنقاض الإمبراطورية، ولقد حاولت المؤسسة الدينية ، في الشرق والغرب ، الجمع بين متناقضين ، السلطة الروحية والسلطة الزمنية ، فلم توفق بذلك إذ نهضت في وجهها الحركات الدينية الاصلاحية في الغرب بينما عانى الشطر الشرقي ، والذي دام قرابة الألف عام ، من هجمات الدولة الاسلامية الناشئة ومن ثم اجتياحات المغول بعد تفكك الخلافة لتسيطر الدولة العثمانية بعد ذلك على مختلف مقدراته ، والتي بدورها كانت تحت تأثير المتغيرات في الغرب والتي ما لبثت أن ظهرت على مثالها الغربي دويلات استقلت فعليا عن سلطة السلطنة ، وحتى منتصف القرن التاسع عشر ، نبقى في دائرة الدولة التاريخية ، حيث ظهرت الحركات الاصلاحية الدينية بعدما فشل رجال الدين من التوفيق بين متناقضي ، السلطة الروحية والسلطة الزمنية ، واتخذت هذه الحركات منحى الاستقلال القومي عن روما وتبعتها حركات سياسية واجتماعية وفكرية وثقافية تؤجج في معتنقيها روح الاستقلالية والتفكير العلمي متأثرة بالمكتشفات الجغرافية التي غدت ثرواتها تصب في ساحة الغرب المنفتح على المعرفة والبحث والتساؤل حول مختلف مشكلات حياته ، وفي هذا يقول سعادة : " لم ينقذ الدّولة من هذه الفوضى في الغرب إلاّ الاتّجاه نحو المدينة، فنشوء المدن ونموّها والعمل الصّناعيّ والاتّجار أوجدت المحيط والجوّ الصالحين لحرّية العمل وتبادل الأفكار والمعارف. إنّ المدينة كانت دائماً أصلح مكان لنموّ الفكرة الدّيمقراطيّة. وهي المكان الوحيد الّذي يمكن أن تتمركز فيه الحياة السّياسيّة.." في المدينة الصناعية سقطت مختلف المفاهيم التي تعارضت والدولة وتحولت الإصلاحات الدينية لحركات اجتماعية وسياسية خرجت على المألوف فظهرت تيارات فكرية ثقافية فلسفية تطرح تساؤلاتها حول الوجود ومشكلاته ، وتجد في مختلف البنى الاجتماعية مؤيديها ، فكان ذلك بمجمله الطريق الى عصر جديد هو عصر الديموقراطية ونشوء القومية وكما يقول سعادة " القوميّة هي الّتي عيّنت شكل دولة البلاد العصريّة ووسّعت دائرة المساهمة في الدّولة أو معدوديّتها إلى حدود لم تكن معروفة من قبل. وتحت تأثير عوامل القوميّة الآخذة في النّشوء أهمل النّظام الإقطاعيّ وقويت الملكيّة المركزيّة. لأنّها كانت دائماً أقرب إلى تمثيل وحدة الأمّة. وسلطة الفرد كانت دائماً أقرب إلى الدّيمقراطيّة من سلطة الأرستقراطيّة المكوّنة طبقة ممتازة.."
الدّولة الدّيمقراطيّة القوميّة:
يقول سعادة " مع نشوء المدن ونشاط التّجارة والاحتراف ونهضة الاختراعات، دخل التّمدّن في طور جديد زعزع مؤسّسات كثيرة. فالتّجارة والاحتراف زعزعا النّظام الفرديّ والعائلة القائمة بأود نفسها والاتّجاه نحو المدن وحرّر الأرقّاء وأبطل الاعتماد على سيدّ الأرض، واختراع البارود قضى على مكانة الفرسان النّبلاء .. واختراع الورق والطّباعة فتح الأعين والبصائر وأيقظ الشّعور. ومن هذه العوامل جميعها تكوّنت الطّبقة الوسطى وأخذت طبقة الملاّكين والإقطاعيّين تضعف وقويت سلطة الملك.
إنّ استيقاظ الشّعور بالوحدة الحيويّة والمصلحة الواحدة والرّابطة الواحدة بالحياة في أشكالها وأسبابها واتّجاهها جعل الجماعة تدرك وجودها وجهّزها بوسائل التّعبير عن إرادتها فكان ذلك بدء نشوء القوميّة..."
وعلى النحو الذي حددت فيه البيئة الطبيعية ظهور الدولة الأولية ، كان الفرد العامل الذي طبع بل وحدد الدولة التاريخية ، ودفع لاعتماد معدودية الدولة والتي بدورها مهدت الطريق لنشؤ الشعور بالاختلاف بين متحد وأخر ، وبدا واضحا التمايز بينها في مدى المشاركة والمساهمة في مختلف مناحي السلطة ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ـ كما يقال ـ فقد تبوأ سبع سوريين عرش الإمبراطورية الرومانية ، أبرزهم كانت "جوليا دومنا " ومنهم كركلا الذي مدد المعدودية ، كما أشرنا سابقا ، الى كافة الداخلين في عداد هذه الإمبراطورية ، مما دفع بالإمبراطورية العثمانية للتنبه لهذه الميزة فكان أن اعتمدت مبدأ عدم جوازية أن يكون أحد من رعاياها السوريين في أية مرتبة سياسية عليا فيها ،على الرغم من معدوديتهم كأعضاء في الدولة لجهة كونهم " مسلمين " ، فلم يتولى سوري واحد حتى مرتبة والي لأي ولاية أو سنجق سوري وفق التقسيمات التي اعتمدتها في سورية الطبيعية إلا ما ندر ولفترات قصيرة لا تتعدى السنة الواحدة ، باستثناء بعض الإقطاعيين الذين استطاعوا كسب ود الباب العالي وحولوا اقطاعياتهم الى شبه دولة أو إمارة على نسق المعنيين الذين قضت عليهم السلطنة لنزوعهم للاستقلال أما الشهابيين الذين كانوا موالين بالمطلق للسلطنة في لبنان فقد استمروا في حكم اقطاعيتهم كذلك آل العضم في دمشق ، وفي فلسطين كان ظاهر العمر الذي خاض حروبا عدة في سبيل الاستقلال فكان أن انتهى قتلا بعد معارك ضارية تجاوزت حدود اقطاعيته ..
لم يكن حال الغرب كما كان في الشرق ،( ماكس فيبر في تسائله : " لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط ؟ بمعنى آخر: لماذا تطورت العقلانية في هذه المنطقة من العالم أكثر مما حصل في سواها؟ : ما هو السبب في أن المجتمعات غير الغربية لا هي علمية ولا هي فنية ولا هي سياسية وكذلك ليست متطورة اقتصاديا) بهذه العقلية خطى الغرب خطوات رائدة في هذا المجال لجهة الاستقلالية عن رومة أولا بظهور الحركات الاصلاحية الدينية التي اكتست بكساء النزعة القومية ، مهما قيل أنها دينية ، فقد طُبِعَتْ هذه الحركات بطابع نظرة مُتَّحَدِها الى الحياة والكون والفن ،وحورت الدين لما كانت تصب فيه تلك النظرة ( ماكس فيبر في التمييز بين البروستانتية الكالفانية والكاثوليكية ... (( لابد هنا من الاشارة الى كيفية تحوير المفاهيم الدينية المسيحية في الغرب بما يتوافق والنزوع القومي ، فمبدأ " الدولة للشعب وليس الشعب للدولة جاء تحويرا لقول المسيح السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت ، كما يمكن القول أن "روح القوانين " جاء تحويرا لقول بولس الحرف يقتل أما الروح فيحي ))، وثانيا بانحياز العامة ـ الشعب ـ الى جانب الملكية في صراعها مع الارستقراطية الاقطاعية المستبدة حيث مهدت السلطة الفردية الطريق للدولة القومية ، يقول سعادة :" إنّ مصلحة الشّعب ومصلحة الملك كانتا، بطبيعتهما، ضدّ مصلحة الأرستقراطيّة الإقطاعيّة الاستثماريّة المتسلّطة المستعبدة.. والّتي كانت حائلاً قويّاً دون ظهور الإرادة العامّة الآخذة في النّمو والشّعور بنفسها." وتاليا أصبح للعامة ـ الشعب ـ " رأي وإرادة، وهذه الإرادة شرَعت تميل نحو الملك، لأنّ الملك كان يمثّل وحدة الدّولة ووحدة السّلطة ووحدة المصلحة ووحدة الشّعب " لكن هذا الميل للسلطة المركزية في الدولة ، قوّى من سلطة الملكية التي ازدادت تفردا بها ،وأرهقت الشعب في استبدادها ، مما أدى بطبيعة هذه التحولات الجذرية في العقلية العامة لبلورة نواة التمايز بين المتحدات الاجتماعية بعضها عن بعض ، كما وأن إقرار مبدأ " أنّ السّيادة مستمدّة من الشّعب وأنّ الشّعب لم يوجد للدّولة بل الدّولة للشّعب..".مهد الطريق أيضا لتغيرٍ في مفهوم الدولة التي لم تعد وفق سعادة " تمثّل التّاريخ الماضي ولا التّقاليد العتيقة ولا مشيئة اللّه ولا المجد الغابر، بل مصلحة الشّعب ذي الحياة الواحدة الممثّلة في الإرادة العامّة، في الإجماع الفاعل، لا في الإجماع المطاوع.. هذا هو المبدأ الدّيمقراطيّ الّذي تقوم عليه القوميّة. فالدّولة الدّيمقراطيّة هي دولة قوميّة حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة عامّة ناتجة عن الشّعور بالاشتراك في حياة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة. الدّولة أصبحت تمثّل هذه الإرادة. فتمثيل الشّعب هو مبدأ ديمقراطيّ قوميّ.."
يقول سعادة :" كانت الدولة قبل نشوء القوميّة إرادة خصوصيّة تفرض نفسها على المجموع الّذي تشمله، أمّا بعد نموّ القوميّة فقد أصبحت النّظام والهيأة الممثّلين لإرادة الأمّة.."
كان للثورة الفرنسية اليد الطولى في تنبيه الشعوب لمبدأ التمثيل السياسي والذي كان قائما على مبدأ " أن الدولة للشعب وليس الشعب للدولة " والذي بدوره مهد السبيل لفصل السلطات الذي قدم " منتيسيكيو " اطروحتها في كتابه " روح القوانين " مرجحا السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية والسلطة القضائية على الاثنتين معا ،وغدت عضوية الدولة حقٌ من حقوق كل فرد من أفراد الدولة بالولادة . وبنمو الشعور بالتمايز والوحدة بدى واضحا الشعور بروحية الجماعة وشخصيتها ـ القومية التي أعادت صياغة مفهوم الدولة كنظام وهيئة ممثلة لهذه الروحية وهذه الشخصية , ولم تكن القومية مجرد شعور ، بل أضحت تعبيرا عن كيانٍ له مواصفاته وخصائصه ـ المتحد الاجتماعي . هكذا تنحى الفرد عن قيادته كتابع للمتحد كمتحول في ( ثلاثية سعادة الثابت والمتحول والتابع ) ، يقول سعادة :" فالدّولة وحكومتها ليستا مظهرين اجتماعيّين نهائيّين، بل تقومان على ما هو أعمق منهما، على حياة المتّحد وإرادته.. وإذا كانت الدّولة مظهراً سياسيّاً من مظاهر الاجتماع البشريّ فالأمّة واقع اجتماعيّ بحت.. "
هذا التطور في مفهوم الدولة ـ المتحد ، كان القانون الطبيعي الذي سارت عليه مختلف المجتمعات في ما بعد ، وحددت في ضوئه الحقوق والواجبات لأعضائها واقتبست منه مختلف مقولاتها في بيان هويتها التي تميزها عن غيرها من المجتمعات ، واعتمدته الدول الناشئة ، قاعدة لشرعيتها التاريخية ، (أبرز الثورات بعد الثورة الفرنسية ، كانت الثورة الأمريكية على الإمبراطورية البريطانية ، فالخليط من الأوروبيين والأسويين ، بعد أن جبلته الحياة شعر بمدى التمايز عن الإنكليز ، على الرغم من أن أكثريتهم كانت انكليزية وايرلندية ، لكن البيئة الطبيعية الأمريكية كانت قد فعلت فعلها في إحداث التغيرات الجذرية في العقلية الأوروبية التي تأمركة وغدت شعورا مستقلا بل ومغايرا لما عهده الأوروبيين بأنفسهم ) و مايزت بين متحدها وبين معدوديتها إقطاعا من الإمبراطوريات القائمة حتى ذلك العهد ، العثمانية والبريطانية تحديدا ، فاندلعت الثورات في كل مكان شرقا وغربا ونشبت الحروب في سبيل السيطرة وإعادة حركة التاريخ الى الوراء ـ حروب فرنسا النابليونية ـ الى عهد الإمبراطوريات الأولى، أو لاستكمال حدود بيئتها الطبيعية ، وكما كانت الحملات التي شنها ملوك بابل وأشور استكمالا لدورة الحياة اجتماعية ـ الاقتصادية أو ما عرف "بالمدى الحيوي" للأمة ، كذلك كانت الحروب التي خاضتها مجمل الدول الأوروبية في ما بينها في القرن السابع والثامن والتاسع عشر ،مجرد استكمالا للمدى الحيوي ، وبعضٌ منها ما يزال موضع التباس بين الدول ، الألزاس واللورين بين فرنسا وألمانيا ، وإقليم الباسك أو ما يعرف بكتالونيا في اسبانيا وما بين ايرلندا وبريطانيا ،والحركات الصقلية في ايطاليا وما بين اليونان وتركيا ، إضافة للكثير من المناطق المتنازع عليها ،كشمير ، واقليم كارباخ ، وجزر الفوكلاند.. بحيث يمكن القول أن المدى الحيوي للأمة يمثل الصراع الحقيقي اليوم والمغلف سياسيا بأطر لا تمت الى واقعه بصلة ، .. هذا الاتجاه للتمايز والتباين بين المجتمعات لم يأتي محض صدفة ، بل هو نتيجة تطور في جملة المفاهيم للمصطلحات السائدة حتى ذلك الوقت ، اذ لم يعد التمايز الديني المذهبي أو الطائفي أو الطبقي أو العائلي ..الخ مثار جدل ونقاش في المجتمعات التي أخذت تعي "المتكرر" في تجربتها التاريخية والميل للوحدة والتجانس وزوال الفوارق بين أعضائها أيا كانت.
والسؤال : تحت أي عنوان يمكن لنا أن نضع هذا المجرى أو المنحى من التطور التاريخي للدولة ؟
الدولة ـ المتحد :
الدولة الديموقراطية القومية ، عند سعادة، تقوم على محددات تاريخية شكلت البوتقة التي تفاعلت فيها عناصر ثلاثياته ، ( المحيط ـ الجسم ـ النفس ) ، متداولة في ما بينها قيادة الصيرورة، منطلقا وحاملا ومتجها ،و بما لا يتناقض وخصائص أيٍ منها ، بل وفي انسجام تام ، ينحى أي منها لإشباع ذاته ليتنحى بعد ذلك فاسحا المجال رحبا ليتبوأ آخرٌ سُدَّةَ القيادة ، فالأولوية ، تبقى لمن تكتمل به خصائص مرحلة من مراحل صيرورة العلاقة التفاعلية بتوافق وانسجام وشفافية لا تخلو من تشابك يصل مستوى التعقيد ، لكن وبدقة ورهافة ، تُطرحُ الحلول لما قد ينتاب هذا التعقيد من اشكالات في ما بين عناصرها ، هكذا ، مثلا ، نشأ الانسان عندما استقرَّتْ الطبيعة على حال سمح للعضوية بأن تطور الى حالة نشأت بها الحياة مستمرة في عطائها ، وبسخاء ، حتى انتصب الانسان على قدميه ، وأطلقت يديه لتأمين ما أودعته إياه ـ الحياة ـ مداورة ، هذه المداورة هي التي حرضت فيه ميزة العقل في الابتكار ، وهذه بدورها ايقظت فيه نفسيته الفردية محققا بذلك استقلالاً نسبياً عنها ـ البيئة ـ ، ليتولى قيادته في تحديد منحى صيرورته ، التي وصلت في " الدولة ـ المتحد " للشعور بأنه جزء من كُلٍ ، ( أنا ـ أنت ـ نحن ) هذه الــ " نحن" هي ما يُطلق عليها سعادة مصطلح " المتحد " أو الجنين الذي ولد مكتملا في" الأمة " لتعي ذاتها الشخصية التي تتميز بها عن سواها في" القومية " ثلاثية أيضا تتوضع كما "الطبيعة ـ البيئة " ومن ثمَّ " الانسان ـ الفرد " الى " الانسان ـ المجتمع " وهي هنا ( المتحد ـ الأمة ـ القومية ) ، ولكل من هذه الثلاثية ، عند سعادة ، خصائصه التي تميزه عن سواه، والسؤال : كيف ؟
يطلق سعادة مصطلح " الناموس " على القوانين أو المقولات التاريخية والاجتماعية التي يمكن لها أن تحدد الاجابة على سؤالنا أعلاه : و"الناموس" بتعريفه " هو اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها.." ولا بأس من أن نعيد للأذهان ما سبق وقلناه في معرض تعريفنا للنظرية السياسية من أنها البحث عن المتكرر في حركة التاريخ ـ المجتمع فـــــ ( لا تاريخ حيث لا جماعة ولا جماعة حيث لا بيئة ) فالناموس عند سعادة هو" استمرار ( تكرار ) حدوث فعل أو خاصة من أفعال وخواص الحياة او الطبيعة .." كما وأن على النظرية أن لا تكون متناقضة ذاتيا ، يقول :" أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الذي نعرفه بها .. ، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع.. وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة.. فإذا كان الاجتماع صفة عامّة في الإنسانيّة فهذا لا يعني أنّ الإنسانيّة مجتمع واحد يسري فيه الاجتماع بمجرّد الإنسانيّة.. لا يختار الإنسان المجتمع الّذي يعيش فيه أكثر ممّا يختار والديه، ولكنّه قد يخير أمّه على أبيه أو العكس.. ليس المجتمع أساسه الفرد "
هذه هي المنطلقات والقواعد التي يحدد بها سعادة " المتحد " من حيث صفاته وعلاقاته ـ الداخلية والخارجية ـ ومصالحه وإرادته ..
حتى منتصف القرن التاسع عشر ، كانت الدولة (1) المُمَثَلَة في الإرادة الملكية ، قد نحت منحىً آخر في نهجها السياسي ، إذ راحت ، في محاولتها تُمثيل المجموع المنضوي تحت سلطتها ، وتاليا ، التأكيد على أنها وجدت لتبقى ، للأخذ بعين الاعتبار بخصائص وطموحات وآراء .. من تُمثلهم بطرق شتى ،فتحددت كثيرا من صلاحيات الملكية وباتت السلطة تخضع للكثير من القوانين التي تحول دون تفرد الملك بالسلطة وذلك بظهور مجموعات ضغط ، تحت مسميات مختلفة ، لكنها كانت بصورة عامة ، إضافة لتمثيل مصالحها ومنافعها الخاصة ، تمثل مصالح مجموع الشعب أو تتلبس تلك المصالح تبربرا لشرعية مطالبها ، مما استدعى بالضرورة البحث عن ما يدعم تبريرها في معترك إثبات وجودها ، فظهرت للوجود نظريات في الاجتماع والسياسة تحاول تأطير مصالحها ومنافعها بعناوين عامة تضيق حينا وتتسع حينا آخر وفاقا للظروف والأوضاع والأحوال التي تتعارض أو تتنافس معها نظريا تارة وفلسفيا تارة أخرى واجتماعيا وسياسيا في طور ثالث ، لكنها ، في مجملها ، كانت تبحث عن إجابات لتساؤلات كثيرة تدور حول : من نحن أو لِما نحن أو كيف نحن .. وقبل كل ذلك كانت قد تبلورت في الأذهان ماهية هذه الــ " نحن " لتتضح رويدا رويدا عبر تعارضها مع " نحن " أخرى تنافسها أو تتداخل وتتشابك معها في قضايا حياتية لم يكن قد تنبه لها الفكر سابقا وقادت اليها جملة من المصالح والأغراض والارادات والطموحات المتعارضة والتي غالبا ما جمحت الى أبعد مما تعنيه أو تأمله أو تسعى اليه .. كل ما تقدم كان محاولة لفهم ما يمكن له أن يؤطر المجموع الشعبي الذي تمثله الدولة في أي من القضايا المطروحة ، إذ لم تعد المطالب مجرد رأي فردي مُدَعَّم فلسفيا أوعلميا أو اجتماعيا أو دينيا أو سياسيا أو حزبيا ، بل هي مطالب " مجموع الشعب " الذي أصبح قوة لها حضورها ـ الشكلي في غالب الأحيان ـ لكنه حضورٌ لا يمكن التغاضي عنه من حيث صفاته وعلاقاته ومصالحه وإراداته ..
بات واضحا أن الصفات التي قد تتلبس هذا المجموع أو ذاك كنتيجة لظروف تاريخية تراوح بين قوته ، تاريخيا ، أو ضعفه ، وتطغى على صفاته التي يوضّعها مجرى الحياة ، فتتلبس تلك هذه ، ليختلط ذلك على الفكر غير المدقق والباحث عن جوهر الحركة التاريخية ، التي لا تلبث أن تفرض نفسها في خضم هذا الخلط ، فإذا كان لكل من هذا المجموع الشعبي أو ذاك صفات فرضها واقع تاريخي ـ ظرفي ، كالمعدودية القانونية أو الدينية أو اللغوية .. والتي لا تمتُّ بصلة لجوهر حركة التاريخ ، فإن ، حركة التاريخ تفرض عليه ـ على الظرف التاريخي ـ التنحي لغيره كواقع لم يعد بالإمكان تجاهله ، متجاوزة الكثير من الصفات العامة التي كانت تجمع بين متحدين ، لكل منهما دورته الاجتماعية ـ الاقتصادية ، أو ما يصطلح على تسميته سعادة بــ " الاشتراك في الحياة " يقول : " الاشتراك في الحياة هو ما يعمى عنه عدد وافر من الكتّاب والدّارسين حين يتكلّمون عن المتّحد أنّه جماعة لها صفات مشتركة من عادات وتقاليد ولهجات.. وهم في فعلهم هذا ينسون أو يجهلون أنّ هنالك صفات عامّة تسري على جميع البشر من غير أن تجعل منهم متّحداً. فالمتّحد هو دائماً أمر واقع اجتماعيّ. وأنّ من الصّفات ما قد يميّز جماعات من النّاس عن جماعات أخرى من غير أن يعني ذلك وجود متّحد منها. فإنّ الصّفات تتبع المتّحد لا المتّحد يتبع الصّفات.." (2) .
في الدولة ـ المتحد ، تبين أنه "ليس شرط المتحد أن يكون مجموعا عدديا من ناس مشتركين في صفات النوع الانساني العامة فحسب بل مجموعا متحدا في الحياة متشابها أفراده في العقول والأجسام تشابها جوهريا ـ من حيث ـ الاجابة العضوية على محرضات البيئة التي تحدد المتحد .. إن التشابه العقلي والفيزيائي ، نتيجة لا سبب ، فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة .." فالتشابه هنا ليس تشابها سلاليا ، إنما تشابها في الفعل اليومي لتأمين الحياة ، في الدولة ـ المتحد ، سقطت نظرية الرؤية السلالية ـ الدموية ، كما المعدودية الدينية والقانونية واللغوية ، وبات التمييز بين ما هو ظرفي وبين ما هو حياتي ، بين السبب والنتيجة ، واضحا ، لا ريب فيه ، لم تعد أمريكا أو كندا أو استراليا متحدا واحدا في الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ( بريطانيا ) على الرغم من التقارب أو التشابه شبه التام في المزيج السلالي واللغوي والديني ، فالاشتراك في الحياة بات واقعا يفرض ذاته على أي من هذه المتحدات الأربع وبات تمايزها هو الذي يقرر سياستها ، في الدولة ـ المتحد لم تعد العادات والتقاليد ، أيا كان سببها هي التي يستدل بها على الوحدة الاجتماعية ، فهي في تطورها تنحى منحى البيئة ومتطالبات هذه وشروطها ، فما حمله الجيل الأول من المهاجرين لكل من أمريكا وكندا واستراليا ، راح يتكيف مع ضرورات الحياة الجديدة ، وما استحسنه هؤلاء من أساليب العيش والمفاهيم المشتقة منها وغدا تقليدا في الجيل الثاني أُضيف اليه ما استحسنه الجيل الثاني ليغدو تقليدا في الجيل الثالث بات هو المميز لهذه المتحدات ، هكذا تتطبع العادات والتقاليد بطابع البيئة والحياة ، فاللغة الانكليزية باتت متمايزة في لهجاتها الأمريكية عن الكندية عن الاسترالية عن اللغة الأم البريطانية وعندما نقول ، لهجة ، فهي ليست مجرد طريقة أو أسلوب لفظ الحرف أو الكلمة ، بل وفي المعنى والمفهوم أيضا ، فالبيئة تفرض نفسها في اضافات لغوية واستعارات وصور ومفاهيم مستمدة منها ،
نتبين مما تقدم أن " أنّ صفات المتّحد قائمة على أساس الاشتراك في الحياة، لا أنّ الاشتراك في الحياة قائم على أساس الصّفات.. " و "أن المتحد هو أمر وقع اجتماعي .." فتجانسه هو دائما أقوى وأعمق من تباينه ، فهو اذن " اتّحاد مجموع من النّاس في حياة واحدة على مساحة محدودة يكتسب من بيئته ومن حياته المشتركة الخاصّة صفات خاصّة به إلى جانب الصّفات العامّة المشتركة بينه وبين المحيط الّذي هو أوسع منه، بينه وبين جميع البشر، وبينه وبين المتّحدات الأخرى.." أما من حيث مصالحه وارادته فهو :" وحدة اجتماعيّة حاصلة لأعضائها القناعة الدّاخليّة الإجماعيّة. إنّ لهم مصالح تكفي لتفاعل أعمالهم، تفاعل مصالحهم وإرادتهم، في حياة عموميّة مشتركة على مستوى ثقافيّ معيّن، ضمن حدود مساحة معيّنة.."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)ـ الدولة التي نتناولها بالبحث هي الدولة التي ضربت جذورها في التاريخ(فرنسا ، المانيا ، بريطانيا ...) وليست الدولة الناشئة أو الحديثة التي لم يكن لها جذورا في التاريخ الدولي والتي وجدت بعد انهيارالإمبراطوريات.
(2) ـ في ما يتعلق بالعادات والتقاليد وهي في أغلبها مستمدة من الدين السائد في بيئات متعددة ، وما قد يُشتقُّ منها ، نذكر على سبيل المثال ، ثلاث دول اسلامية هي السعودية وباكستان وأندونيسيا ، وكيف أن العادات السائدة في كلٍ منها والمشتقة من الدين الاسلامي ، تختلف جذريا إذا ما تعارضت والصفات المنبثقة من مجرى الحياة في البيئة المحددة ، ففي السعودية قد حُرم على المرأة حتى قيادة السيارة ، بينما نرى المرأة المسلمة في باكستان تتبوأ أعلى مناصب السلطة التنفيذية ناهيك عن السلطة التشريعية والقضائية ، بينما يحق للمرأة المسلمة في إندونيسيا أن تضاجع أي من الرجال في أعياد جبل النار ..
الدولة ـ الأمة
كان الكنعانيون هم أول من تنبه للخصائص التي تميز قوماً عن قوم ، وتحديدا بعد إنشائهم" للدولة ـ المدينة "، والتي كانت إسهاما تاريخيا في التطور الانساني نحو الديموقراطية حيث زالت مبكرا الملكية الوراثية وحلت محلها الملكية الانتخابية ، ففي كل البقاع التي وَجَدَ بها الكنعانيون نُموا لمصالحهم ، أقاموا جاليات لهم تبقى صلتها بالمركز ( الدولة ـ المدينة ) على الرغم من انخراطهم في الحياة العامة للجماعة المقيمين بينها ، وتمده ـ المركز ـ بما يساهم في تطوير تجارته مع هذه الجماعة بالذات ، هذه الصلة بالمركز هي ما نعته بعض المفكرين بــ " الخديعة الكنعانية أو الإثم الكنعاني " وهو بمعناه " الوطن الأم " ، حيث لم يكن أي من الشعوب ـ التي جارتهم تاريخيا ، قد تنبه لما يعنيه " الوطن " وحيث لم تكن الوطنية قد ظهرت للوجود أو لم يكن الشعور بالانتماء الوطني قد بزغت شمسه بعد ..
بعد قرونٍ طويلة ، وعلى الرغم من بزوغ شمس الشعور بالتمايز بين قوم وآخر ، بين جماعة وأخرى ،لكن من دون تعينٍ لما قد يعنيه هذا التمايز ، أصدر الامبراطور السوري المتربع على العرش الروماني " كركلا " مرسومه" الأممي " الشهير الذي جعل بموجبه جميع سكان الإمبراطورية سواسية ، يخضعون لقانون واحد ضمن الحرية والحقوق الأساسية التي منحت إليهم ، ويُعد هذا المرسوم نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ الإمبراطورية الرومانية والعالم، إذ إنه لم يقتصر على تحقيق المساواة بين رعايا الإمبراطورية أي بين المركز والأقاليم فحسب وإنما منح الرعايا حقوقا كاملة ، سياسية واقتصادية واجتماعية ، وفتح أمامهم أبواب الإدارة في الإمبراطورية إلى أرفع المناصب .
ويرى بعض الباحثين أن (جوليا دومنا) استهدفت بهذا المرسوم (الذي كانت وراء إصداره) تحويل أقاليم الإمبراطورية الرومانية إلى مجتمع واحد لا تزول فيه الفروق بين رعايا الأقاليم فحسب وإنما تزول فيه أيضا نظرة التفوق التي كان يتعامل من خلالها الرومان مع شعوب الأقاليم التي تحكمها روما(1)، وعلى الرغم من أن المرسوم جاء لكبح جماح الشعور بالتمايز، فإنه من حيث المبدأ جاء للدلالة على أن الدولة هي لجميع المنضوين تحت ظلالها..
بعد انتصار المسيحية، وعلى اعتبار ان الدين بطبيعته وجوهره أممي النزعة ، بقي مرسوم " كركلا " ساري المفعول انما بصيغته الدينية "المعدودية الدينية" والتي تنضوي تحتها مختلف الشعوب الآخذة بالمسيحية ،لكنه لم يَحُلْ، ايضا ، دون الشعور بالتمايز الذي أخذ يظهر شيئا فشيئا بعد تفكك الامبراطورية الرومانية على شكل إمارات بلغت أكثر من ثلاثمائة إمارة ـ اقطاعية في الجوهر تلبست معنى الدولة من حيث استقلاليتها عن الاقطاعيات ـ الامارات الأخرى وأبقت على صلتها بالمركز الديني وإن بصورة شكلية ..
بعد نحوٍ من أربعمائة عام ، كان مرسوم كركلا هو المرسوم الذي سارت عليه كلٌ من الدولة الأموية ومن بعدها العباسية وبصيغته الدينية أيضا ، حيث لم تَحُلْ المعدودية الاسلامية من ظهور الدويلات بعد أن ضعُفت الدولة العباسية وأصبحت مرتعا لما سُمي بــ " الشعوبية الفارسية والتركية "
هذا التحول التاريخي في الشعور بالتمايز ، تمثل بنزوع استقلالي عن المركز ، في الغرب والشرق معا ، واستمر قرونا ، عمت بها الفوضى مختلف بقاع العالم القديم ، وبلغ ذروته في حرب الثلاثين في أراضي الامبراطورية الرومانية المقدسة وحرب الثمانين عاما بين اسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة التي أنهكت أوروبا ، والتي أدرك الجميع نتائجها الوخيمة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا ، فكان من الطبيعي ان تتغير النظرة الى المركز ( الكنيسة ) لجهة التبعية الدينية ،التي لم تجدِ نفعا في الحيلولة دون الحروب بين أتباعها ، بل وعلى العكس فإن هذه التبعية كانت وراء الفوضى التي برر من خلالها المتحاربون حروبهم، وأدرك الجميع " بذاءة الجدل الديني. ووحشية الحرب، وقساوة العقيدة. وأعدم أثناء المعمعة آلاف من الساحرات. وبدأ الناس يرتابون في المذاهب التي تبشر بالمسيح وتقترف قتل الأخوة بالجملة. وكشفوا عن الدوافع السياسية والاقتصادية التي تسترت تحت الصيغ الدينية، وارتابوا في أن حكامهم يتمسكون بعقيدة حقة، بل أنها شهوة السلطة هي التي تتحكم فيهم ، فولى كثير من الناس وجوههم شطر العلم والفلسفة للظفر بإجابات أقل اصطباغاً بلون الدم من تلك التي سعت العقائد أن تفرضها في عنف بالغ. وكان جاليليو يفرغ في قالب مسرحي ثورة كوبرنيكس. وكان ديكارت يثير الجدل حول كل التقاليد وكل السلطة. وكان برونو يشكو إلى أوروبا آلامه المبرحة وهو يساق إلى الموت حرقاً.."
لكن وفي مجمل التحولات التاريخية هذه ، كانت الدولة هي الهدف ، فإقامة الدولة المركزية القوية والتي تستطيع تأمين مصالح وأغراض مجتمعها وتمثيل ارادته ، هي الهدف الأسمى الذي سعى اليه القادة السياسيون و العسكريون والمفكرون والفلاسفة الاجتماعيون الذين أطروا هذا الهدف بمختلف المبررات التي تؤكد شرعية هذا الطموح في بناء الدولة المستقلة ذات السيادة ، وعلى مدى أربعة قرون من الفوضى في سبيل تحقيق هذا الهدف وعلى الرغم من الحروب التي سادت أوروبا ، نتيجة تضارب طموحات ما تقدم ، بات التمايز بين المجتمعات واضحا كل الوضوح وراحت الدولة تبحث عن مخرج لها من فوضى ضاربة أطنابها في كل الشؤون الحياتية مما كان يحول دون استقرارها وتاليا وحدتها وسيادتها ..فكانت معاهدة " وستفاليا " / 1648/ المخرج العملي لما عانت منه شعوب أوروبا كافة ، في وستفاليا ، وعلى الرغم من تعثر الطريق اليه ، وضع حجر الأساس للأمة ـ الدولة ..
في الدولة ـ الأمة ، ظهرت للوجود الدولة ذات السيادة ، والتي شكلت بدورها الأساس لما سمي في ما بعد بــ "السياسة الدولية " ، والدولة ذات السيادة هي في جوهرها "حقيقة جيوسياسية " بل ومفهوم قانوني وعلى القدر نفسه " عقيدة سياسية " ، الدولة ذات السيادة هي بالتعريف " مجتمع سياسي محدد جغرافيا " معترفٌ به من قبل المجتمعات الأخرى ،والاعتراف هنا فعل قانوني رسمي على أنها المسؤول الوحيد عن حكم تلك الأرض وتاليا هي الدولة المستقلة عن أي وصي أعلى سياسي أو ديني وهي أيضا عقيدة سياسية جوهرها الاستقلال والحرية وتقرير المصير، هذا ما أقرته مختلف الاتفاقات الجيوسياسية ،والتي كانت بحق الصرخة المدوية لنظام الأمة ـ الدولة والتي بدورها وضعت الحجر الأساس للعلاقات الدولية الحديثة وجوهرها يقوم على أن الدول شخصيات اعتبارية لا تتحدد بصغرها أو كبرها أو بضعفها أو بقوتها ، مما يعني بطبيعة الحال ، أن الحاكم المسؤول عن صيانة الأمن والسلام في نطاق سلطته ، مسؤول أيضا عن عدم المساس بالنظام الدولي الذي لا يجيز تدخله في شؤون الدول الأخرى ، هذا ما أقره على التتالي مشروع معاهدة " وستفاليا " والذي كان الحجر الأساس في توطيد السلام الأوروبي أولا ومن ثم السلام العالمي في بعد ..
لقد عانى مفهوم الدولة ـ الأمة الكثير من اللغط ، وتحديدا في شطره الثاني " الأمة " حيث تداخلت في تحديده مختلف النتائج التاريخية التي انتهى اليها الصراع ـ على اختلاف أشكاله ـ على الصعيد الأوروبي ، فعلى الرغم من أن الاتفاق قد وضع حدا للحروب الدائرة فيها ـ مع ملاحظة استمرار الحروب على جبهات أوروبية أخرى ،فرنسا مع اسبانبا حتى عام 1659 ، .. ـ فإنه من جهة أخرى ترك الباب مشرعا للفوضى على الساحة الأوروبية، ومن ثم بعد حركة الاستكشاف الأوروبية في أفريقيا وأسيا وأمريكا، عُمم اتفاق وستفاليا ـ من حيث مفهوم الأمة ـ الدولة على مختلف الدول التي نشأت بعد انحسار الامبراطوريات ( العثمانية والبريطانية ) وظاهرة الاستعمار الغربي بوجه عام ، حيث قاد هذا التعميم لرسم خرائط عشوائية في مختلف أصقاع العالم ، فجُزأت الأمم ذات الدورات الاجتماعية ـ الاقتصادية الواحدة الى دول أطلق عليها مسمى " أمة " وتمتعت هذه الدول بسيادة وهمية أسبغتها عليها مرحلة الاستعمار المشار اليها أعلاه ..
وحيث لم يكن لدى الأوروبيين مفهوما موحدا لمصطلح " أمة " فإنهم أسبغوا تناقض مفاهيم هذا المصطلح على ما تبقى من العالم ، وتاليا ، فإن معاهدة وستفاليا ، وإن أرست مفهوما محددا للسياسة بين الدول "السياسة الدولية" المعمول بها اليوم ـ فإنها لم تَحُلْ دون استمرار الحروب بين الدول والتي تدور في مجملها حول التجزئة بهدف تكامل المدى الحيوي " الأمة " لأي من الدول المعترف بها " ذات سيادة " الأوروبية منها وغيرها ، إذ بقي مفهوم مصطلح " السيادة " رهنا بالتقلبات السياسية ومصالح الدول التي أضحى لها هذا المفهوم محرضا ودافعا بل ونزوعا لاستكمال معنى السيادة بمعناه " المدى الحيوي " والذي وجدت به الدولة ، أنها بدونه تبقى عاجزة عن القيام بمهماتها الملقاة على عاتقها وتحديدا تأمين احتياجات مصالحها و حماية بنيتها الدولية من تعديات الدول ـ الأمم الأخرى ، وهذا ما تفسره استمرارية الحروب بعد وستفاليا فقد استولت السويد مثلا لاحقا على ليفونيا وأستونيا وأنجريا وكاريليا وفنلندا وأصبحت في عداد الدول العظمى باعتبارها سيدة البلطيق حتى مجيء بطرس الأكبر.. أما فرنسا فقد استولت على فرانشن كونتية واللورين ،وتمكنت من تحقيق وحدة فرنسا وقوة دفاعها، والإبقاء على فوضى الإمارات في الإمبراطورية، وعلى الصراع بين الأمراء والإمبراطور، وعلى النزاع بين الشمال البروتستانتي والجنوب الكاثوليكي، مما ساهم في حماية فرنسا من خطر ألمانيا الموحدة..
حيال ما تقدم ، كان لا بدَّ من تعين مدلول مصطلح " أمة " وتاليا مصطلح " دولة " بعدما ثبت أن كلا المصطلحين لم يحولا دون تنازع البقاء من جهة والسلام الدولي من جهة أخرى .
وفق مبدأ سعادة " شرط الوضوح التعين " ووفق مبدئه أيضا " وحدة الفكر والنهج والأشكال التي تحقق الفكر في النهج " على اعتبار أن الدولة هي الشكل الذي تتحقق من خلاله مصالح الأمة ، وإن كان مصطلح " دولة " المعمول به اليوم يقارب مفهوم "ماكس فيبر" الذي يقول أنها " منظمة تدعي (بنجاح ) احتكار الاستخدام الشرعي للقوة المادية ضمن رقعة جغرافية محددة " هذا المفهوم للدولة ـ الأمة ما زال يعاني من شوائب كثيرة ، حتى على الصعيد الأوروبي الذي لم يتبلور فيه هذا المفهوم " الأمة ـ الدولة " إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ، وبما يتناسب والمصلحة الأوربية بالتحديد ، والتي بدأت تعاني من النقص الفاضح في مفهومها لهذا المصطلح والذي بات يتعارض حتى مع مصالحها كدول ومجتمعات ، ومع ذلك ما يزال هذا المفهوم متعثرا في الكثير من الدول التي تعاني من خروقات اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية وعرقية .. نتيجة ما تقدم ، على شاكلة ما تعانيه فرنسا من النزوع الاستقلالي في بريتون والباسك أو ما تعانيه كل من سويسرا وكندا وبلجيكا من تواجد الجاليات الفرنسية داخل كياناتها ، وكما في أوروبا كذلك في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية .. فعلى سبيل المثال ، ونتيجة تشكل الدول وفق المفهوم الأوروبي ، فإن " نيجيريا مثلا تضم ثلاث مجموعات عرقية كبرى منها / يوروبا والهوسا / وحيث أن التجزئة لعبت دورا سلبيا في ما يتعلق بهذه العرقيات فإنها شكلت بؤر توتر مستمر بين هذه الدول بنزوعها للوحدة والاستقلال.. على ذات النمط نجد أن الأكراد في سورية الطبيعية موزعون على دول أربع ويثيرون اليوم اشكالات الاستقلال في هذه الدول ـ وقد أشرنا سابقا لهذه المسألة ـ وفي ظل هذا المفهوم أيضا بات من الضروري ايجاد حلول عملية للاضطراب في العلاقات الدولية ، فموناكو دولة كما الولايات المتحدة الأمريكية ، كذلك الفاتيكان دولة ضمن دولة ، وهذه كردستان العراق دولة ضمن بؤرة معادية بالمطلق لوجود هكذا دولة ، مما يُنبئ بمشكلات قد تتطلب تدخلا دوليا بعد سقوط أعداد من الضحايا يقدمون على مذبح المفهوم والمصلحة الغربية عموما .
حيال ما تقدم ـ وهو جزء يسير من الواقع السياسي اليوم ـ يبدو أن تحديد سعادة لمفهوم مصطلح الأمة هو الحل ، والذي عملت مختلف الهيئات الدولية والكيانية بمختلف هيئاتها ،على طمسه وتغييبه عن الساحة السياسية بل والاجتماعية والثقافية و...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ كان الشاعر اللاتيني (جوفنال) يتذمر في هجائيته المسماة “بابل” من أن نهر (العاصي) السوري أصبح يصب منذ زمن بعيد في (التيبر) والحياة أصبحت في روما لا تُطاق من كثرة هؤلاء الأغراب الذين توافدوا على العاصمة واستقروا فيها..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في مفهوم سعادة لمصطلح "أمة " تتخذ السياسة الدولية منحى آخر ، حيث نتبين النتائج من الأسباب ، ولا نخلط بينهما ، نتبين ما الفرق بين نتائج تاريخية ـ ظرفية ـ مرحلية، طبعت فترة تاريخية معينة ، وبين نتائج " الاشتراك في الحياة " المومأ اليه آنفا ،بين الصفات المكتسبة تاريخيا وتلك المكتسبة حياتيا كنتيجة للتفاعل التاريخي بين الجماعة والبيئة ، بين الطارئ والدائم ،بين الثابت والمتحول والتابع ..وتاليا تغدو السياسة الدولية تبادل منافع ومصالح ، لأنه وكما مرَّ معنا آنفا ، يبقى السؤال الملحُّ هو : لماذا يبقى الربح خسارة للآخر ؟ ولماذا لا تكون السياسة الدولية ممكنة في واقع أن الربح لا يعني خسارة للآخر فبالتعاون يمكن لمجموعات مختلفة في المجتمع أن تحقق مزيدا من الفوائد أكثر مما لو عملت في جو تنافسي (بارسونز) ، خاصة وأن السياسة ، في أوسع اطار لتعريفها ، تبقى " غايتها تحقيق اشكال من التحالفات الممكنة بين الناس بدلا من زرع الفتن بين المجموعات البشرية المختلفة ؟.."
في مؤلفه الرائع "نشؤ الأمم" يناقش سعادة المفهوم الغربي لمصطلح " أمة " في محاولة منه لوضع الاصبع في الجرح ، حيث يجد أن التداخل والاختلاف والتناقض كان في أن التعريف " لا يخلو من عصبيّة القوميّة أو الوطنيّة، أو من الأغراض السّياسيّة، وهو لذلك عرضة لاختلاف النّظريّات وتعدّد المذاهب فيه.." والسبب الذي يراه جوهريا في هذا الموضوع هو " ـ أنّ الأمّة تنطوي على عنصر عامّ، بل حيويّ لها، مفقود من المتّحدات الأخرى، هو العنصر السّياسيّ.. " والذي في ضوئه تتوضع مفاهيم هذا المصطلح ، فتنازع البقاء مسألة لا يغفلها السياسيون عموما ، لذا " يلجأ سياسيّو الأمّة ومفكّروها إلى نظريّات توافق ظروف أممهم وتكسبها معنويّات قويّة. فبعضهم يبحث عن حقيقة تاريخيّة أو مثال حقيقيّ أو موهوم من التّاريخ، أو عن نزعة دينيّة أو سلاليّة.. " من هنا تأتي " صعوبة فهم المتّحد القوميّ أو الوطنيّ من وراء التّحديدات الّتي قد تبدو متعارضة، وتكون كذلك أحياناً إن لم يكن غالباً، لأنّ الّذين حدّدوا الأمّة حدّدوها على ما سطع لكلّ منهم من نورها ووحيها في بيئته الخاصّة.." لأنهم في ذلك يعودون أدراجهم ، لطفولتهم ، لأصدقائهم ، لتربيتهم ، للأحداث التي تعصف بمجموعات ينتمون اليها ، لما تعلموا مَنْ يكونون ، وبالمجمل ، لمستوى ثقافتهم وعمقها وتأثيراتها على مصالحهم ومنافعهم وكاريزما الكاتب فيلسوفا كان أم عالم اجتماع ..(1) ما بين " سنيكا " و"بابنيان " نقع على اختلاف مفهوم مصطلح الأمة ، لدى منتشيني و برادير ، دوركهايم ، ايوانوف ، رينان ، شبكلر ، فون ايرن ، الذين تباروا في تعريف هذا المصطلح وتناول سعادة نظرياتهم بالنقد والتحليل .. وعلى ما يبدو ان اختلاف التعريفات يعود في جوهره لنسبة العلاقة بين ثلاثية (القانون والفلسفة والتاريخ) بهدف اكتشاف نظريات او قوانين عامة حول طبيعة السلوك السياسي أو هي نتاج لنسبة الفلسفة الى الاجتماع والاقتصاد/ يقول سعادة :" إنّ القياس كان ولا يزال مصيبة كبيرة في الأبحاث العلميّة الاجتماعيّة، خصوصاً في الأبحاث الّتي لا تجرّد علم الاجتماع من النّظريّات الفلسفيّة، من الفلسفة الاجتماعيّة، وهو الالتجاء إلى القياس ما أوجد شيئاً كثيراً من الخلط في المسائل الاجتماعيّة عموماً ومسألة الأمّة والقوميّة خصوصاً. " والتي تنبه الغرب لها بعد نحوٍ من ربع قرن على ما جاء به سعادة (2) والتي ما تزال مدارس الغرب الاجتماعية تحبو نحوه يعيقها في ذلك تعارض استنتاجات دراساتها مع الواقع السياسي ومصالحه في الاستئثار بالمواد الخام التي تملكها المجتمعات محور تلك الدراسات ..
في نقده التحليلي ، يميز سعادة بين السبب والنتيجة ، بين الدائم والطارئ ، بين الثابت والمتحول ، بين الباطن والظاهر .. فيُسقط كل ما هو خارج " الاشتراك في الحياة " من مفهوم الأمة لديه وكل ما هو طارئ نتيجة ظرف أو مرحلة تاريخية معينة ، يسقط الشكل على حساب المضمون ، وكل ما يتعارض أو يمكن له أن يتعارض ومبدأ الاشتراك في الحياة ، باعتبار أن الأمة " واقع اجتماعي بحت "
اللغة والدين والعادات والتقاليد والآلام والآمال المشتركة والتاريخ المشترك والأصل الواحد والمصالح المشتركة.. من وجهة نظره " كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ "
يقدم سعادة عنصر البيئة على أي عنصر آخر من عناصر تكوين الأمة " البيئة الجغرافيّة ضروريّة لحياة المتّحد أو المجتمع ضرورة الأرض للحياة.." حيث ـ كما أشرنا سابقا ـ " لا جماعة حيث لا بيئة " ذلك أن " الظواهر الجغرافية الإنسانيّة (توزيع البشر) تنسب إلى الوحدة الأرضيّة الّتي لا يمكن تعليل تلك الظّواهر بدونها. إنّها (الظّواهر) تعزى، في كلّ مكان، إلى البيئة الّتي هي بدورها وليدة توافق حالات فيزيائيّة.." ولما كانت الأمة " واقعا اجتماعيا بحتا " فهي بدون ادنى شك " مجتمع طبيعي " وليست مجتمعا مصطنعا بعوامل خارجة على مبدأ الاشتراك في الحياة كالاجتياحات الحربية، فالإمبراطورية الرومانية ومن بعدها الأموية والعباسية ومن ثم العثمانية وآخرها الامبراطورية البريطانية ، ضمت الكثير من المجتمعات الطبيعية ، لكنها لم تستطع دمج هذه المجتمعات في وحدة طبيعية ، بل بقيت متمايزة بعضها عن بعض على الرغم من الوحدة السياسية التي ضمتها قرونا عدة ،
وانطلاقا من مبدأ " الاشتراك في الحياة " ينطلق سعادة في تأكيده على أن " الأمّة من الوجهة السّلاليّة أو من وجهة الأصل، هي مركّب أو مزيج معيّن كالمركّبات الكيماويّة الّتي يتميّز كلّ مركّب منها بعناصره وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر.." أما لجهة العادات والتقاليد فإنها تخضع بعامل الاشتراك في الحياة لمبدأ التطور: " كلّ تطوّر ثقافيّ في أمّة من الأمم يولّد تقاليد جديدة. وشرط التّقاليد المميّزة الأمّة أن تكون متولّدة من حياة الأمّة. فهنالك تقاليد مشتركة بين عدد من الأمم ولكن ليست هذه التّقاليد هي الّتي تميّز الأمّة.." وحيث أن اللغة هي نتاج اجتماعي ، فهي ليست سابقة للمجتمع ، أي أنها ليست عنصرا من عناصر تكوينه أو سببا من أسباب تشكله ، يضاف لما تقدم أن اللغة لها طابع أممي بعوامل عدة ، تاريخي / كنزوع المحتل لفرض لغته على الجماعة المُحتلَّة / أو ديني / وجعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون / أو اقتصادي / الآرامية كلغة للعالم القديم أو الانكليزية اليوم / وعليه يؤكد سعادة " إنّ وحدة اللّغة لا تقرّر الأمّة ولكنّها ضروريّة لتماسك الأمّة.." ولما كان الدين " في أصله لا قوميّ ومناف للقوميّة وتكوين الأمّة، لأنّه إنسانيّ ذو صبغة عالميّة.." كان خارج مبدأ الاشتراك في الحياة وتاليا ليس عنصرا من عناصر تكوين الأمة ذلك أنه " حيثما تضاربت مصلحة المجتمع، الدّولة أو الأمّة، ومصلحة الدّين كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النّزاع. ." وهذا ما نراه بوضوح في الطوائف والمذاهب الدينية ـ على اختلاف الأديان ـ وهي بطبيعة الحال ـ الطوائف والذاهب ـ محاولة المجتمعات تكييف الدين وفق أساطيرها الدينية وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها ، كما هي الحال في الطقوس المسيحية التي " ترومنة " بعدما اعتمدتها الامبراطورية الرومانية دينا رسميا لها ، أما الوحدة السياسية فعلى الرغم من أهميتها بالنسبة للأمة " ليست شرطاً للأمّة ولا عنصراً من عناصرها ولكنّها ضرورة من ضرورات الأمّة ليكون لكيانها الاجتماعيّ ــ الاقتصاديّ قيمة حيويّة عمليّة. كلّ أمة تتجه بطبيعة وجودها إلى إنشاء دولة تضمن لها سيادتها وحقوقها الأنترنسيونيّة.." وهي " التّاج الّذي تتوّج به الأمّة نفسها وتحصل به على اعتراف الأمم الأخرى بحقّها في الحياة وكرامتها الشّخصيّة." كذلك هو التاريخ " فهو سجل مجرى حياة الأمّة، وخطورته هي في القوميّة، في روحيّة الأمّة ووجدانها، لا في الأمّة بعينها.." كذلك أيضا " لا تعيّن الثّقافة الأمّة ولكنّ الثّقافة تكون فارقاً بين أمم وأمم. والسّبب في هذا الفارق اقتصاديّ جغرافيّ قبل كلّ شيء، حيثما وجدت المؤهّلات الرّوحيّة."
بناء على ما تقدم يمكننا صياغة تعريف للأمة التي ينادي بها سعادة " " الأمّة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة ــ الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) ـ " لقد طلب الامبراطور كركلا ، من الفيلسوف (سنيكا) أن يُعِدَ رسالة تسوغ هذا القتل( قتل أخيه غيتا ) موجهة للسانتو ( مجلس الشيوخ) ففعل ، ثم أمر (بابنيان)وهو شقيق جوليا دومنا، النابغة الحقوقي ،أن يفرغ كل ما أوتي من مهارة وفصاحة في سبيل تلمس الأعذار لهذه الفعلة ، ولكن المفاجأة التي لم يكن كركلا يتوقعها هي رفض رجل العدالة هذا الأمر.. مفضلا الموت على تشويه الحقيقة " مما يعني أن الموقف ، نظريا ـ كما في علوم الانسانية ـ او العملي ، مرهون بكاريزما الفرد المعني به ، خاصة وأن علوم الاجتماع والسياسة ليست حيادية ـ موضوعية ، منزهة ، عن الشخصية التي تمليها ، كتابة أو إملاءً.
(3) ـ يقول سعادة مثلا " ولا يقتصر تنازع البقاء على تنازع النّظريات بين الأمم، بل يمتدّ إلى تنازع النّظريات ضمن الأمة الواحدة، لما تشتمل عليه الأمّة من طبقات وجماعات يكون لبعضها مطامع ومصالح خاصّة، "
يقدم كلٌ من (ستيفن.د. تانسي ونايكل جاكسون) في كتابهما (أساسيات علم السياسة ) ،عرضا للكثير مما أورده سعادة في مؤلفه "نشؤ الأمم " وعلى سبيل المثال نورد هذه الفقرات :
(.. على أية حال ، يبدو واضحا أن للعوامل الدينية واللغوية والقبلية اضافة لعوامل عرقية أخرى ، أهمية في بناء الهوية السياسية عند الكثير من الناس ، لكن بدرجات متفاوتة وبأوقات وأزمنة مختلفة اعتمادا على البيئة السياسية .. يبدو أن الهوية العرقية للفئات العرقية قيد الدراسة تمثل عاملا نفسيا وسياسيا مهما ، فالعنصرية التي تعني وجود فروقات طبيعية مرئية حقيقية أو متصورة هي في الحقيقة اجتماعية وليست بيولوجية ، لأن التجمعات الحالية هي عمليا خليط وراثي الى حد بعيد .. ) و (إن أحد الانقسامات الكبرى الذي يبدو شاملا في الأنظمة السياسية الكبرى هو ما يدعوه "الآردت وليتنين" 1964/ خطوط الانقسام العمودية/ ، تلك التي تحدث بين التجمعات المحلية والأقاليم وفي بعض الحالات المناطق الوطنية ضمن الدول.. ومن الواضح أن تأثير القرب الجغرافي يتعلق بمجموعة من العوامل الأخرى التي قد تؤثر بقوة في الولاءات المحلية والاقليمية وعليه فالسؤال : ما مدى تقسيم المجتمعات الجغرافية اجتماعيا ولغويا ؟ وقد تكون طبيعة الاقتصاد هي مهمة أيضا .. كما أن تأثير الفتوحات التاريخية والهجرة عاملين في هذه الاشكال من الانقسامات..)
ـ إن الاستقرار السياسي أو عدمه ينشأ عن عدد من الصراعات المختلفة ـ يمكن طرحها بصيغة تساؤليه على النحو التالي :
(1) ـ من نحن ؟ ويتضمن السؤال بحثا في القضايا المتعلقة بالهوية الوطنية / القومية ، العنصرية ، العرقية ، الطبقة ، الجنس ، الدين .
(2) ـ ما نفعل ؟ ويتضمن البحث في مواضبع توزيعية ، كيف نقدم خدمات الدولة وننظم الاقتصاد .
(3) كيف نقوم بذلك ؟ ويتضمن البحث في قضايا اجرائية المحافظة / الراديكالية ، المؤسساتية .
من المستفيد ؟ ويتضمن البحث في قضايا إعادة التوزيع ، الأغنياء مقابل الفقراء ( الناس ، الأقاليم ، الدول )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدولة ـ القومية :
في القومية ، تغدو الدولة ، هي الممارسة المجتمعية للسلطة ، من هنا كانت الدولة القومية هي دولة ديموقراطية ، كون هذه الأخيرة ، كما سبق وألمحنا ، ليست شكلا من أشكال الحكم ـ الدولة ، كما هو متداول ، إنها نسق حياة ، نهج ، سلوك ، ممارسة ، تربية ، ولأنها كذلك ، هي قومية ، ولأن هذه الأخيرة أيضا هي " الرّوحيّة الواحدة ،الشّعور الواحد ،.. إنّها الوجدان العميق الحيّ الفاهم الخير العامّ، المولّد محبّة الوطن والتّعاون الدّاخليّ.. ، الموجد الشّعور بوحدة المصالح الحيويّة والنّفسيّة، المريد استمرار الحياة واستجادة .. شعور خفيّ صادق وعواطف حيّة وحنوّ وثيق على الحياة التي عهدها الإنسان. إنّها عوامل نفسيّة منبثقة من روابط الحياة الاجتماعيّة الموروثة والمعهودة، "
القومية هي في تعريف سعادة اذن ، قيم ، مناقب ، سلوك ، تربية ، نهج .. هي مرادف لغوي للديموقراطية ، القومية ديموقراطية لأنها شعور ، وجدان ، عواطف ، حنو، إنها ، عوامل نفسية منبثقة من روابط الحياة الاجتماعية ، لذلك هي " الشعور الفاهم الخير العام ، المولد محبة الوطن والتعاون الداخلي .. الشّعور بوحدة المصالح الحيويّة والنّفسيّة، المريد استمرار الحياة واستجادة الحياة.." فأي معنى للديموقراطية غير هذا ؟
لذلك كانت الحتمية الوحيدة التي يُقِّرُّها سعادة في مجمل طروحاته هي أن : " الدّولة الدّيمقراطيّة هي دولة قوميّة حتماً،" ذلك أنها دولة المتحد ـ الأمة ، وحيث أن القومية " هي ظاهرة نفسية اجتماعية "هي تاليا " يقظة الأمّة وتنبّهها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها.. "
ولأن القومية ديموقراطية تخرج عن كونها ، فكرة أو معتقد أو "نوعا من الطوطمية " أو "نعرة دموية سلالية " أو " عصبية هوجاء " أو "نعرة متولدة من اعتقادات أولية " هذه الأخيرة ، هي ما يوليه سعادة اهتمامه الأكبر ويضمنها " قسم الانتماء لحزبه " .. وأن أتخذ مبادئه شعارا لي ولعائلتي .." وفي موضع آخر يؤكد على " إن أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية هي المؤسسات." المناط بها صهر وبلورة وصقل هذه القناعات الأولية التي تتشكل نتيجة مؤثرات اجتماعية تربوية بحتة ( الأسرة ، الأصدقاء، والرفقة المدرسية، والوسط الاجتماعي بشكل عام..) في مراحل الفرد المبكرة ،حيث المؤهلات الفردية ـ النفسية تربة غضة يمكن أن تتجذر بها أية مفاهيم ، وحيث الانتماء هو المقدمة الأولى لإثبات الشخصية الفردية في المجتمع ،وحيث الأسرة هي البوتقة التي تتشكل فيها تلك القناعات الأولية ، يؤازرها في ذلك الأصدقاء والرفاق والزملاء .. إضافة للوسط الذي يلعب دورا مهما في قبول أو رفض ما تشكل منها ، حيث تلعب هذه أو تلك في تجذيرها ذهنيا دون أية خلفية فاهمة واعية مدركة لماهية الانتماء أيا كان ، دينيا ،عرقيا، طبقيا .. وعلى وجه الخصوص إذا كان المجتمع منقسما بحد ذاته الى جملة من الأطر المتناقضة كما هي حال المجتمع السوري، مما يدفع بالفرد لتفضيل مجموعة اجتماعية واستعداء مجموعات أخرى لا تتقاسم معه قناعاته بل وتتناقض والمفاهيم التي تغدو " قيما " تشكل البوصلة التي يهتدي بها لضالته المنشودة أيا كانت أيضا ، هذه القناعات التي تواكب الفرد حتى نهاية حياته .. لا بد من صهرها وبلورتها وصقلها في بوتقة القومية للحيلولة دون المنحى السلبي الذي يهدد وحدة الأمة ـ المجتمع ، يقول :" كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القوميّ، الشّعور بشخصيّة الجماعة، لا بدّ لإفرادها من فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفه وطبيعة العلاقات النّاتجة عنه. وهي هذه العلاقات الّتي تعيّن مقدار حيويّة الجماعة ومؤهّلاتها للبقاء والارتقاء، فبقاؤها غامضة يوجد صعوبات كثيرة تؤدّي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التّصادم في المجتمع فيعرقل بعضه بعضاً ويضيّع جزءاً غير يسير من فاعليّة وحدته الحيويّة ويضعف فيه التّنّبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج.. "
هكذا ، وعلى الرغم من كون القومية هي ظاهرة نفسية اجتماعية ، لكنها تبقى في جوهرها خاصة من خصائص الفرد من حيث هو " مواطن " يقول سعادة في مقدمة مؤلفه " نشؤ الأمم" :" هذه الشّخصيّة (شخصيّة الجماعة) مركّب اجتماعي ــ اقتصاديّ ــ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه .." أي أنها سلوك ونهج فردي يرى مصلحة أمته فوق كل مصلحة من حيث أن المصلحة ، في مفهوم سعادة هي " كل ما يولد عملا اجتماعيا " هي نهج وسلوك فردي تبقى غايته الاشتراك في العمل المنتج لما فيه خير الجميع ، بما يزيد من التأكيد على وحدة المصالح الحيوية والنفسية ، العمل الهادف والمريد استجادة الحياة ، هي الـ (نحن ) في الأنا ، هي الأنا المتمثلة في الـ نحن كل خير وحق وجمال ، وعليه فالديموقراطية منتج قومي بامتياز .
يميز سعادة القومية عن الوطنية ، نظرا للحالة التي عليها أمته ، والتي جُزئت بعامل الهيمنة نتيجة فقدانها السيادة على نفسها قرونا طويلة ، وحيث الأمة بالنتيجة مجموعة كيانات لا حول لها ولا قوة حتى على وأد ذاتها ، وحيث أن "القرية متّحد والمدينة متّحد والمنطقة متّحد والقطر متّحد ولكلّ متّحد خصائص تميّزه عمّا سواه ممّا هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه.." كان بطبيعة الحال الانتماء الأولي يبقى لواحدٍ من هذه المتحدات ، هذا الانتماء هو ما يصطلح سعادة على تسميته ب" الوطنية " حيث تلتبس القومية " بالوطنيّة الّتي هي محبّة الوطن، لأنّ الوطنيّة من القوميّة ولأن الوطن أقوى عامل من عوامل نشوء الأمّة وأهمّ عنصر من عناصرها.." وهو بهذا التمييز يشدد على أن القومية من الأمة بينما الوطنية من الوطن ـ الكيان أو من الدولة ـ الأمة في المفهوم الغربي المعترف به عالميا على صعيد ( عصبة الأمم ـ الأمم المتحدة ) . هذا التمييز ، كان ضروريا ، لأمة جزئت حديثا (1918ـ 1936) ذلك أن رؤية سعادة الثاقبة لما يأتي من الأيام وولادة أجيال لم تحيا حياة الوحدة القومية ـ والتي كانت قائمة على مدى التاريخ رغم الاحتلالات بدئا من 450 قبل الميلاد (قورش ) الى الاحتلال الإغريقي (اسكندر المقدوني ) الى الروماني فالعربي فالعثماني وآخرها الفرنسي والبريطاني ـ بل وجدت نفسها في ما خلفه الاستعمار الغربي من تجزئة سياسية تمثلت في كيانات (دول ذات سيادة ـ امة ) ، هذه الكيانات السياسية لا بد وان تتمثل في هذه الأجيال بصورتها الاستقلالية أي بالتعصب لها وتلبسها بالتالي مصطلح القومية بالوطنية ، بحيث يصبح الكيان هو الأمة والوطن وتتناسى هذه الأجيال كونها جزء من الأمة السورية وتلك الأجزاء المسلوخة عنها ، لذا يأتي هذا التمييز ( بين القومية والوطنية ) للتنبيه لهذا الواقع الشاذ والذي لا ينكره سعادة بقدر ما ينبه لخطورته على مستقبل الأمة .
من جهة أخرى ، يقارع سعادة بمفهوم القومية ـ الديموقراطية ، جملة المفاهيم الغربية في الأمة والقومية ، والتي لا نكاد نلحظ أية مفهومات حولها في مختلف النظريات الاجتماعية أو السياسية السائدة وهو يشير في مقدمة مؤلفه ـ موضوع هذا الاجتهاد ـ الى أنه" ومنذ ألّف ابن خلدون مقدّمة تاريخه المشهور ووضع أساس علم الاجتماع لم يخرج في اللّغة العربيّة مؤلّف ثان في هذا العلم فظلّت أمم العالم العربيّ جامدة من الوجهة الاجتماعيّة، يتخبّط مفكّروها في قضايا أممهم تخبّطاً يزيد الطّين بلّة.. ولفقر اللّغة العربيّة في المؤلّفات الاجتماعية نجدها فقيرة في المصطلحات الاجتماعيّة العلميّة. فوضعت في هذا الكتاب مصطلحات جديدة أرجو أن أكون قد توفّقت في اختيارها للدّلالة على الصّفة المعيّنة، كقولي: [الواقع الاجتماعيّ] و [المتّحد الاجتماعيّ] و [المناقب] و [المناقبية] (للمورال)." مع ملاحظة أن مختلف النظريات الغربية الاجتماعية والسياسية ، تتجاهل " مقدمة ابن خلدون " بل وحتى التاريخ السوري وتكتفي باعتبار أن التاريخ يبدأ في إسبارطة وأثينا ورومة بل وتستمد مختلف مستنداتها التاريخية من الالياذة والأوديسة وأحياناً نادرة" توراة اليهود" ، رغم اعترافها بانها مجموعة من الأساطير، كما وتتجاهل في تناولها للحقوق الرومانية أنها من وضع السوري (بابنيان ) وإن أشارت اليه فتكتفي بالإشارة اليه كروماني.. هذا التجاهل كان واحدا من العوامل التي دفعت بسعادة لوضع مؤلفه الرائع في الاجتماع وفي السياسة في محاضراته العشر التي يشرح فيها مدلولات هذا المؤلف الذي لم يُعطَ حقه حتى تاريخه .
تتناول كافة النظريات الغربية الاجتماعية والسياسية، وخاصة الحديثة منها ، موضوعات مجتمعاتها من حيث هي مجتمعات قائمة موضوعيا دون التطرق الى أية إجابة على التساؤل : كيف انتهت مجتمعاتهم الى ما هي عليه ؟ ذلك أن السؤال المتقدم سيكشف مقومات هذا الواقع الاجتماعي والسياسي لهذه المجتمعات، ونقصد الحقبة الاستعمارية وتاليا سياسة استنزاف موارد الأمم الأخرى( دول الشمال ودول الجنوب ) ـ (1) باستثناء المادية الديالكتية وتطبيقاتها في المادية التاريخية ، والتي انتهت الى الاهمال بعد سقوطها سياسيا ( انهيار الاتحاد السوفيتي ) وإن أشارت الى الصين باعتبارها أحد أهم الاقتصاديات العالمية اليوم ، فتشير الى أن "ماركسيتها ـ الماوية" تتطعَّمت بكثير من المفاهيم الرأسمالية .
سعادة والفكر الغربي بمختلف مدارسه :
188 الصفحة
سعادة والفكر الغربي بمختلف مدارسه:
دراسة مقارنة
يقف سعادة موقفا حاسما في فلسفته الاجتماعية / المدرحية / من علم الاجتماع الغربي، الذي يتناول موضوعاته دون أي تحديد أو تعين لمصطلحاتها والتي تبقى تحمل كل التأويلات، وهذه صفة عامة في مختلف مدارسه لذا يبدو أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن علم الاجتماع الغربي ـ باستثناء المادية الديالكتيكية ـ أقرب ما يكون الى علم النفس السلوكي منه الى علم الاجتماع، في موضوع هو أقرب الى الشمولية منه الى الخصوصية، يضاف الى ذلك أنه يتناول المجتمع من حيث هو مُعطى موضوعي لا يمكن دراسته إلا من حيث علاقة الفرد به في ظل مجموعة النظم القائمة ومدى تأثيرها على سلوكية الفرد وموقف الفرد منها، ومن حيث امكانية التغيير في هذه العلاقة والعوامل المؤثرة المباشرة وغير المباشرة في عملية التغيير المرجوة، والى أي مدى يمكن المضي في مثل هذه الأهداف التي تبقى غايتها تحسين ظروف الحياة في هذه المجتمعات بالتحديد، ناهيك عن أن نظرته للمجتمع ـ على الرغم من اعترافه بأنه "وجود موضوعي" بالنسبة للأفراد ـ تبقى منقطعة عن كونه "محتوى تاريخ أجياله" بمعنى أنه علم يبحث في خصائص وميزات وامكانيات ومواصفات الجيل الذي يعاينه والى أي حد يمكن المضي في عملية الإصلاح أو التغيير لما يشوب هذا الجيل من تشوهات تعيق عملية التطور أو تؤخرها. والخلاصة التي يجب أن تبقى ماثلة في الذهن، هي أن علم الاجتماع الغربي هو علم كيانات تشكلت نتيجة ظروف سياسية مرت بها أوروبا في مرحلة سبقت عصر التنوير وسادت فيها الحروب والنزاعات والفوضى، هي اذن ليست أمما تشكلت تاريخيا بل نظما سياسية احتفظت بها المدن الرئيسية (باريس، لندن، برلين.) بطيف من المدن والقرى من حولها وشكلت ما أتفق على تسميته بالدول، دون نكران أن تقدمها ورقيها على مختلف الأصعدة والمستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية يعود في جوهره الى تقييم موضوعي لجملة الأحداث العاصفة التي ضربتها وغيرت مختلف نظراتها الى الكون والحياة وهي المجتمعات الوحيدة التي استفادت من تجربتها التاريخية بشكل تام وكامل. وهذا ما نلاحظه واضحا في الموضوعات التي يتناولها علم الاجتماع الخاص بها، ذلك أنه ينصب عموما على مواصفات وخصائص المجتمع الغربي بالتحديد وكأن بقية المجتمعات المنتشرة على مساحة سطح الكرة الأرضية لا معنى لها ولا قيمة لدراستها.
لذلك يسهل على الدارس لهذا العلم أن يصنف علم الاجتماع الغربي بمختلف مدارسه بثلاث نظريات هي "التوافق، الصراع، الفعل" وما عداها يبقى خارج علم الاجتماع، ولما كنا قد تناولنا نظرية الصراع بأبرز أمثلتها / المادية الديالكتيكية / فإننا نكتفي هنا بتناول نظرية التوافق بأبرز امثلتها / الوظيفية / ونظرية الفعل، أيضا بأبرز أمثلتها / الفيبرية /.
ينعكس ما تقدم بمجمله على مختلف الموضوعات التي يتناولها هذا العلم، إذ تبقى مفهومات مصطلحاته عامة لا يمكن حصر مدلولاتها في مفهوم محدد، كما هو الحال عند سعادة الذي يمضي ـ منطلقا من شرط الوضوح التعيين ـ في تحديد مدلولات مصطلحاته قبل الخوض في الموضوعات التي تتناولها، فمن حيث الشكل العام، قد لا نجد خلافا جذريا بين الوظيفية أو الفيبرية والقومية الاجتماعية عند سعادة، لكننا اذا ما أمعنا النظر يتضح لنا أن الخلاف قائم في المصطلحات التي تبقى جوهر الفكرة التي يُراد إيضاحها في أيٍ من النظريات الثلاث، حتى أننا نجد أن سعادة يبدو أقل تطرفا من دوركهايم وفيبر، الأول في ما يتعلق بتأثير الطبيعة على الفرد والمجتمع من جهة وتحديد مفهوم الطبيعة والمجتمع وملحقات الثاني "المعايير والقيم والثقافة والتنشئة الاجتماعية والدين". وماكس فيبر في النزعة الفردية التي ينصب جلَّ اهتمام نظريته على تقديسها وإعطائها الأولوية في صيرورة المجتمع.
تطرح الوظيفية "الطبيعة" كمعطى موضوعي لا يمكن الانفكاك عن مؤثراته، فالإنسان في نظرها ما هو إلا كائن قد أتمت الطبيعة برمجته بيولوجيا، والشذوذ يبقى خللا في هذه البرمجة "إن كل السلوك البشري متضمناً التفاعل الاجتماعي هو ناتج ترسبات موروثة نمتلكها نحن كالحيوانات فإننا ـ مثل الحيوانات مبرمجين بيولوجيا من قبل الطبيعة". وعليه فإن "النسق الاجتماعي يعمل كنسق عضوي" فكما أن الجسم البشري مؤلف من أعضاء لها صفاتها وخصائصها ووظائفها البيولوجية والفيزيولوجية (القلب، الرئتان، الكبد). كذلك المجتمع بمختلف وظائفه "إن مؤسسات ومنظمات المجتمع مثل النظام الأسري والسياسي والتربوي والديني، كلها تماثل أجزاء الكائن الحي وأعضائه، وتتكون المجتمعات من مجموعة من الأعضاء المترابطة والمتداخلة فكما هو الحال مع أعضاء الكائن البشري فإن سبب وجود أي شكل من أشكال التفكير أو العمل المؤسساتي في المجتمع هو أنها تلعب دورا حيويا وفريدا وتمثل "وظيفة حيوية" في صيانة المجتمع والحفاظ عليه في وضع مستقر، كذلك، الوضع بالنسبة للجسم البشري فإن أي فشل في أي عضو من أعضائه بالقيام بوظيفته، سيؤدي حتما الى المرض أو الى الموت في النهاية". وهذا ما تعبر عنه الوظيفية بمصطلحات مثل "فقدان الترابط الاجتماعي" أو "نقص الترابط والتكامل" أو فقدان التوازن".
ما تقدم يعطي صورة واضحة عما يشكل محور الوظيفية وما تصطلح على تسميته بالتماثل العضوي، الذي يبدو منتهى التطرف في موضوع تأثير الطبيعة "البيئة" على المجتمع، سعادة لا ينفي تأثير الطبيعة ولا كونها وجودا موضوعيا بالنسبة للكائنات الحية بمواصفاتها العامة، التي عليها أن تتكيف وفق متطلباتها، لكنه يعيد التأثير لجملة من العوامل أبرزها هو ما كان في "البيئات التطورية" حيث لم تكن الطبيعة في وضعها المستقر الذي هي عليه الآن، وثانيها التأثير الذي يكون ناتجا لخضوع الانسان لمدى زمني طويل لمؤثراتها ومع ذلك فهو يحد من تأثير البيئة على المستوى البنيوي للكائن البشري نظرا لكون الأخير له ما يسميه "حدود سلامة" أو كما يقول: تؤثر البيئة الطبيعية "على لون البشرة ونزيد هنا أنّ تأثير البيئة الطّبيعيّة في أشكال الهيئة غير السّلاليّة تأثير قويّ جدّاً فقد ذكر "بواس" أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيراً يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعاً لمقتضيات البيئة". ومع ذلك فإن لهذه المؤثرات البيئوية حدودا عند سعادة يقول: "إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة، الّتي، مع أنّها تتأثّر كثيراً بعامل البيئة، إمّا أن تستفيد من القاعدة الطّبيعيّة شأن الجماعات الرّاقية، وإمّا تهملها على حسب استعدادها وإراداتها". اما بالنسبة لموضوعية المجتمع وحتى البيئة يقول "لا يختار الفرد مجتمعه إلا بقدر ما يختار أمه وأبيه، لكنه قد يفضل أمه على أبيه". بمعنى أنه قد يفضل النظام الاجتماعي القائم على سواه وقد يرفضه مفضلا نظاما اجتماعيا آخر. لكن ما نلاحظه في كلتا النظريتين، الوظيفية والقومية الاجتماعية، هو تحديد المصطلحات التي تبقى غائمة في الوظيفية وواضحة كل الوضوح في القومية الاجتماعية، ففي حين تتحدث الوظيفية عن الطبيعة بشكل عام، نجد سعادة يحددها بالبيئة، بين المصطلح والمفهوم تكمن أولى الميزات التي تتميز بها القومية الاجتماعية بل وتتفوق بها على الوظيفية والتي بدورها تقر ضمناً بصوابية مفهومات القومية الاجتماعية لدى تناولها مصطلح المجتمع الذي يبقى أيضا عاما غائما غير محدد، فهو بتعريف دوركهايم: "حقيقة مستقلة بذاتها وله وجوده الخاص" وهذا يأتي استجابة منه لفهمه لمحتوى "المادة" والذي يبني عليه أنه يمكننا تطبيق القوانين العلمية المجردة على القوانين المجتمعية. "فالبنى الاجتماعية موضوعية مثلها مثل الطبيعة". سواء أعجبتني أم لا فهي مفروضة عليّ، فأنا "عندما أقوم بتحقيق الالتزامات. فأنا أمارس الواجبات المفروضة عليّ والتي تمَّ تحديدها وتعريفها بشكل خارجي(؟) مع نفسي وتصرفاتي المختلفة، كما هو الحال مع القانون والعادات والأعراف، حتى لو كانت هذه الالتزامات تتفاعل مع مشاعري الخاصة وأشعر بحقيقتها بشكل ذاتي فهي أو الحقيقة الخاصة بها ما زالت موضوعية حيث أنني لم اصنعها أو أخلقها بنفسي فقد ورثتها (؟) بشكل بحت من خلال التربية". وفي المحصلة ينتهي دوركهايم للقول: "إن أفكار الأفراد وكذلك أفعالهم المختلفة هي منتج القوى الاجتماعية الخارجية(؟) والتي تشكل الأبنية الاجتماعية المختلفة. فقوانين المجتمعات ليست بمختلفة عن تلك الحاكمة لباقي الظواهر الطبيعية، والطريقة التي يتم اكتشافها بها متطابقة مع مثيلاتها من العلوم الأخرى". عند هذه النقطة تقف الوظيفية عاجزة عن الاجابة عن التساؤل المنطقي وأيضا العلمي الذي يطرح: أنه إذا كانت القوانين الاجتماعية هي متطابقة مع الظواهر الطبيعية فلماذا تختلف المجتمعات بعضها عن بعض، إذا لم تكن البيئة هي العامل الحاسم في هذا الشأن ولماذا تختلف القوانين والعادات والأعراف بين مجتمع وآخر. لو لم تكن البيئة لا الطبيعة هي الحاكمة بقوانينها الى الحد الذي لا يلغي دور الفرد، حيث العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية وفق سعادة.
يختلف سعادة من خلال فهمه للمجتمع مع دوركهايم، فمن جهة أولى يستخدم مصطلح "المجتمع" كمفهوم "لوحدة الحياة" أو هو "وحدة الشعب" أو هو "الأمة التي هي وحدة الشعب المتولدة من تاريخ طويل يرجع الى ما قبل الزمن التاريخي الجلي"، ويفرق بينه وبين المتحد وبينه وبين المجتمع المصطنع (كما هو الحال في زمن الامبراطوريات حيث الأمم على اختلافها دولة واحدة) (1) كذلك مفهوم البنى الاجتماعية عند دوركهايم تتكون من مجموعة من المعايير والقيم يقول: "إن تحقيق الانجاز في الحياة الاجتماعية بين الأفراد ووجود النظام الاجتماعي (التضامن العضوي) يتم تدعيمه بالثقافة والتي تمثل المعايير الجمعية، وقواعد السلوك (الوقائع الاجتماعية) ليست سوى امتداد خارجي ويتم فرضها على هؤلاء الأفراد".
وعلى الرغم من صحة ما تذهب اليه الوظيفية في مفهوم البنى الاجتماعية وموضوعيتها بالنسبة للأفراد لكنها تخطئ في ردها لمثيلاتها من الظواهر الطبيعية ذلك أنها تعود في جوهرها الى مفهوم المجتمع كوحدة حياة، كاستمرار الحياة على أرض محددة المعالم لها مؤثراتها التي تختلف من بيئة الى أخرى كما يشير ويؤكد سعادة لكيفية نشأتها وتطورها وما هو نابع من وحدة الحياة وما هو طارئ نتيجة ظروف قاهرة خارجة على منطق الوحدة الحياتية والتي هي بالذات مصدرها ومُقرر منحى تطورها التاريخي يقول: "إنّ الاشتراك في الحياة يوّلد اشتراكاً في العقليّة والصّفات كالعادات والتّقاليد واللّهجات والأزياء وما شاكل. الاشتراك في الحياة هو ما يعمى عنه عدد وافر من الكتّاب والدّارسين". يتابع سعادة تحديد مصطلحاته فيقول: "والفرق بين العادات والتّقاليد أنّ الأولى لا يجب أن تكون موروثة من الأجيال الماضية والثّانية وراثية في الأجيال. تتناول التّقاليد ما هو بمعنى الطّقس أو القانون غير المكتوب لما يكون لها من المساس بالحالات النّفسيّة العميقة وشؤون الحياة الهامّة كالزّواج وأحواله والمآتم وطريقة دفن الموتى ونظام العائلة، وهي لذلك أثبت وأصلب من العادات. وبالإجمال العادة تتعلّق، على الأكثر، بالذّوق وما هو مستحسن وما هو مكتسب في الحياة الجيّدة اليوميّة، والتّقليد يختصّ بما هو جوهريّ في الحياة الاجتماعيّة وما يتعلّق بالاعتقادات الخفيّة المتوارثة ومنها ما صار اعتقادات دينيّة أو نصف دينيّة. تنشأ التّقاليد من اختبارات الحياة والاعتقادات بشأنها وتنشأ العادات من ظروف الحياة واستحسان بعض أساليبها ورموزها. فإنّ من التّقاليد والعادات ما هو مشترك بين عدّة أمم أو بين عدد كبير من الأمم، خصوصاً الأمم الّتي كانت قديماً قبائل أو شعوباً متجاورة كالشّعوب الساميّة. فإنّ هذه الشّعوب جميعها تشترك في تقاليد وعادات بعضها دينيّ وبعضها اجتماعيّ، ولكنّ هذه التّقاليد والعادات ليست كلّ تقاليدها وعاداتها موحّدة، بل إنّنا نجد لكلّ من هذه الأمم تقاليد وعادات خاصّة بها ناتجة عن اختباراتها الخاصّة الشّخصيّة وعن نموّ أذواقها بتفاعلها مع بيئتها وباتّصالها بالعالم الخارجيّ. ووحدة هذه التّقاليد والعادات الشّخصيّة، الّتي تظهر وجهاً من نفسيّة الأمّة في مجرى حياتها، هي العنصر الهامّ من عناصر وجود الأمّة. كلّ تطوّر ثقافيّ في أمّة من الأمم يولّد تقاليد جديدة. وشرط التّقاليد المميّزة الأمّة أن تكون متولّدة من حياة الأمّة". هذا التحديد المتعمق في ماهية المعايير والقيم التي تفعل في المجتمع، هو ما يوهي مختلف نظريات الغرب أمام القومية الاجتماعية، ـ وهذا ما تغفله الوظيفية قصدا بهدف التعمية على واقع الكيانات السياسية القائمة ـ والذي بسببه ـ وفق ما نعتقده قد تم تجاهل سعادة كعالم اجتماع رائد في هذا العصر.
أما لجهة الثقافة التي تدعم البنى الاجتماعية عند دوركهايم، يعرفها سعادة قائلاً: "الثّقافة هنا بمعنى Culture وهي مجمل العلوم والفلسفات الّتي تتناول الحياة وما له علاقة بها، وما يحصل من ذلك من مستوى عقليّ واتّجاهات فكريّة واعتقادات مناقبيّة وإدراك للشّؤون النّفسيّة والمادّيّة. والحقيقة أنّ طبيعة الثّقافة عامّة كطبيعة الدّين. وقد مرّ على العالم أدوار ثقافيّة سمّي كلّ دور منها باسم الشّعب الّذي قام به (الاثم الكنعاني) أو اللّغة الّتي كانت واسطته، ليست الثّقافة شيئاً خاصّاً، بل شيئاً عامّاً يتفاوت في الدّرجات بين الأقوام. وجميع الأقوام المتمدّنة يشتركون في ثقافة واحدة عامّة دورها هو الدّور العصريّ. ولكنّ كلّ أمّة من هذه الأمم تحتفظ لنفسها بأسلوبها الأدبيّ أو الفنيّ الخاصّ فيما تعطيه لهذه الّثقافة. ويجوز أن يكون لكلّ أمّة بعض مظاهر ثقافيّة خاصّة. إذن لا تعيّن الثّقافة الأمّة ولكنّ الثّقافة تكون فارقاً بين أمم وأمم. والسّبب في هذا الفارق اقتصاديّ جغرافيّ قبل كلّ شيء، حيثما وجدت المؤهّلات الرّوحيّة". لمفهوم الثقافة، عند سعادة، مفهوم أعمق بكثير مما لهذا المصطلح من مفاهيم، اذ يقيس به سعادة التطور بمختلف مناحيه، فالثقافة وفق رؤيته، تتخطى مفهوم القناعات السائدة في مجتمع ما، فهذه لا تعبر عن مراحل التطور الاجتماعي لهذا المجتمع أو ذاك بقدر ما تعكسه من نسبة العمل المبذول في منحى ما الى نسبة الزمن والناتج وبالقدر الذي يكون فيه الناتج أكبر بكثير من حيث الجهد والزمن، والثقافة هنا تشكل الفارق بين الأمم من حيث التقدم والرقي وليست مجرد نظام سائد فيه كل الأوهام والخرافات والقناعات الفردية او المجموعية غير القائمة على ما يعني مصلحة المجتمع من حيث هي "كل ما يولد عملا اجتماعيا" وفق سعادة، التي يطالب دوركهايم بالتزام بها قائلا، أن النظام الاجتماعي "نابع من الالتزام، من خلال وجود مجموعة من المعايير المشتركة والقيم المتبعة". من هنا كان الخلل الاجتماعي الفردي يرجع الى "الأنومي" أي "ضعف أو نقص المعايير التنظيمية" بحيث يُعَدْ "الأنومي" نتيجة العقاب الكامن للمجتمع المعاصر المتنافس، وذلك بدون معايير ضابطة للسلوك، إن الأفراد يظهرون الكثير من الرغبات غير المشروعة والشرهة بالإضافة للرغبات غير المحدودة، وإثارة المشاعر العامة وكذلك عدم الرضا". أما المجتمع الذي يراه دوركهايم مجتمعا مثاليا فهو المجتمع الذي "تسود فيه الحرية الفردية التي تضمن فقط في وجود مجموعة من المعتقدات والسلوكيات المنظمة والمقبولة من خلال التنشئة الاجتماعية، حيث أن الفرد يخضع وينصاع للمجتمع وهذا الانصياع هو شرط حريته، ذلك أن حرية الأفراد تتكون أساسا في ظل التخلص من الانقياد الأعمى لقوى الجهل المادية، وذلك يتم من خلال معارضة هذه القوى الظالمة الجاهلة باستخدام قوى الذكاء العظيمة المتمثلة في المجتمع والتي يحتمي تحت ظلالها المواطن". في كل ما تقدم، لا يبين لنا ما هو المقصود بالالتزام، أو تلك المعايير والقيم وكيف تنشأ وكيف تتطور، أو الحرية الفردية ولا حتى المعتقدات والسلوكيات ولماذا هي مقبولة ومشروعة وما هي القوى الظالمة أو قوى الجهل المادية وماذا يقصد بقوى الذكاء ولماذا المطلوب من المواطن ليكون مواطنا أن ينصاع لها. فهذه مجرد مصطلحات عائمة وغائمة وتحتمل كل تأويل.
يختلف سعادة مع دوركهايم في مصطلح "النظام الاجتماعي" ومستتبعاته ـ المعايير والقيم ـ من حيث المفهوم ومن جهة ما يتشكل منه هذا النظام يقول سعادة: "فالنّظام الاجتماعيّ هو دائماً حاصل تفاعل الإنسان والطّبيعة أو البيئة بطريقة معيّنة أو منبعث منه وموافق له، فكما أنّ التّطوّر الإنسانيّ، نشوءاً وارتقاءً، كان وفاقاً لمقتضيات تطوّرات الطّبيعة والبيئة، أي إنّه تطوّر محتّم بالاختيار الطّبيعيّ لا مفضّل بالاختيار العقليّ، كذلك التّطور الاجتماعيّ، نشوءاً وارتقاءً هو وفاق لتطوّر التّفاعل بين الإنسان والبيئة بدافع الحاجة المادّية. فإذا كان العقل نتيجة تطوّرات الدّماغ الفيزيائيّة، فالعقليّة الاجتماعيّة نتيجة تطوّرات التّفاعل الماديّ لتأمين الحياة الاجتماعيّة. وأنه إذا كانت الرّابطة الاقتصاديّة أساس الرّابطة الاجتماعيّة البشريّة، فالعمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع. أنّ النّظام الاجتماعيّ ابتدأ من مرتبة الشيّوعيّة في نظام العشيرة الدّمويّ. (وعند الهنود الحمر) في النّظام الاجتماعيّ الّذي يحدّد جميع العلاقات بالعرف والعادة ولا نرى إقامة ثابتة وبداءة عمران. وترقية النّظام الاجتماعيّ إلى ما يزيد عن إمارة القبيلة وتعيين العلاقات بين السّادة والعبيد أو إقرار هذه العلاقات على الحالة التي توجد فيها. في طور الثّقافة الزّراعيّة الصّناعيّة القائمة بأود المجتمع عن طريق العائلة والتّملّك الشّخصيّ نجد نموّاً في النّظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ القائم على طبقات ثلاث: الأشراف، الصّنّاع الأحرار، العبيد. "حيث" تظلّ القرابة الدّمويّة الفاعل الأقوى في النّظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ". هكذا هو النظام الاجتماعي، بناء اجتماعي يعكس ما توصل اليه المجتمع من مرتبة ثقافية في ترتيب وتنظيم شؤون حياته. فالنظام الاجتماعي ليس مجرد معايير وقيم وسلوكيات مقبولة أو مشروعة بقدر ما هو بناء ثقافي له مواصفاته وخصائصه على مستوى التقدم والرقي من حيث مدى الحرية التي يطلق لها العنان لتفسح المجال رحبا لكل تطور وتقدم ورقي، أو يحد ويحول دون ما تقدم، وهكذا تختلف الأمم بأنظمتها المجتمعية المستمد أساسا من وحدة الحياة فيها والاشتراك في النظرة الى الحياة والكون والفن، التي يعكسها بشكل مباشر النظام الاجتماعي القائم.
ويبقى الاختلاف قائما بين القومية الاجتماعية والوظيفية في نظرة الأخيرة للدين من حيث هو اعتقاد أو معتقد يوحد المجتمع أو ما تطلق عليه عبارة "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" ومثالها في ذلك "شعب" الأبوريجين القائم في استراليا ومنه وفق التعبير الوظيفي سلالة الأورنتا حيث الطوطم هو "شعار القبيلة، فهو رمز لهذه الشعوب داخل مجتمعهم والذين لا يعيش معه أفراد هذه الشعوب ولكنهم يحسون بالانتماء كأقربائهم، فهم أفراد يجب مساعدتهم ودعمهم عند الضرورة ومن خلال الطوطم، الذي يمثل رمز المجموعة فإن افراد المجموعة يشعرون بالانتماء تجاه بعضهم كما يشعرون بوجودهم. هكذا تكون وظيفة الطوطم هي توحيد للأفراد داخل نظامهم الاجتماعي وذلك من خلال توحيد أجزائه معا وتحديدها والحفاظ عليه كوحدة واحدة. فالطوطم يبقى في هذه الحال وسيلة للتضامن والتماسك بغض النظر عما يعنيه أو يفرضه من طقوس". الدين، أيا كان، من حيث هو معتقد، لا يختلف عن الطوطم "الأورنتي" يجب أن يكون وسيلة للتضامن والتماسك الاجتماعي، هذه النظرة الساذجة والبدائية للدين "كفلسفة اجتماعية" وفق سعادة، لا تعني شيئا لنظام اجتماعي تتوزعه أديانٌ مختلفة في الطقس وفي مطلقية المعنى المقدس للمعتقد الديني، بحيث يستعدي متَّبعي هذا الطقس أو هذا المطلق المقدس الآخر تلقائيا، حتى ولو لم يُشرْ الى ضرورة ذلك، لكنه من حيث التأويل والاجتهاد يعني ذلك بالمطلق. ما تهتم به الوظيفية من الشأن الديني أنه كمعتقد يبقى موحدا لا مُجزئا للوحدة الاجتماعية، ومهما يكن من أمر العلمانية والالحاد والقانون المدني وحتى تلك المناسبات العامةـ كالأعياد الوطنية والقومية والأعياد العالمية، الأول من أيار، عيد الأم، ـ التي ليس لها علاقة بالإيمان أو بما وراء الطبيعة، فإن الوظيفية تعتبر كل ما تقدم يدخل في معنى الدين طالما أنه معتقد جامع
يبقى أن نشير الى افتقار الوظيفية لأية رؤية اقتصادية، رغم محاولات واحدا من رجالاتها تسديد هذا النقص "مالينوفسكي" عبر مثال "الكولا" الذي يبقى في جوهره لا يمت للاقتصاد بصلة "تعمل لتصبح غنيّا ومن ثم توزع مالك هبات لتصبح كريما".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ يمكن للمدقق العودة لما قيل في موضوعي "الدولة ـ المتحد" و"الدولة ـ الأمة "
الدين كـ (فلسفة اجتماعية)، وفق سعادة، وفي مجتمع تتوزعه أديان مختلفة، لا يمكن أن يكون جامعا، بل على العكس من ذلك، سيكون بكل تأكيد، مجزئا للوحدة الاجتماعية، خاصة وأنه يحمل في ذاته تناقضه مع الأديان الأخرى، والذي يجعله دينا متمايزا عن الأديان الأخرى وإلا لما كان دينا، بقدر ما كان مذهبا من مذاهب الأديان الأخرى، يضاف الى ذلك الرؤية الماورائية المستقلة للدين، وتلك الزمنية التي تستهدف الدولة بدستورها وقوانينها وأنظمتها مسخرة إياها لخدمة الدين حيث "لا قيام للدين إلا بقيام دولته" وفق ما ذهب اليه "محمد عبدو وجمال الدين الأفغاني" أو الوهابية التي نادى بها "محمد بن عبد الوهاب" أو تلك التي اجتهد فيها "ابن تيمية" أو المذاهب الأخرى المحمدية منها والمسيحية، هي بيت القصيد الذي حاول سعادة في كتابه "الاسلام في رسالتيه" درء خطرها عن مجتمعه، وفي محاضراته العشر حيث مبدئه الاصلاحي القائل: "فصل الدين عن الدولة" و"ازالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب" و"منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين" ذلك أنه في حال كالتي نوهنا عنها، لا يمكن للدين أن يكون كمعتقد، معتقدا جامعا، إلا في إطار الآخذين بواحدٍ من مذاهبه أو اتجاهاته الفلسفية منها والزمنية، وفي حال كهذه يبدو الدين مجزئا أيضا حتى "للملة" الواحدة كالمارونية مقابل الأرثوذكسية أو هذه مقابل الكاثوليكية وهذه أيضا مقابل البروتستانتية، خاصة وأن الدين بطبعه أممي النزعة ووراثي بالدرجة الأولى حيث تُلَقَنُ رؤاه منذ الطفولة و التي لا انفكاك من مؤثراتها على مدى الحياة.
هذا ما يمكن ملاحظته في كتابات ماكس فيبر وتحديدا في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" والذي أسهب فيه كيف أن هذه الأخلاق كانت وراء نشوء الرأسمالية والتي إليها يعود ما نشهده من رقي وتقدم، حتى أن ماكس فيبر البروتستانتي راح يفاضل بين هذه والكاثوليكية متهما الأخيرة بإعاقة التقدم الذي تكتنز ملامحه "الكاليفانية" مفاضلا أيضا بينها وبين البروتستانتية (1) وبين مختلف المذاهب التي تفرعت عنها وفق مبدأ / تكييف الدين وفق متطلبات حياة الأمم وميراثها الثقافي / الذي نراه متغلغلا في مختلف المذاهب الدينية أياً كانت.
فيبر، في كتابه المنوه عنه، لا يتناول اليهودية أو المحمدية أو حتى الأرثوذكسية، فقط الكاثوليكية بمشتقاتها ويبني عليها مختلف ما جاء في "الأخلاق البروتستانتية وروح الرسمالية"، بخلاف سعادة الذي تناول الأديان الأكثر انتشارا في العالم، محاولا التوفيق بينها بما يضمن مصلحة أمته التي كانت مصدرها. بينما حاول فيبر الاجابة عن تساؤل وفق "ريمون أرون"(2): "إلى أي مدى تؤثر التصورات الدينية عن العالم والوجود في السلوك الاقتصادي؟" مقررا وفق "ريمون أرون" أيضا: "1- أن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات يفهم في إطار تصورهم العام للوجود وتعتبر المعتقدات الدينية وتفسيرها إحدى هذه التصورات للعالم والتي تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات بما في ذلك السلوك الاقتصادي. 2- إن التصورات الدينية هي بالفعل إحدى محددات السلوك الاقتصادي ومن ثم فهي تعد من أسباب تغير هذا السلوك". هذه المسألة لم يتناولها سعادة لأسباب شتى أبرزها بل وأهمها كما يقول: "إن سورية تحيا اليوم ليس في القرن العشرين في حالتنا الحاضرة، إنها تحيا في القرون المتوسطة، فالنظام الاقتصادي فيها لا يزال نظام القرون المتوسطة". لقد تناول سعادة في كتابه "الاسلام في رسالته" في مقابل فيبر وكتابه "الأخلاق البروتستانتية" ما تعاني منه أمته من انقسام مذهبي، طائفي، مللي. وما قد يستتبع ذلك من انقسام وتجزئة وتشتت يقول: "إننا في الحزب قد بطل أن نكون محمديين أو مسيحيين، أو دروزاً، وصرنا سوريين قوميين اجتماعيين فقط في كل ما يعني الاجتماع والسياسة، وترك الحزب في مبادئه حرية الاعتقاد الفردي الديني لكل عضو فيه ولكل عضو في الدولة القومية الاجتماعية".
يبقى السؤال الذي يحكم مختلف التراث الفيبري هو: "لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط؟ بمعنى آخر: لماذا تطورت العقلانية في هذه المنطقة من العالم أكثر مما حصل في سواها؟ نقول ذلك ونحن نعلم أن الحداثة تعني عقلنة العالم: أي دراسة العالم بشكل علمي، موضوعي، عقلاني لا بشكل غيبي، ميتافيزيقي، خرافي. هنا يكمن الفرق بين مجتمعات الحداثة والمجتمعات التقليدية. فهذه الأخيرة تسيطر عليها الرؤيا القديمة المليئة بالخرافات والمعجزات والأساطير. ثم جاءت الحداثة فتبخرت كل هذه الأساطير والخرافات وتم نزع السحر عن العالم وبدا العالم على حقيقته المادية والفيزيائية والبيولوجية" بينما بقي السؤال الرئيس عند سعادة: "ما الذي جلب على أمتي هذا الويل؟" والفرق بيِّن بين السؤالين من حيث المستوى الذي جاءت به كل من الفيبرية والقومية الاجتماعية، ففي كتابيه "مفاهيم أساسية في علم الاجتماع" و"الاقتصاد والمجتمع" أطلق فيبر لنفسه العنان لتمجيد النزعة الفردية باعتبار الفرد مقياس الحقيقة، وإن تكن غير الكاملة أو أن الحقيقة تبقى أشمل حتى مما قد يكتشفه الفرد منها، يرد سعادة على ذلك قائلا أنه إذا كان الفرد مقياس الحقيقة، فلن تكون هناك حقيقة بل حقائق عددها عدد الأفراد، فالحقيقة من حيث هي وجود ومعرفة لا يمكن تجزئتها لعدد لا متناه من الجزئيات الفردية، خاصة اذا ما كانت الحقائق تُعنى بحياة الأمم، وعليه يصب سعادة جام غضبه على النزعة الفردية محذرا منها ومن مضارها على حياة الأمم، مناهضا ما جاء به فيبر الذي أخذ الوجه الحضاري من الفردية والتي هي وفق سعادة تحمل في طياتها كل ما هو تقدمي حيث "العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية"، فيبر يأخذ هذه الوجهة ويبني عليها فلسفته الاجتماعية، يقول: "الفعل الاجتماعي ـ بالتعريف الفيبري صورة للسلوك الإنساني الذي يشتمل على الاتجاه الداخلي أو الخارجي الذي يكون معبراً عنه بواسطة الفعل أو الإحجام عن الفعل، إنه يكون الفعل عندما يخصص الفرد معنى ذاتياً معيناً لسلوكه، والفعل يصبح اجتماعياً عندما يرتبط المعنى الذاتي المعطي لهذا الفعل بواسطة الفرد بسلوك الأفراد الآخرين ويكون موجهاً نحو سلوكهم". وعليه، فلا بدَّ لفهم السلوك الاجتماعي أو الظواهر الاجتماعية على مستويين الأول على مستوى المعنى للأفراد أنفسهم والثاني على المستوى الجمعي ومن وجهة نظر الفرد كعضو في جماعة. يتضح أن فيبر أعطى لمفهوم الفعل الاجتماعي معنى واسعاً كل السعة بوصفه الموضوع الأساسي للبحث السوسيولوجي من وجهة نظره فلقد ضمنه كافة أنواع السلوك ما دام الفاعل يخلع عليه معنى. والمعنى هنا، كما أوضحه "ريمون أرون" السلوك في ضوء الغرض والمرمى الذي يسعى إلى تحقيقه الفاعل". وبالتالي فلا بدَّ من "فهم المعنى الذي يخلعه الإنسان على سلوكه وهذا المعنى الذاتي بالطبع هو المعيار الذي على أساسه يمكن تصنيف الأفعال الإنسانية توطئة لفهم بناء السلوك"، وهذا ما دفع فيبر لتنميط الفعل كما سبق ونوهنا عنه في تناولنا لأعمال ماكس فيبر، لذا كانت. "العلاقة الاجتماعية عند فيبر تعني تبادل الأفعال بين الأفراد على أساس فهم كل منهم للمعاني التي يضيفها كل فرد على سلوكه" هذا الفهم الفيبري للفردية يناقض فهم سعادة لها، ذلك أن سعادة يعتبر أن الفردية شيء يتناقض والمجتمعية من حيث أن المصلحة هي كل ما يولد عملا اجتماعيا وفي هذا السياق تبدو الفردية متعارضة والمصلحة المجتمعية يقول: "من الأول رأينا أن النزعة الفردية والرأي النفعي الفردي الشخصي هما مرض من أعظم الأمراض، وصعوبة من أعظم الصعوبات الداخلية التي يجب أن نتغلب عليها لنواجه العالم الخارجي كوحدة متينة وإرادة واحدة. الشخصية الفردية المنافية لنفسية الأمة وشخصيتها وارتقائها. القضية هي قضية كل المجتمع لا قضية الفرد، لكل فرد منهم قضية تختلف عن قضية الفرد أو الأفراد الآخرين. القضية هي حياة المجتمع وقضية مصير المجتمع. قضية ارتقاء المجموع أو انحطاط المجموع قضية جمال حياة المجتمع لا قضية جمال حياة الفرد. يوجد بعض المجتمعات في العالم لم يمكن أن تصل إلى هذه النقطة من التفكير. وبالنظر لحالة نجاح أو لحالة استقرار واطمئنان وبحبوحة في حياتها، يوجد من يظن أن عدم وصولها لها، ــ إلى هذه النقطة ــ هو الفاعل الرئيسي في نجاحها في حياتها. إن هذه النظرة هي نظرة خاطئة لأنها لا تشبه نظرة شعوب أخرى شددت على الناحية الفردية من الأمور أو لم تجد ما يدفعها على وجوب التشديد على الناحية الاجتماعية، على الناحية المجموعية. إذا أخذنا أميركانية مثلاً نجد أن الأميركان مولعون ولعاً شديداً بالتكلم عن الشخصية الفردية والشعور الفردي وسائر شؤون الفرد. والبعض منا وأعني بهذا البعض الذين لم يدرسوا أسباب الأشياء يظنون أن هذا منتهى درجات الرقي في التمدن والنظرة الاجتماعية الإنسانية. ولكن الواقع هو غير هذا. الواقع هو أن الأميركان لم يكونوا قد وصلوا، ولست أدري بالتدقيق إذا كانوا قد وصلوا إلى هذه الدرجة التي أشرت إليها في مقدمة "نشوء الأمم" ــ درجة الوعي للشخصية الاجتماعية. إنهم شعروا مرة واحدة فقط بنظرة الجماعة وبفرق المجتمع والجماعة. تلك كانت في الوقت الذي احتاج الأميركان إلى إعلان الثورة على "المتروبول".
بعد أن حققت تلك الثورة ما حققت لم يعد الأميركان يشعرون بنظرة المجموع، بنظرة المجتمع، إلى الكون والحياة لأن أميركانية بعد استقلالها وجدت نفسها جسماً عظيماً جداً كبيراً هائلاً بثروته المادية بغناه، بالحديد بالفحم بالزيوت بالحبوب بالماشية بكل ما يحتاج إليه الإنسان. وهي مع هذا الغنى على بعد كبير عن أي مجموع آخر يمكن أن يكون عدواً مزاحماً على الخيرات والبلاد. كان بعدهم وعظم جثة الوطن الأميركاني من عوامل الاطمئنان مع السعة الداخلية في البلاد، فانصرف الناس إلى الشؤون الداخلية، إلى مسائل التفاعل الداخلية، إلى المصالح الجزئية الداخلية التي بررت وتبرر نظرة الأميركان إلى الكون والفن. لم توجد الولايات المتحدة بحاجة إلى مجهود روحي لكي تصبح عظيمة، لذلك نجد، حتى حروبها، فاقدة المعنى الروحي العظيم ونرى أن دخولها حرب 1914 ــ 1918 كان من باب الدفلوماسية. في الحرب الأخيرة لم نجد مبدأ واحداً اقتصادياً ــ روحياً أو غير ذلك فاعلاً من الناحية الأميركانية يحتاج إليه العالم وتحتاج إليه الإنسانية في سيرها. أما الديمقراطية التي ناضلت أميركانية لأجلها، ليست مبدأ أميركانياً ولم تضف أميركانية إليه شيئاً من ذاتيتها غير هذا التراخي. وهنا فيما يسمونه "الأميركان كوميونتي" نجد أمثالاً كثيرة من التراخي الأميركاني البديع الذي أصاب مرضه بعض المشتغلين معهم أو المتعلمين عندهم أو الأساتذة المشتغلين معهم. أما نحن فمجتمعنا هو غير المجتمع الأميركاني، لذلك وجب أن تكون نظرتنا وجهادنا في نفسنا من أصل الأغراض الأساسية الكبرى التي تتم بواسطة نفسنا. في الكلام على هذين المبدأين، خصوصاً على المبدأ السابع تناولت نواحي نفسية وسياسية. ومن النقاط الأخيرة الهامة التي تناولتها كانت نقطة النظرة الفردية والنظرة المجموعية أو الجماعية وهذه الأخيرة هي وجهة نظرنا نحن. وضربت مثلاً على الأسباب التي تحمل مجتمعات معينة على الأخذ بوجهة نظر أخرى، مما يحمل البعض من غير الدارسين والمنقبين على الظن، أننا نحن هم المتأخرون في طريقة التفكير عما وصلت إليه بعض المجتمعات الراقية وبينت أن المسألة بالعكس تقريباً. ضربت مثلاً أميركانية أو الولايات المتحدة الأميركية من حيث النظرة الفردية إلى الحياة فيما يختص بعلاقة الفرد بالمجتمع وأبنت أن الأسباب التي تحمل مجتمعاً كمجتمع أميركانية على الأخذ بوجهة نظر من هذا النوع هي أسباب ضخامة وكبر أرض الولايات المتحدة الأميركية، الغنية بمواردها الطبيعية من معادن وحبوب وماشية إلى آخره. ومن جهة أخرى بعد تلك الأرض عن أراض متاخمة تقطنها شعوب عدوة للشعب الأميركاني. فكبر البلاد وغناها وبعدها عن أن تكون محاطة بأعداء تحتاج إلى تضامن وثيق للدفاع عن نفسها، جعل طابع الحياة في الولايات المتحدة الأميركية طابع التراخي المجموعي الذي يظهر في هذه النظرة الفردية أو الإفرادية إلى الحياة". هذا على المستوى الاجتماعي، أما على المستوى الاقتصادي فسعادة يرى ـ وفق الحال التي عليها أمته أن "أن هذه الحالة (الاقطاع) تمثل تأخراً عظيماً من الوجهة الاقتصادية بالمعنى القومي، لأنها تضع مساحات واسعة من الأرض في أيد فردية غير شاعرة بالمصلحة القومية والترابط القومي الاقتصادي، يتصرف الفرد بهذه المساحات من الأرض وفاقاً لنظرة فردية محض، بصرف النظر عن أي فكرة اجتماعية أو معنى أساسي عام. ومن هنا ينشأ إجحاف للبلاد وإجحاف بفئات من الناس تعمل في الأرض تحت سيطرة وسلطة مطلقة من الإقطاعي الذي، وإن لم يكن معترفاً به إقطاعياً قانونياً، فإن الامتيازات التي يتمتع بها تجاه الحكومة وتجاه الشعب تجعله ذا سلطة مطلقة يتصرف بالناس في إقطاعه تصرف المالك في ملكه أو السيد في عبيده". يضيف قائلا: "يضع هذا المبدأ (يقصد تنظيم الاقتصاد على أساس الانتاج) حداً للتصرف الفردي المطلق في العمل والإنتاج، الذي يجلب أضراراً اجتماعية كبيرة، لأنه ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني". ولا يكتفي سعادة في المثال الأمريكاني على ما تحمله النظرة الفردية من مساوئ، بل يضرب مثالا آخر هو فرنسا، يقول: "قد يخطر للبعض أن فرنسة مثلاً، تقرب مثلاً آخر من أمثلة الفردية إلى الحياة، وهذا صحيح. ومثل فرنسة يأتي مثلاً آخر لتأييد وجهة نظرنا في الموضوع. إن فرنسة قد خسرت حربين متتاليتين. وأنا أقول إن تدهور فرنسة من النظرة الفردية إلى الحياة، والنظرة الفردية إلى الحياة هي المسؤول الأول والأوحد عن انكسارها التام وانسحاقها في حربين عظيمتين. إن التراخي الفردي وفقدان الوجدان المجموعي المتين والاتجاه الموحد في الحياة الذي يجمع وحدة الأمة في إرادة واحدة واتجاه واحد هو المسؤول عن عدم تمكن فرنسة من الثبات والنهوض إلى حياة جديدة بعد الانكسار في حربين متتاليتين. ولو ذهبنا ندرس مظاهر التطور النفسي في فرنسة في أواسط الحرب العظمى الأخيرة لوجدنا حالة انحلال غريب في الأمة الفرنسية، ثم لوجدنا كيف تحاول أن تكتشف مبدأ أو نظرة جديدة تنقذها من حالة التضعضع التي وصلت إليها بعامل النظرة الفردية التي تسلطت مدة طويلة من الزمن. بعد الهدنة مع ألمانية وقيام حكومة فيشي، بدأ الفرنسيون يبحثون عن مبادئ أو نظرات في الحياة جديدة يمكن أن ترفع المجموع الفرنسي إلى مرتبة أمة ناهضة مستعيدة لحيويتها، ولكن ذلك كان عبثاً". المثال الأكثر وضوحا حول النزعة أو النظرة الفردية يطرحها سعادة عن حال أمته يقول: "الفردية، خصوصاً في بلاد كبلادنا، لم تكن لها تربية قومية ولا وعي قومي ولم تتمكن أن توقظ شيئاً قومياً لا في طلبة المدارس ولا في فئة ولا في مجموع. ينشأ الفرد منا في حالة من هذا النوع غير شاعر إلا بمسائل وقضايا محدودة تختص بدائرته هو، مصيره هو، مهما كان مصير مجموع الأمة، مجموع الدولة أو الجماعة الكبرى. فالرسمال الفردي الآخذ في أن يزداد أمام أعيننا في هذه البلاد ويسيطر على مصير هذه البلاد والشعب، هو من أسوأ حالات الرساميل في العالم على الإطلاق. وطبعاً لكي يمكن أن ننظر في حالة العمل والعمال والرسمال يجب أن نصل إلى الطور الصناعي وإنّا بدون شك نرى أنه لا بد للدولة القومية المقبلة من أن تسير في إيجاد حالة صناعية في هذه البلاد تخرج الأمة من حالة الرق للنظام الرسمالي القائم على الصناعة الكبرى في الأمم الكبيرة المتقدمة. إن الأمة التي تبقى في حالة زراعية محض تبقى حتماً مستعبدة للأمة التي هي منظمة صناعياً، تنظيماً عالياً يمكنها من إحداث الآلات الصناعية والحربية لإخضاع أي شعب لا يخضع لأحكامها الاستبدادية. من هذا يعني أننا لا نرمي إلى إبادة الملكية الشخصية كملكية عملية ولا إلى أخذ الرسمال من أيدي الأفراد رأساً ونزع حق التصرف من أيديهم، ولكن يعني أن الأفراد الذي يتصرفون الآن بالرسمال تصرفاً فردياً يتصرفون به تحت إشراف الدولة لضبطه وتوفيقه لأنهم مبدئياً مؤتمنون عليه ائتماناً من قبل المجتمع يبقي لهم قوة الاستنباط والتفنن لإنتاج ما يشعرون بأنفسهم الكفاية لإنتاجه، ويتصرفون بحرية ضمن شروط تضعها الدولة. ولكن يكون من حق الدولة أن تنظم للأفراد وتحدد لهم وتسن القوانين اللازمة لضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج الحاصل من العمل فلا يعود الرسمالي الفردي، من جهة حقوقية، حراً في أن يتصرف تجاه العمال وتجاه الذين يستأجرهم أو يستأجر منهم الأرض أو ما شاكل ويفعل ما تمليه مصلحته الفردية بصرف النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج والذين يجب أن يكون لهم حق في نصيب من الإنتاج. وهذا يعني أن الإقطاعات الكبيرة التي تظهر اليوم بمظهر ملك شخصي تحتاج إلى إعادة النظر من قبل الدولة فيها وإلى إعطائها اتجاهاً يحرر جماعة كبيرة من الناس ويعطيها المجال لتتحرر في نفوسها ولتعمل على أساس جديد يساعد على رفع مستوى حياتها والحصول على حياة أليق بالإنسان من الحياة التي يحياها اليوم. وهذا لا بد منه لأنه كما قلنا إن النظام الاقتصادي السيئ الذي يجعل مئات وألوفاً من الفلاحين في حالة من شظف العيش، في حالة من الجهل، في حالة من المرض والبؤس، لا يمكن لدولة عصرية من تثبيت نفسها في تنازع البقاء. إذا احتاجت الدولة إلى هؤلاء الألوف في حالة حرب مثلاً، وجدت أنها لا يمكنها أن تستند إليهم في الحرب فكيف تستند إلى رجل خمدت في نفسه عوامل الحياة وشوهته الأمراض وأقعده الذل ليكون بطلاً يحارب بكل قلبه وكل نفسه من أجل وطنه وأمته اللذين يجد فيهما تحقيقاً للحياة المثلى التي يريد ويطمئن أن يحياها. لذلك نحن لا نقول بالنقابات نظاماً ولكن نقول بالتصنيف الفني للإنتاج، والتصنيف الفني لا يعني النقابات المحاربة لتصل إلى حقوقها، بل يعني إيجاد الأسس الصحيحة التي يصير فيها التوزيع مع حفظ نظر الدولة في المسائل الأساسية. لأنه لا يمكن أن نعني إلغاء الرسمال بالمرة، لا يمكن إلغاء الرسمال كرسمال بالمعنى الجاري، لا يمكن تعطيل الرسمال دون تعطيل المجتمع. إن الرسمال يمكن أن يتحول من حالة إلى حالة ولا يجوز أن يلغى أبداً. وإذا منع التصرف بالرسمال الفردي، فلا يعني ذلك منع الرسمال بل منع الاستبداد بالرسمال من قبل فرد ضد مصلحة المجموع. والأمة الناهضة لا يمكن أن تفكر أبداً بمسألة جنونية كإلغاء الرسمال مثلاً، إن الرسمال ضمان وفي حالة اقتصاد لا قومي لا يلام الرسمال الفردي إذا طلب المزيد من رسماله لأن ليس له العلم بما يحاربه به الزمن. الضمانة الوحيدة للرسمال الفردي هي أن يزداد ويزداد للنهاية. الرسمالي الفردي لا يدري ما يحدث إذا نشبت حرب غداً أو اعتداء من أمة من الأمم يصدر إليها، أو أصدرت تلك الأمة قوانين منعت ما كان يصدره. إنه يحتاج إلى ضمانة من رسماله يواجه بها الأحداث التي لا يعلم متى وبأية كيفية تأتي.
وكذلك الأمة في نضالها وحياتها لا ينتظر أن تستغني عن المحشود الحاصل بمعنى رسمال في أية طريقة من الطرق، في حالة تحتاج فيها كل أمة إلى النظر وإلى الاحتياط للأحداث الأنترنسيونية التي يمكن أن تحدث لها بين لحظة وأخرى، خصوصاً في عصر ارتقت فيه الضربات وارتقت فيه المبادئ، كمبدأ الهجوم الدفاعي مثلاً: نحن نخشى هجوم أمة علينا فنهاجمها من غير سابق إنذار. كالحالة التي نشأت في الحرب. وكالحالة التي حدثت في الحرب الأخيرة، حالة اللامحاربة التي لا يقصد بها الحياد بل التوقف عن الحرب مؤقتاً. وقواعد كثيرة تزداد تراكماً كلما ازدادت البشرية اختباراً.
إن سوء الحالة الاقتصادية ليس من الآلة بل من النظام السيئ تنمّيه النظرة الفردية اللامسؤولة عن المصير القومي في استخدام الآلة الحديثة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ البروتستانتية، مذهب أنشأه "مارتن لوثر" الألماني في مرحلة النزاع مع السلطة البابوية في رومة، وهو مذهب يعكس كيف أن الاجتهاد الديني ما هو إلا محاولة لتكييف الدين وفق متطلبات الحياة أمة من الأمم.
(2) ريمون أرون، هو من قام بجمع شتات التراث الفيبري بعد وفاة الأخير وأضاف الكثير عليه وفق ما فهمه من هذا التراث.
عدد الصفحات 212
الفصل الثالث:
شروح في المدرحية:
1 ـ مدرحية حيدر الحاج اسماعيل
في قراءتنا لمجمل ما كتبه أنطون سعادة وألقاه من خطب وأحاديــــث وما نقل عنه ، كانت الفكرة الرئيس في كل ما تقدم، تقوم على نظرته للأمة كواقع اجتماعي، التي قدمها في مؤلفه الأول " نشؤ الأمم" والذي شكل المحور، أو العمود الفقري لمجمل ما تناولته خطبه وكتاباته المتفرقة وأحاديثه وحتى ما نقل عنه ، لذا كان مؤلفه الأول هو نقطة البدء في أية دراسة يمكن لها أن تتناول هذا المفكر والذي لم ينل حظوة لدى مختلف دارسي علم الاجتماع لأسباب عدة ، أبرزها بل وأهمها أن نظريته في علم الاجتماع اقترنت بحزبه الذي أسس في عام 1932 أبان الانتداب الفرنسي لسورية ، والذي نال من النقد ما لم ينله أي حزب سياسي آخر، فطغى الفرع على الأصل ، وغاب سعادة المفكر في ظلال الحزب السياسي وعُومل الرجل على أنه رجل سياسة لا رجل فكر، الأكثر من ذلك أن مجموع ما تناول سعادة السياسي ، لم يكن على اطلاع كافٍ بما كتبه وقاله أو قيل عنه ، وتحديدا من قبل تلامذته ، الذين لم يتبحروا جيدا في مجمل تراث من تعاقدوا معه على تحقيق نهضته، فظل الفكر غائبا عن ما قيل عن سعادة وأضحى الحزب، بمختلف مراحله التاريخية ، عنوانا رئيسا لكل ما كُتبَ عن سعادة، فاختلفت المواقف من الرجل وتباينت الآراء حوله، ومهما يكن من أمر ذلك، فالمسألة التي ترسخت هي أن مختلف المواقف والأحاديث والدراسات التي تناولت سعادة غابت عنها وبشكل شبه مطلق الفكرة الرئيس التي كانت محور ما قاله الرجل وكتبه ..
لا ندعي مما تقدم، أننا أحطنا إحاطة تامة بفكرة الرجل، تلك الاحاطة التي يمكن اعتمادها في دراسة فكره، الذي لم يسعفه الزمن بشرحه ، فحياته القصيرة ومشاغله واهتماماته بمن تعاقدوا معه وبمن خالفوه وتآمروا عليه ، غيبت ما كان الرجل يدركه بثاقب فكره، مما أفسح المجال رحبا لتأويل ما كتبه وقاله والاجتهاد به وتفسيره ما أحدث بلبلة فكرية وتناقضا وتضادا في مختلف الدراسات التي تناولت فكر أنطون سعادة نظرا لقصور تلك الدراسات عن استيعاب ما جاء به الرجل وفي زمن كانت به أمته تعاني من ويلات التآمر عليها وعلى مختلف الصعد والمستويات الداخلية منها والخارجية السياسة منها والاجتماعية والثقافية والاقتصادية..
نحن لا ندعي أن دراستنا لفكر سعادة، يمكن أن تعتبر القول الفصل في فلسفته الاجتماعية، لكنها يمكن أن تُضيئ جانبا كثرَ فيه اللغط وتعددت به الآراء وتناقضت وتباينت الى الحد الذي بات به ذاك الفكر عُرضة للتحريف والتحوير والتزييف لكثرة ما قيل به واجتهد وأؤول وفُسر، لذا كان لزاما علينا أن نبادر للقول أن ما نعرضه من ذاك الفكر لا نجتهد به ولا نؤول به ولا نفسره ، بل نتركه في سياقه كما شاء له صاحبه أن يكون، بحيث تقتصر مهمتنا في هذا المنحى على الربط المنطقي بين محاور الفكر الذي تركه غير مكتمل ، فلربما اكتملت الفكرة واتضحت من خلال ما نسعى اليه ..
بداية لا بدَّ لنا من التنويه، أن مصطلح "مدرحية" لم يكن من المصطلحات التي اعتمدها سعادة في مجمل ما كتبه وقاله، بل وقلما تلفظ بهذا المصطلح، ففي مجمل كتاباته، لا نجد أثرا لهذا المصطلح إلا نادرا، والمرة الأولى التي تناول فيها هذا المصطلح، كانت في كتابه "جنون الخلود" وفي معرض تهكمه على " رشيد سليم الخوري" الذي ابتكر هذا المصطلح والذي نوه له سعادة من أنه مصطلح مقتبسٌ من مقولته الرئيس " المادي ـ الروحي" التي نجدها في مختلف كتابات سعادة.. يقول سعادة:" ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية "الدين الإسلامي" إنها "مدرحية" أي "مادي روحي معاً". فقد يظنّ القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية الخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي "نشوء الأمم" ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة. وآخر ما أعلنته من أمر نظرتي الفلسفية كان في خطابي في أول آذار سنة 1940، الذي نشر في "سورية الجديدة" في العدد الصادر في 27 نيسان من السنة المذكورة. قلت:
"إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تأتِ سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. إن الحركة السورية القومية الاجتماعية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة الإنسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية الاجتماعية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي ـ الروحي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير الحياة نحو أرفع مستوى".
كما لا بدَّ لنا من التنويه أيضا ، الى أن تناول سعادة لمصطلح (روح) يبقى تناولاً مجازيا ، إن صح التعبير ـ بمعنى النفس ، فسعادة يؤمن إيمانا راسخا بنظرية نشأة الانسان بالتطور ويرفض رفضا قاطعا لا رجعة فيه نظرية الخلق المستقل والتي تقول باستقلالية الروح عن الجسد..(2)
بناءً عليه، نسارع لتعريف فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية (المدرحية) أو القومية الاجتماعية بالقول:
" الفلسفة القومية الاجتماعية ( المدرحية) فلسفة اجتماعية تدرس نشأة الانسان ومناحي تطوره ، أسبابا وعوامل ونتائج ، وتقوم على مقولتها الفلسفية / المادة تعين الشكل /(3) كركنٍ أساسي ورئيس، ومقولتها الاجتماعية / دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية /(4) في مختلف مناحي دراستها" ..
اعتمدنا في تعريفنا للمدرحية ، على ما أورده سعادة في كتابه نشوء الامم :
" تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع (5)
والسؤال : ما هو الأساس المادي للاجتماع البشري الذي يعتمده سعادة في التعريف بنظريته القومية الاجتماعية ( المدرحية) ؟
إذا كانت / المادة تعين الشكل / فالمادة هنا هي البيئة الطبيعية ، بينما يأتي الإنسان الشكل الذي يتخذ من مادته مختلف مناحي نشاطه الإبداعي يقول :
" فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها.. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة.."(8)
على هذه العلاقة بين الانسان والأرض ، يقيم سعادة بناءه المدرحي بقوله :" شرط المجتمع، ليكون مجتمعاً طبيعيّاً أن يكون خاضعاً للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة تشمل المجموع كلّه وتنبّه فيه الوجدان الاجتماعيّ .."(9)
بناءً على ما تقدم ، يعرف سعادة الأمة قائلاً :" كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ.. الأمّة متّحد اجتماعيّ أو مجتمع طبيعيّ من النّاس قبل كلّ شيء آخر .. الأمّة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة ــ الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات."(10) .
ما تقدم ، يوضح لنا ما يعنيه سعادة بالبناء المادي ، أما البناء النفسي فيحدده بقوله : "وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.."(11)
الدولة عند سعادة هي البناء النفسي للمجتمع حيث هي على شاكلته، ، يقول :" رأينا، في ما تقدّم من فصول هذا الكتاب، الأسس والخطط العامّة لتطوّر البشريّة وارتقائها في ثقافاتها الماديّة الناتجة عن تفاعل الإنسان والطّبيعة.. ورأينا أيضاً كيف أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها.."
ويضيف قائلاً :" حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.."
وحتى لا يكون التكرار مملا ونحن نستعرض مجمل ما كتب في المدرحية ، نقف عند هذا الحد من التعريف بمدرحية سعادة ، على أن نتابع شرحها وابراز مختلف جوانبها لدى تناولنا تلك الكتابات بالنقد والتحليل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) راجع مقالتنا المعنونة ( الروح مصطلح عبري / على الرابط :
https://www.facebook.com/186235948194388/photos/a.297234813761167/1416133318537972/?type=3&theater
(3) راجع كتاب نشوء الأمم ( تعريف منتشيني للأمة )
(4) راجع كتاب نشوء الأمم، ( البيئة والجماعة )
(5) راجع نشوء الأمم ،/ الفصل السّادس : نشوء الدّولة وتطوّرها ـ
الثّقافتان المادّية والنّفسية /
(6) خير مثال نقدمه في هذا السياق هو العلاقة بين الإناء والماء ، فشكل الإناء ولونه وحجمه يطبع الماء الذي بداخله شكلا ولونا وحجما وقد يكسبه طعما ورائحة اذا ما توفر كلاهما أو أي منهما فيه،
(7) راجع نشوء الأمم ( الدّولة المدنيّة والإمبراطورية البحريّة)
(8) راجع نشوء الأمم / الطبيعة والانسان /
(9) راجع نشوء الأمم / تحديد الأمة /
(10) راجع نشوؤ الأمم / تحديد الأمة /
(11)راجع نشوء الأمم / الفصل السادس ـ الثقفتان المادية والنفسية /
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بداية ، لا بد من التنويه، بأن نقدنا لمختلف ما كُتبَ في "المدرحية" يبقى اقتباسا(1) عما ألمح اليه وأورده الأمين "حيدر الحاج اسماعيل" في كتابه المشار اليه، وهو اقتباس ، قد لا يفي بحاجة إيفاء كتابها حقهم مما كتبوه، لأسباب عدة، أبرزها، أن قراءة الأمين حيدر تعكس رؤيته الذاتية لما كُتبَ من خلال تعريفه الخاص للمدرحية والتي تطغى عليها بالدرجة الأولى دراسته ، التي أسبغت على تعريفه للمدرحية نسقا صارما، رياضي النزعة، أقرب ما يكون "للمنطق الرياضي"..
يحسم المؤلف موقفه من كتاب نشوء الأمم " مرة واحدة والى الأبد" ..بقوله:".. أن ذاك الكتاب "كتاب اجتماعي علمي بحت .."ويضيف " ولأن العلوم مادية ، موضوعات ومناهج، فإن كتاب نشوء الأمم كتاب مادي، أي أن الدرس الذي أنشأه سعادة في ذلك الكتاب حول الأمة ، سواء لجهة نشوئها أو لجهة تعريفها ، هو درس مادي والنتائج التي توصل إليها هي نتائج مادية ، تبعا لذلك ، فلا سبيل الى الوهم بان ذاك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي ـ روحي ، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي ، والعلمان ماديان.. " يضيف قائلا أنه " تجنب التكرار لأن الفكرة المركزية مبثوثة ومكررة في قراءتنا النقدية التي تؤلف القسم الثاني من الكتاب .." مؤكدا:" أن دراسة الفلسفة القومية الاجتماعية (المدرحية) تتخذ صورة أكثر وضوحا وتكون أغنى فائدة إذا كانت دراسة مقارنة (2) .. ويُقَسِّم المؤلف دراسته للمدرحية على النحو التالي : 1 ـ مكتوبات سعادة .2ـ المبادئ الفلسفية . 3 ـ علاقة الفلسفة بالعلم . 4 ـ الاختلاط الفكري ( حول معنى الأمة ). 5 ـ الوجهان الحقائقي (العلمي) والمناقبي ( الفلسفي) للمبادئ. 6 ـ الرسالة. 7ـ المدرحية . 8 ـ المصطلحات . 9 الوظائف .
ما يهمنا من هذا التقسيم الفقرة السابعة دون سواها فما تقدمها تمهيد لها وما لحقها قائم عليها..
يقول في تعريفه للمدرحية : " الفلسفة المادية ـ الروحية، هي، الفلسفة القومية الاجتماعية الموجودة في المبادئ .. إن الفلسفة الماديةـ الروحية هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديا ـ روحيَّا." وفي ماهية العلاقة بين المادة والروح يقول:".. إن العلاقة العلمية هي علاقة ترافقية أو علاقة ترابط .. نقول ذلك لكي ننفي أن العلاقة سببية.. ذلك أن مبدأ السببية من الفلسفة وليس من العلم ..أما العلاقة الفلسفية فإنها علاقة وجوبية ـ مناقبية .."
يبدو واضحا أن هذا التعريف لا يأتي بجديد ، سوى أن المدرحية هي المبادئ الأساسية والإصلاحية والغاية، التي شكلت المحور الرئيس أو العمود الفقري للحزب الذي أسسه متوخيا منه تحمله مسؤولية نهضة أمته السورية..
ما نعتقده، أن هذا التعريف يفتقر للكثير من نقاط الارتكاز التي تقوم عليها ـ من وجهة نظرنا ـ الفلسفة القومية الاجتماعية ـ المدرحية، نقول ذلك عملاً بما يلي:
ـ لم يقدم لنا المؤلف تعريفا محددا للمادة والروح، بل تركهما كمصطلح لمفهوم متداول لدى العامة والباحثين على حدٍ سواء، مما يجعل القارئ ـ عاديا أم باحثا ـ يضفي من فهمه الخاص عليهما ما يناقض فهم سعادة لهما، والذي يمكننا بلوغه من تحليلنا لقول سعادة:" تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع.." بمعنى أن ما تناوله في الفصول (1و2و3و4و5) يشكل " الأساس المادي" بينما يأتي الفصل السادس وما تلاه ليشكل "الأساس النفسي" فالمادة عند سعادة هي البيئة الطبيعية من حيث هي وجود موضوعي مستقل كل الاستقلال عن الانسان وجودا ومعرفة، فالمادة وفق سعادة هي كل وجود موضوعي، لا يستمد كيانه الذاتي من الانسان وجوداً ومعرفةً ، فهو موجود رغما عنه شاءه أم أباه، تعرَّف عليه أم لم يعرفه، له خصائصه ومواصفاته التي هو عليها، وهذه هي الحقيقة الجوهرية لمفهوم مصطلح المادة عند سعادة واعتماده مقولة : " المادة تعين الشكل " لم يأتي من فراغ، بل من واقع موضوعي يعترف به اعترافا واضحا وجلياً، يقول: " فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها.. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة.." واضحٌ كل الوضوح أن الأرض، الطبيعة، البيئة، هي التي تحدد للإنسان كيف يجب أن يتعامل معها، كوجود موضوعي وليس العكس، لا بدَّ له ـ للإنسان ـ من التكيف وفق ما تختزنه من مقومات، بل وأكثر من ذلك يكون تأثيرها عليه أكبر بكثير من تأثيره هو عليها، يقول سعادة: " فالبيئة كانت ولا تزال تحدّد الجماعة.. تحدّد البيئة الجماعة من عدّة وجوه، أوّلها: حدود الإقليم الجغرافيّة. ثانيها: طبيعة الإقليم من حيث نوع تربته ومعدّل درجة حرارته ورطوبته. ثالثها: شكل الإقليم (طبّغرافيته) من حيث سهوله وجباله وأنهاره.. وطبيعة الإقليم تميّز الجماعة بما تكسبها من لون وشكل وبما تمدّها به من الموادّ الخام لسدّ حاجاتها الحيويّة من غذاء وكساء وبناء وأدوات. فمدنيّة الجماعة المستقلّة مستمدّة من بيئتها لأنّ الاستنباط والتّكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطّبيعيّة، وموافقين لها.. فـاالحياة العقليّة لا يمكن أن تأخذ مجراها إلاّ حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات.." يبدو واضحا وضوح الشمس أن المادة عند سعادة تكتسب خصائصها ومواصفاتها ومختلف ميزاتها بمعزل عن وجود الإنسان من عدمه، فهي بالتالي، كما سبق وأشرنا، وجود موضوعي مستقل عن الإنسان وجودا ومعرفة..
ـ كما المادة، كذلك الروح، فالأخيرة كمصطلح يستخدمه سعادة، مجازيا كمفهومٍ متداولٍ، لكنه يأتي بمعنى النفس، ودليلنا في ذلك إيمانه المطلق بنشوء الانسان بالتطور ونقده للتعليل الديني ونقضه له، يقول:".. كانت حكاية الخلق الخياليّة أقرب إلى تصديق أهل الدّرجة المشار إليها آنفاً لأنّها اقتصرت على تسمية وجود الشّيء خلقاً مباشراً تخلّصاً من الدّخول في أيّ بحث يتطلّب أدلّة راهنة يصحّ اعتبارها حقائق واقعيّة.. ولكنّ الإدراك البشريّ.. لم يعد يقنع بالتّعليلات الخياليّة البحتة المعزوّة إلى افتراض وجود شخصيّة وراء نظام الكون تُحدث النّظام وتَحدث بلا نظام، إليها ينسب كلّ ما يقف أمامه عقل الطّفل وعقل البالغ المجرّد من العلم حائراً.. وتجاه الحقائق الّتي أبرزها العلم أخذت مسألة الخلق المستقلّ تنحطّ وتتراجع حتى لم يعد يهتمّ بها إلا الطامعون بالخلود الأنانيّ.. وهي أنّ الإنسان جزء من الحياة نشأ بالتّطوّر حتّى بلغ شكله الحاليّ، ولذلك فعهد نشوئه يرجع إلى عهد نشوء الحياة نفسها.. أمّا أنّ الإنسان نشأ بالتّطوّر فما لا جدال فيه وأمّا كيفيّة حدوث التّطوّر.. فممّا لم يتّفق عليه العلماء لحاجتهم إلى استكمال اختباراتهم.."
يتضح مما تقدم أن سعادة، عندما يقول بــ (المادي ـ الروحي) لا يقصد الروح بالمعنى الديني، أي أن الروح كيان قائم بذاته مستقل كل الاستقلال عن الانسان الذي تغادره فور موته، فالتعليل الديني مرفوض وغير مقبول، كما مرَّ معنا أعلاه، ما يعنيه سعادة بالروح هو ما أورده قائلا:".. أنّ حياة كلّ كائن حيّ تجري ضمن المثّلث: الجسم ــ النّفس ــ المحيط.." ثلاثية لا تبارح مختلف مقولات سعادة المدرحية ، فإليها يعود فهم الماهية الجوهرية لمختلف الأمور والشؤون التي يتناولها سعادة بالدرس والبحث والتحليل فإذا كان الانسان قد نشأ بالتطور، فما هذه النشأة سوى هذه الثلاثية " محيط ـ جسم ـ نفس" ، من النبات ـ الحيوان ـ الانسان من البيولوجي ( الحيوي) الى الفيزيولوجي (الوظيفي) فالسيكولوجي (النفسي)، فالنفس ملتصقة التصاقا بالجسد (الجسم) لا تنفك عراه إلا بالموت حيث مصيرها مصير جسدها الذي نشأت منه..
هذا هو مفهوم "الروح" عند سعادة، ما عدا ذلك، يبقى اجتهادا وتأويلا أو تفسيراً يتناقض كلياً ومفهوم سعادة لهذا المصطلح.
ـ يقول المؤلف: "فلا سبيل الى الوهم بان ذاك الكتاب (نشوء الأمم) هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي ـ روحي.." وعليه يقول:" الفلسفة المادية ـ الروحية، هي، الفلسفة القومية الاجتماعية الموجودة في المبادئ.. إن الفلسفة الماديةـ الروحية هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديا ـ روحيا."
ينافي هذا القول ما يؤكده سعادة بقوله:" إنّ (نشوء الأمم) كتاب اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.. ومهما يكن من الأمر فالكتاب الأوّل جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة.. يتناول الكتاب الأوّل تعريف الأمّة وكيفيّة نشوئها ومحلّها في سياق التّطوّر الإنسانيّ وعلاقتها بمظاهر الاجتماع.." فسعادة عالم اجتماع وليس فيلسوفا، والمدرحية ليست بأكثر من فلسفة اجتماعية تبحث في " تعريف الأمّة وكيفيّة نشوئها ومحلّها في سياق التّطوّر الإنسانيّ وعلاقتها بمظاهر الاجتماع.." وكما "دوركهايم" و"أنجلز" و" ماكس فيبر" هم أصحاب نظريات في علم الاجتماع ، كذلك سعادة له نظريته في علم الاجتماع، التي تقوم على مسلمة أن / المادة تعين الشكل/ والتي عليها يقيم سعادة بناءه المدرحي حيث الأرض، الطبيعة، البيئة الطبيعية، هي المادة التي يعتمدها أساسا لنشوء المجتمع ـ الأمة وحيث الشكل هو "دورة الحياة الاجتماعيةـ الاقتصادية " والتي هي شرط أساسي من شروط تشكل المجتمعات، يقول سعادة:" شرط المجتمع، ليكون مجتمعاً طبيعيّاً أن يكون خاضعاً للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة تشمل المجموع كلّه " وتاليا فالمجتمع ـ الأمة هو المجتمع ـ الدولة يقول:" ورأينا أيضاً كيف أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها.." ويضيف قائلاً:" ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.." وعندما يقول إن دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية، تشمل المجموع كله، يعني قيام الدولة القومية التي هي ".. الدّولة الدّيمقراطيّة هي دولة قوميّة حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة عامّة ناتجة عن الشّعور بالاشتراك في حياة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة " ولأنها الدولة التي تشمل المجموع كله يقول سعادة:" وما الدّولة الدّيمقراطيّة سوى دولة الشّعب أو دولة الأمّة. هي الدّولة القوميّة المنبثقة من إرادة المجتمع الشّاعر بوجوده وكيانه.." فالدولة الديموقراطية إذن هي الدولة القومية الشاملة كل المجتمع بمختلف أجياله وطبقاته وعناصره ومعتقداته وثقافته وطموحاته.. الخ هي وفق رؤية سعادة القومية الاجتماعية ـ المدرحية، الانسان ـ المجتمع..
2 ـ على الرغم من إيماننا، بأن سعادة، لم يكن فيلسوفا بل عالم اجتماع فلسف هذا العلم واضعا ركائزه العلمية الاجتماعية ـ الفلسفية بكل موضوعية، فإننا نرى أن الأمين/ حيدر الحاج اسماعيل/ لم يكن منصفا لسعادة عندما يقول في فقرته الثانية من تعريفه بالمدرحية (المبادئ الفلسفية) " والحق يقال، إن سعادة لم يأتِ بغير المبادئ.." بل يمكن القول إنه أجحف بحق الرجل إجحافا لم يسبقه إليه أحد!! وهو لم يُقْدِمْ على ذلك إلا لأنه اعتمد قاعدة تقوم على العلاقة بين العلم والفلسفة، يقول ".. هناك بصورة عامة، علوم وهناك فلسفات علوم.. العلم مختص بالقوانين الكمية.. أما فلسفة العلم فمختصة بالمبادئ، ونعني بذلك المبادئ المشتركة الجامعة لمختلف قوانين ذلك العلم وظواهره.. إن العلم يقدم للفلسفة مادتها المحددة المصطلحات، لكن الفلسفة لا تكتفي بمادة العلم، بل تستخرج منها المبادئ الجامعة لشتات المعارف العلمية.." وعلى الرغم من صحة هذه القاعدة، فإنه لم يُحسن استخدامها في قراءته لكتاب نشوء الأمم، من حيث أنه وفق رؤيته:" كتاب علمي الذي اختصَّ بدرس نشوء الأمم وتعريف الأمة، قصد منه سعادة أن يكون مساعدا (بتحديداته العلمية) لفلسفته المادية ـ الروحية.." ذلك أن كتاب نشوء الأمم، ليس مجرد كتاب يستعرض فيه سعادة جملة من العلوم الطبيعية والأنثروبولوجي والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية.. الخ بل يجمعها جمعا عزَّ نظيره في أي كتاب آخر ليستخرج من كل ذلك قواعد تقوم على تلك العلوم مجتمعة، فعلى سبيل المثال، في دراسته للسلالات (1)، واستعراضه لجملة ما قاله بعض علماء الأحياء وعلماء الاجتماع وعلماء التاريخ والفلسفة وحتى السياسة، في هذه المسألة، بداية لمدلول السلالة والفرق بينها وبين الجنس والنسب وتاليا لمختلف معتقداتها لدى الشعوب ، العرب ، الفرنسيين والهولنديين والألمان والإنكليز والأمريكانيين الهنود منهم والمستعمرين والروس وغيرهم والنظريات التي قامت على مفهوماتها المتداولة في مختلف مراحل التاريخ وارتباط مدلولات تلك المعتقدات بالسياسة وقدم من الأمثلة ما يدفع للتأكيد بأنه فيلسوفا اجتماعيا كما هو عالم اجتماع، يقول:" ويقال في الحقيقة إن نقولا فريره (Nicholas Freret) سجن في الباستيل سنة 1714 لأنّه خطّأ هذه النّظريّة !.. وفي سنة 1749 حاول أستاذ ألمانيّ في روسيا اسمه مللر أن يثبت أنّ الرّوسيّين هم من سلالة فنّيّة ــ تترّية. فأمرت الإمبراطورة اليصابات بالقبض عليه وسجنه في الحال وأن يجلد ناموس المجمع العلميّ، تردبا كوفسكي، الّذي قال إنّ مللر على صواب. وقد أجبر مللر على تكذيب نفسه (10) !.. وإنّ بين الكتب المدرسيّة الموضوعة بعد الحرب الكبرى كتاباً ألّفه عالمان بنفسيّة الأحداث بلجيّان، أحدهما مركه (Mirquet) وهو رئيس مدرسة والآخر برغميني (Pergameni) وهو أستاذ جامعة.. وقد حاز هذا الكتاب سنة 1920 جائزة من المجمع العلميّ البلجيكيّ الملوكيّ! ومن أدلّة العناية بالاعتقاد بالسّلالة حتى في الدّوائر المسؤولة في الشؤون السّياسيّة الخطيرة ما صرّح به المستشار الألمانيّ الشّهير بتمن هلوق ، بمناسبة إجازة قانون الجيش الألمانيّ في 7 نيسان 1913، قائلاً "إنّ هنالك خطر اصطدام بين الصّقالبة والجرمانيّين ولذلك يضطرّ هؤلاء إلى زيادة سلاحهم.. ولم يذهب هذا القول بدون نتائج خطيرة بين صقالبة النّمسا والمجر.." سعادة إذا، لم يكن مستعرضا بل مستنبطا نظريته الخاصة ( المزيج السلالي).
وعندما نؤكد أن سعادة لم يكن مستعرضا بل مستنبطا، مستنتجا، مستخرجا، من مختلف العلوم رؤيته أو نظريته الخاصة، فما ذلك كان ليأتي من فراغ بل من واقع يقوله سعادة: "والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن، وقبل أن يكون الارتقاء قد مكّن الإنسان من التّحوّط ضدّ اختلاف البيئات. فإذا كان الأمر كذلك، وهو ما نرجّحه.." هنا سعادة يبدو وكأنه أكثر من عالم أنثروبولوجي، بدراسته البشر وسلوك الإنسان والمجتمعات ماضيا وحاضرا، واجتماعية الانسان وثقافته والقيم والمعايير الاجتماعية، كما ويدرس كيف تؤثر اللغة على الحياة الاجتماعية. ويدرس التطور البيولوجي للإنسان، فإن سعادة ليعدو أكثر من عالم أنثروبولوجي، بجمعه مختلف فروع هذا العلم، وأكثر من عالم اجتماع عندما يمازج بين العلمين ليستخرج منهما ومن غيرهما نظريته المشار اليها آنفا، هكذا كان كتاب نشوء الأمم غير مكتفٍ بالعلم بل جامعا لشتات العلوم وتناقضاتها واختلافاتها ومستنبطا، مستنتجا، مستخرجا منها مبدأ المزيج السلالي الذي قال به والذي لم يكن متداولاً في زمنه، بل على العكس من ذلك كان هذا المبدأ من أبرز ما علق في أذهان معارضيه وانتقدوه فيه متهمين إياه بالعنصرية.. وهو القائل بانتفاء صفاء ونقاء أية سلالة على الأرض، كما هو مشاع لدى العرب واليهود، يقول:" وأخذ العرب نصيباً كبيراً من تعليق أهميّة عظمى على أوهام السّلالة فافتخروا كثيراً [بطيب عنصرهم] وظنّوا الأجانب أدنى منهم فسمّوهم [علوجاً] وغير ذلك من الأسماء وأثّر الدّين عندهم كثيراً على أوهام السّلالة، كما أثّر على اليهود من قبلهم، ووصلوا أنساب عدنان بإسماعيل بن هاجر بن إبراهيم. أمّا اليهود فقد زعموا أنّهم سلالة إبراهيم اتّخذهم اللّه شعباً له مفضّلاً على باقي الشّعوب والله عندهم هو [إله إسرائيل].."
لم يكتف سعادة يما تقدم بل قدم جملة من المقولات التي تمزج بين العلم والفلسفة، فلا هي من هذا ولا من ذاك ، بل هي مدرحية النزوع في الجوهر والمضمون في الشكل والمظهر ذلك في كتابه الرائع نشوء الأمم، منها على سبيل المثال لا الحصر مقولة " دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" الجامعة للمجتمع القومي بمختلف أجياله وصفاته وخصائصه ومواصفاته، ..الخ مناقضا النظرية الماركسية والقائلة بــ ( التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية ) على وجه التحديد، ومقولة "المرتبة الثقافية" التي يقسمها لثلاث مراتب، حيث الثالثة تبدو واضحة في رصدها لمعادلة الجهد والزمن والانتاج( الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والحقوقي والقانوني و ..الخ )، لينتهي منها للقول " أن الاقتصاد لا يعني حقيقة سوى سد الحاجة أو تأمين سدها بأقل مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنتين " والتي منها يمكننا استنتاج واستنباط واستخراج المعادلة التالية( جهد + زمن = انتاج) والتي يمكن تعميمها في كل عمل اجتماعي وفق المرتبة الثقافية التي عليها المجتمع، فعلى سبيل المثال، وفي الدولة القومية الديموقراطية التي يقول بها سعادة، يجب أن تكون على النحو التالي: أقل جهد + أقل زمن= أكبر انتاج قومي ـ كما ونوعا ـ لمختلف المنتجين صناعة وغلالاً وفكرا، أو صياغتها حقوقيا، على سبيل المثال على النحو التالي:" مواطنة + واجبات = حقوق، حيث أقل ما يمكن من الواجبات مقابل أكبر قدر من الحقوق ، وقس على ذلك، ومقولته الرائدة " الدولة القومية ديموقراطية حتما" الحتمية الوحيدة التي استخدمها سعادة في كل ما كتبه وقاله ونقل عنه، وخلاصة كتابه " لا بشر حيث لا أرض ولا جماعة حيث لا بيئة ولا تاريخ حيث لا جماعة" فهل هذه المقولة من العلم أم من الفلسفة ؟ أليست في جوهرها مزيجا من العلم والفلسفة ..؟!!
ويمكننا القول أيضاً، ان العلم هو مادة شكله الفلسفة، فكلاهما في وحدة لا يمكن فصم عراها، إلا من حيث الدراسة النظرية البحتة، ووفق ما يمكن للعقل البشري استيعابه من مصطلحاته والتي تبقى عرضة للتغيير وفق ما تقدمه العلوم للفلسفة من حيث هي مقولات عامة أو أعم القوانين في الطبيعة والمجتمع.
عندما نقول أن حضرة الأمين حيدر الحاج اسماعيل لم ينصف سعادة بقدر ما كان مجحفا، فما ذلك إلا لأنه استخدم قاعدة فلسفية للعلاقة بين العلم والفلسفة، على الرغم من صحتها، فإنه لم يحسن استخدامها في قراءته لكتاب نشوء الأمم، فقوله " أ ـ كتاب نشوء الأمم.. لا سبيل الى الوهم بأن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي ـ روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان..ب ـ الفلسفة القومية الاجتماعية هي الموجودة في المبادئ.. ج ـ العلاقة بين المادة والروح.. في الفلسفة المادية ـ الروحية لسعادة.. هي علاقة ترافقية أو علاقة ترابط.. (وليست) علاقة سببية.. إن مبدأ السببية من الفلسفة، وليس من العلم.. إن إدخال السببية في كتابات سعادة يفقدها صفتها العلمية.. أما العلاقة الفلسفية فإنها علاقة وجوبية ـ مناقبية.." هذا التوصيف لما هو علمي ولما هو فلسفي، قاد المؤلف لتقريره المشار اليه..
نحن لا نرى العلم سوى بحث في الجزئيات، أما الفلسفة فهي بحثٌ في الكليات، فالفلسفة "تجمع شتات العلوم.." المتفرقة لتصوغ مبادئها العامة والتي هي في المحصلة القانون العام الذي يحكم العلوم على اختلافها على اعتبار أن العلوم ليست، في ما تقدمه من معارف، سوى سرد، حيادي، مجرد، منزه، عن كل رغبة أو شعور بالرضى من عدمه، لما هو موجود في الكون المادي (الموضوعي) والذي لا علاقة له بوجود الانسان من عدمه، وهي أيضا سردٌ لما هو موجود انسانيا ـ اجتماعيا وليس له علاقة بالفرد لجهة وجوده ككيان أو معرفة، فالأرض تدور حول الشمس وليس العكس وهذا ما يعبر عنه سعادة بقوله:" وأنّ الشّمس لا تدور حول الأرض. ولو لم تتّفق هذه الحقيقة مع مجد يشوع بن نون" بمعنى أن دوران الأرض حول الشمس هو شأن موضوعي لا علاقة له بإرادة الإنسان ورغبته أو معرفته من عدمها، فهو كيان قائم بذاته ولذاته.. وقوله:" لا يختار الفرد مجتمعه إلا بقدر ما يختار أمه وأبيه.." وقوله "الأفراد يأتون ويذهبون أما المجتمع فباقٍ "ويؤكده بقوله:" في المبادئ التي تمت الى الانسان الحر بصلة، لا يمكن الاستناد لأي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة انسانية أو لها علاقة بالإنسان المجتمع.." فالمجتمع للفرد، كما هي الطبيعة للإنسان، وجود موضوعي..
من جهة أخرى، تبقى العلوم على اختلافها نسبية، بمعنى أنها قابلة للتغيير، ليست مطلقة، سرمدية، وهذا ما حدا بسعادة للقول:" فالمجتمع الإنسانيّ ليس الإنسانيّة مجتمعة، ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور؟ إذن، العلوم متفرقات موضوعية، آنية "تجمع شتاتها" الفلسفة بالبحث عن المتكرر فيها لتصوغه بقانون عام يصحُّ به كل ما تأتي به على صعيد الطبيعة والانسان..
سبق لنا أن أشرنا لما تعنيه المادة والروح في فلسفة أنطون سعادة القومية الاجتماعية ـ المدرحية، فالمادة هي كل وجود موضوعي لا علاقة به للإنسان وجودا ومعرفة كما مصطلح الروح الذي يستخدمه سعادة بمعنى النفس وليس بالمعنى الديني المتداول لجهة كونه كيانا قائما بنفسه ولنفسه، وعلى ذلك، كان الأحرى بالأمين حيدر، أن يُعرِّف لنا كلاً من المادة والروح في تعريفه للعلم والفلسفة لا أن يتركهما ( المادة والروح) للمتداول من المصطلح لكنه لم يقدم لنا أي تعريف لهما بمجمل ما قاله في المدرحية ولا حتى في نقده لمختلف وجهات النظر التي تناولت هذه الفلسفة بالتعريف، ولو فعل ذلك لكان لنا أن نخلص لما خلص له " والحق يقال، إن سعادة لم يأتِ بغير المبادئ.." وأن " كتاب نشوء الأمم.. لا سبيل الى الوهم بأن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي ـ روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان.."
إذا كانت الفلسفة صياغة للمتكرر العلمي، الموضوعي، طبيعيا واجتماعيا، فسعادة قد صاغ في مؤلفه الرائع عددا من هذا المتكرر الموضوعي، وعلى قاعدة تعريفه لهذا القانون العام المتكرر، والذي يُطلق عليه مصطلح "الناموس" والذي هو أيضا بتعريف سعادة:" أنّ النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب ألا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب ألا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب ألا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع.." هذا التعريف للناموس يضع معنىً واضحا لمختلف المقولات ـ النواميس التي جاء بها سعادة، والتي هي من حيث التعريف الفلسفي القانون العام الذي يحكم كل موضوع، من حيث التكرارية والتي هي بدورها تمثل جوهر القانون الأعم في الطبيعة والمجتمع أو المقولة الفلسفية ـ الناموس، وفق سعادة، جوهرا وكمية وكيفية واضافة في الزمان والمكان ( أين، متى) فعلا وانفعالا، فمقولته التي أقام عليها فلسفته ( المادة تعين الشكل) يمكن لها أن تفسر لنا مختلف ما نحن بصدد بيان علاقته بالآخر الموضوعي والذاتي، الطبيعة والانسان، المجتمع والفرد، كما مقولته " دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية " حيث مصطلح "دورة" يدل دلالة واضحة على "المتكرر" المشار اليه آنفا ، والتي عليها ينشئ سعادة مقولته في "الأمة واقع اجتماعي بحت" ومقولته " الدولة الديموقراطية هي دولة قومية حتما " ومقولته "الانسان ـ المجتمع " والتي هي بطبيعة الحال الدولة القومية التي نادى بها، ومقولته في الاقتصاد " أقل جهد+ أقل زمن =أكبر انتاج "..الخ
فهل هذه المقولات علمية أم فلسفية أم كلاهما معا. أم أنها مقولات مادية أم مقولات نفسية "روحية"؟ يحسم سعادة ذلك، بإجابته على ما جاء بكتابه الرائع نشوء الأمم قائلا: "تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان." أساسان، مادي ونفسي، يقيم عليهما فلسفته القومية الاجتماعية ـ المدرحية في نشوء الأمم، بما يدحض أن " سعادة لم يأت بغير المبادئ.." لأن هذه تقوم بكل ما في الكلمة من معنى، على المقولات التي جاء بها سعادة في كتاب نشوء الأمم وبمختلف تصنيفات الأمين حيدر. التي تقوم هي الأخرى على قاعدة رسالة سعادة الى فايز صايغ "" إن الحركة نشأت على عقيدة، أي على فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته.." والتي يعتمدها المؤلف قاعدة لخلاصته المشار اليها آنفا " والحق يقال أن سعادة لم يأت بغير المبادئ" فسعادة حتى في هذه الرسالة لم يُشر الى أن فلسفته أقامها على المبادئ، وحسب، بل على كل ما جاءت به خطبه ومحاضراته وأحاديثه وقدوته وكتبه وشروحاته، ولم يستثني كتابه "نشوء الأمم" من جملة "كتبه" ولم يخص المبادئ دون الخطب والمحاضرات والأحاديث بفلسفته، فلو أن المؤلف قال إن الفلسفة القومية الاجتماعية ـ المدرحية متضمنة في " المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته.." لما كان قد انتهى لبخس سعادة حقه بقوله أنه لم يأت بغير المبادئ.. وإن كان سعادة قد أشار في مقدمة كتاب نشوء الأمم الى أنه " كتاب اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة.." والتي يعتمدها الأمين حيدر ، فإن هذه الإشارة ليست على النحو الذي دفع بالمؤلف لاستثنائه الكتاب من فلسفة سعادة القومية الاجتماعية ـ المدرحية، باعتباره كتابا تجنب فيه سعادة التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة بل لدلالة على موضوعية الكتاب باعتبار العلم على أي وجه أخذ به، هو موضوعي النزوع بمعنى التجرد والتنزه عن أية أفكار مسبقة أو مشاعر تنحى منحى ذاتيا يفسد على الموضوع نزاهته، على نحو ما جاء به كتاب "الرحمانية" لزكي الأرسوزي، على سبيل المثال أو عمنوئيل كونت في كتابه " نقد العقل المجرد" أو هيغل في كتابه "فلسفة الحق" وحتى أنغلز في كتابه " أصل العائلة والملكية والدولة" أو ماكس فيبر في كتابه " الأخلاق البروتستانتية".. الخ فالعلم مادي لأنه موضوعي ولأن الفلسفة ليست ذاتية عندما تجمع شتات المادي الموضوعي ( العلم) بل هي موضوعية مادية أيضا على شاكلة موضوعها، من حيث أنها بحث عن المتكرر المادي ـ الموضوعي في مختلف العلوم المادية منها والإنسانية ، وأن صياغتها لهذا المتكرر بقانون عام كافٍ وافٍ تجد فيه مختلف معارف الانسان مكانا( تفسيرا) لها به تكون قد أنجزت مهمتها كفلسفة ..
في قوله المجحف والمبخس وغير المنصف لسعادة، يقع الأمين حيدر في مطب نقده لمختلف ما قيل في مدرحية سعادة، فهو يقول:" الفلسفة القومية الاجتماعية = تجبُ المبادئ لتنهض الأمة.." لا يُقدم تعريفا لهذه الفلسفة بقدر ما يصفها، على نسق نقده لما جاء في "مدرحية هشام شرابي" حيث يقول:".. فالباحث منذ البداية لن يبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية بل في صفاتها.. ولأن استعراض صفات الشيء لا يساوي علما بما هو الشيء.. هكذا طالب المعرفة بهذه الفلسفة سيظل مفتقرا اليها، لأنه سيظل يطارد الباحث بسؤاله الأساسي، نعني: ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية التي صفاتها كذا وكذا يجيبنا الباحث هي شيء له صفة اجتماعية.. لكن ما هو هذا الشيء الذي له صفة اجتماعية؟ يجيبنا الباحث إنه الفلسفة القومية الاجتماعية التي تبدأ بالمجتمع وتنتهي فيه.. فالفلسفة معرفة، نمط من المعارف وباعتبارها معرفة لها أجوبتها سواء أكانت منظمة في سيستم او لم تنتظم.."
وبدورنا نسأل حضرة الأمين: ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية ـ المدرحية؟ فيجيبنا قائلا:" الفلسفة القومية الاجتماعية = تجبُ المبادئ لتنهض الأمة " ولها: وجهان الحقائقي (العلمي) والمناقبي ( الفلسفي) للمبادئ.. من الوجه الأول يمكننا أن نذكر حقائق طبيعية.. وحقائق بشرية.. وحقائق تاريخية ـ حضارية.. وحقائق اقتصادية.. وحقائق سياسية وقانونية.. ومن الوجه الثاني، أن المبادئ دعوة مناقبية للنضال، وهي أيضا" من هذه الناحية مبادئ معيارية.." وهي كذلك "رسالة.. من هذا الوجه ننظر الى المبادئ على أنها رسالة خير لجميع الأمم "على الرغم من أنها تأتي كمصطلحات يكافئ بعضها بعضا يقول:" فلسفة.. مبادئ.. رسالة.. نظرة.. عقيدة.. فلسفة مناقبية.. فلسفة الانسان ـ المجتمع.. فلسفة التفاعل.. فلسفة مادية ـ روحية.. " أما من حيث الوظائف فهي:" 1 ـ الحقوق والمصالح القومية (وتشتمل) سيادة الأمة.. حياة وخير الأمة وعمرانها.. خصائص الأمة.. الوطن.. 2 ـ التوحيد (بمعنى) رابطة الوحدة الاجتماعية الروحية..3 ـ الحصانة (بمعنى) توفير المناعة الاجتماعية..4 ـ مناقب الخير والعدل (بما يعني) تأسيس عقلية أخلاقية جديدة..5 ـ الكفاءة الانتاجية..6 ـ المرجعية (اي) إن المبادئ مكتنزات الفكر والقوى، وهي قواعد انطلاق الفكر..7 ـ الحداثة أو العصرنة ونعني بذلك أنها الفلسفة التي تضعنا بقوة في صميم العصر."
كل ما يقدمه لنا الأمين حيدر مجرد توصيف لفلسفة سعادة الذي يعرفها في مقدمة كتابه نشوء الأمم واصفا إياه وأياها " وإنّ درساً من هذا النّوع يوضّح الواقع الاجتماعيّ الإنسانيّ في أطواره وظروفه وطبيعته.. ففي الدّرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الاجتماعيّة ومجاريها.. وقد أسندت حقائقه إلى مصادرها الموثوقة. واجتهدت الاجتهاد الكليّ في الوقوف على أحدث الحقائق الفنيّة الّتي تنير داخليّة المظاهر الاجتماعيّة وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطيّة عليها.. فالكتاب الأوّل جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة.." فالفلسفة القومية الاجتماعية ـ المدرحية هي درس يوضح الواقع الاجتماعي الانساني في أطواره الاجتماعية ومجاريها.. بجميع مظاهرها وعواملها الأساسية.." وعلى ما تقدم جاء تعريفنا للفلسفة القومية الاجتماعية ـ المدرحية بقولنا أنها " الفلسفة القومية الاجتماعية (المدرحية) فلسفة اجتماعية تدرس نشأة الانسان ومناحي تطوره، أسبابا وعوامل ونتائج، وتقوم على مقولتها الفلسفية / المادة تعين الشكل /(3) كركنٍ أساسي ورئيس، ومقولتها الاجتماعية / دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية /(4) في مختلف مناحي دراستها" ..
في الختام نثمن عاليا الجهد الذي بذله حضرة الأمين الجزيل الاحترام حيدر الحاج اسماعيل والذي وضع بين أيدينا مجمل ما كُتِبَ في المدرحية متمنين عليه تقبل نقدنا برحابة الصدر التي عرفناه بها صغارا في مدرسة النهضة ـ مرمريتا وكبارا في مدرسة الثانوية الأهلية ـ دمشق، فنقدنا لم يكن سوى شكل من أشكال الصراع الفكري القومي الاجتماعي في النهضة القومية الاجتماعي وعلى غرار، ماركس وفويرباخ جاء نقدنا كما انتقد تلميذا هيغل استاذهما
مقدمة لا بدَّ منها :
في نقدنا لمختلف ما أورده الأمين حيدر من مقالات في المدرحية أو دراسات أو حتى ما سُميَ بالأبحاث، فإننا نعتمد اعتمادا مباشرا على المقتطفات من تلك الدراسات التي انتقاها منها في نقده لها دعما لوجهة نظره في ما قدمه لنا في تعريفه للمدرحية، وتاليا فلن يكون نقدنا سوى نقد جزئي لتلك الدراسات، ولن يكون ذلك وافيا لحق أصحابها في ما قدموه من محاولات، ولقد بذلنا من الجهود المضنية للحصول عليها أو حتى لبعضها فلم نوفق، في ذلك، لأسباب لا داي لذكرها في بحثٍ فلسفي يتجاوزها، وينبئ عن دوافعها التي كان الانقسام والتشرزم الحزبي الراهن وراءها والذي من أبرز معالمه أنه بقيَ في حدود ضيقة من المعرفة التي يرى في توسعها وانتشارها في صفوف القوميين خطراً عليه ..
أيضا، لا بدَّ من التنويه، الى أن الأمين حيدر لم ينجو من اعتماده قاعدة / أن صفات الشيء ليست هي الشيء / في نقده لما قدمه سابقوه، حيث يقول على سبيل المثال لا الحصر: "الفلسفة المادية ـ الروحية هي الفلسفة القومية الاجتماعية الموجودة في المبادئ، ولما كانت الأمة محور المبادئ أو فكرتها المركزية فإننا نقول، إن الفلسفة المادية ـ الروحية هي فلسفة الأمة.." فيكون جل ما يقدمه لنا الأمين حيدر هو أن الفلسفة هي الفلسفة، ذلك أنه يعرف الفلسفة المادية ـ الروحية بالفلسفة القومية الاجتماعية وهذه هي فلسفة الأمة، فما الجديد الذي يقدمه لنا هذا التعريف ؟ ذلك أنه لم يقدم لنا في دراسته للمدرحية تعريفا فلسفيا لهذه الفلسفة واكتفي بعرض ما يصب في توطيد تعريفه، بدئا من مكتوبات سعادة التي ينتقي منها رسالة سعادة الى فايز صايغ والتي يقول فيها:" إن الحركة نشأت على عقيدة ، أي على فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته.." معتبرا أن سعادة قد حدد فلسفته بأنها "موجودة في المبادئ" متجاهلا ما تبقى مما يورده سعادة في الرسالة المشار اليها ".. وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه.." ففلسفة سعادة موجودة في كل أعماله ومن جملتها كتبه التي لم يستثني منها كتاب نشوء الأمم باعتباره قد اختص في "علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان .." على ما يذهب اليه الأمين حيدر، فنشوء الأمم يسبق كل ما كتبه سعادة وقاله وفعله فهو الكتاب الأول الذي يقول فيه سعادة إن " درساً من هذا النّوع يوضّح الواقع الاجتماعيّ الإنسانيّ في أطواره وظروفه وطبيعته.. ففي الدّرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الاجتماعيّة ومجاريها.. وقد أسندت حقائقه إلى مصادرها الموثوقة. واجتهدت الاجتهاد الكليّ في الوقوف على أحدث الحقائق الفنيّة الّتي تنير داخليّة المظاهر الاجتماعيّة وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطيّة عليها.. فالكتاب الأوّل جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة.." هذا الاستثناء لكتاب نشوء الأمم دفع به لينتهي الى تعريفه التالي:" الفلسفة القومية الاجتماعية = تجبُ المبادئ لتنهض الأمة.." هذا التعريف لا يختلف عمّا قدمه تلامذة سعادة والذي ينتقده حضرة الأمين، من جهة ثانية، لا يقدم لنا المؤلف تعريفا محدداً للفلسفة ولا للمادة أو الروح ولا حتى للعلم، ففي شرحه لعلاقة العلم بالفلسفة ينتهي للقول:" أن العلم يقدم للفلسفة مادتها ( من حيث أنه مختصٌ بالقوانين الكمية ) أما الفلسفة فتستخرج منها المبادئ العامة الجامعة لشتات المعارف العلمية .." أما بالنسبة للعلاقة بين المادة والروح، فيقول: علاقة المادة بالروح علاقة ترافقية أو علاقة ترابط.." أما علاقة الفلسفة بالعلم فهي" علاقة وجوبية ـ مناقبية.." لكن ما هي المادة؟ وما هي الروح؟ وما هو العلم؟ وما هي الفلسفة؟ فهذا ما لا يجيبنا عليه حضرة الأمين!! على الأقل من وجهة نظر سعادة في فلسفته.. وقد سبق لنا وعرَّفنا كلٌ من المادة والروح وفق سعادة بناء على ما جاء به كتابه الرائع نشوء الأمم، ونعيد هنا تعريفنا للمادة بانها كل ما لا يدين بوجوده للإنسان وجودا ومعرفة، أي أنه موجود رغما عن الانسان ولا يرتبط وجوده بوجود الانسان أو معرفته، أي أنه وجود مستقل كل الاستقلال عن الانسان، فهو وجود بذاته لذاته، وما يقوله سعادة بهذا الصدد واضحٌ وضوحا لا لبس فيه:" فلا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته أي أن يكون الشيء موجوداً. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها.. . لكن لا يكفي تحديد الوجود لقيام الحقيقة فالوجود يجب أن يصير معرفة ليكون حقيقة أي أنه يجب أن يعرف إما من قبل الإنسان وإما من قبل الله.." أما الروح، فسعادة يستخدمها كمصطلح مجازي ويعني بها النفس، أي أنها لا تتمتع بمواصفات المادة كوجود مستقل، ذلك بنقده ونقضه للتعليل الديني وقوله أن الانسان:" لم يعد يقنع بالتّعليلات الخياليّة البحتة المعزوّة إلى افتراض وجود شخصيّة وراء نظام الكون تُحدث النّظام وتَحدث بلا نظام.. وتجاه الحقائق الّتي أبرزها العلم .. وهي أنّ الإنسان جزء من الحياة نشأ بالتّطوّر حتّى بلغ شكله الحاليّ، " ندرك كيف أن سعادة يرفض مصطلح الروح الديني هذا من جهة، ولأنه يدرس البنائين المادي والنفسي والذي يقول فيه:" تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع.. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.." فالمدرحية هي إذن هذان البناءان المادي ـ الطبيعة بما هي وجود والنفسي بما هو الثقافة الانسانية ـ الدولة، هذا ثانيا، أما العلم من حيث أنه "مختص بالقوانين الكمية" وفق ما يذهب اليه الأمين حيدر، فهو دراسة المادي، الموضوعي، الوجود، بما هو الكون والطبيعة، ومن ثم المجتمع الانساني كوجود مادي، موضوعي، بالنسبة للفرد، والعلم من حيث هو قانون، هو دراسة العلاقات بين الموجودات، والتي هي بدورها، مادية، فالعلاقات الفيزيائية والكيمائية وحتى الرياضية والاجتماعية، هي علاقات مادية، موضوعية، فعندما نقول جيولوجيا نعني بها منطق طبقات الأرض، اي أن علم الانسان بها ليس أكثر من صياغة لهذا المنطق، صياغة تتوافق وكيفية عمل العقل، فيزيولوجية العقل، صياغة معرفية، بحيث يمكنه تسخيرها بما هي عليه من خصائص ومواصفات، لمصلحته، كذلك فيزيولوجيا، منطق الوظائف، وبيولوجيا، المنطق الحيوي، والسيكولوجيا، المنطق النفسي، والسيسيولوجي، المنطق الاجتماعي..، فمصطلح "...جيا" المضاف هو (Logic) المنطق، في اللغة العربية، ولما كان العلم هو درس الجزئيات المادية ( فيزياء، كيمياء، تاريخ، اقتصاد ..الخ) كانت الفلسفة هي المحصلة التي تجمع" شتات العلوم.." بمقولات، قوانين عامة، يستطيع من خلالها الانسان اختصار كل ما يجيء به العلم، فالفلسفة هي القانون، المقولة، الوافية الكافية، لتفسير ما نتساءل عنه، هي الناموس او هي المقولة العامة، الشاملة، الكلية، للوجود المادي والنفسي على حدٍ سواء. هي البحث في المتكرر المادي، الموضوعي، وصياغة هذا المتكرر في قانون عام، أو مقولة . هي القانون، المقولة، الوافية الكافية، لتفسير ما نتساءل عنه، هي المقولة العامة، الشاملة، الكلية، للوجود المادي والنفسي على حدٍ سواء، هي البحث في المتكرر المادي، الموضوعي، وصياغة هذا المتكرر في قانون عام، أو مقولة.، يستخدم سعادة مصطلح/ ناموس/ للتعبير عن القانون أو المقولة معرِّفاً إياه بقوله:" النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة.." فالمدرحية جملة من المقولات، أو النواميس تبدأ بمقولة(ناموس) / المادة تعين الشكل/ ومنها تُشتق مقولة/ الدورة الاجتماعية ـ الاقتصادية/ والتي عليها تقوم مقولة / الواقع الاجتماعي/ الذي هو الأمة، وعلى هذا الواقع الاجتماعي، تقوم مقولة / المرتبة الثقافية/ والتي تُشتق منها / مقولة / أن الاقتصاد لا يعني حقيقة سوى سد الحاجة بأقل جهد وزمن وأكبر انتاج/ ومقولة الانسان ـ المجتمع / الدولة والتي تقوم عليها مقولة/ نسبية القيم/ والتي منها على سبيل المثال لا الحصر، نسبة الحقوق الى الواجبات حيث أنه في الدولة، الانسان ـ المجتمع تتناهى الحقوق ـ وفق المرتبة الثقافية ـ الى أعظم ما يمكن لتتناهى الواجبات الى أقل ما يمكن..
وعليه الفلسفة القومية الاجتماعية ـ المدرحية، تعريفا هي: " فلسفة اجتماعية تدرس الانسان نشؤاً وارتقاءً، عوامل وأسباب ونتائج "
فالفلسفة هي جملة القوانين العامة، او المقولات أو النواميس التي تحكم مختلف أوضاع وحالات المجتمعات الانسانية وظروفها التي تشكلت بموجبها ككيانات اجتماعية لها مواصفاتها الخاصة وخصائصها التي تميزها عن سواها من الجماعات..
هذه هي الفلسفة القومية الاجتماعية ـ المدرحية، تعريفا ومقولات.
2 ـ مدرحية لبيب زويا:
بإ سلوبٍ تهكمي، يطرح الأمين حيدر نقده للمدرحية كما يراها زويا، بالطبع، منطلِقاً من تعريفه لها من أنها "هي الفلسفة القومية الاجتماعية الموجودة في المبادئ، ولما كانت الأمة هي محور المبادئ أو فكرتها المركزية فإننا نقول: إن الفلسفة المادية ـ الروحية هي فلسفة الأمة." ولا ننكر أن وجهة نظر زويا شابها الكثير من الغموض والتناقض وفق ما أورده الأمين حيدر من مقتطفات في نقده لها، لكننا نرى أن ما بين أيدنا من تلك المقتطفات، لا يسمح لنا أن نتناولها بالنقد والتحليل، فالسياق الذي طُرحت به تلك المقتطفات، في صلب الدراسة التي يقدمها زويا، مهم للغاية، بهدف بيان تلك النظرة كاملة غير مجزؤه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نظرة القوميين الاجتماعيين في عام 1948 ـ تاريخ نشر هذه النظرة في مجلة النظام الجديد ـ للمدرحية أو القومية الاجتماعية كان مبنيّاً على مجمل ما ألقاه سعادة من خطب ودبجه من مقالات متفرقة أو تحدث به وما كان بين أيدي الرفقاء من كتبه سوى نشوء الأمم والذي لم يُقرأ بالعناية والتأمل المفترض بدراسي فلسفة سعادة الاجتماعية، وعلى ما نعتقده أن تصفحه لم يكن ليكفي لتشكل رؤية عامة حول تلك الفلسفة، ولا يسمح بأية حال من تكوين نظرة شاملة لها تتغلغل في مختلف مفاصلها وتتكامل مع تلك الخطب والأحاديث، التي لم تكن في حقيقتها سوى شرحا لما جاء في كتاب نشوء الأمم من وجهات عدة اقتضتها ظروف ومكان الحديث أو الخطاب أو المقال والأشخاص ومستوياتهم المعرفية والتي كان يأخذها سعادة بعين الاعتبار في توجهه لهم..
مع كل ما تقدم فإننا نلمح لدى الرفيق لبيب زويا بعضا من الرؤى الفلسفية، وإن جاءت على شاكلة لمحات أو شارات لمتجهات فلسفية عامة، أكانت قريبة أو بعيدة عن موضوع الدراسة التي يقدمها في نشرة النظام الجديد، فهي تعكس رغبة في جمع شتات ـــ ما كان مطروحا حينها من أقوال ومقالات وخطب وأحاديث لسعادة، وما كان متداولا من رؤى في الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والسياسة.. الخ ـــ في اجتهاد شخصي يشكر عليه رفيقنا لبيب زويا..
فعلى سبيل المثال، ووفق ما جاء في مقتطفات الأمين حيدر، قول الرفيق لبيب زويا :" إن الصراع الحقيقي، إذن، هو صراع الانسان مع نفسه في سبيل فهمها وتحققها.." فهذه مسألة قد لا تدخل في موضوع المدرحية كفلسفة اجتماعية، لكنها تبقى اشارة لما تنحى اليه هذه الفلسفة، فمن وجهة نظرنا، فإن ما يطرحه الرفيق زويا، صحيح، ذلك أن فكرة الله لم تكن في دوافعها، سوى هذا التوق الانساني لأن يكون الانسان إلاه ذاته، كل ما في الوجود تحت امرته وتصرفه، وهو توقٌ لن ينتهي ـــ كما يقول زويا ـــ إلا إذا تحقق للإنسان غايته من وجوده على غرار " كُنْ فيكون" أو كما عبر عنها الرفيق زويا أي "فهمها وتحققها"، جوانب أخرى يضيئ عليها زويا وهي مقاربة ما كان مطروحا آنذاك من أن الحزب السوري القومي الاجتماعي في شعار الزوبعة وفي تسميته حتى وفي ما ذهب اليه من كون المزيج السلالي السوري خليط من مفلطحي الرؤوس ومستطيليها ومستديريها ، ومن كونه حزبا فاشيا أو نازيّا، قوله:" أن الفلسفات التي تنطوي على البغض والكره تحمل في نفسها ميكروبات خيبتها ( في اشارة للفلسفة الفاشية والنازية).. ليس في المدرحية بغض لأنها ليست عنصرية في باثولوجيها ولا فردية في اجتماعيتها ولا طبقية في اقتصاديها.." أما قوله:" هو ذلك الصراع الصامت الخفي الذي نقل الانسان من أطواره الابتدائية الى حالته الحاضرة.." فوفق ما نعتقد أن القصد الذي يذهب اليه زويا، هو أن التجربة الانسانية كانت تجري بهدوء وصمت، وإلا لما كانت قد استغرقت هذا المدى الزمني الطويل، فليس استخدام النار ـــ على سبيل المثال أيضا ـــ رافق الانسان منذ أن وجد، فقد كان "لاقط ثمار ومن ثمَّ صيادا.." يأكل اللحم نيئا، ليكتشف في ما بعد، أن طعمه مشويا ألذُ من كونه نيئا، وليعتمد النار في تحسين مأكله ومن ثَمَّ مختلف شؤون حياته، هذا المدى الزمني يشير اليه الرفيق زويا بمفردة" الصامت الخفي " فكل ما بين أيدينا اليوم لم يأت ابن لحظته، إنه تراكم الخبرة والرغبة في التحسين وعدم قبول ما هو كائن إلا في أحسن أحواله وما تفتضيه من الظروف والأوضاع التي يعيشها الانسان أو يسعى لها ..
ما يقدمه الرفيق زويا يبقى توصيفا لمناحي مدرحية كان لا بدَّ من الوقوف حيالها نقدا أو نقضا، من وجهة رؤية الحزب لها وليس الفلسفة المدرحية، فهذه الأخيرة بقيت دونما شروحات اختصاصية، تلج منظومة الفلسفات الاجتماعية مصطلحات ومفاهيم ومقولات، على شاكلة ما يقدمه "دوركهايم أو أنجلز أو فيبر" تحديدا كرواد للفلسفة الاجتماعية في القرن التاسع عشر والعشرين، وهذه مسألة ذات أهمية عند تناولنا المدرحية من حيث هي فلسفة اجتماعية..
ما يلي من مقتطفات من مقالة الرفيق زويا كما انتقاها الأمين حيدر، تُظهر المستوى الثقافي الذي كان شائعا في أربعينات القرن الماضي، والذي واجهه سعادة بالنقد والتحليل ملخصا إياه بهذه العبارة: "علينا أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف تعالج الأمور" دون فهم هذه الفلسفة تبقى القضايا المطروحة عرضة لكثير من الخلل في النهج..
يتضح من مطالعتنا لهذه المقتطفات مدى التناقض الناتج عن الخلط بين المصطلحات الفلسفية، وأبرزه قول الرفيق زويا:” وقد تناولت الناحية الانطولوجية (الوجودية) كما تناولت موقف هذه الفلسفة من الفلسفات المعاصرة.." ومن ثم قوله:" ليست المدرحية نظرية في المعرفة فحسب، بل نظرية ميتافيزيقية (ما ورائية ـ غيبية) لها مقولاتها الخاصة" فكيف يمكن أن تكون عليه المدرحية وفي آن واحدٍ وجودية وغيبية والمصطلحان يناقضان بعضهما البعض..
لكن، وكما نوهنا آنفا فإن هذه المقتطفات لا تسمح لنا بنقد ما جاء به الرفيق زويا لأننا ومن خلال هذه (المقتطفات) لن نعرف ما إذ كانت المقالة قد تناولت، مثلا، تلك" الفلسفات المعاصرة" أم لا؟ وأيٍ منها؟ والموقف الفلسفي القومي الاجتماعي منها!!
فهل جاء موقفنا متماشيا مع ما اقتطفه الأمين حيدر من تلك المقالة:
مقتطفات من مقالة الرفيق زويا
" إن هذه المحاضرة هي تحليلية دقيقة للفلسفة المدرحية ، وقد تناولت الناحية الانطلوجية كما تناولت موقف هذه الفلسفة من الفلسفات الأخرى المعاصرة ، وهي تمثل اجتهادا ممتازا في شرح الفلسفة المدرحية التي تقدم الحل الوحيد روحيا وماديا لقضايا المجتمع الانساني العسيرة... إنه لا انتاج مادي دون أساس روحي له وذلك لأن كليهما عنصر واحد إذا نظرنا إليه من الخارج دعوناه مادة وإذا نظرنا إليه من الداخل دعوناه روحا ، فالروح والمادة إذن صنوان لا يفترقان كصفحتي ورقة بيضاء.. وجدا سويا، فكان الوجود، فهما الوجود..وجد الصراع على الأرض منذ وجد الوجود .. إن الصراع الحقيقي، إذن، هو صراع الانسان مع نفسه في سبيل فهمها وتحققها... ولن يتمَّ هذا الصراع ولن يقف، إلا بتمام تحقيق الذات الانسانية الشاملة .. لنبدأ الآن بتبيان الأساس الفلسفي الذي ترتكز عليه جميع مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الثقافية وغير الثقافية.. الفلسفة المدرحية ليست تركيبا فلسفيا، بل ابداعا فلسفيا.. إنه إن كان هناك فلسفة وجودية بالمعنى الصحيح فهي ولا شك، فلسفتنا نحن .. الوجود في نظرها وجودا اجتماعيا موحد وليس وجودا افراديا متقطعا.. وإذا ما اعترفنا مع بعض المفكرين أنه لا تقوم قائمة لأي مجتمع إذا فقد عاطفة المحبة والولاء رأينا أن الفلسفات التي تنطوي على البغض والكره تحمل في نفسها ميكروبات خيبتها.. " المدرحية" ترى أن المجتمع أساس الوجود وليس الفرد أو الدولة أو العنصر.. إنها كنظرية صراعية تعتبر أساس الوجود اتحاد المادة والروح ذلك الاتحاد الذي لا يقوى أحد على فصم عراه، الأمر الذي يؤدي في النهاية الى اعتبار أن كل ما في الوجود ناتج عن هذا المطلق العام ..ليس في المدرحية بغض لأنها ليست عنصرية في اثنولوجيتها ولا فردية في اجتماعيتها ولا طبقية في اقتصاديتها.. إن الصراع الذي تعتبره المدرحية أساس التطور الانساني، هو ذلك الصراع الصامت الخفي الذي نقل الانسان من أطواره الابتدائية الى حالته الحاضرة .. لا تتهرب المدرحية من الحرب لأنها تعتبرها صراعا ..ليست المدرحية نظرية في المعرفة فحسب، بل نظرية ميتافيزيقية لها مقولاتها الخاصة
مدرحية كامل المقدم:
إن كنا لا نتفق مع الأمين الجزيل الاحترام حيدر الحاج اسماعيل في استثنائه لكتاب نشوء الأمم من تعريفه للفلسفة المدرحية، بناء على ما أورده من رسالة سعادة الى فايز صايغ والتي يعتمدها الأمين حيدر في تعريفه للمدرحية، وفي نقده لمختلف المقالات التي تناولت مصطلحي المادة والروح..،(1)وما جاء في مقدمة نشوء الأمم من أنه كتاب علمي تجنب فيه سعادة التأويلات الفلسفية، لكنه في حقيقة الأمر لم يتجاهل الفلسفة والفرق بيِّن بين التأويل والفلسفة، وهذا يبدو واضحا في سياق الكتاب( نشوء الأمم) في تناوله لمختلف النظريات المدرجة تحت عناوين " علم اجتماع" ..
فإننا لا نتفق معه، أيضا، في تصنيفه لمقالات وردت في نشرة" النظام الجديد" على أنها رؤى مدرحية، ذلك كونها: أولا، ليست دراسات أو أبحاث في الفلسفة بوجه عام وفي المدرحية تحديدا، ثانيا: لأنها لم تكن سوى تعبيرا عن كيفية فهم رفقاءنا الأوائل لما جاء به سعادة، وهي ثالثا: مجرد مقالات حاولت أن تضفي ذاتيتها في سياق فلسفي عاجز عن فهم ما يتناوله أسسا ووسائل وغايات، بمعنى أننا عندما نصف فلسفة سعادة بــ" وجودية، انطولوجية" ومن ثم نعود ونصفها بــ " ما ورائية، غيبية، ميتافيزيقية" فإننا لا نكون قد ارتكبنا خطأً فلسفياً وحسب، بل وخطأ منهجيا، ومع ذلك، فإننا نفهم أن ما دونه الرفقاء الأوائل من رؤى، يبقى محاولة للتعبير عن وحدة المادة والروح حتى في السياق " وجودي ـ غيبي" أي دمج متناقضين فلسفيين، كما هي الحال في دمج مادي ـ روحي..
فما يقدمه الأمين كامل المقدم تحت عنوان " بحث تحليلي في ما بين المادة والروح" لا يعدو كونه محاولة غير اختصاصية في موضوع فلسفي يحمل الكثير من الإشكاليات، تحديدا المنطقية التي تمتاز بها كل فلسفة على حدة، فكيف جاء تعريف الأمين المقدم لكل من المادة والروح في محاولة لإبراز تكاملهما معا فيما يتفق والفلسفة المدرحية، نكرر فيما يتفق والفلسفة المدرحية، أي أن الأمين المقدم، يقدم لنا كلا من المصطلحين من وجهة نظر مدرحية يقول ( بالطبع وفق ما أورده الأمين حيدر من مقتطفات من هذا البحث ) : المادة جمال لا حياة فيه والروح حياة لا جمال فيه، والمادة والروح جمال وحياة في مجتمع حيٍّ كائن .. المادة هي الثروة الاقتصادية للمجتمع، ونسبة لحاجاتنا الملحة لهذه الثروة لا نقدر بدونها كأمة حية أن نسمو ونقوى ونسود.. أما الروح فهي الثروة الروحية النفسية المثلى التي تتعزز فيها المناقب وتقدس الفضائل وتسمو الأخلاق ..إن تلك المدرسة تنظر الى الحياة كوحدة مادية ـ روحية وترى أن فلسفة الحياة الحقيقية هي تلك الفلسفة القائمة على تعاون المادة والروح.. لأن الروح هي سرُّ بقاء الأمة والمادة هي الغذاء لهذه الأمة .. إن خسارة الروح انخذال عظيم في الأخلاق والمكارم والفضائل وفي كل ما يمت بصلة مباشرة أو غير مباشرة الى القيم الانسانية النفسية المجتمعية المثلى.. وأن خسارة المادة انهيار تام في معترك الدول الاقتصادية معترك التفوق في النشاط والعمل والانتاج .."
في رؤيتنا لما قدمه الأمين كامل المقدم، نلمح مفصلين مهمين، الأول هو اقتران المادة بالثروة، بقوله:" المادة هي الثروة الاقتصادية للمجتمع.." وهذا الاقتران لو جاء على النحو التالي: المادة هي البيئة الطبيعية للأمة، لكان قولاً لا غبار عليه، ذلك أنه يتفق اتفاقا مطلقا مع سعادة، الذي يعتبر أن المادة هي التي تعين الشكل، وعليه، المادة ـ البيئة هي التي تعين الشكل، المجتمع ـ الأمة، وعلى قدر ما تكون المادة ـ البيئة مؤهلة لقيام التمدن ، بقدر ما تكون قوة الأمة أو تقدمها، أو رقيَّها أو مرتبتها الثقافية بين الأمم. وهذا ما كان الأمين المقدم يود قوله، وفق رؤيتنا وتحليلنا لقوله:" ونسبة لحاجاتنا الملحة لهذه الثروة لا نقدر بدونها كأمة حية أن نسمو ونقوى ونسود.."
المفصل الثاني الذي نلمحه في مقالة الأمين المقدم هو:" أما الروح فهي الثروة الروحية النفسية المثلى التي تتعزز فيها المناقب وتقدس الفضائل وتسمو الأخلاق.." والذي يقدم لنا اقترانا أوليا بين مصطلح روح ومصطلح نفس، " الروحية ـ النفسية" الروح هنا وفق تقديرنا هي النفس، وهذا الملمح يتطابق ومفهوم الروح عند سعادة.. خاصة عندما يؤكد الأمين المقدم ذلك بقوله:" إن خسارة الروح انخذال عظيم.. في كل ما يمت.. الى القيم الانسانية النفسية المجتمعية المثلى.. وأن خسارة المادة انهيار تام في معترك الدول الاقتصادية معترك التفوق في النشاط والعمل والانتاج.." لنلاحظ " القيم النفسية المجتمعية" في اشارته الى الروح، واشارته الى المادة في قوله "معترك الدول الاقتصادية.."
قد تكون قلة المصادر الحزبية التي لم تكن متوفرة و التي كانت رديفا ثقافيا لرفقاء الجيل الثاني، هي التي كانت وراء استخدام الأمين كامل المقدم لمصطلحات المادة والروح والثروة والقيم على النحو الذي جاءت به، لكنها بقيت محافظة على المضمون المشار اليه ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مدرحية الأمين أنيس فاخوري:
نبقى في ذات الاتجاه لرفقاء الجيل الأول، وكيفية فهمهم لفلسفة سعادة المدرحية، حيث المضمون واحد وإن اختلفت المصطلحات التي يعبر كل منهم عن كيفية فهمه لتلك الفلسفة، فنجد الأمين الجزيل الاحترام أنيس فاخوري يقدم رؤيته تحت عنوان كبير / النظرة القومية الاجتماعية: النظرة المدرحية / فيقول:" هذه المحاضرة.. هي محاولة أولى لإيضاح الفلسفة القومية الاجتماعية المدرحية ..من الناحية غير المادية ( الميتافيزيقية).. فهي تفتح الموضوع من ناحيته الغير مادية والأنطولوجية.. فلسفة سعادة لها وجوه شبَه عديدة قد يراها الكثيرون مع الفلسفة التومائية (نسبة الى توما الأكويني) ومع فلسفة سبينوزا وكانت وكونت، مع ذلك فلسفة سعادة المادية ـ الروحية ليست فلسفة توفيقية مؤلفة من عناصر من هنا وهناك بل هي اتجاه ثالث جديد من اتجاهات التفكير الفلسفي، هو الاتجاه الصوابي والمخرج النظري في التفكير الانساني.. (لذا) فمرتكزاتها تبدأ في كونها فلسفة اجتماعية في نظرتها الى القيم، ولا تبحث منشأ الكون، أي ليست ميتافيزيقية ..(فهي) عقلية، العقل شريعتها، تفاعلية، تقول بتفاعل الروح والمادة وقومية اجتماعية فالإنسانية واقع مجتمعات وأمم وهي نهضوية تطلب إقامة نظام جديد لحياة مرتقية.. إنني أدعوكم الآن الى أن تلقوا معي نظرة شاملة على هذه المبادئ لنرى كيف أنها التحقيق العملي للفلسفة القومية الاجتماعية المدرحية..ولمراجعة كتاب نشوء الأمم ليرى قراءه أية روعة فكرية عميقة تطالعهم، وأية لذة فلسفية تدغدغ أدمغتهم .."
ما تقدم، على إيجازه، بمقتطفات، يقدم فكرة أن المضمون المدرحي كامن في ما يذهب اليه الأمين فاخوري، وإن خانته المصطلحات المناسبة، فإن ذلك لا يُنقص من قيمة توجه الأمين فاخوري، ذلك أنه يشير الى مفصل رئيس يؤكد أن الفلسفة القومية الاجتماعية من وجهة النظر الميتافيزيقة ـ الغيبية ـ الماورائية، "لا تبحث في منشأ الكون .." فهي ليست ميتافيزيقية وتاليا هي اجتماعية طالما أنها ( اجتماعية عقلية تفاعلية قومية نهضوية، بحيث تكون " المبادئ هي التحقيق العملي للفلسفة القومية الاجتماعية المدرحية وأن كتاب نشوء الأمم هو كتاب تقوم عليه هذه الفلسفة المدرحية..
صحيح أن الأمين فاخوري لم يقدم لنا تعريفا للمدرحية من حيث كونها "فلسفة اجتماعية تدرس نشأة الانسان وارتقائه عوامل وأسباب ونتائج" لكنه يُضمن هذا المفهوم بقوله " أنها لا تبحث في منشأ الكون" ولأنها كذلك ففي نشوء الأمم نجد مبدأها وركنها الأساس، باعتباره ـــ من وجهة نظرنا ـــ المدماك الأول الذي بنى سعادة، على ما تضمنه من نتائج فلسفته المدرحية التي تبقى المبادئ هي التحقيق العملي لها .
أخيرا وقد أثمرت الجهود النبيلة التي قام بها الرفيق (ع.ح) في وقوفنا على ما جاء في المقالات الأولى التي تناولها الأمين حيدر بالنقد، / لبيب زويا، كامل المفدم، أنيس فاخوري/ فإننا نعيد قراءتنا لها مقرونة بصور عنها لتعم الفائدة من جهة، ولتأتي رؤيتنا السابقة والراهنة مستكملة كلٌ منها الأخرى، ولنرى إن أصاب الأمين حيدر في نقده لها أم لا.. مع العلم أن المقالات المشار اليها، كانت تحت اشراف سعادة وقد وافق على نشرها، مما يفيد بأنها تأتي على غير ما انتهى اليه الأمين حيدر، فموافقة سعادة تعني أنها تأتي في السياق الذي حدده عنوانها، وقد يكون سعادة قد نقحها إضافة أو حذف منها ما لا يتفق والسياق العام لها..
إن موقفنا من قول الأمين حيدر:" والحق يقال أن سعادة لم يأت بغير المبادئ" واعتماده مقدمة نشؤ الأمم من حيث كونه":" كتاب.. اجتماعيّ علميّ بحت تجنّبت فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة.. وكذلك على رسالة سعادة الى فايز صايغ والتي يورد منها قول سعادة:" "" إن الحركة نشأت على عقيدة، أي على فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته.."" وانتهاء الأمين حيدر لبخس سعادة حقه، يأتي في غير محله، فبناء على ما أورده من مقدمة نشؤ الأمم، واستثناءه إياه، ككتاب علمي غير فلسفي، على الرغم من تأكيد سعادة على أنه كتاب (اجتماعي علمي) تجنب" فيه التّأويلات والاستنتاجات النّظرية وسائر فروع الفلسفة،.. "فهو اجتماعي بالدرجة الأولى، وتجنب " التأويلات والاستنتاجات النظرية.." لا يعني تجنبه لفلسفة الاجتماع، فالتأويل شيء والفلسفة شيء آخر، هذا من جهة، أما قوله" سائر فروع الفلسفة" فيأتي ــ وفق تحليلنا ــ أن سعادة لم يعتمد أية فلسفة أو أي فرع من فروعها، ليقيم عليه بناءه المناقض لها، على غرار ماركس وفويرباخ تلميذي هيغل، وهذا ما دفع سعادة لاعتماد" الحقائق الفنيّة الّتي تنير داخليّة المظاهر الاجتماعيّة وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطيّة عليها.. "هذه الحقائق التي يعتبرها الأمين حيدر حقائق علمية لا تمت الى الفلسفة بصلة، يدحضها قول سعادة من أنه" جامع مستوف الوجهة العامّة من نشوء الأمم بجميع مظاهرها وعواملها الأساسيّة..(من حيث) " تعريف الأمّة وكيفيّة نشوئها ومحلّها في سياق التّطوّر الإنسانيّ وعلاقتها بمظاهر الاجتماع.." يضاف لما تقدم، أنه وفي الرسالة الى فايز صايغ التي يعتمدها للقول بأن سعادة لم يأت بغير المبادئ، قولٌ تدحضه الرسالة نفسها حيث أن سعادة لم يحصر المدرحية في المبادئ بل، بالإضافة اليها يقول:" وفي كتابات المعلم وشروحه وكتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته.."" هذا التعميم لم يستثني منه سعادة ( كتبه ) والتي منها بطبيعة الحال، نشؤ الأمم، أكثر من ذلك ما يورده سعادة في رسالة مؤرخة في العاشر من كانون الأول لعام 1947 ــ والتي يستشهد بها الأمين حيدرــ على أن سعادة قد استخدم مصطلح مدرحية للتعبير عن قوميته الاجتماعية، دعوة سعادة" الى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ المادي وحده والإقلاع عن اعتبار العالم ضرورة حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية والى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الانساني هو أساس مادي ـ روحي( مدرحي) وأن الانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه.. " مما يعني، بشكل لا جدال فيه أن نشؤ الأمم هو في صلب تفسير المدرحية من حيث" أن أساس الارتقاء الانساني هو أساس مادي ـ روحي( مدرحي)، والملاحظ في هذا النص الذي كتيه سعادة والذي يتضمن مصطلح مدرحية لكن ضمن قوسين، بما يعني أن سعادة يأتي على ذكر المدرحية بتحفظ، مما يؤكد ما نوهنا اليه سابقا من أن هذا المصطلح لرشيد سليم الخوري(*)، هذا من جهة، من الجهة الأخرى نجد أن النص يأتي واضحا كل الوضوح بالدلالة على أن المدرحية هي الناموس ( الأساس) الذي يفسر لنا ( أساس الارتقاء الانساني..) كأساس ( مادي ـ روحي( مدرحي) فالقومية الاجتماعية ـ المدرحية هي تفسير لهذا الأساس المدرحي للتطور الانساني، والكتاب الذي اختص بهذه المسألة هو كتاب "نشؤ الأمم" وليس سواه..
وقد سبق لنا وذكرنا أن مصطلح ( مدرحية ) يذكره سعادة ثلاث مرات فقط لا غير، الأولى كانت في هامش من هوامش أحد كتابيه ( الاسلام في رسالتيه وجنون الخلود ) متهكما على رشيد سليم الخوري من قوله ( مدرحية) والتي هي باعتراف سعادة أنها مصطلح يؤول فيه ما جاء على لسان سعادة من أن أساس التطور الانساني مادي ـ روحي.. أما الثاني ففي رسالته المشار اليها أعلاه، أما المرة الثالثة فهي، مقالته المعنونة بــ ( لائحة العقاقير لا تصنع طبيبا )حيث يقول:" إن الحركة القومية الاجتماعية تأسست على مبادئ الوجدان القومي والعدل الاجتماعي في النظرة المدرحية الى الحياة والكون والفن.." فما يقصده سعادة بقوله هذا، هو أن الحركة ــ الحزب، تأسس على مبادئ الوجدان القومي والعدل الاجتماعي، في اشارة واضحة لقوله بالقومية( الوجدان القومي) الاجتماعية( العدل الاجتماعي) كأساس يقوم على " النظرة المدرحية الى الحياة والكون والفن.." هذا الأساس هو الأساس المدرحي في تفسير التطور الانساني.."
نعود ونذكر بالمرتكزات التي نعتمدها في بحثنا هذا / نقدٌ على نقد/ إذ تأخذ فيها المصطلحات الواردة أدناه المفاهيم التالية:
كما نعرفها، هي الكشف عن أعم القوانين في الطبيعة والمجتمع، هي بحثٌ في الكليات التي تنتظم من خلالها جزئيات العلم ـ المعرفة في قوانين أو مقولات أو نواميس عامة حيث يشكل المتكرر منها محورها الرئيس أو عمودها الفقري ..
القانون أو المقولة أو الناموس هو وفق سعادة :" اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة.. والنواميس لا تلغي خصائص الأنواع" لاحظ " استمرار حدوث .." أي المتكرر..
هي كل ما لا يدين بوجوده للإنسان وجودا ومعرفة، أي أنها كل ما يوجد رغما عن الانسان فردا أو مجتمعا، كل ما هو موجود خارج وعي الانسان ولا يمت بأية صلة بوجوده للإنسان، يقول سعادة:" لا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته أي أن يكون الشيء موجوداً. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها.. لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة.." وبما يعني أسبقية الوجود على المعرفة ـ الوعي ..
الروح :
هي كل نتاج نفسي انساني أيا كان وبأي شكل كان وعلى أي نحو كان / صناعة وغلالا وفكر/ علما ـ معرفة كان أم فلسفة ـ ناموسا حيث موضوعهما يبقى وجودا ماديا أيا كان أيضا.. فالحقيقة، كما يراها سعادة:" قيمة نفسية انسانية" والانسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة.."
الفلسفة المدرحية:
هي دراسة التطور الانساني نشؤا وارتقاء عوامل وأسباب ونتائج..
القوانين أو المقولات أو النواميس المدرحية :
1 ـ المادة تعين الشكل .
2 ـ دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية.
حيث تقوم على هاتين المقولتين أو الناموسين :
1 ـ مقولة / الواقع الاجتماعي/ الذي هو الأمة،
2 ـ مقولة / المراتب الثقافية الثلاث /
3 ـ مقولة الانسان ـ المجتمع / الدولة
4 ـ مقولة / نسبية القيم /
(*) يقول سعادة في جنون الخلود صفحة 60"ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية "الدين الإسلامي" إنها "مدرحية" أي "مادي روحي معاً". فقد يظنّ القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية الخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي "نشوء الأمم" ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة. وآخر ما أعلنته من أمر نظرتي الفلسفية كان في خطابي في أول آذار سنة 1940، الذي نشر في "سورية الجديدة" في العدد الصادر في 27 نيسان من السنة المذكورة. قلت:
"إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تأتِ سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. إن الحركة السورية القومية الاجتماعية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة الإنسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية الاجتماعية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي ـ الروحي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير الحياة نحو أرفع مستوى".
قراءة في محاضرة الرفيق الأستاذ لبيب زويا
/ الفلسفة المدرحية وناحيتها الصراعية/
تأتي هذه المقالة حول محاضرة الرفيق زويا مستكملة ما سبق وسقناه بناء على مقتطفات الأمين حيدر حاج اسماعيل وقد كنا نوهنا سابقا الى أننا قد لا نفي هذه المقالات أو المحاضرات حقها، وتاليا أن ننصف كتابها، طالما أننا نعتمد على ما أورده الأمين حيدر من مقتطفات منها، وكان قولنا في محله، بعدما اطلعنا على المحاضرة كاملة، لذا كان من المفيد، أن نعيد قراءتنا لها كما هي لا كما دونها منتقدا الأمين حيدر حاج اسماعيل.
أولا، نقرأ على غلاف مجلة "النظام الجديد" التي نشرت هذه المحاضرة، أن الموجه لها كان سعادة، بمعنى أن ما قد يرد فيها من مقالات، خاضع لإشراف سعادة، و موافقته عليها قبل نشرها، وطالما أنها نُشرتْ ، فهذا يعني أن سعادة قد وافق على كل ما جاء بها، لذا جاء التعريف بهذه المحاضرة ـــ والذي نعتقد أن سعادة قد خطَّهُ ـــ على النحو التالي: " إن هذه المحاضرة هي تحليلية دقيقة للفلسفة المدرحية وقد تناولت الناحية الأنطولوجية كما تناولت موقف هذه الفلسفة من الفلسفات المعاصرة وهي تمثل اجتهادا ممتازا في شرح الفلسفة المدرحية التي تقدم الحل الوحيد روحيا وماديا لقضايا المجتمع الانساني العسيرة وتشق للمجتمع طريق الخروج من التخبط والأضاليل الى حرية أعظم ونظام أجمل ونتيجة فيها الخير كل الخير للمجتمع، فهي وحدة من وحدات هذه المجموعة الأولى الكبيرة القيمة للفلسفة المدرحية التي أعلنها سعادة وتقدمها النهضة القومية الاجتماعية للعالم."
تأتي المحاضرة تحت عنوان عريض هو: "الفلسفة المدرحية وناحيتها الصراعية" فهي تطرح الفلسفة المدرحية من وجهة نظر محددة ألا وهي:" الصراع " بمعنى لماذا تأخذ هذه الفلسفة وجهة الصراع منطلقا ووسيلة وغاية؟ فالمحاضرة إذن، تتناول ثلاث محاور أساسية، تناولها التعريف بها، والتي دارت بمجملها حول هذه المحاور، أولها التعريف بالمدرحية، ثانيها موقف هذه الفلسفة من الفلسفات الأخرى، ثالثها كونها المخرج العملي من التخبط والأضاليل الى حرية أعظم.. "
بناء على ما تقدم، فلن نستعرض من المحاضرة سوى محورها الأول وهو التعريف بالمدرحية، أما المحوريين الآخرين، فيمكن لمن يود الاطلاع عليهما متابعتهما بالصور المرفقة..
ينوه الرفيق الأستاذ زويا بداية أنه يرجو: "أن يُفهم من هذه الكلمة(الروح) هنا مدلولها الفلسفي لا الديني.." فهو يستخدم مصطلح الروح بمعناه الفلسفي أي بمعناه النفسي، وهذه بداية جيدة تُحسب للرفيق زويا، ثم يطرح سؤاله الرئيس: ".. إذا لم نصل الى معرفة الأساس الذي يقف عليه وجودنا نحن، فما قيمة اصلاح لا يتناول الأساس..علينا أن نبين ماهية الأسس التي يرتكز عليها الصراع الانساني بشتى مظاهره.. و لنبدأ بتبيان الأساس الفلسفي الذي ترتكز عليه جميع مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، الثقافية وغير الثقافية.. " إنه المبدأ المدرحي أو الفلسفة المدرحية من حيث أنها "ليست تركيبا فلسفيا بل ابداعا فلسفيا، بمعنى أنها نظرة جديدة كل الجدة الى الحياة والعالم والمعرفة، وأن هذه الفلسفة لها من المقام ما لأي فلسفة أخرى، لا بل أكثر أهمية من غيرها لأنها الوحيدة التي استطاعت أن تعطي الأساس الموحد لسير الحياة الانسانية، فقضت بذلك على أوهام كثيرة عُلِّقَتْ في ما مضى على علاقة المادة والروح الأمر الذي أدى في كثير من الأحايين الى العزوف عن فكرة الوحدة الحياتية الجامعة .. ولما لهذه الفكرة من أهمية .. فإنني أقول أنه إن كان هنالك من فلسفة وجودية بالمعنى الصحيح فهي بلا شك فلسفتنا نحن لأنها تعتبر الوجود كأساس لها، فتبني عليه، والوجود بنظرها وجود اجتماعي موحد وليس وجودا إفراديا متقطعا.. فمنذ أن عرف الانسان على هذه الأرض حتى اليوم، والأرض لم تزل كما كانت من قبل.. إنما الذي يتغير، عليها هو تلك الأشياء الخاضعة لنواميس خاصة تتطور حسبها، مع العلم أيضا أن هذه النواميس الطبيعية هي أيضا أمور ثابتة، لأنها تمثل القانون العام الذي تسير الطبيعة بأجمعها حسبه،.. " ومن أبرز هذه القوانين التي يقدمها لنا الرفيق الاستاذ زويا قانون الصراع الذي يعيده الى "..التفاوت والتباين بين القوى الانسانية في الأشخاص وفي الجماعات.. كان التفاوت، فكان الصراع، فكانت الحضارة، فالصراع أساس الحضارة الانسانية، كما وأن التفاوت والتضارب أساس للصراع الانساني، فلولا التفاوت لما استطاع الانسان التقدم قيد أنملة في ميدان التحقق العام.." ليبقى التساؤل: ما أسباب هذا التفاوت بين البشر وتاليا الجماعات؟ يجيبنا الرفيق الأستاذ زويا قائلاً:" وجد الانسان على هذه الأرض مظهرا لشيئين مختلفين بالاسم ..وقد جرى الناس على تسمية هذين الشيئين باسمين مختلفين، لا رابط بينهما، وهما الروح والمادة،.. واختلف الناس حول أهمية هذين العنصرين.. (لكن) إذا كانت الروح والمادة العنصرين الأساسيين في الحياة، فليس من المعقول أن تكون أهمية الواحد أكثر بكثير من أهمية الآخر بحيث ينعدم الآخر، إن المادة والروح عنصران اساسيان، وهما في حقيقة الأمر عنصرٌ واحدٌ، أو بالحري مظهر ذي وجهتين لوجود واحد، إن مَثّْلا شيئا فإنهما يمثلان الوجود، ولن يتم الوجود بالواحد دون الآخر، إنهما الوجود نفسه كما يُنظر اليه من ناحيتين : موضوعية وذاتية، الأولى تعبر عن الناحية المادية والثانية تعبر عن الناحية الروحية.. إن المدرحية..هي النظرة الصائبة الى الحياة والفن والكون، لأنها النظرة التي تعمل على الأساس الوجودي الصحيح ..وبأن الأساس الذي يرتكز عليه الوجود هو الجوهر الفرد الواحد العام وأن لهذا الجوهر الفرد مظهرين يتخذهما ، هما، المادة والروح، اللذان إذا أُخذا من حيث أنهما عنصران فرديان أمكن التكلم عنهما بالتجريد وفصلهما الواحد عن الآخر، أما حينما يدور الكلام عن الوجود من حيث هو وجود، فهما بالحقيقة شيء واحد، هما الوجود نفسه وهما أساسه وهما مظهراه الأساسيان.. إنهما الوجود في حالتيه الذاتية والوضعية.. إن الفلسفة المدرحية هي فلسفة العصر الحديث،.. لأن فيها عنصر التطور، إنها تتطور من تلقاء نفسها حسب التطور الاجتماعي العام دون أن يكون في ذلك سبب موجب لتغير الأساس الذي يرتكز عليه الوجود الانساني بشتى مظاهره.."
يشرح لنا الرفيق زويا في المحور الأول من محاضرته ـــ التي لم تلقَ في مؤتمر المدرسين ، لكنها نُشرت في سلسلة النظام الجديد التي كان سعادة هو المشرف الوحيد عليها ـــ الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه الفلسفة المدرحية "و الذي ترتكز عليه جميع مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، الثقافية وغير الثقافية.. " بما يعني، أن الفلسفة المدرحية تقدم الأساس الذي تقوم عليه المبادئ، فالمبادئ إذن ليست كما يذهب اليه الأمين حيدر من أنها هي الفلسفة المدرحية، هي نتيجة من نتائجها، أو هي التعبير العملي لها بما يخص الأمة التي نادى بها سعادة،..
يطرح الرفيق الاستاذ لبيب زويا، الناحية الصراعية من الفلسفة المدرحية بمعنى لماذا تقول المدرحية بالصراع " هذا الصراع نفسه ليس بالحقيقة إلا شيئا واحداً هو التطور الانساني نحو التحقيق الأمثل.. وما هذا المخلوق( الانسان) سوى نتيجة لذلك الصراع الطويل منذ بدء الخلق حتى يومنا هذا، صراع الانسان والطبيعة وبين الانسان وأخيه الانسان.." إذن فالمدرحية تُقرُّ بوجهي صراع الوجه الأول هو صراع الإنسان مع الطبيعة والذي يدور ضمن ثلاثية 1 ـ تُكيف الأرض الإنسان . 2 ـ وهو يرد الفعل ويكيفها. 3 ـ لكنها هي التي تحدد مدى هذا التكيف ومنحاه .أما الوجه الآخر لهذا الصراع فهو صراع بين الانسان وأخيه الانسان، صراع يدور مذ" وجد الانسان على هذه الأرض مظهرا لشيئين مختلفين بالاسم ..وقد جرى الناس على تسمية هذين الشيئين باسمين مختلفين، لا رابط بينهما، وهما الروح والمادة،..(مع) إنهما الوجود نفسه كما يُنظر اليه من ناحيتين : موضوعية وذاتية، الأولى تعبر عن الناحية المادية والثانية تعبر عن الناحية الروحية.." في ضوء ما تقدم كان" المبدأ المدرحي، أو الفلسفة المدرحية، ليست تركيبا فلسفيا بل ابداعا فلسفيا بمعنى أنها نظرة جديدة كل الجدة الى الحياة والعالم والمعرفة ..لأنها استطاعت أن تعطي الأساس الموحد لسير الانسانية فقضت على أوهام كثيرة عُلِّقَتْ في ما مضى على علاقة الروح بالمادة.." فالصراع إذن بين مفهومين يفضل كل منهما وجها من وجوه الوجود على الآخر، من هنا تأتي المدرحية كمخرج من هذا المأزق المفهومي لتقول:" إنهما الوجود نفسه كما يُنظر اليه من ناحيتين : موضوعية وذاتية، الأولى تعبر عن الناحية المادية والثانية تعبر عن الناحية الروحية..(كما) إنهما الوجود في حالتيه الذاتية والوضعية.."
وإذا كان الرفيق الأستاذ زويا لم يقدم لنا تعريفا محددا لماهية الفلسفة المدرحية، فذلك لأنه اتخذ الناحية الصراعية من تلك الفلسفة، أو أجاب في محاضرته عن سؤال محدد هو:" لماذا تتخذ الفلسفة المدرحية وجهة الصراع في مفهومها لماهية التطور الانساني ..فهي في المواصفات التي يطرحها فلسفة وجودية "أنطولوجية" ومع ذلك فهي "ميتافيزيائية" لها مقولاتها الخاصة، وليست "ميتافيزيقة" أو ما ورائية كما ألمح اليه الأمين حيدر حينما قال:" كانت المدرحية في رأي الكاتب نظرية وجودية تهتم بالوجود الماثل ، الآن صارت نظرية فيما وراء الوجود metaphysical " " بالإضافة لكونها نظرية في المعرفة ابستمولوجية.." هي كذلك( أي ميتافيزيائية) لأنها تقول:" بأن أساس الوجود ناتج عن اتحاد عنصريه المادة والروح بطريقة يستحيل معها فصلهما وأن الوجود المُسَبَبْ من هذا الاتحاد هو مُسَبْبْ هذا الاتحاد وهذا الاتحاد هو السبب الذي لا سبب قبله والذي منه تبتدئ سلسلة العلة والمعلول.." وكأني بالرفيق الأستاذ زويا يأخذنا الى النظرية النسبية حيث وهم الزمان و المكان،( الزمكان) من حيث أنهما شأنا واحدا يرتبطان ارتباطا ولاديا وموتا لا رجعة فيه، أوالى نظرية ستيف هوكينغ أو (إشعاع هوكينغ) " الانفجار الكبير" والتي تقول بولادة الزمان والمكان و بأن المكان والزمان( الزمكان) شيء واحد، يبتدآن معا وينتهيان معا..
المحاضرة على وجه العموم شرح لوجهة نظر سعادة الصراعية وموقفه من المثالية والمادية وموقفه من الرأسمالية والشيوعية والفاشية الذي يشكل المحور الثاني أما المحور الثالث فيتناول الجانب الصراعي منها.. المحاضرة جديرة بالقراءة لمحبي الاطلاع. ويمكن لمريدي التعمق والدرس الاطلاع على مقالة " حق الصراع هو حق التقدم ومقارنة ما جاء فيها مع ما جاء بهذه المحاضرة .
راجع كتاب جنون الخلود الصفحة 60
محاضرة الأمين أنيس فاخوري
الفلسفة القومية الاجتماعية
النظرة المدرحية
يجيء التعريف بهذه المحاضرة ـــ والتي نعتقد أن سعادة قد دبجه:" هذه المحاضرة.. هي محاولة أولى لإيضاح الفلسفة القومية الاجتماعية.. من الناحية "الميتافيزية" وأن التمهيد الموجز في الفلسفة وموضوعها أو مواضيعها الذي صدَّر به المحاضرة، هو ضروري ومفيد.. إن هذه المحاضرة ذات قيمة كبيرة، والمحاولة التي اشتملت عليها هي محاولة هامة وجريئة.. فهي إذا كانت مقدمة، مقدمة تفتح الموضوع من ناحيته الغير مادية و"الأنطولوجية"..
يجدر بنا التنويه بأن هذا التعريف، وفق ما نذهب اليه، يأتي، مستندا لمحاور رئيسية تناولتها المحاضرة: 1 ــ التعريف بالفلسفة على وجه العموم، 2 ــ التعريف بالفلسفة الروحية والفلسفة المادية والمخرج المدرحي من تناقضهما الى وحدتهما. 3 ــ مرتكزات الفلسفة المدرحية.
أيضا، لابدَّ لنا من التنويه لمصطلح رئيس يأتي في التعريف وهو" الميتافيزية" والذي يعني" الما فوق طبيعي"، بمعنى، العبقرية، للدلالة على عبقرية سعادة في استخلاصه فلسفته المدرحية
1 ــ معنى الفلسفة:
".. إن الفلسفة لا تُعنى بالجزئيات من المعرفة بقدر ما تُعنى بالكليات أو المبادئ أو الأصول الأساسية للأشياء.. بينما العلوم على اختلافها تُعنى بالجزئيات، كل علم بما يخصه ويدخل ضمن نطاق بحثه.. غير أن الفيلسوف يأخذ خلاصات جميع هذه العلوم والأبحاث ويحاول أن يصوغها في قالب واحد ويلقي نظرة واحدة شاملة محيطة ( كليَّة) لينظمها كلها في سلك ( نسق) واحد ويستخلص حقيقة واحدة كبيرة(شاملة) (1) وبالنظر للتفاوت العقلي والتفاوت العلمي أحيانا بين مختلف الفلاسفة، نشأت المدارس الفلسفية القديمة منها والمتوسطة والحديثة.. ولم يكن الفرق بين العلم والفلسفة والعلاقة بينهما، أشدُّ وضوحا منها عند الزعيم الذي قال في مقدمة كتابه الأول من مؤلفه" نشوء الأمم":
" إنه كتاب اجتماعي علمي تجنبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة ما وجدت الى ذلك سبيلا.." فالزعيم لا يخلط بين العلم والفلسفة.. لكن كمال العلم في "نشوء الأمم" هو ما جعل الزعيم يتوج، الحقائق العلمية التي أثبتها وحللها أدق تحليل بنظرات فلسفية عميقة تناولت قضايا كونية أساسية.."(2)
" فإذا اعتبرنا أن هناك حقيقة واحدة في الكون كله، وأن العلوم، كل علم على حدة، يحاول أن يكشف كل ما يستطيعه من مجرى تلك الحقيقة الواحدة.. كلما أتيح للفيلسوف الفرصة الفضلى في التوصل الى صياغة أكمل لنظرته الاجمالية الشاملة وكل فلسفة لا تكون مرتكزة على خلاصات صحيحة لمختلف أجزاء المعرفة، تكون فلسفة ناقصة.."
2ـ المدرحية والفلسفتين المادية والروحية( المثالية)*
يُعرف الأمين فاخوري الفلسفة الروحية بقوله:" إن الفلسفة الروحية على اختلاف فروعها ما هي إلا مرافعات جزئية جريئة وفذة وجذابة غايتها الدفاع عن العقائد الدينية القديمة، الدينية منها والوثنية والكتابية .."
أما الفلسفة المادية فهي تلك التي:" لا تعترف بشيء من هذا الأصل الروحي، فهي تأخذ المادة المنظورة أساسا لبحثها، وهي ترى بأن الفكر في الانسان ما هو إلا مظهر من مظاهر المادة المتطورة وأن التفاعل ( والأصح التضاد) بين مختلف العناصر هو الأساس في تنوع الأشياء ووجودها.. معتبرة أن أن هذا المنظور هو بداية ونهاية كل الأشياء.."
أما الفلسفة المدرحية، فكونها" ترتكز الى أساسات منسجمة متلاحمة تستند الى الحقائق العلمية المتينة.. متمايزة بنظرتها العميقة الفذة الى الحياة الاجتماعية والمجتمع، وترى في الفرد امكانية انسانية وفاعلية اجتماعية ترتفع الى الأوج في ادراك صوابية الخير والحق والجمال.. إن الفلسفة القومية الاجتماعية ونظرتها المدرحية، هي اتجاه ثالث من اتجاهات التفكير الفلسفي.. والمخرج النظري في التفكير الانساني.."
يُعرج، الأمين فاخوري على سؤال طالما طرحه البعض من قوميين وغير قوميين: هل الفلسفة المدرحية هي مزيج من هنا وهناك؟ أو هي جمعٌ لمتفرقات فلسفية؟
ليجيب عليه قائلا:" إن الفلسفة المدرحية لا يمكن أن تكون من هذا النوع مطلقا إذ هي ترتكز على مرتكزات منسجمة، متلاحمة، ويبني رفضه على أنه من الممكن للبعض أن يراها متفقة مع" توما الاكويني في التفريق بين المعرفة الطبيعية والمعرفة اللاهوتية، لكنها تعارضه في اخضاع الارادة للمعرفة، أي جعل الارادة تابعة للمعرفة، وقد تتفق مع ديكارت ..لكنها تخالفه بعلاقة الروح بالجسد، وقد ترى في وحدة الوجود عند سبينوزا ما يتفق مع بعض نظرات المدرحية، كذلك ترى أن الفكرة عند لوك التي أساسها الاختيار والفهم تتفق مع النظرة المدرحية المرتكزة على تقدير وادراك الحقيقة، كذلك نظرة باركلي القائلة( بأن كل شيء في السماء وعلى الأرض وكل ما يؤلف هذا الهيكل العالمي الجبار ليس له كيان خارج نطاق العقل أو الفكر، متفقة والنظرة المدرحية القائلة :"الشريعة الأساسية للإنسان هي العقل الذي لا يجوز أن تعطله شريعة أخرى، وفي فلسفة كانت الانتقادية وتقسيمه الأشياء الى نوعين مدرك بالعقل أو مدرك بالاختبار،.. كذلك الأمر مع هيكل وكونت وحتى في فلسفة التطور الانبثاقي .. لكنها( أي المدرحية) من نوع آخر.."
3 ـ مرتكزات الفلسفة المدرحية:
خمسة هي على التراتب الذي يراه الأمين فاخوري مسهبا في شرح كل منها كخاتمة لمحاضرته:" 1 ـ القيم الانسانية هي قيم اجتماعية، متحدية، لا قيم فردية. 2 ـ العقل كشرع أعلى في الانسان. 3 ـ التفاعل الموحد الجامع القوى الانسانية. 4 ـ المجتمع هو الوجود الانساني الكامل، والحقيقة الانسانية الكلية. 5 ـ اقامة نظام جديد.
لا يولي الأمين حيدر، هذه المحاضرة العناية الكافية التي تليق بها، في نقده لها، ويخلط بين التعريف بها وبين المحاضرة ذاتها، متسائلا عن الفلسفة المدرحية التي جاءت هذه المحاضرة للتعريف بها، منطلقا من أن صفات الشيء ليست الشيء بذاته، فكون الفلسفة هي الناموس أو القانون العام الذي تؤول اليه جميع الموجودات المادية والنفسية( الروحية)شيء والمدرحية شيء آخر،إذ لم يبين لنا الأمين فاخوري ما الناموس العام الذي تقول به الفلسفة المدرحية، كما وأن كون هذه الفلسفة ليست خلطا أو مزجا لفلسفات أخرى، لا يقدم لنا كيف هي كذلك لتكون المخرج النظري من تناقضات وإشكاليات المادية والروحية، فمرتكزات المدرحية غير المدرحية، مع اقرارنا بأن شرح هذه المرتكزات جاء متفقا كل الاتفاق مع خطب ومقالات سعادة، لكنه لا يفي حقنا في البحث عن تعريف المدرحية تعريفا لا يترك مجالا للشك بأنها القانون أو الناموس الذي يشكل فعليا المخرج من تلك الاشكاليات التي أشار اليها.. ما يُحسب للأمين فاخوري هو اعتباره "نشؤ الأمم" الركن الرئيس الذي قامت عليه الفلسفة المدرحية وبأن المبادئ هي التطبيق العملي لهذه الفلسفة، وهذا ما يعترض عليه الأمين حيدر..
هكذا تبدو قراءتنا السابقة، بناء على تلك المقتطفات التي سقناها من قراءة هذه المحاضرة للأمين حيدر، مختلفة بعض الشيء عما طالعناه منها مباشرة، فهي في مفاصلها الثلاث، تنسجم انسجاما كليا مع طروحات سعادة في كل ما جاءت عليه من مفهومها للفلسفة أولاً من حيث سيعها لأن تكون القانون العام الكافي والوافي لتفسير كل ما يحتويه الوجود من علاقات، موضوعية وذاتية، فهي كيان متطور مع تطور العلوم وتشعباتها..
المحاضرة ، قيِّمة، كما جاء في التقديم لها، وإن تكن قد أسهبت في ما تناولته وقصَّرت في آخر، لكنها على وجه العموم جديرة بالقراءة والتمعن وإمعان النظر في ما جاءت به من شروحات لمرتكزات الفلسفة المدرحية ـــ والتي تأتي على جوانب عدة كان سعادة قد تطرق لها في كتاباته وخطبه ـــ والتي نحن اليوم بأشد الحاجة لتفهمها، وتمثلنا لها في حياتنا اليومية، ويمكن لمحب الاطلاع أن يعيد قراءتها من خلال الصور المرفقة.
(1) راجع تعريفنا للفلسفة
(2) راجع مقالتنا / على هامش المدرحية/ نقد على نقد/
* ـ الفلسفة المثالية هي الفلسفة التي ترى أن العالم بما فيه ليس أكثر من انعكاس للوعي .
بحث تحليلي في / ما بين المادة والروح/
الرفيق كامل المقدم :
تحت عنوان عريض،( مدرحية المقدم) يقدم لنا الأمين "حيدر حاج اسماعيل" نقده لمقالة الرفيق كامل المقدم، والتي هي في واقع الأمر لا علاقة لها بالفلسفة المدرحية، بقدر ما هي محاضرة أو مقالة في التوجيه السياسي ـ العقائدي في أحسن أحوالها، على الرغم من أنها تأتي على مصطلحات ( مادة، روح، مدرحية) لكنها مصطلحات تأتي عرضا في المحاضرة ـ المقالة، للدلالة على أهمية الاقتصاد والأخلاق الاجتماعية( المناقب) في حياة الأمة، فالتوجه الرئيس في "المحاضرة ـ المقالة" يبقى تأثير التخلف الاقتصادي والتردي الأخلاقي على قضايانا القومية وأبرزها قضية فلسطين ..
"المحاضرة ـ المقالة" نُشرت بموافقة سعادة، لا ريب في ذلك، ولا شك أنها خضعت للتنقيح من قبله، وهي على نحو ما جاءت به من معالجات لقضايا عدة لا تخرج عن النطاق المومئ اليه أعلاه..
"المادة والروح" في رؤية الرفيق المقدم، ووفق ما تنحى اليه "المحاضرة ـ المقالة"، لابدَّ لهما من أن يكونا شيئا واحداً، ذلك أن "المادة المنفصلة عن الروح تقود الأمة الى الانحطاط الخلقي والتسكع المناقبي.. والروح اذا ما انفصلت عن المادة تسير بنا الى ما وراء الطبيعة، الى العالم الميتافيزيقي، عالم الغيبيات، حيث نخسر وجودنا وكياننا الاجتماعي، وبالتالي نخسر أنفسنا.. المادة هي الثروة الاقتصادية .. لا نقدر بدونها، كأمة حية، أن نسمو ونقوى ونسود,, والروح هي الثروة الروحية النفسية التي تتعزز فيها المناقب وتتقدس الفضائل وتسمو فيها الأخلاق ..وهنا في الأوساط السورية خسرنا المادة وفقدنا الروح.. وإذا أردنا شاهدا.. فهذه فلسطين تشهد على صحة ما نذهب اليه.. ففقدان الأخلاق والفضائل ..هي السبب المباشر لخسارة معركة فلسطين وليس الضغط الأجنبي.. والنتيجة المفجعة التي وصلت اليها القضية الفلسطينية هي نتيجة حتمية ..للأوضاع القائمة على الميوعة والرخاوة والركاكة والإفلاس المناقبي.. فعبثا يتبجحون* بمستقبل عظيم الشأن ويوجهون اللوم الى زيد أو عمر قبل أن يوجهوه لأنفسهم .. فكلهم في الجرم شركاء وكلهم تربوا أو ترعرعوا في مدرسة انهزامية واحدة هي مدرسة الشخصية الفردية الخداعة.. إن المدرسة الفردية، هي المدرسة التي تقول بحرية الفرد الكاملة المطلقة دون الالتفات الى المصلحة المجتمعية العليا وهي إما مدرسة روحية فردية فقط أو مدرسة مادية فردية فقط.. وفي كلا الحالتين نجد أن المجتمع هو الفرد وليس الفرد هو المجتمع.. أما المدرسة الصالحة للبقاء ..هي المدرسة المدرحية، أي المدرسة القائلة " ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها " هذه هي الفلسفة القومية الاجتماعية التي تنظر الى الحياة كوحدة مادية ـ روحية .. إن فوضى النظم الاقتصادية المرتجلة جعلت بلادنا مزرعة تستغلها الاقطاعية ..والرأسمالية التعسفية المستبدة وتركت الثروة المادية العامة في متناول اصحاب الثروات الفردية والنزعات الشخصية ومما زاد في الطين بلة وجود الطائفة كنظام حكم .. إن فلسفة الحياة اذا والنظرة الصائبة الى الكون والن والجمال هي الفلسفة المدرحية .."
ما تقدم على اختصاره المحاضرة ـ المقالة، التي تقع بحدود الصفحات العشر من القطع المتوسط ، لا يغني عن قراءتها لمن يود التعمق في صحة ما يسمها به الأمين الجزيل الاحترام حيدر حاج اسماعيل .
* ـ في إشارة لما يسميه/ رجالات دول العالم العربي
المرتكزات الفلسفية
للأمين حيدر الحاج اسماعيل
ـ المبادئ الفلسفية: والحق يقال إن سعادة لم يأت بغير المبادئ ص14
ـ علاقة العلم بالفلسفة: " هناك علوم وهناك فلسفات.. العلم يختص بالقوانين الكمية.. سلوك الظواهر والأشياء.. أما فلسفة العلم فمختصة بالمبادئ، ونقصد بذلك المبادئ المشتركة الجامعة لمختلف قوانين ذلك العلم وظواهره.. إن العلم يقدم للفلسفة مادتها المحددة المصطلحات، لكن الفلسفة لا تكتفي بمادة العلم، بل تستخرج منها المبادئ العامة الجامعة لشتات المعارف العلمية.. (وعليه فإن كتاب نشؤ الأمم) قدم المادة التي هي التحديد العلمي للأمة وواقعا اجتماعيا.. إن الأمة كانت الفكرة المركزية في كل كتابات سعادة: فالأمة من حيث تعريفها ونشوؤها كانت الفكرة المركزية لكتاب نشوء الأمم، والأمة من حيث نهضتها كانت الفكرة لكل ما عدا ذلك، ونعني الكتابات الفلسفية .. إن المبادئ هي أجوبة على تلك الأسئلة التي طرحها سعادة على نفسه.. من نحن؟ ما لذي جلب على أمتي هذا الويل؟
وجهان للمبادئ، الحقائقي (العلمي) والمناقبي (الفلسفي).. من الوجه الثاني نذكر أن المبادئ عبارة عن دعوة مناقبية للنضال من اجل تحقيقها، فهي من هذه الناحية معيارية.. نحن مع سعادة نقول، إن ذلك الكتاب "كتاب اجتماعي علمي بحت" فهو، لأنه علم، والعلوم مادية، موضوعات ومناهج، لذلك فإن كتاب نشوء الأمم كتاب مادي، أي أن الدرس الذي أنشأه سعادة في ذلك الكتاب حول الأمة، سواء لجهة نشوئها أو لجهة تعريفها، هو درس مادي، والنتائج التي توصل اليها هي نتائج مادية، تبعا لذلك، فلا سبيل الى الوهم أن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي ـ روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان.. الفلسفة المادية ـ الروحية هي الفلسفة الموجودة في المبادئ، ولما كانت الأمة هي محور المبادئ وفكرتها المركزية فإننا نقول، إن الفلسفة المادية ـ الروحية هي فلسفة الأمة.. إن الفلسفة المادية ـ الروحية هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها مادياـ روحيا.. (أما لجهة العلاقة بين المادة والروح) .. أن العلاقة العلمية هي علاقة ترافقية أو علاقة ترابطية..(وعليه، فالعلاقة بين المادة والروح ليست علاقة) سببية (لأنها تفترض السؤال عن أيهما الأسبق) مما يجر الى ما يشبه المباحث الميتافيزقية.. وإن إدخال السببية في كتابات سعادة العلمية يفقدها صفتها العلمية، إذ أن مبدأ السببية من الفلسفة وليس من العلم.. هذا لجهة العلاقة العلمية بين المادة والروح.. أما العلاقة الفلسفية فإنها علاقة وجوبية ـ مناقبية، مؤداها يجب الصراع لتحقيق المبادئ.. "
في مجمل نقده للمقالات التي تناولت المدرحية بشكل أو بآخر، ينطلق الأمين حيدر حاج اسماعيل من قاعدة أن العلم غير الفلسفة، مستنتجا من ذلك أن نشوء الأمم هو كتاب علمي لا علاقة له بالفلسفة المدرحية يقول:" فلا سبيل الى الوهم أن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي ـ روحي، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان.. الفلسفة المادية ـ الروحية هي الفلسفة الموجودة في المبادئ، ولما كانت الأمة هي محور المبادئ وفكرتها المركزية فإننا نقول، إن الفلسفة المادية ـ الروحية هي فلسفة الأمة.. هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها مادياـ روحيا.."
هذا الاستثناء، شكل المنعطف الرئيس في افتراق ما جاءته كتابات حيدر عن غيرها من كتابات قوميين وغير قوميين في موضوعٍ هو شائك لجهة أن القائل به أودعه مجمل كتاباته وشكل بآن، لغزا لمن حاول شرح بعض جوانبه وطلسما لمن لم يفقه سعادة منهجا ومنطقا، علما وفلسفة!!
نضيف لما تقدم، أن الأمين حيدر، يعتمد على أن تعريف الشيء بصفاته، كما تعريفه بـ ( الليسيات ) ليس تعريفا، نقاط ثلاث شكلت، موقفا للأمين حيدر في تعريفه للفلسفة المدرحية، وتاليا بخس سعادة حقه بالقول:" والحقيقة أن سعادة لم يأت بغير المبادئ.."
لقد سبق لنا وناقشنا مرتكزات الأمين حيدر، لجهة استثنائه لكتاب نشوء الأمم، لكننا نعود اليها من منطلق العلاقة بين العلم والفلسفة، وضرورة حل هذه الاشكالية، التي شغلت حيزا واسعا من دراسات لفلاسفة وعلماء اجتماع ومناطقيين ومناهجيين، بل وشكلت نقطة اختلاف وتناقض بين عددٍ منهم، لم تضع أوزارها حتى تاريخه..
ما نعتقده، وبما يختص بموضوع دراستنا/ المدرحية نقد على نقد/ أنه لا يمكن حل هذه الاشكالية إلا وفق منهج ومنطق مدرحي تحديدا، بمعنى أنه لا يمكن فهم المدرحية، نقدا ونقضا، بغير منهجها ومنطقها، كما أن اسقاط مناطق ومناهج فلسفية أخرى عليها، لفهمها أو نقدها أو نقضها، سيخرجها عن محورها لتدور في فلك تلك المناطق أو المناهج، كما هي الحال في مختلف الدراسات الفلسفية الأخرى التي تناولت فلسفة ما بغير منهجها ومنطقها، فعلى سبيل المثال، لا يمكن نقد أو نقض الماركسية بغير منهجها ومنطقها الديالكتيكي، على غرار ما قام به "ماركس" و "فويرباخ" في نقدهما لمنهج أستاذهما "هيغل" الديالكتيكي ومن ثم نقضهما له، كذلك في نقد "ماركس" لـ "فويرباخ" ومن ثم نقضه لما انتهى اليه الأخير ديالكتيكيا..فعلى سبيل المثال، وباختصار شديد ـ وحتى لا نخرج عن موضوعنا ـ كيف يمكن نقد الماركسية ديالكتيكيا ؟
وفق الماركسية ديالكتيكيا، فإن "صراع الأضداد" هو جوهر الوجود، وبتطور هذا الصراع، تخلص الماركسية للقول بقانون "نفي النفي" عبر تراكمات الكم " من الكم الى الكيف" وقولها في المحصلة "بالحتمية التاريخية" مما أوقعها في تناقض ذاتي، من حيث أنها خاضعة قبل غيرها لمبدئها الأول "صراع الأضداد" فإن خرجت عليه، لم يعد هذا المبدأ، جوهرا للوجود، لأن هناك ما خرج عليه، ذلك أنها عبر قانون "نفي النفي" ستُخرج من لدنها ما ينفيها، أو يتناقض معها، عبر، من "الكم الى الكيف" فإذا كانت مبادؤها المشار اليها صحيحة، وأنها ليست بخارجة عنها، فلا يمكنها القول "بحتمية تاريخية" تنتهي بها الى "المجتمع المشاعي" حيث الدولة ـ على سبيل المثال ـ "مصلحة بريد" لأنها ستكون قد خضعت لمقولاتها التي لا تسمح لها بالتنبؤ بهذا المجتمع.. لأنها تكون قد خضعت لتغيرات عبر نفي النفي، أي أنه، قد ولدت نظرية تناقضها وتنفيها قبل أن تمضي الى تشكيل مجتمعها المشاعي..
كذلك الأمر بالنسبة للمدرحية، حيث لا يمكن الفصل بين الوجود ووحدته، بين الوجود ومعرفته، بين المادة والروح(النفس) بين الباطن والظاهر، بين الجوهر والمظهر، بين المضمون والشكل، فكلٌ من هذه المصطلحات، أو المفردات، او الصياغات، ما هي إلا مصطلحات عقلية محضة يلجأ إليها العقل لفهم ما حوله، وجوده، أما واقعها، فما هو سوى وحدة لا يمكن تجزئتها إلا نظرياً لفهمها، من هنا جاء تعريف سعادة للناموس أو المقولة أو القانون على أنه "اصطلاحٌ بشري لمجرى من مجاري الحياة او الطبيعة.." اصطلاح، بمعنى اتفاق، بين البشر على أن ذاك الشيء هو كذا، لكنه ليس هذا "الكذا" في واقع الحال من حيث هو وجود قائم بذاته ولذاته، يضرب سعادة مثال "يشوع بن نون "الذي أوقف الشمس عن دورانها حول الأرض لينتصر على الفلسطينيين.."
ليست الحقيقة "شيئين" هما وجود ومعرفة، هي شيء واحد، لكنها من حيث أنها "قيمة نفسية انسانية" تضحى نسبية، لكنها ليست كذلك، في ما يتعلق بالوجود الموضوعي، لكنها كذلك عندما يتعلق الأمر بالمعرفة التي تتغير وفق المعطيات التي تقدمها أدوات المعرفة و تساهم في توسيع أو تعميق مجال الرؤية، النظرية أو العقلية للإنسان، هكذا وجد "هابل" عبر التلسكوب، لونين أزرق وبرتقالي فكانت نظريته في تمدد الكون، فتمدد الكون حقيقة، لم تكن معروفة قبل هابل، لكنها لم تكن كاملة، حتى قيام "ستيف هوكينغ" بمناقشة هذا التمدد "عقليا" عبر جملة من المعادلات الرياضية المعقدة، حيث رأى أن هذا التمدد سيؤول الى تقلص ومن ثم الى ولادة جديدة للمكان والزمان اللذين هما وفق "هوكينغ" شيئا واحدا..
وعلى الرغم من أن الأمين حيدر لم يقدم لنا تعريفا لما يعنيه بالمادة والروح في الفلسفة المدرحية على مدى انتقاداته لكل ما كُتبَ بها، فإننا نرى أن المقولة الرئيس في الفلسفة المدرحية" المادة تعين الشكل" كفيلة بأن تحلَّ لنا الاشكالية التي أثارها الأمين حيدر للعلاقة بين العلم والفلسفة بقوله "، إنه كتاب في علم الاجتماع القومي وعلم النفس الاجتماعي، والعلمان ماديان.. الفلسفة المادية ـ الروحية هي الفلسفة الموجودة في المبادئ.." وعلى الرغم من اعتقادنا، أنه ــ الأمين حيدر ــ لم يأتي بجديد في قوله المشار اليه، كما أنه لم يقدم لنا تعريفا لهذه الفلسفة الموجودة في المبادئ، بقوله: "ولما كانت المبادئ هي مختصة بنهضة الأمة فإن الحاصل يكون، أن الفلسفة المادية ـ الروحية، هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها ماديا ـ روحيا.." معرفا إياها بوظائفها "سيادة الأمة، التوحيد، الحصانة، مناقب الخير والعدل، الكفاءة الانتاجية، المرجعية، الحداثة،" فإذا لم يكن تعريف الشيء بصفاته هو الشيء بذاته، وفق ما يذهب اليه الأمين حيدر، فهل تعريف الشيء بوظائفه، هو الشيء بذاته؟!!
فإذا كانت المادة تعين الشكل، وعلى افتراض أن علم الاجتماع علما ماديا، فهو وفق ما تذهب اليه، مقولتنا، يبقى نشوء الأمم هو المادة التي تعين المبادئ ـ الشكل، فكما أن البيئة ـ المادة، هي التي تعين الشكل، ـ الجماعة، المتحد، المجتمع، الدولة، وإذا كانت المبادئ قواعد انطلاق الفكر، فعمل الفكر من منطلق قواعده، سيكون وفق قاعدة / تكيف الانسان الأرض، وهو يرد الفعل ويكيفها، لكنها هي التي تحدد مدى هذا التكيف منحا واتجاها/ فصيرورة المبادئ في حال تحققها ستتحدد وفق المادة التي قامت عليها أي نشوء الأمم ..
وإذا قلنا أن المادة هي كل ما هو موجود بغض النظر عن وجود الانسان أو معرفته، فإن الروح، ( بمعنى النفس) هي كل ما له علاقة بالإنسان وجودا ومعرفة، وعليه يمكننا القول أن الوجود المادي( المحيط ـ الجسم ) هو الذي يشكل الروح ( النفس ) وفق سعادة، وعليه أيضا، من الوجهة المدرحية، يكون الشكل متوافقا مع المادة، كما الباطن والظاهر، كما الجوهر والمظهر، كما الشكل والمضمون، كلٌ يعبر عن الآخر، فلا انفصام أو انفصال بينهما، مدرحيا، ..
كذلك الأمر، أيضا، في ما يتعلق بالعلاقة بين العلم ( المادي) وفق حيدر، والفلسفة ( المعرفة) مهما تكن المصطلحات والصياغات التي ساقها الأمين حيدر لتوكيد نظريته في الفصل بينهما، فوفق سعادة في مقولته الأساس " المادة تعين الشكل" يكون العلم هو المادة التي تعين الشكل الفلسفة، طالما أن الفلسفة جامعة لشتات العلوم، فلا يمكنها الخروج على معطيات هذا الشتات، وتاليا يكون نشوء الأمم هو القاعدة التي تقوم عليها المبادئ، فلا يمكن الفصل مدرحيا بين المادة والشكل، بين نشؤ الأمم وبين المبادئ، فكلاهما "شيئا واحدا" مهما تكن نوعية العلاقة العلمية(ترافقية كانت أو توافقية) وفق حيدر أو علاقة (وجوبية أو مناقبية) وفق حيدر أيضا،
من النادر، أن أستشهد بكتّاب أو علماء غربيين، على صعيد البحث الاجتماعي، لكن ما قاله "بيتر اينيتش" في كتابه الصادر عام 1958 " فكرة علم اجتماعي وعلاقته بالفلسفة" يلقي ضوءا مهما على ما نحن بصدد دراسته، يقول " وينتش" ما يلي": أن الفلسفة والسوسيولوجيا متشابهتان إن لم تكونا متطابقتين: فهما معاً تعالجان موضوعاً تنصهر فيه المفاهيم والأشياء بشكل معقد، وتدرسان كيف تتشابك المفاهيم مع الواقع. وهما معاً معنيان بفهم المفاهيم وتحليلها.." ويضيف قائلا:" أن الفلسفة والعلوم الاجتماعية متناظران منطقياً وإبيستيمولوجياً، وبالتالي فإن "توضيح طبيعة الفلسفة وتوضيح طبيعة الدراسات الاجتماعية يؤديان إلى الشيء نفسه؛ لذلك فإن كلَّ دراسةٍ للمجتمع جديرةٍ بهذا الاسم يجب أن تكون دراسة فلسفية في جوهرها، وإن كلَّ فلسفةٍ جديرةٍ بهذا الاسم يجب أن تهتم بطبيعة المجتمع البشري" نكتفي بهذا القدر من التحليل لمرتكزات الأمين حيدر، لنتابع غدا / مدرحية جورج عبد المسيح / وفق تصنيف الأمين حيدر.
ملاحظة: يرجى العودة لمحاضرة الأمين أنيس فاخوري، فهي معالجة وافية لعلاقة العلم بالفلسفة، وقوله:".. لم يكن الفرق بين العلم والفلسفة والعلاقة بينهما، أشدُّ وضوحا عند أحدٍ منها عن الزعيم، الذي قال في مقدمة كتابه الأول من مؤلف" نشوء الأمم " ( إن نشوء الأمم كتاب اجتماعي علمي بحت تجنبت فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة ما وجدت الى ذلك سبيلا..) فالزعيم لا يخلط بين العلم والفلسفة.. خصوصا في علم الاجتماع الدقيق، لكن كمال العلم في نشوء الأمم، هو ما جعل الزعيم يتوج الحقائق العلمية التي أثبتها وحللها أدق تحليل بنظرات فلسفية عميقة تناولت قضايا كونية أساسية.." يجدر لفت الانتباه الى أن هذه المحاضرة أو المقالة نالت موافقة الزعيم وثنائه عليها موجود في صدر تقديمها للنشر .
ويبدو صحيحا كل الصحة القول:" فلسفة علم الاجتماع هي فرع من فروع الفلسفة التي تعنى بدراسة منطق ومنهجية العلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع وعلم الإنسان والعلوم السياسية
يُصر الأمين حيدر على أن كتاب "نشؤ الأمم" كتاب علمي لا علاقة له بالفلسفة عموما والمدرحية بشكل خاص " بحيث يأتي هذا الاصرار قاعدة لتناقضه مع مختلف الدراسات التي اعتبرته مستندا من أهم وأبرز مستندات الفلسفة المدرحية، بل والأساس الذي قامت عليه، كما ويأتي تناقضه الآخر على قاعدة اصراره على "أن مواصفات الشيء أو صفاته ليست هي الشيء بذاته،" وعلى الرغم من صحة ما يدعيه الأمين حيدر، نسبيا، فإن الظاهر والباطن، أو الشكل والمضمون، أو الجوهر والمظهر، ..الخ، وعلى قاعدة "أن المادة تحدد الشكل" وفق سعادة، يجب أن يكونا متوافقين ومتطابقين بعضها مع بعض، فلا يمكن فصل المظهر عن الجوهر أو الشكل عن المضمون أو الباطن عن الظاهر، فهذا الثنائي وجهي عملة واحدة، أيٌ منهما يمثل الآخر ويعبر عنه..، كما المادة والروح، مدرحيا، كما الأمة والبيئة، فإذا كانت صفات الشيء أو مواصفاته أو خصائصه، ليست هي الشيء بذاته !! فما هو هذا الشيء الذي هو بذاته ؟ دون خصائصه وصفاته ومواصفاته!! دون علله وأسبابه؟ وعلى ذات القاعدة التي يعتمدها الأمين حيدر بأن تعريف الشيء بــ" الليسيات" ليس تعريفاً..
ليس بين العلم والفلسفة تلك المسافة التي يفترضها الأمين حيدر، اذ يبدأ البحث العلمي، كما الفلسفي، بالسؤال، فإذا اعتبرنا أن أنشتاين عالم فيزيائي فتساؤله حول علاقة سرعة الضوء بسرعة مصدره كانت البداية لنظريته النسبية التي قلبت موازين الفيزياء رأسا على عقب، فأصبحت الجاذبية مجرد وهم والخط المستقيم مجرد افتراض وكذلك الزمان في ولادته وموته، وبات "الزمكان" هو الحقيقة التي أثبتتها التجارب حيث الزمان والمكان حدثٌ واحد، لا ينفصل أيٌ منهما عن الآخر، وباتت العلاقة بينهما علاقة عكسية، كلما اتسع المكان ضاق الزمان والعكس صحيح، وعليه، فأنشتاين ليس عالما فيزيائيا وحسب، بل وفيلسوفاً، وهكذا هي الفلسفة، تساؤلٌ يبدأ في البحث عن ماهية العلاقة بين الموجودات ولماذا هي على هذا النحو دون ذاك، هي تساؤلٌ يحاكم العلاقة بين جزئيات موضوعه، أياً كان، ماديا أم نفسياً، بمعنى آخر، إن الفلسفة، أيا كان موضوعها، وجودا ماديا أو نفسيا، هي محاكمة للعلل والأسباب التي تحكم خصائص ومواصفات وصفات الموضوع : لماذا هي على هذا النحو؟ لتخلص من تساؤلها الى نتيجة، خلاصة، توجزها بقانون، مقولة، ناموس يتتبع التكرارية في الظاهرة التي يدرسها باعتبارها ( التكرارية) هي التي تحكم هذه الظاهرة في تجلياتها، في "اشعاع هوكينغ" أو نظرية الانفجار الكبير، كان تساؤل "ستيفن هوكينغ" اذا كان الكون يتوسع فإلى أي حدٍ يبقى على هذه الحال ؟هذا التساؤل كان البداية لبحث انتهى الى أنه لا بدَّ له من أن يعود ويتقلص، هذه المحاكمة لجملة الحقائق العلمية، ليست علما، إنها فلسفة، تروي لنا ما قد يحدث قبل حدوثه بمليارات السنين الأرضية..
سعادة ليس فيلسوفا فيزيائيا أو رياضيا أو كيمائيا.. سعادة فيلسوفا اجتماعيا، حاكم بعقلانية مجمل ما قيل في علم الاجتماع، وخلُصَ لنتائجه الاجتماعية التي شكلت فلسفته الاجتماعية والتي نعتها بـ "القومية الاجتماعية" أو "المادية ـ الروحية " أو " المدرحية"
بناء على ما تقدم نسأل حضرة الأمين: هل مقولة أو قانون أو ناموس ( المادة تعين الشكل) هي مقولة علمية أم فلسفية ؟ وهل " دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" هي مقولة علمية أم فلسفية أيضا ؟ هل ( الأمة واقع اجتماعي بحت) هي مقولة علمية أم فلسفية ؟ هل (الانسان ـ المجتمع) مقولة علمية أم فلسفية ؟ هل ( الدولة القومية هي دولة ديموقراطية حتما) مقولة علمية أم فلسفية ؟وهل حقا أن سعادة " لم يأتِ بغير المبادئ" ؟ وتاليا هل الفلسفة المدرحية هي المبادئ؟ أو وفق تعبير الأمين الجزيل الاحترام :" الفلسفة القومية الاجتماعية = تجبُ المبادئ لتنهض الأمة ولها: وجهان الحقائقي ( العلمي) والمناقبي( الفلسفي) للمبادئ.." وهل تقتصر الفلسفة على ما هو مناقبي دون سواه ؟
وعلى الرغم من أننا لسنا هنا بمعرض شرح أو تفسير معنى مصطلح فلسفة، فهي في المبدأ، تفسير، شرح، توضيح، الشيء عقليا بعلله وأسبابه، فالشيء هو علله وأسبابه، وليس أي شيء آخر، والفلسفة من حيث هي البحث عن أعم القوانين في الطبيعة والمجتمع، تستند في بحثها على ما تنتهي اليه المعارف ( العلوم) من حقائق طبيعية أو اجتماعية ــ عللا وأسبابا ــ لتصوغ منها قانونا يمكن من خلاله تفسير مختلف الظواهر الطبيعية والاجتماعية، هذا القانون أو الناموس ــ وفق سعادة وتعريفه ــ " اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة.." هذا القانون أو الناموس، هو فقط المتكرر في مجرى الحياة أو الطبيعة، وما أوضح هذا المتكرر في مقولة سعادة الرئيس: " دورة الحياة الاجتماعية ــ الاقتصادية " فأي معنى يمكن لمفردة " دورة " أن تأخذه سوى هذه التكرارية، وهذه التكرارية، التي، أينما وجد بشر أو أرض، ستأخذ ذات الأشكال التي تقررها " مادتها ــ بيئتها " التي، أيضا وفق سعادة " المادة تعين الشكل" هي التي تحدد هذا الشكل وتميزه عن ذاك، على اعتبار " أن النواميس لا تلغي خصائص الأنواع " وفق سعادة أيضا، إذ تبقى خصائص ومواصفات وصفات تلك الدورة خاضعة لخصائص ومواصفات وصفات البيئة التي تجري فيها تلك الدورة الاجتماعية ــ الاقتصادية..
من الضروري جدا أن ننوه لضرورة العودة لمحاضرة الأمين أنيس فاخوري، السابق نشرها كاملة، والتي نالت موافقة سعادة باعتباره الموجه للنشرة التي جاءت بها، والتي تتناول معنى الفلسفة وموقع نشؤ الأمم من الفلسفة المدرحية وقوله :" إن كمال العلم في نشؤ الأمم هو ما جعل الزعيم يتوج، الحقائق العلمية التي أثبتها وحللها أدق تحليل، بنظرات فلسفية عميقة تناولت قضايا كونية أساسية.."
مدرحية جورج عبد المسيح:
في نقده لما كتبه جورج عبد المسيح عن المدرحية، يصيب الأمين حيدر كبد الحقيقة بقوله:".. إن جورج عبد المسيح كان ظالما لسعادة من ناحيتين:
الأولى:أنه لم يدرسه كفاية، بدليل عدم اطلاعه على بعض المكتوبات.
الثانية: لأنه حرَّفَ معنى فلسفته، وألح على تحريفه.
مستندا في حكمه على أن عبد المسيح أشار في نهاية كتابه/ رسالة من رسالة/ وتحت عنوان " المدرحية لفظة وليست نظرة" الى قوله:" المدرحية لفظة مركبة من كلمتين، مادة وروح، وقد وقع بعض أتباع سعادة في خطأ تسمية فلسفة معلمهم" مدرحية "بسبب عدم استيعاب المحتوى الخاص الذي أعطاه الزعيم لكلمة " مدرحية "وقد ذكرها مرة واحدة فقط وفي رسالة واحدة من رسالاته التوضيحية.." وهذا ما تدحضه الوثائق التي يشير اليها الأمين حيدر(*) ونضيف الى ما أورده الأمين حيدر، ورود مصطلح مدرحية للمرة الأولى في معرض بين قوسين وناحيتها الصراعية) المنشورة في سلسلة النظام الجديد..
فماذا يقول سعادة في الوثائق المشار اليها أعلاه:
بتاريخ 1/9/1942 يأتي سعادة على ذكر المدرحية للمرة الأولى في مقالته" بين الجمود والارتقاء" ما يلي:" ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية إنها مدرحية، أي مادي روحي معا، فقد يظن القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي " نشوء الأمم" ومن شرحي لمبادئ الحزب، فهو فكرة اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة، وآخر ما أعلنته من أمر نظرتي الفلسفية كان في الأول من آذار 1940 قلت: إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تأتي سورية فقط بالمبادئ المحيية بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة، إن الحركة السورية القومية الاجتماعية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساسا للحياة الانسانية، ولا تقف حركتنا عند هذا الحد بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي ـ الروحي للحياة الانسانية ووجوب تحويل الصراع المميت الى تفاعل متجانس يحي ويعمر ويرفع الثقافة ويسيّر الحياة نحو أرفع مستوى" يفيد الكلام الوارد أعلاه أن المدرحية هي نظرة فلسفية عامة تشمل العالم بأجمعه، مما يدحض ما جاء به عبد المسيح من أن المدرحية لفظة وليست نظرة، ويؤكد أنها موجودة في مؤلفه " نشوء الأمم" وهذا ما يدحض أيضا قول الأمين حيدر:".. فلا سبيل الى الوهم أن ذلك الكتاب هو في الفلسفة المدرحية أو أن درسه هو درس فلسفي مادي ـ روحي،" اذ يقدم سعادة "نشوء الأمم" على شرح المبادئ، كما ويؤكد على أن المدرحية من حيث هي نظرة فلسفية، هي فلسفة اجتماعية بالدرجة الأولى..
في رسالته المؤرخة في 10/1/1947 يقول:" داعية الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره، من الجهة الأخرى، بالمبدأ المادي وحده، والاقلاع عن اعتبار العالم ضرورة، عالم حرب مُهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي – مادي (مدرحي) وأنّ الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها.." في هذا النص، يبدو واضحا ما يعنيه سعادة بفلسفته المدرحية، أي ( تفسير التطور الانساني..) فالمدرحية إذن هي فلسفة اجتماعية تدرس التطور الانساني نشؤا وارتقاءً(وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي – مادي (مدرحي)..) بما يدحض قول عبد المسيح من أنها لفظة وليست نظرة من جهة، وقول الأمين حيدر من جهة ثانية، من أن :" الفلسفة المادية ـ الروحية هي الفلسفة الموجودة في المبادئ.. إن الفلسفة المادية ـ الروحية هي فلسفة الأمة.. إن الفلسفة المادية ـ الروحية هي فلسفة الأمة لجهة نهضتها مادياـ روحيا.." فالمدرحية من حيث هي فلسفة اجتماعية تدرس التطور الانساني نشؤاً وارتقاءً وتخلص الى القول بأن أساس الارتقاء مادي ـ روحي، مدرحي، فلا سبيل لأية أمة كائنة ما كانت، سورية أم هندية أم صينية ..الخ في مسعى نهوضها ماديا وروحيا إلا الأخذ بهذه الفلسفة.. وحيث أن المبادئ هي قواعد ارتكاز وانطلاق الفكر، يبقى الفكر في صيرورته منشدا الى أساس التطور الانساني، وليس الى قواعد انطلاقه فحسب، فهذه الأخيرة تبقى تعبيرا عن الأساس الذي قامت عليه، ولا يمكن لها أن تحلَّ محله، فهي قد تتغير كلما تحقق منها فصلٌ من فصولها، وتحديدا في مفصلها الاصلاحي ( المبادئ الإصلاحية) ، لكنها تبقى هي هي في مفصلها الأساسي (المبادئ الأساسية) القائم على أي وجه أخذ به على أن أساس التطور الانساني نشؤا وارتقاء هو أساس مدرحي، ذلك أن المبادئ نتيجة لا سبب، نتيجة أن التطور الانساني هو تطور مدرحي، يأخذ الوجود في وحدته لا في تشظياته الاصطلاحية التي تنفصم بها وحدته، وتصبح إما مادية أو روحية، فهاتين المفردتين كما أشرنا سابقا يبقيان مجرد اصطلاح بشري "..لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع. وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة.." هكذا يبقى الواقع الطبيعي والاجتماعي أساسا يُصَوبُ متجهات النهوض المادي ـ الروحي ..
في مقالته " لائحة العقاقير لا تصنع طبيبا" يعيد سعادة ذكر المدرحية يقول:" إن الحركة القومية الاجتماعية تأسست على مبادئ الوجدان القومي والعدل الاجتماعي في النظرة المدرحية الى الحياة والكون والفن.." هنا لا يتحدث سعادة عن فلسفته المدرحية بقدر ما يشير الى ما تأسست عليه مبادئه في الوجدان القومي( المبادئ الأساسية ) والعدل الاجتماعي( المبادئ الاصلاحية) مؤكدا أن مبادئه قامت وتأسست على النظرة المدرحية، مما ينفي أن هذه المبادئ هي الفلسفة المدرحية، وبأنها نتيجة لا سبب، وبأن سعادة لم يأت على ذكر المدرحية "..مرة فقط وفي رسالة واحدة من رسالاته التوضحية" كما يقول عبد المسيح..
في كلمته التوجيهية، في مؤتمر المدرسين يأتي سعادة على ذكر المدرحية قائلا:" ولذلك كان الغرض الأساسي من الحركة السورية القومية الاجتماعية جعلها عامة ومنتصرة في الأمة السورية وحيثما أمكن تحقيق رسالتها الاجتماعية وفلسفتها المدرحية.." ويضيف في ذات الكلمة قائلا:" إنّ صلب المعركة هو في تثقيف نفسية الأحداث ومعارفهم في البيت وفي المدرسة الابتدائية والمدرسة الثانوية. وتستمر المعركة العقائدية ما وراء ذلك. لم يهمل صاحب الرسالة القومية الاجتماعية المدرحية هذه القضية الثقافية الخطيرة، بل، بالعكس، أولاها عناية خاصة.." في هذا النص يبدو واضحا أيضا، أن سعادة يقول بالمدرحية فلسفة لا تقتصر على أمته السورية، بل ".. وحيثما أمكن تحقيق رسالتها الاجتماعية وفلسفتها المدرحية.." وتشمل العالم أجمع، والنص واضح من حيث أن سعادة ينعت قوميته الاجتماعية بالمدرحية، على عكس ما يشير اليه عبد المسيح الذي يقول:" التأويلات الخاطئة لفلسفة الانسان الجديدة.. لأن النظرة الى الوجود التي تنبثق عنها وتثبتها التعاليم السورية القومية الاجتماعية وفلسفة الانسان الجديدة ليست الفلسفة المدرحية.. المدرحية لفظة مركبة من كلمتين مادة وروح وقد وقع بعض أتباع سعادة في خطأ تسمية فلسفة معلمهم " مدرحية" بسبب عدم استيعاب للمحتوى الخاص الذي أعطاه الزعيم لكلمة مدرحية.. " هكذا يقع عبد المسيح في ما نعت به ( أتباع سعادة) في اشارة منه لمن لا يتبعون تنظيم الانتفاضة، فهم ليسوا برفقاء له ، بقدر ما هم ( اتباع لسعادة) ..
في تصدير سعادة لمقالة الرفيق لبيب زويا نقرأ:" إن هذه المحاضرة هي تحليلية دقيقة للفلسفة المدرحية، وقد تناولت الناحية الأنطلوجية كما تناولت موقف هذه الفلسفة من الفلسفات المعاصرة وهي تمثل اجتهادا ممتازا في شرح الفلسفة المدرحية التي تقدم الحل الوحيد روحيا وعمليا لقضايا المجتمع الانساني العسيرة وتشق للمجتمع طريق الخروج من التخبط والأضاليل الى حرية أعظم ونظام أجمل ونتيجة فيها كل الخير للمجتمع، فهي وحدة من وحدات هذه المجموعة الأولى من الدراسات الكبيرة القيمة للفلسفة المدرحية التي أعلنها سعادة وتقدمها النهضة القومية الاجتماعية للعالم.." هنا أيضا نجد أن سعادة يعيد ويكرر أن فلسفته القومية الاجتماعية هي فلسفته المدرحية وانها فلسفة الى العالم أجمع، على العكس تماما مما يدلي به عبد المسيح".. الفلسفة التي تقدمها النهضة ليست " الفلسفة المدرحية " إنها فلسفة الانسان الجديدة المنبثقة عن نظرة للوجود الانساني في حقيقته الاساسية، المجتمع ـ الانسان الكامل التي توضح أن هذا الوجود لا يجوزأن يفسر ماديا ولا تفسيرا روحيا وفق الظاهرات لهذا الوجود الكلي الشامل .. ليست فلسفة الحزب " الفلسفة المدرحية"، بل فلسفة الوجود بكمال وشمول ماهيته .."
يبدو واضحا مما سبق مدى الخطل الذي وقع به عبد المسيح وتناقضه التام والكامل مع سعادة وأنه أراد أن يستغل نقص المعرفة والفهم لبعض الذين تبعوه في انتفاضته التي شكلت شرخا خطيرا في الحزب أوصل الحزب لما هو عليه الآن من تشتت وضياع وهذا ما تنبأ به سعادة بنظرته الثاقبة للزمن حيث يقول:" واحذروا من اختلاط السياسة والدبلوماسية وأغراضهما بعقيدتكم وإيمانكم وعناصر حيوتكم الأساسية،، لئلا تكون العاقبة وخيمة.."
مدرحية هشام الشرابي :
لا أعتقد أن الأمين حيدر كان منصفا بحق كل من تناوله في مؤلفه/ الفلسفة المادية ـ الروحية عند سعادة / بالنقد، والذي تناول فيه مجمل ما كتبه تلامذة سعادة في موضوع الفلسفة المدرحية وفق رؤية الأمين حيدر، مع العلم أن الكثير من تلك الدراسات، لم يكن موضوعها أو محورها الأساس ، هو الفلسفة المدرحية، فقد أتت الكثير منها على الاشارة اليها في معرض الحديث عن فلسفة سعادة القومية الاجتماعية ، إن لجهة خصائصها أو صفاتها أو مواصفاتها، أو في أحيان نادرة تعريفها من وجهة نظر اجتماعية أو قومية أو في معرض الحديث عن اليسار أو اليمين أو الليبرالية ..الخ، وقد تعامل معها وكأنها بحث فلسفي في المدرحية، فراح يُخرج النص عن سياقه أو ينتقي منه ما يفيد رؤيته هو في ذات الموضوع، وأقصد الفلسفة المدرحية، بحيث يأتي نقده مبخسا حق كاتب المقالة أو الدراسة أو المحاضرة في ما تذهب اليه دراسته أو مقالته أو محاضرته، وخير مثال نقدمه، لتأكيد هذا الاتجاه، هو ما جاء عليه نقده لمقالة أو دراسة كلٍ من ( لبيب زويا وأنيس فاخوري وكامل المقدم،) على الرغم من أن سعادة كان موجها ومصوبا لما جاء فيها من أفكار، وقد أشرنا سابقا أن كلاً منها ، قدَّمَ له سعادة، بتصدير يُبرز فيه مُتَّجَه الدراسة أو المقالة، مثنياً عليها بطريقة ما، تتناسب والموضوع الذي تثيره، وقد تجاهل الأمين حيدر هذا التصدير..
يظهر بوضوح الاتجاه المنوه عنه أعلاه في نقده لدراسة هشام الشرابي والتي جاءت تحت عنوان / فلسفة جديدة / وفيها يشرح هشام شرابي بعضا من مفردات هذه الفلسفة مُسقطا إياها على بعض الأحداث التي عاصرها، وتحديدا نظرة فايز صايغ دون الإشارة اليه ولرهطه بالاسم، بمعنى آخر، ليست الدراسة بحثاً في المدرحية بقدر ما هي إسقاطٌ لبعض مفاهيمها على وقائع حية عايشها الشرابي ورأى في تلك الوقائع انحرافا عن مفاهيم تلك الفلسفة، فراح يستمد من تلك الفلسفة ما يصوب متجهات مسلكية رفقائه من القوميين، وتاليا لا يمكن القول أن الدراسة بحد ذاتها ذات اتجاه فلسفي، هي في صلبها تصويب مسلكي، لا أكثر ولا أقل ..
يمكننا اختصار ما جاءت به دراسة هشام الشرابي بما ختمها به قائلا :".. إن قضية هذا الجيل من القوميين الاجتماعيين هي قضية نفسية في المكان الأول وليست قضية فكرية مجردة، فهذا الجيل هو جيل قلق معذب وهو يعاني نوعين عميقين من الألم: الم التحقق وألم العجز الذي يجابهه في التحقيق، وليس أقسى على الذي شعَّ في قلبه نور المثل العليا، من أن يتعثر في تحقيق ما آمن به، اذ أنه هو الذي يحكم على نفسه عندما يتعثر قبل أن يحكم عليه الآخرون، وأقسى الأحكام هي التي نحكم بها على أنفسنا.. إن واجب القومي الاجتماعي الأول، اليوم وفي كل يوم هو تركيز وتثبيت حقيقة النهضة القومية الاجتماعية في قلبه وروحه وعقله، وهذه الحقيقة واضحة الأسس والمعنى لا تحتاج الى عقل يتفلسف، بل الى نفسية متفوقة وإرادة منتصرة، بدون الاستيعاب العميق للمبادئ الأساسية للعقيدة القومية الاجتماعية لا يمكن رد الميعان الذي يسيطر على أفراد هذا الجيل ولا يمكن للقومي الاجتماعي الاحتفاظ بالروحية الصراعية التي يتطلبها عمله الجبار ، إن الفلسفة القومية الاجتماعية هي القوميون الاجتماعيون وما يحققون، اذ أنها في المضمار الأخير ليست إلا التجسيد الفعلي للحقيقة العظمى ألا وهي حقيقة الأمة السورية وقدرتها على أن تكون أمة عظيمة متفوقة."
يتضح من المقطع الوارد أعلاه المُتَجَه الذي جاءت الدراسة لشرحه وبيان أسسه، فلننظر الآن كيف عالج الأمين حيدر هذه الدراسة التي يقول أنها نشرت لأكثر من مرة: " إن مرادنا هو اظهار مبلغ الأهمية التي أعطيت لتلك المحاضرة( المقالة ) في أواسط المفكرين من تلامذة سعادة، وذلك عندما نعرف أن وسائل نشر الفكر القومي الاجتماعي قد عممتها لثلاث مرات، لذلك سنجد أنفسنا مهتمين بها: أولا، لأنها ما زالت تحتل مركزا في الأوساط الفكرية داخل الحزب، ثانيا لأننا لم نقرأ للرفيق الدكتور أي بحث سواها حول المدرحية وأخيرا لنرى مقدار نسبتها الى فكر سعادة الفلسفي ."
وعلى الرغم من اعتقادنا، أن وسائل نشر الفكر القومي الاجتماعي، لم تكن في يوم ــ هي الأخرى ــ منصفة لكل ما كُتب في الحزب فكرا وممارسة لأسباب شتى أبرزها تسلط السلطة الحزبية القائمة عليها، وعلى ما يبدو، فإن إعادة نشر هذه المقالة كان بسبب ادراك القيادات الحزبية ، على امتداد تاريخ تسلطها على الصف الحزبي ومؤسساته، أن الصف الحزبي كان متهالكا ومتساقطا تساقط أورق الخريف، نتيجة الضعف في اداء المؤسسات الحزبية عموما ، والانخراط في الحدث السياسي، يضاف الى ما تقدم ضعف أداءها الثقافي من حيث هو اللبنة الأولى في تماسك هذا الصف وتراصه في وجه العقبات التي تواجهه، كما يشير اليه هشام الشرابي، على اعتبار أنها مقالة توجيهية، لا مقالة فلسفية، كما يراها الأمين حيدر، ولأنها، من جهة أخرى، اقترنت باسم شخصية عاصرت سعادة، وكانت مقربة منه أكثر من غيرها، ولم تمسها أية شائعات مغرضة مارستها السلطات الحزبية على مدى تاريخها ضد مفكريها، حتى قيل " كيف لحزب يلفظ مفكريه أن ينتصر؟!! ولأنها مارست على مدى تقلباتها قاعدة " اذا أردت أن تقتل انسانا فلا تطلق عليه رصاصة بل اطلق اشاعة" لهذه الأسباب، ولغيرها ، البعيدة منها والقريبة، كانت إعادة نشر هذه المقالة ملحة..
يحدد هشام الشرابي متجهات مقالته بالنقاط التالية، معتبرا إياها ( النقاط ) دليلا له في شرح ومعالجة ما هو بصدده يقول:
1 ـ "اجتماعية الفلسفة القومية الاجتماعية، هي كذلك لأنها تبدأ في المجتمع وتنتهي فيه، وكل ما هو خارج نطاق حياة المجتمع وشؤونه ليس من اختصاصها..
2 ـ عقلية الفلسفة القومية الاجتماعية، والميزة الكبرى الثانية
هي وضعها العقل المقياس والواسطة والمرجع الأخير، لجميع المسائل التي تواجهها ..
3 ـ مناقبية الفلسفة القومية الاجتماعية، الصفة الثالثة للعقيدة القومية الاجتماعية هي رسالتها المناقبية..
4 ـ الفلسفة القومية الاجتماعية قاعدة انطلاق، أما الصفة الرابعة الكبرى للعقيدة القومية الاجتماعية، هي أن فلسفتها، ليست فلسفة وقوف وتحجر بل فلسفة حركة ونمو وانطلاق..
يعلق الأمين حيدر على النقاط الأربع أعلاه، قائلا:" يضعنا الدكتور الشرابي أمام العقيدة القومية الاجتماعية وفلسفة العقيدة القومية الاجتماعية، ولكنه لا يشرح لنا العلاقة بينهما.. يجيئ أول تعريف عمومي له للفلسفة الاجتماعية مجرد تشبيه لها بالكائنات الحية أما تعريفه العمومي الثاني فيأتي غامضا في قوله إن الفلسفة القومية الاجتماعية تعبر عن فكر حركة فاعلة محققة، والتعريف العمومي الثالث، فيأتي، كتشبيه هندسي مركب، خط واتجاه وشعاع وقاعدة انطلاق.. أما خطته ( اي هشام شرابي)، في بحثه فيقول عنها "أنها تتناول بعض الصفات البارزة للفلسفة الجديدة.. فهو( الشرابي) لن يبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية ( المدرحية: الفلسفة الجديدة ) بل في صفاتها البارزة "
لا تأتي المقالة على نعت الفلسفة القومية الاجتماعية بالمدرحية، سوى في قول الباحث:" يعتقد البعض أن فلسفة الحركة ـــ التي تسمى عرضا( الفلسفة المدرحية)، هي عدد من النظريات الفلسفية .." ولا حتى في أي من مواصفاتها المشار اليها، ولا حتى في شروحها، هذا أولا، ثانيا، يصيب الأمين حيدر بقوله:" إذن الباحث لن يبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية .." فالبحث بحد ذاته غير معني بالفلسفة المدرحية من حيث هي كذلك، يقول الشرابي:" العقيدة القومية الاجتماعية، تقدم فلسفة مناقبية جديدة، ولكنها لا تقدم بحثا في فلسفة الأخلاق.. إن القومي الاجتماعي لا يحتاج لأن يفلسف القيم المناقبية التي تتطلبها منه النهضة.. ليس إلا المتفزلكين المتمخرقين والسطحيين والمعدومي الارادة( من يطالبون بأن تكون للحزب فلسفة) وهم لا يعترفون وهم يشككون بأن للحزب فلسفة.. إن الحركة القومية الاجتماعية ترفض أمثال هؤلاء وليس لديها ما تقدمه لهم.." لكن البحث معني بميزاتها أو صفاتها أو خصائصها أو سماتها.. الخ، التي يمكن لها أن تفيد غايتها( المقالة) وهي معالجة بعض القضايا المثارة، الدين، الفردية، الأخلاق، الفلسفة..
في نقده لقول هشام الشرابي بأن الفلسفة القومية الاجتماعية، فلسفة اجتماعية ، كونها تبدأ في المجتمع وتنتهي به ولا علاقة لها بشؤون تخرج عن نطاق المجتمع، يتساءل الأمين حيدر :" ماهي الفلسفة القومية الاجتماعية، يجيبنا الباحث هي شيء له صفة اجتماعية، لكن ما هو هذا الشيء الذي له صفة اجتماعية ؟يجيبنا الباحث، إنه الفلسفة القومية الاجتماعية .."من وجهة نظرنا، لا غبار على قول هشام الشرابي بأن الفلسفة القومية الاجتماعية هي فلسفة اجتماعية بمعنى اختصاصها بمجمل أطروحاتها بالمجتمع الانساني بكل ما يعنيه من أمم تتجاذب أطراف القوة لتثبيت حقها في الحياة.. فالمدرحية، ما هي إلا فلسفة اجتماعية تدرس التطور الانساني، نشؤاً وارتقاء من حيث العوامل و الأسباب والنتائج، التي قامت عليها حضارة اليوم، وتضع لهذا الصراع الأممي مخرجا له من مأزقه المعرفي، بوحدة الدول على أساس وحدة بيئاتها الطبيعية، حيث يكون التكامل البيئي أساسا لتعاون أكثر سلمية، ولأننا ننتج في الاتفاق أكثر بكثير من إنتاجنا في الخصام والصراع واحتكار القوة لفرض مصلحة مجتمع ما على بقية مصالح المجتمعات الأخرى..
هي اجتماعية لأن غايتها الأولى والأخيرة كانت وما تزال المجتمع بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية.. الخ، فالشرابي لا يجانب الحقيقة في قوله باجتماعية الفلسفة المدرحية، فهي كما يذهب الشرابي، بقوله:" الدين والقضايا الدينية المثيولوجية، هي خارج محور اهتمام العقيدة القومية الاجتماعية إلا حيث يظهر الدين كعامل مباشر في حياة المجتمع من الوجهة الاجتماعية السياسية، ففي هذا النطاق، قول التعاليم القومية الاجتماعية واضح جدا، فهو يدعو الى فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون القضاء والسياسة القوميين، والتي هي من اختصاص الدولة وحدها .." بحيث تذهب المقالة بعيدا في شرح هذا الموقف، من وجهات نظر مختلفة، الايمان الديني، رجال الدين، الى أن يقول في خاتمة شرحه لموقف الحركة من الدين:" نحن القوميين الاجتماعيين لم نتخلى عن الدين وعن رسالة الدين الحقيقية، بل اخترنا أن نرفع هذه الرسالة من الحضيض الطائفي الذي أوصلتنا اليه قرون عهود الانحطاط والتدخل الأجنبي وأن نعيدها الى مكانها اللائق إن حرية الإيمان مصونة في الحركة القومية الاجتماعية.."
لما كانت مقالة هشام الشرابي، ليست بحثا فلسفيا في المدرحية، بل في ما تعنيه حيال مجموعة من القضايا المثارة حينها والتي يتطلب الواجب المعرفي وضع حد لها لما فيه تراص ووحدة الصف الحزبي والحيلولة دون بروز تيارات فكرية تشتت وحدة الاتجاه، ولما فيه ضمان صيرورة الحركة القومية الاجتماعية منطلقا ووسيلة وغاية، فإن بحثنا سيتناول تساؤلات الأمين حيدر حولها لجلاء حقيقة ما يستهدفه من سبغ صفة المدرحية عليها ..
فعلى الرغم من قول الأمين حيدر واعترافه بأن ".. الباحث لن يبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية ( المدرحية: الفلسفة الجديدة ) بل في صفاتها البارزة.." يقول:" فالبحث بدايته نهايته وأن نهايته بدايته، ذلك أن استعراض الشيء لا يساوي علما بما هو الشيء.." يصر على أنها بحثٌ في الفلسفة المدرحية ويتساءل: "ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية التي صفاتها كذا وكذا.." وقبل ذلك طرح السؤال التالي: " يضعنا الدكتور الشرابي أمام العقيدة القومية الاجتماعية وفلسفة العقيدة القومية الاجتماعية، لكنه لا يشرح لنا العلاقة بينهما.."
بما أن الكاتب( هشام الشرابي) قد أكد أن مقالته لن تبحث في ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية( المدرحية) فلا مجال لسؤاله: لماذا لا تبحث في الفلسفة القومية الاجتماعية وتبين لنا العلاقة بين العقيدة والفلسفة؟!، حتى أنه لا يحق لنا طرح تساؤلاتنا عن ( ما هي الفلسفة القومية الاجتماعية التي صفاتها كذا وكذا..) فللمقالة متجه محدد، وأي بحث في مثل هكذا تساؤلات، يخرجه عن محوره، فالاستطراد يشتت ذهن القارئ عن القصد الذي جاءت المقالة لتوضيحه، وحيث أن المقالة تستهدف حدثا معينا ومعاشا، فهي تأخذ ما يفيد في شرح هذا الحدث وبيان أسبابه ونتائجه وحتى وسائله، بإسقاط بعض الصفات أو الميزات التي تتناسب والحدث المعني، وليس كل الصفات والميزات، فالهدف يحدد المنطلق والوسيلة، فان حادت المقالة عن أي منهما، أضاعت هدفها، وهذا ما حدا بكاتب المقالة لأن يختار بعضا من ميزات الفلسفة القومية الاجتماعية وبما يتناسب وهدفه المعلن من الدين والفردية والأخلاق والفلسفة..
وتعليقا على قول هشام الشرابي : " ليس للحزب فلسفة كالفلسفة التي يريدها هؤلاء، إن الحركة القومية الاجتماعية ترفض أمثال هؤلاء وليس لديها ما تقدمه لهم، إن المتهكم على الحق بنار الحق يحرق.." يعلق قائلاً:" هل نحن مع فكر أم أمام سلطة إدارية !!"
يأتي هذا القول لهشام الشرابي تحت عنوان مناقبية الفلسفة القومية الاجتماعية، وفي سياق "أن القومي الاجتماعي لا يحتاج لأن يُفلسف القيم المناقبية التي تتطلبها منه النهضة وأن أوضح الأشياء في العقيدة هي هذه المناقب.. في كتابات سعادة لا نجد المطولات في هذه الناحية أو تلك من قضية حالتنا المناقبية بل نجد ومضات كاسحة من النور تُظهر بقوة البرق طريق المناقب ومعنى القيم في الصراع من أجل الحياة الجديدة، انني أجد في كلمات قليلة ما لا أجده في مجلد من الشرح، ــ إنكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبر في التاريخ ، إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ، إن الحياة وقفة عزٍ فقط ــ (كلمات) تحرك في الأعماق تيارا هائلا يحمل الى كل نفس كل معاني قيم الصبر والقوة والبطولة والعز والكرامة والتضحية، وفي الارادة الشدَّة وفي العقل الوعي.."
ثم يأتي كلامه الوارد أعلاه والذي اتخذه الأمين حيدر سلاحا تهكميا مسلطا على هشام شرابي، وهو في حقيقته، إشارة لفايز صايغ ورهطه ممن أثاروا فتنة التشكيك بمقولات سعادة الفكرية، وتحديدا "قضية الفرد غاية المجتمع" و"الكيان اللبناني"..
تعقيبا على قول هشام الشرابي:" إن المناقب القومية الاجتماعية اليوم هي حقيقة واقعة أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى ومسألة موقفنا منها ليست معرفتها فلسفيا بل تجسيدها في عملنا الصامت المستمر.." يقول الأمين حيدر مستغربا:" هذا كلام خطير جدا ..مناقب الفلسفة القومية الاجتماعية التي يعرف الباحث كيف يفك الغازها هي، العمل الصامت بدون معرفة، هي العمل وفقا لمناقب لا نعرف ما هي ولسنا نستطيع أن نعرف ما هي، ذلك لأن مسألة موقف الباحث تجاهها ليست معرفتها فلسفيا .."
يأتي هذا القول لهشام الشرابي ليس بالمعنى الذي أراده له الأمين حيدر، ولا حتى في سياق ما أشار اليه، إنه يأتي وفق الشرابي في سياق أنه" عندما وقعت الحوادث سنة 1949 ( الثورة القومية الاجتماعية الأولى ولجوء سعادة للكيان الشامي وتسليمه للسلطات اللبنانية ومحاكمته واعدامه خلال 24 ساعة أو أقل) وجوبه القوميون الاجتماعيون بالمسؤولية الفعلية التي وضعتها القضية على عواتقهم، صُدم بعضهم صدمة نفسية وصلت الى أعمق أعماقهم، فسقط منهم القليل واستمر الباقون في السير وقد أسخنت الجراح نفوسهم وبعضها لم يندمل، لقد أحدثت هذه التجربة ثورة سيكولوجية عنيفة في صفوف الحركة وكان من أهم نتائجها النضوج المناقبي الذي انبثق ثمرة لهذه التجربة في الآلاف من القوميين الاجتماعيين وليس مثل الألم مطهرا للنفوس أو قاتلا لها فالحديد الأقوى هو الحديد المصهور، لقد أصبح القومي الاجتماعي الصحيح اليوم يدرك تماما معنى كونه قوميا اجتماعيا ، إنه يدرك الآن ما عناه سعادة بقوله / إن قضيتنا قضية خطيرة تساوي وجودنا والقضية القومية الاجتماعية لم تعد مجرد تحية فيها كبر ونظاما عسكريا يثير الاعجاب .." ثم يأتي ما أورده الأمين حيدر، ليدلل على أن التجربة التي عايشها القوميون الاجتماعيون صهرت نفوسهم فأطاحت بالخبث و الحِيلة , والخَدِيعَة , والخِدَاع , والغَدْر , والغِشّ , والمكر، لتحل محله البَساطَة , وسَلامَة الطَّوِيَّة , والصَّراحَة , والأَمَانَةٌ , والإِخْلاصٌ , والاستقامَةٌ , والصِدْقٌ , والنَزَاهَةٌ , والوَفاءٌ.. ويتابع هشام الشرابي القول:" فالقومي الاجتماعي الصحيح أصبح يعرف معنى التواضع الفخور وقيمة العمل الصامت المستمر فقد صُهر في الم التجربة وعمد بدم الشهادة .." بهذا المعنى جاءت اشارته الى" ان المناقب القومية الاجتماعية هي حقيقة واقعية .. ومسألة موقفنا منها ليست معرفتها بل تجسيدها في عملنا الصامت المستمر .."
يعلق الأمين حيدر حاج اسماعيل على قول الرفيق هشام شرابي :" يعتقد البعض أن فلسفة الحركة ــ التي تسمى عرضا( الفلسفة المدرحية) هي عدد من النظريات الفلسفية التي تؤلف بمجموعها سيستيما فلسفيا كاملا وأنها تقدم الجواب لكل سؤال فلسفي يخطر في البال، إن هذا الاعتقاد خاطئ.." قائلا:" إن وصف الفلسفة القومية الاجتماعية ب ( الفلسفة المدرحية) هو مجرد عرض، لكنه لا يشرح لنا ماذا يقصد بهذا القول: كيف هي عرض ؟ وما سبب الوصف المدرحي ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا استخدم سعادة تسميتها ( المدرحية ) أصلاً ؟
سبق وأشرنا الى أن مصطلح( مدرحية) جاء للمرة الأولى في كتاب سعادة "جنون الخلود" وتحت عنوان" بين "الجمود والارتقاء" ونصه :".. ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية "الدين الإسلامي" إنها "مدرحية" أي "مادي روحي معاً". فقد يظنّ القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي "نشوء الأمم" ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة.. أخذ رشيد الخوري هذه الفكرة الفلسفية العظيمة التي لا يطيق عقله إدراك عمقها وأهمية القضايا الاجتماعية التي تشتمل عليها، فمسخها وجعلها مجرد كلام سطحي بسيط يقصد به إيجاد مقابلة استبدادية بين "الأديان" الثلاثة المسيحي والمحمدي واليهودي؛ فقال "فالدين المسيحي دين تصوّري لا ينفع الدنيا لانفصاله عنها، ولا الآخرة لعدم حاجتها إليه. وهو نقيض الدين اليهودي الذي هو ماديّ صرف. أما الدين الإسلامي "فمدرحي" إذا صح النحت والتركيب، أي مادي وروحي معاً".
فمصطلح ((مدرحي)) لم يستخدمه سعادة في نعت فلسفته المادية ـ الروحية، إلا بعد أن تداوله القوميون الاجتماعيون وكان أول استخدام له من قبل سعادة في رسالته المؤرخة في 10/1/1947 يقول:" داعية الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره، من الجهة الأخرى، بالمبدأ المادي وحده، والاقلاع عن اعتبار العالم ضرورة، عالم حرب مُهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي – مادي (مدرحي) وأنّ الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها.." ونلاحظ أن المصطلح يضعه سعادة بين قوسين، بما يفيد استخدامه بتحفظ، لكنه بعد ذلك أطلقه من قوسيه معتمدا إياه في مختلف خطبه ومقالاته وإشارته لفلسفته بهذا المصطلح، من هنا جاءت إشارة الرفيق الشرابي لعرضية المصطلح، على الرغم من عدم إشارته لأسباب ذلك، فالشرابي كان من أكثر القوميين الاجتماعيين التصاقا بسعادة وكان سعادة يميزه عن بقية الرفقاء بكثير من المواقف، وتأكيدا على هذا الاتجاه لم يستخدم سعادة مصطلح " مدرحي " طوال الفترة الممتدة بين 1942 و1947،فعرضية المصطلح عند الشرابي تقوم على واقعة ادراكه أنه ليس من نحت سعادة .
يتابع حيدر تعليقه قائلا: " بعد ذلك يؤكد لنا الكاتب ما يلي:(عندما نقول أن الحركة تقدم نظرة شاملة الى الحياة والكون والفن، لا نعني أن لدى الحركة نصوصا فلسفية تقدمها الى كل من يسألنا عن نظرتنا الى الفن والكون والحياة..) هاهاها هناك نظرة وليس هناك نظرة، كيف يحكم الكاتب أن للحركة نظرة فكرية دون أن يكون قد اطلع عليها في نصوص وكتابات وضعها سعادة، اللهمَّ إلا إذا كانت النظرة غير فكرية ، تدرك بالحس!
الفقرة التي أوردها الأمين حيدر متهكما، تأتي في سياق مقالة الشرابي على النحو التالي، يقول:" العقيدة القومية الاجتماعية، تقدم فلسفة مناقبية جديدة، لكنها لا تقدم بحثا في الأخلاق.. في كتابات سعادة لا نجد المطولات في هذه الناحية او تلك من قضية حالتنا المناقبية بل نجد ومضات كاسحة من نور.."
يختم الأمين حيدر تساؤلاته بالقول:" هذا كلام عجيب: كيف تكون هناك حركة، تسمى حركة قومية اجتماعية، دون أن تكون قد تأسست على فلسفة قومية اجتماعية وضعها مؤسس الحركة.." ويضيف :" يمضي الكاتب متابعا حنقه على السائلين الطالبين للمعرفة، ومتابعا عناده وإحجامه عن ذكر ما يعرف عن ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية فيقول ( إن شؤون الفلسفة وقضاياها ليست من اختصاص الجميع، الحركة القومية الاجتماعية ليست جمعية فلسفية ترحب بكل من أراد أن يتلذذ بترداد ما تعلمه من مصادر غربية أو ما توصل اليه من قراءة بعض الكتب..)
منذ البداية، يؤكد الشرابي أنه لن يبحث ماهية الفلسفة القومية الاجتماعية، فهذه المسألة لا تختص بها مقالته التي أفردها منذ البداية، كما سبق وأشرنا، لبعض المسائل والقضايا التي يعتبرها تشتيتا للفكر العام في الصف الحزبي لذلك هو يعرض عن بحثها في سياق مقالته..
غدا ننشر صورا لمقالة الشرابي وأخرى للأمين حيدر عسى أن يستفيد منها من أراد التمحيص في ما جئنا به أعلاه.
1 ـ رسالة سعادة المؤرخة في 10/1/ 1947
2 ـ مقالة سعادة / لائحة العقاقير لا تصنع طبيبا
مدرحية الأمين انعام رعد
يُفرد الأمين حيدر لبحثه المعنون/ مدرحية رعد/ ما لا يُفرده لأي باحث آخر، فالأمين رعد، هو من أغزر مَنْ كتب في القومية الاجتماعية وعلى أصعدة عدة، وفق ما ذهب اليه الأمين حيدر، محاولا أمام هذا الكم الغزير من الكتابات تصنيف أو تخصيص ما جاء به رعد على أربعة عناوين:
1 ـ المنطلقات الفكرية والاستراتيجية الثورية
2 ـ كتابات فكر
3 ـ الاتجاه الجديد في النظر
4 ـ محاولة خائبة
على ما يبدو، فإن انتقاد الأمين رعد للأمين حيدر في فصل الأخير لكتاب "نشؤ الأمم" عن مجمل كتابات سعادة باعتباره "كتابا علميا لا علاقة له بالفلسفة المدرحية"،وفق ما يذهب اليه الأمين حيدر، يبقى المحور الذي دارت حوله مختلف الانتقادات التي وجهها الأمين حيدر للأمين رعد..
في مناقشتنا لكلتا الأطروحتين، نؤكد أن السياق الذي جاءت به كلتاهما مهم للغاية، ذلك أن متجه الدراسة يحدد معايير ما جاءت به من مصطلحات ومفاهيم ووقائع ونتائج، كما هي الحال في ما سماه الأمين حيدر/ مدرحية المقدم/ والتي هي في مجملها لا علاقة لها بالفلسفة المدرحية، وتبقى توجيها سياسيا قوميا اجتماعيا لا أكثر ولا أقل، والتي نشرت بإشراف سعادة وتوجيهه، فلو أنها اختصت بالفلسفة المدرحية، لكان لسعادة موقفه من مجمل ما جاءت به وعليه..
بناءً على ما تقدم، سيكون بحثنا وفق التصنيفات الأربعة التي جاء نقد الأمين حيدر وفقها ونبدأ في :
المنطلقات الفكرية والاستراتيجية الثورية
على مدى 122 صفحة، يتناول بها الأمين انعام رعد موضوعات عدة /المنطلقات الفكرية للحزب واستراتيجيته الثورية ـ مفهوم اليسار القومي الاجتماعي ـ القومية الاجتماعية الرائدة التي يتجه اليها العصر الحديث بتجارب أممه ـ المنطلقات العقدية للأهداف والمواقف في الحزب السوري القومي الاجتماعي / هذه الموضوعات تناولها الأمين رعد إما في محاضرات، غالبا ما كان يرتجلها ، او دراسات ، لكنها بمجملها كانت موضوعات مطروحة وبقوة فترة السبعينات من القرن الماضي، وبالطبع من منطلق قومي اجتماعي، غالبا ما يصفه الأمين رعد بالثوري، كمصلح يومي متداول في تلك الفترة، وكنقيض للواقع الذي أفرزته حرب 1967..
وبطبيعة الحال، يتناول الأمين رعد، هذه الموضوعات مُسْقِطاً عليها مفاهيم قومية اجتماعية، بمصطلحات تتكرر باستمرار في مختلف كتاباته،..
يكتفي الأمين حيدر بـالسؤال حول ما تعنيه هذه أو تلك من المصطلحات والمفاهيم ويُحمِّلُها معانيه أو مفهوماته الخاصة حول الفلسفة المدرحية، وتحت عنوان لا يتناسب وهذه الموضوعات/ مدرحية رعد / ذلك أنها محاضرات ودراسات أقرب ما تكون للتوجيه السياسي الذي فرضته أحداث تلك المرحلة العاصفة من تاريخ الأمة، بحيث تبقى تلك المحاضرات والدراسات منشدة الى زمانها ومكانها، لكنها، قطعا، لبست بحثا فلسفيا، يتجاوز حدود المكان والزمان، وتحديدا في الفلسفة المدرحية، وإن كان (رعد) يستند لبعض من مقولاتها وبشكل متكرر، كمقولة "الدورة الاجتماعية ـ الاقتصادية"، والتي تدور مختلف إطروحاته حولها أو تنطلق منها أو تستند عليها أو لبعض ما تعنيه وقائعا ونتائج، لكنها ( المحاضرات والدراسات) بالمطلق، ليست بحثا فلسفيا في المدرحية..
تدور تساؤلات الأمين حيدر حول فكرة هنا أو مصطلح هناك او مفهوم يتجاوز القصد المفهوم من السياق العام للدراسة أو المحاضرة فعلى سبيل المثال، يتساءل الأمين حيدر بعد أن يستعرض " تعابير مثل ( التكامل المادي ـ الروحي) و ( الثورة المادية ـ النفسية) أو( قومية الأرض) و ( المنهج المدرحي) ، "ويقول في معرض تساؤلاته:" مصطلح التكامل المادي ـ الروحي( والذي لا نجده في كتابات سعادة) يستخدمه رعد ليفيد ما يسميه الوحدة الروحية والوحدة الاجتماعية ـ الاقتصادية ويؤكد رعد أن لوحدة المجتمع، مفهومين متكاملين يشكلان مفهوم الثورة عند سعادة ألا وهما المفهوم الروحي( القومية) والمفهوم المادي ( الاجتماع بالمعنى الاقتصادي) ليتساءل:" هل حقا عنى سعادة بالمادة ، في فلسفته المادية ـ الروحية، الاجتماع ـ الاقتصادي ؟
من منطلق أن البحث ليس في الفلسفة المدرحية، فلا يمكن طرح السؤال عن:" ما إذ كان سعادة قد عنى "بالمادة" الاجتماع ـ الاقتصادي!!!"، فالبحث يدور حول ماهية الوحدة القومية ومقوماتها. الروحية منها والمادية، والأثر الاقتصادي في مجال تطبيقهما عمليا على الأرض.
يستشهد "رعد" بقول لسعادة فيقول:" نعود لسعادة فعنده القول الفصل في كل هذه المواضيع، يقول سعادة( إن الحزب السوري القومي الاجتماعي يريد وحدة قومية متينة تُثبت حق الأمة السورية في معترك الحياة والتفوق، وهذه الوحدة القومية القوية لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اقتصادي سيء كما لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اجتماعي سيء، فإقامة العدل الاجتماعي ـ الحقوقي والعدل الاقتصادي ـ الحقوقي أمر ضروري لفلاح النهضة السورية القومية الاجتماعية..)
في هذا القول لسعادة يؤكد "رعد" على أن سعادة قد ربط الشأن الاجتماعي بالشأن الاقتصادي، فلا انتصار بجانب واحد من جوانب الثورة القومية الاجتماعية بما تعنيه من مقومات مادية روحية، كونها (الثورة القومية الاجتماعية) "مدرحية" الأبعاد المادية الروحية ،وتاليا فالشأن الروحي يأتي مكملا للشأن الاجتماعي ـ الاقتصادي، رعد يشرح ما قاله سعادة، ويقدم عينات، تؤكد صوابية متجه سعادة، في كون الثورة لا يمكن لها أن تقوم على جانب واحد من مقومات الحياة ويقصد الجانب الروحي يقول:" يقول سعادة : ( نسير الى الحرب ـ [حرب التحرير] ليس فقط جماعة واحدة من الوجهة الروحية بل من الوجهة الاجتماعية أيضا، ليس لننصر اقطاعيا على اقطاعي أو رأسمالي بل لنكسب أرضا لا يمكن أن نقيم فيها مستعبدين من أنفسنا على امتنا، نسير محققين انتصارا لشعب حر يتجمع تحت علم أمته ودولته بنظام واحد ومجد واحد للجميع..) ففي حرب التحريرـ يتابع رعد شارحا ـ في المواجهة مع العدو الخارجي، قصد سعادة ألاّ نسير موحدين من الناحية الروحية ، وحدة الروح التي تحدثنا عنها، لا تفرقنا الطوائف المذهبية وموحدين من الوجهة الاجتماعية، وحدة لا تقوم على السكوت على النظام الاجتماعي، على تعايش الاقطاع والرأسمالية مع الشعب المسحوق، الشعب الكادح المنتج بفلاحيه وعماله ومثقفيه، بل وحدة تقوم لا على نصرة اقطاعي أو رأسمالي بل لنكسب أرضا لا يمكن أن نقيم فيها مستعبدين من أنفسنا على أمتنا، فالثورة الاجتماعية في سبيل النظام الجديد واسقاط الاقطاع والرأسمالية جزء لا يتجزأ من حرب التحرير القومية عند سعادة.
النظام الجديد ووحدتنا الروحية ـ الاجتماعية توأمان لا ينفصلان.. والوحدة الروحية ليست بديلا عن الوحدة الاجتماعية ـ الاقتصادية بل مكملا لها.." يقدم رعد أمثلة مستشهدا بسعادة مما جرى في بريطانية وفي أمريكا تأكيدا على ما يذهب اليه في شرحه لسعادة فيقول" يقول سعادة في هذا الموضوع، حالة المحافظين والاقطاعيين في بريطانيا الذين كانوا يرفضون وضوح المفاهيم الاشتراكية :ان الشعوب كانت متخمة من الديموقراطية الرأسمالية التي أصبحت كابوس العامل والفلاح، وأن حالة الحرب هي التي تضغط على بريطانية والولايات المتحدة للاهتمام بالناحية الاجتماعية.." فالثورة القومية تستدعي بالضرورة الثورة الاجتماعية بما تعنيه الأخيرة من اسقاط للنظام الاقطاعي والرأسمالي المتحكم في البلاد والعباد، مع تأكيد رعد تحت عنوان / سعادة والثورة الاجتماعية / على أن الثورة الاجتماعية عند سعادة هي أشمل من الثورة الاقتصادية كما طرحتها الماركسية، إنها أشمل لعدة اسباب ، أنها لا تقوم على مجرد الشأن المادي الاقتصادي .. المشكلة ليست مشكلة انسان وطبقات، في امتنا جيوب طائفية عنصرية، في امتنا مشكلة كردية في العراق، في امتنا مفهوم الأكثرية الطائفية، وقس على ذلك العديد من المشكلات، هذه المشكلة لا يمكن أن تحل بتبدل علاقة الانسان بوسائل الانتاج ..
يتضح أن رعد لم يعنِ بالمادة ، في فلسفة سعادة المادية ـ الروحية، الاجتماع ـ الاقتصادي، ذلك أن البحث يبقى في ممكنات الثورة للتحقق، وإن تطرق للشأن الاقتصادي في مفهوم الثورة، فإنه لا يتعدى ذلك ليصبح في الفلسفة المدرحية أن المادة هي الاقتصاد .
يتابع الأمين حيدر تساؤله حول ما يقوله الأمين رعد من أن "المشكلة الاجتماعية غير منفصلة عن المشكلة القومية، وكل فصل بين هذين التوأمين إجهاض للشأن القومي وقتلٌ للشأن الاجتماعي" متسائلاً: كيف وبأي معنى نفهم علاقة عدم الانفصال، بين المشكلة الاجتماعية والمشكلة القومية؟ هل هي علاقة سبب ونتيجة؟ أم علاقة ترابطية؟ أم علاقة تكافؤ؟ أم خلاف ذلك؟
على الرغم من أن تساؤل الأمين حيدر، يتجاوز حدود المطروح من هذه المسألة، فسؤاله يثير مشكلة من لا مشكلة، في محاولة منه للتشكيك في ما يزعمه رعد من أن المشكلة الاجتماعية غير منفصلة عن المشكلة القومية، في تساؤله عن العلاقة بين الشأن الاجتماعي والشأن القومي، ذلك أنه لا فرق بين الشأنين، هما كلٌ متكاملٌ من حيث أن القومية الاجتماعية هي المدرحية وهي المادي ـ الروحي، فالعلاقة بين الشأنين هي علاقة الجوهر بالمظهر أو الباطن بالظاهر أو المادة في الشكل، هما شأنٌ واحد، وإن كنا نمايز بينهما في ما اصطلح عليه من مفهوم أي منهما، فالقوم هم الجماعة، مدرحيا كلاهما رديف للآخر، مترادفات لغوية، لكنها شأن واحد، يتخذ كلٌ منهما شكل الآخر، وفق الحالة التي تفترضها الوقائع والظروف والأحوال، في اللغة العربية، هناك تسع وتسعون اسما للأسد، فأي منها نختار لوصف حالة ما يمرُّ بها الأسد يقول المتنبي:
وردٌ اذا ورد البحيرة شارباً... ورد الفرات زئيره والنيلا
يصف المتنبي الأسد بالورد تبعا للونه الضارب للحمرة، لكن ورد هو الأسد بعينه..
بديع الزمان الهمزاني يصف الأسد بالهزبر يقول:
إِذاً لَرَأَيْتِ لَيْثاً زَارَ لَيْثاً ... هِزَبْرَاً أَغْلَباُ لاقى هِزَبْرَا
الأسد هنا هو الهزبر لوصف حالته بالغالب، أو الشديد الوطئة أو الكاسر(*)
عدم الانفصال اذن هو كون القومية والاجتماعية في وحدة لا تنفصم عراها فكل منهما صنوٌ للآخر، وعلى أي وجه جاءت به هذه العلاقة توافقية وتكافؤية، أو نتيجة لسبب..
المسألة الثالثة التي يتسأل الأمين حيدر حولها هي قول الأمين رعد:" إن القومية الاجتماعية هي قومية الأرض وهي قومية الانسان في الأرض ، الانسان الحر السيد الشريف" متسائلا: هل نفهم من هذا الكلام أن الباحث يريد أن يقول إن القومية الاجتماعية هي قومية جغرافية؟ أو القومية الوطنية ؟باعتبار الأرض تنتمي لدائرة علم الجغرافيا؟.. وهل يقصد بعبارة "قومية الانسان في الأرض" التفاعل بين الانسان والأرض؟
هذه التساؤلات في ظاهرها شيء وفي باطنها شيء آخر، في ظاهرها تساؤلات منطقية، وإن كانت لا تنطلق من ماهية البحث، لكنها في باطنها محاولة للتشكيك في صحة ما يدعيه رعد!!
قومية الأرض، وكما هي في السياق، تعني الوحد القومية، وحدة البيئة التي بها تكتمل" دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" أما قومية الانسان في الأرض، فتأتي بمعنى التفاعل من جهة والانسان المكتنه وحدة أرضه وشعبه، مجتمعه، قومه، أو كما عبر سعادة في مقدمة نشؤ الأمم:" إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي ــ اقتصاديّ ــ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه."
أخيرا يتساءل الأمين حيدر عن المقصود في "المنهج المدرحي" والذي لا نجده عند سعادة!! في قول الأمين رعد:" وتنطلق القومية الاجتماعية من الشمول في المنهج المدرحي لتحليل التطور الاجتماعي.. فالعقيدة القومية الاجتماعية الشاملة تعنى بالقضية القومية( المبادئ الأساسية) وبالنظام الاجتماعي ـ الاقتصادي ( المبادئ الإصلاحية) "
كما سبقت الاشارة الى ان البحث ليس بحثا في الفلسفة ، فالسؤال لا يجد اجابته فيه، وأن الإشارة الى شمولية المنهج، تبقى للدلالة على أن المدرحية، في شموليتها مختلف جوانب الوجود المادي والروحي، الموضوعي والذاتي، تستمد من النسق التطوري منهجها لفهم هذه الظاهرة أو تلك، لذلك هي معنية بتحديد ماهية الشأن القومي كما هي معنية في الوقت عينه بالنظام الاجتماعي ـ الاقتصادي .
* بين المصطلح والمفهوم:
الفرق بين المفهوم والمصطلح هو: في أن الأول يأتي معناه والمقصود منه في سياق البحث، المفردة تأخذ في السياق معنى واحد لا أكثر، المصطلح، يبقى اتفاقيا على أن هذا الشيء هو كذا، مصطلح مدرحية، يبقى معناه في النص أينما وجد هو "الكل المادي الروحي"، أو "القومية الاجتماعية" بكل مضامينها، فعندما نقول مدرحية نعني بها أن كل شأن أو شيء هو مادي ـ روحي، أو هو قومي اجتماعي، الثالوث مدرحية ـ مادية روحية ـ قومية اجتماعية، هي مسمى واحد، لجوهر واحد، لمضمون واحد، أو هي مترادفات تأخذ المعنى المقصود منها في السياق التي تأتي به،..
المفهوم له في السياق واحدٌ من معانيه، وواحدٌ من مرادفاته،
المفردة، في أية لغة كانت، تأخذ القصد من استخدامها، من السياق الذي جاءت به، ولا يمكن تجريدها منه، لأنه في حالة من هذا النوع، تفقد المفردة المعنى الذي أُريد لها أن تكون به، خاصة في اللغة العربية التي تكثر فيها المعاني و مترادفات المفردة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لنأخذ مفردة ( خطل) والتي يمكن لها أن تأخذ المعاني التالية: خَطِلَ في كَلاَمِهِ : أَتَى بِكَلاَمٍ فَاسِدٍ لاَ مَعْنَى لَهُ ، أفْحَشَ، خَطِلَ فِي الرَّأْيِ : أَخْطَأَ، خَطِلَ الرَّجُلُ : عَجِلَ ، حَمُقَ، خَطِلَ فِي مَشْيِهِ : تَبَخْتَرَ وَتَلَوَّى، خَطِلَ الْوَلَدُ : اِضْطَرَبَ ، اِسْتَرْخَى، خَطِلَ خَطِلَ خَطَلاً : استرخى واضطرب، خَطِلَ : أَسْرَعَ وحاد عن الصَّواب، أما مترادفاتها فهي " إفْك , باطِل , تَخَرُّص , حَشْو , حَماقَة , حُمْق , خَلَل , خَلْط , رَعَالَة , رَكَاكَة ( في الكلام ) , رُعونة , رُعُونَة , سَخافَة , ضُعْف , غَبَاوَة , لَغْب , لَغْو , نَوْك , هَذَر , هَذَيان , هَذَيَان , هَوَج , هُذَاء , هُرَاء.." فأيٌ من هذه المعاني والمترادفات يمكن لها أن تأخذ في قول الشاعر "الطغرائي " :
أصالة الرأي صانَتْنِي عن الخَطَلِ
وحليةُ الفضلِ زانتني لدى العَطَلِ
تأخذ هذه المفردة معناها كأضداد لمفردة أصالة والتي تعني "
أَصالَةٌ في الرَّأْيِ: جَوْدَتُهُ ، إِحْكامُهُ وهذا المعنى يأتي مترادفا مع
"أصالة، أمانَةٌ, أَمَانَةٌ , بلاغَةٌ , بَلاَغَةٌ , تَعَقُّلٌ , حصافَةٌ , حقيقَةٌ , حِكْمَةٌ , حِلْمٌ , رَزَانَةٌ , رَوِيَّةٌ , سكوتٌ , صَمْتٌ , صِدْقٌ , فَصَاحَةٌ , قُوَّةٌ , قُوَّةٌ ( في الكلام ) , نَزاهَةٌ , نَزَاهَةٌ , وفاءٌ , وَقارٌ , وَقَارٌ , وُجُومٌ" ..
في دراسته التي تمتد على نحو ( 95 ) خمس وتسعون صفحة يشرح فيها "رعد" موقف سعادة من الانعزالية، بمعناها الكياني ـ حتى لا ينحصر معناها بالكيان اللبناني تحديدا ، فالشامي المتمسك بهويته الشامية هو انعزالي أيضا كما العراقي والأردني والفلسطيني والقبرصي ـ
في نقده لما جاء في تلك الدراسة ـ الشرح، يُصر حيدر على "الكتابات المتصلة بالمجرى الأساسي لقراءتنا، نعني، "فلسفة سعادة المادية ـ الروحية".. مسجلا اثني عشرة ملاحظة على ما جاء به رعد شارحا موقف سعادة من الانعزالية..
"الدراسة ـ الشرح"، ونعيد هنا ونكرر، أنها ليست بحثا فلسفيا، وهذا جانب مهم في أية دراسة نقدية، مهما كان موضوعها، ذلك، أن اسقاط مقولات فلسفية على موضوع معين، ليس بحثا فلسفيا، إنما هو دلالة على أن تلك المقولات تسبر أغوار الموضوع سلبا كان أم إيجابا، وتكشف علته كمعلول، كمظهر لجوهر، كشكل لمادة، فمصطلح "انعزال" يعني جزء ًمن كل، فإذا كان الجزء يدعي قيامه بذاته، فما هو ذاك الكل الذي يُسقط أو يدحض ذلك الادعاء، مع الأخذ بعين الاعتبار " أن النواميس لا تمحو خصائص الأنواع" كما يقول سعادة، وأن العام لا يلغي الخاص، كما المجتمع لا يلغي الفرد، فإذا كان للجزء مواصفاته وخصائصه وصفاته، التي تميزه عن بقية الأجزاء، كما تميز خصائص ومواصفات وصفات تلك الأجزاء عنه، فما هو ذاك الكل الذي يجمع هذه الأجزاء بعضها الى بعض؟ ليضفي عليها كلاً متجانسا، متكافلاً، متضامناً؟ يجيب رعد، مشيرا لواقع التجزئة الذي مورس على السوريين كافة بموجب اتفاقية ( سايكس ـ بيكو) قائلاً:".. إن عارضة الناقورة أقامت حدا سياسيا بين منطقة الاحتلال سياسي ومنطقة الاحتلال البريطاني، (لكنها) لم تَحُلْ دون انطلاق حيوية اللبنانيين نحو مقاومة مشروع " الوطن القومي اليهودي"! وأن عارضة وادي الحرير لم تمنع مئات السيارات من الذهاب والإياب يوميا بين مراكز الفاعلية الحيوية اللبنانية ومراكز الفاعلية الحيوية الشامية ، حاملة اللبنانيين والشاميين الى جميع الانحاء توزعا من المركزين المذكورين، وأن عارضة عند النهر الكبير (الشمالي) لم تمنع تفاعل الحياة الاجتماعية بين لبنان وغرب الشام" موضحا أن سعادة قد أشار الى هذه المسألة في مقالته " الانعزالية أفلست" عندما قال:" إن الترابط بين القرى والمدن والأوردة الزراعية في سورية الطبيعية كلها لا تسمح بالتفكير بتجزئة الأمة السورية الى أمم والشعب السوري الى شعوب " لكن السؤال يبقى قائما: ما علة هذا " الترابط " ؟ أو ذاك الكل الجامع والموحد و الصاهر لكل تباين، يجيب رعد :" إنها دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" والتي إذا ما أُسْقِطَتْ على مفهوم مصطلح الانعزال، بانت على النحو التالي: يقول رعد:" إن مفهوم الدورة الاجتماعيةـ الاقتصادية عدا أنه يقدم الأساس الموضوعي المادي للوجود الاجتماعي، بحيث تحاكم الأفكار والاتجاهات على قاعدته وتُحَكُّ على محكه، فيسقط منها ما يفتقر الى عوامله الموضوعية، فإنه يشتمل على نقطتين بالغتي الأهمية في نقض مرتكزات الاتجاه الانعزالي، النقطة الأولى أن هذا المفهوم حركي، الحركة الاجتماعية، تختلف أصلا عن المفهوم الاستاتيكي الذي (تستند) ننظر اليه الأفكار المزيفة قوميا الى الحدود الجغرافية .. أما النقطة الثانية في مفهوم سعادة للدورة الاجتماعية ـ الاقتصادية، الناقضة للمفهوم الانعزالي، في مفهوم هذه العملية الحركية، هذه الدورة الحياتية هي التي تصهر الجماعات البشربة في عملية التفاعل فتزيل فروقاتها السلالية وأصولها القبلية لتدمجها في وحدة الحياة الاجتماعية ومصهرها المذيب فروقات الأصول والمبقي على أصل وحيد هو وحدة الحياة القومية في البيئة الطبيعية الواحدة."
كيف يعلق حيدر منتقدا رعد؟
" أولا: النتيجة الأولى: هي قول الباحث "أن (المتحد الأتم) عند سعادة أساسه الاتحاد في الحياة".. (هذا القول) ليس لسعادة، سعادة المعروف بأمانته العلمية ينسبه الى عالم الاجتماع الأمريكي ماكيفر صاحب كتاب " المتحد".. يقول سعادة :" أريد أن أجاري هنا مكيور(ماكيفر) في إيضاحه المتّحد أنّه كلّ مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميّزة عن المساحات الأخرى تميّزاً لا تصحّ بدونه تسمية المتّحد.. ويكون معنى هذا المتّحد منتهى التّوسّع في استعمال هذه اللّفظة الّتي تفيد التّجانس والتّلاحم والّتي أريد بعد الآن أنّ أقتصر فيها على الواقع الاجتماعيّ، على الجماعة المشتركة في حياة واحدة تكسبها صفات مشتركة بارزة وتسبغ عليها ما يمكننا أن نسمّيه شخصيّة ووحدة خاصّة" حيث الحياة الواحدة التي تكسب هذا المتحد الأتم صفات وخصائص تميزه عن سواه من المتحدات يقول سعادة :"القرية متحد والمدينة متّحد والمنطقة متّحد والقطر متّحد ولكلّ متّحد خصائص تميّزه عمّا سواه ممّا هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه.." وهكذا، فالمتحد عند سعادة هو" الجماعة المشتركة في حياة واحدة" فعندما يقول رعد شارحا لسعادة من أن المتحد أساسه الاشتراك في الحياة لا يخطئ بقدر ما يعتمد توصيف المتحد عند سعادة..
ثانيا: قول الكاتب إن الأمة هي " المتحد الأتم" عند سعادة قولٌ غير صحيح، هذا التحديد هو أيضا للعالم الأمريكي "ماكيفر" .
أكان هذا التحديد لماكيفر أم لسعادة فإن اعتماد الأخير عليه يجعله جزءاً من مقهوم سعادة للمتحد، لكن سعادة لا يبقي تعريف ماكيفر للمتحد على حاله بل يتوسع به ليأخذ معنى آخر غير المعنى الذي أراده له ماكيفر، حيث يقصره سعادة على الواقع الاجتماعي، الذي يتجاوز ماكيفر في تحديده للمتحد في قوله:" . فإنّ شرط المتّحد ليس أن يكون مجموعاً عدديّاً من ناس مشتركين في صفات النّوع الإنسانيّ العامّة فحسب، بل مجموعاً متّحداً في الحياة.." مشددا على أن الاتحاد في الحياة يكسب الجماعة ميزات وصفات وخصائص، هي أعمق من "صفات النوع الإنساني" مؤكداً على أن البيئة الطبيعية هي المعنى المقصود مستندا على قول بواس:" ولكنّنا نقصد ما عناه بواس في الإجابة العضويّة على محرّضات البيئة الّتي تحدّد المتّحد.. ومن إيضاح بواس نعلم أنّ التّشابه العقليّ والفيزيائيّ نتيجة، لا سبب. فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة. " بمعنى أن الاشتراك في حياة واحدة تمتد لأجيال وأجيال تفضي بطبيعة الحال الى" التّشابه العقليّ والفيزيائيّ" بتأثير البيئة من جهة وبرد فعل المجتمع ككل بمختلف أجياله على ذات التأثير الذي تمارسه البيئة الطبيعية على موضوعات اشتراكهم في حياة واحدة، وعليه فإن قول رعد صحيح كل الصحة في أن المتحد أساسه الاشتراك في حياة واحدة حيث يفضي هذا الاشتراك في الحياة بطبيعة الحال الى الشعور بالشخصية المتمايزة عن سواها حيث تكون الأمة أمر واقع اجتماعي والذي اقتصر عليه تعريف المتحد عن سعادة ..
ثالثا: القول بأن الاتحاد بالحياة هو حصيلة التفاعل بين الجماعة وبيئتها الطبيعية يناقضه ما ذكره سعادة في كتابه "نشؤ الأمم" حيث يقول: "فالمتحد الأتم هو دائما أمر واقع اجتماعي" و" الأمة واقع اجتماعي بحت"..
كيف يفهم الأمين حيدر هذا التوصيف لسعادة من أن الأمة هي أمر واقع اجتماعي بحت ليأتي قول الأمين رعد مناقضا لسعادة!!؟
يفهم الأمين حيدر الواقع الاجتماعي على أنه أمر أفراد يشتركون بعضهم مع بعض بميزات تميزهم عن غيرهم بغض النظر عن كيفية اكتسابهم لهذه الصفات التي تميزهم عن سواهم وبماذا يشتركون وكيف يشتركون ولماذا هم مشتركون وما هي ميادين اشتراكهم ومادة هذا الاشتراك؟ لتكون لهم هذه الميزات كنتيجة لا كسبب؟ مستشهدا بقول سعادة "أن الصفات تتبع المتحد لا المتحد يتبع الصفات "ويتخذ من مثال سعادة حول مغتربينا في أمريكا الشمالية والجنوبية قاعدة لتأكيد أن الواقع الاجتماعي البحت يتعلق فقط بالأفراد ـ من حيث علاقاتهم بعضهم ببعض مستثنيا البيئة الطبيعية التي يقيمون اشتراكهم بعضهم مع بعض ردا لمحرضاتهاـ، فالسوريون المنتقلون الى الأمريكيتين يكتسبون صفات وخصائص جديدة تجعلهم كأبناء تلك المجتمعات ويختلفون عما كانوا عليه في مجتمعهم السوري الذي غادروه، حيث يقول سعادة "السّوريّ الّذي يهاجر إلى أميركا لا يلبث، إذا أقام، أن تتبدّل صفاته الخاصّة ويكتسب صفات المتّحد الأميركانيّ الخاصّة. فكيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانيّة الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين ؟ يتجاهل الأمين حيدر هذا النص لسعادة ويكتفي بقول سعادة:" أليس في هذا الواقع برهان مفحم على أنّ الصّفات ليست أساس المتّحد وأنّ أساس المتّحد والصّفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟ بلى. فحيثما اجتمع جمهور كبير من السّوريّين في أميركا وقلّ اختلاطهم مع الأميركان وظلّوا محافظين على اشتراكهم في حياتهم، في متّحدهم، فهم يكتسبون كثيراً من طابع البيئة ولكنّهم يظلّون متّحداً متميّزاً عن الأميركان بنسبة إقلالهم من الاشتراك في الحياة الأميركانيّة وعكفهم على حياتهم السّوريّة. وكلّما قلّ تعاشرهم فيما بينهم وازداد اشتراكهم في الحياة الأميركانيّة ازداد تخلّقهم بأخلاق الأميركان واكتسابهم صفاتهم.."
معلقا بقوله( الأمين حيدر):" واضح من النصوص المتقدمة أن سعادة كان دائما مؤكدا فكرة أن المتحد (الأمة) واقع اجتماعي بحت لذلك نجده مشددا ( والقول للأمين حيدر) على أن تفاعل السوريين المغتربين بعضهم مع بعض ( اشتراكهم أو اتحادهم في الحياة السورية ) هو جوهر كونهم متحدا سوريا في المغترب وليس التفاعل مع البيئة الطبيعية، متجاهلا ما أورده هو من قول سعادة في أنهم " فهم يكتسبون كثيراً من طابع البيئة "متابعا:" والحق يقال ( وهنا بيت القصيد) أنه لو كان الأمر أمر تفاعل السوريين مع البيئة الطبيعية الأمريكانية هو الأصل في معنى المتحد لما ظلوا سوريين " ما تجاهله الأمين حيدر في النص المشار اليه هو أن رعد يؤكد قول سعادة ولا ينفيه أو يتناقض معه، فقول سعادة واضح في سؤاله:" فكيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانيّة الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين ؟ أليس في هذا الواقع برهان مفحم على أنّ الصّفات ليست أساس المتّحد وأنّ أساس المتّحد والصّفات هو الاشتراك في الحياة الواحدة؟ " معنى الاشتراك في الحياة لا يقتصر على علاقات تقوم بين الأفراد وإلا لما كان سعادة قد تساءل عن " كيف زالت صفاته الأولى الثّابتة الّتي كانت تميّزه عن الأميركان، ومن أين جاءته الصّفات الأميركانيّة الّتي أصبحت تميّزه عن السّوريّين؟ فهم يكتسبون كثيراً من طابع البيئة ولكنّهم يظلّون متّحداً متميّزاً عن الأميركان بنسبة إقلالهم من الاشتراك في الحياة الأميركانيّة وعكفهم على حياتهم السّوريّة. وكلّما قلّ تعاشرهم فيما بينهم وازداد اشتراكهم في الحياة الأميركانيّة ازداد تخلّقهم بأخلاق الأميركان واكتسابهم صفاتهم.." ولكن كيف هم يشتركون في الحياة الأميركانية؟ والتي بطبيعة الحال هو ( الاشتراك) استجابة لمحرضات البيئة التي " يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة.." هكذا يتجاهل الأمين حيدر موضوع الاشتراك في الحياة ومادته وكيفيته ووسائله، مقتصرا على أنه مجرد علاقات تقوم بين الأفراد فكأنه يقول أن اشتراك السوريين في حياة واحدة سورية السمة، يجعل منهم متحدا سوريا في قلب المتحد الأمريكي، والذي يحول دون اندماجهم في الحياة الأمريكية، بمعنى آخر يجعل منهم "غيتو" على النسق اليهودي في مختلف المجتمعات التي عرفت اليهود، وهذا ما يتناقض كليا مع سعادة كليا، والذي يؤكد ما يذهب اليه رعد من أن " التفاعل هو لب الحركة التاريخية التي ينشأ عنها " المتحد الأتم " وهو جوهر فلسفة سعادة الاجتماعية، وحصلة التفاعل في مجرى التطور هي الدورة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تعطي الأمة مفهوما حركيا، مفهوم الدورة الحياتية فالاتحاد في الحياة قاعدته دورة العمران الاجتماعية الاقتصادية.."
المسألة الرابعة التي ينتقد فيها حيدر، (دراسة ـ شرح) رعد، قوله:" إن الأمة عند سعادة هي حصيلة تفاعل الجماعة البشرية مع بيئتها الطبيعية، هذا القول مردود.. لا تكون الأمة باعتبارها متحدا، (أي باعتبارها جوهريا، اتحادا في الحياة) حصيلة حركة العمل الاقتصادية، أي التفاعل مع البيئة، العكس هو الصحيح.." بمعنى أن التفاعل مع البيئة هو نتيجة لكون الأمة متحدا!! لكن كيف تكون الأمة متحدا يُنتج تفاعلا مع البيئة؟ يجيبنا الأمين حيدر فيقول:" يقترف ( رعد) أغلوطة الاختزال عندما يلغي التفاعل بين السلائل البشرية الذي يؤدي الى اختفاء (تلك) السلائل وظهور الآمة مجتمعا جديدا( مختلفا كل الاختلاف عن عناصره السلالية) ويقصر معنى التفاعل على التفاعل مع البيئة الطبيعية الذي يؤدي الى ظهور خصائص ومزايا الأمة وليس كيانها بالذات، وشتان بين الشيء وصفاته.. الأمة (بعد نشوئها مجتمعا مزيجا مشتركا) تفعل في بيئتها الطبيعية أو تتفاعل معها. الأمة هي (بدولتها) صانعة ظاهرة التفاعل مع البيئة، لا التفاعل صانعا الأمة."
يقلب الأمين حيدر المفاهيم القومية الاجتماعية رأسا على عقب، في قوله المشار اليه أعلاه، ذلك أن سعادة يقول: رأينا، فيما تقدّم من فصول هذا الكتاب، الأسس والخطط العامّة لتطوّر البشريّة وارتقائها في ثقافاتها الماديّة الناتجة عن تفاعل الإنسان والطّبيعة بقصد تأمين سدّ الحاجة وبقاء الذّريّة.." ويؤكد على أن المتحد ليس مجرد مزيج سلالي، عندما يقول "ولا نقصد بهذا التّشابه شيئاً سلاليّاً بحتاً ولكنّنا نقصد ما عناه بواس في الإجابة العضويّة على محرّضات البيئة الّتي تحدّد المتّحد.. ومن إيضاح بواس نعلم أنّ التّشابه العقليّ والفيزيائيّ نتيجة، لا سبب. فهو ناتج عن الاشتراك في الحياة الواحدة.." فسعادة يقدم الرد على محرضات البيئة على التشابه العقلي والفيزيائي (أي السلالي) والذي يعتبره نتيجة لا سبب، مؤكداً أن محرضات البيئة هي التي تحدد المتحد وعليه يكون السبب الرئيس في كون المتحد متحدا أتمَّاً ـ أمةً هو الرد على محرضات البيئة، من حيث هي (أي محرضات البيئة) موضوع العمل اليومي للقائمين في هذه البيئة، والذي يؤدي بالتالي الى التجانس والتلاحم بينهم في هذه البيئة من الوجهة السلالية( نسبيا) ومن الوجهة النفسية بالمطلق، وإلا ما معنى قول سعادة :" إنّ تقسّم الأرض إلى بيئات هو السّبب المباشر لتوزّع النّوع البشريّ جماعات. فالبيئة كانت ولا تزال تحدّد الجماعة.. تحدّد البيئة الجماعة من عدّة وجوه، أوّلها: حدود الإقليم الجغرافيّة. ثانيها: طبيعة الإقليم من حيث نوع تربته ومعدّل درجة حرارته ورطوبته. ثالثها: شكل الإقليم (طبّغرافيته) من حيث سهوله وجباله وأنهاره. فالحدود الجغرافيّة تضمن وحدة الجماعة.." أكثر من ذلك تأكيده على أن التفاعل هو بين الانسان وبيئته الطبيعية عندما يقول:" وإنّ من أهمّ مؤثّرات البيئة أو الأرض في تمييز الجماعات أنّها أهمّ عامل في تكوين [شخصيّة الجماعة]. ويضيف:" فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها.. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة.." هكذا ينهي سعادة الخلاف بين وجهتي النظر (حيدرـ انعام) بالتأكيد على ما أورده الأمين الراحل انعام رعد من أن التفاعل مع البيئة الطبيعية هو السبب في ظهور الجماعات ـ المجتمعات البشرية وتمايزها بعضها عن بعض، وليس تمايزها كمزيج سلالي ينتهي بنا للقول بنشؤ جماعات سلالية وفق البيئات التي تقيم فيها تلك الجماعات ( المتمازجة سلاليا)، كما ونضيف على ما جئنا به أعلاه أن الأمين رعد لا يقصر التفاعل على التفاعل مع البيئة الطبيعية بل يشمل التفاعل وفق ما يذهب اليه رعد على التفاعل بين المجتمع والبيئة بين الانسان وبيئته وبين الانسان والانسان في البيئة الواحدة ، فالإنسان هنا هو الجماعة ـ المتحد ـ الأمة ـ الواقع الاجتماعي البحت، التفاعل ليس بين فردٍ وأرضه، إنه تفاعل الجماعة بمجموع أفرادها وبمجموع أجيالها وإلا فأي معنى يمكن أن يكون عليه تعريف سعادة للأمة السورية بأنها "وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.. "
ونضيف أن القول " الأمة هي (بدولتها) صانعة ظاهرة التفاعل مع البيئة، لا التفاعل صانعا الأمة." ليس قولا مغلوطا وحسب، بل هو متناقض بالمطلق مع قول سعادة الذي يقول:" ورأينا أيضاً كيف أنّ الثّقافة النّفسيّة جارت الثّقافة الماديّة وقامت عليها، إذ الحياة العقليّة لا يمكن أن تأخذ مجراها إلاّ حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات. ولذلك نجد التّطوّر الثقافيّ بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى ممّا في سواه.." مضيفاً :" تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس الماديّ للاجتماع البشريّ وأحواله وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسيّ لهذا الاجتماع. ولعلّ الدّولة أجدر الشّؤون والمظاهر الثّقافيّة تمثيلاً للحياة العقليّة الّتي هي من خصائص الاجتماع الإنسانيّ حتى ليمكن القول إنّ الثّقافة الإنسانيّة والدّولة صنوان.." مما يعني أن الدولة، كشأن ثقافي تأتي نتيجة لا سببا في التفاعل بين الانسان وبيئته الطبيعية..
يتابع حيدر، خروجه العقدي بنقده للأمين رعد في قوله:" قول الكاتب، إن التفاعل هو لبُّ الحركة التاريخية.. نراه حكما قاطعا غبر مدعوم ببرهان.."
هذا القول لا يحتاج الى برهان فعندما يقول سعادة في مبدئه الرابع:" وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.. " يعني هذه الحركة التاريخية في التفاعل بين الانسان والانسان وهذا مع بيئته في تعاقب أجياله، مما يؤدي بطبيعة الحال الى نشؤ تلاحم وتجانس عبر التاريخ بين أفراد جيل والجيل التالي كما الجيل السابق تجانس (عقـلي وفيزيائي) وتجانسا في الرد على (محرضات البيئة)..
المسألة السادسة التي يثيرها الأمين حيدر في نقده للأمين رعد قوله: "قول الكاتب، التفاعل يُنتج الأمة، هو قول تدحضه الاعتبارات التي ذكرناها.." نرد هذا القول ايضا الى " الاعتبارات التي ذكرناها آنفاً"
يقول الأمين حيدر في "سابعا": قوله (رعد) إن التفاعل جوهر فلسفة سعادة.. والحق يُقال إن تعبير (الفلسفة الاجتماعية) عند سعادة يقتضي القول بالتفاعل الاجتماعي ( بين الانسان والانسان) وليس بالتفاعل الاجتماعي ـ الطبيعي، ثم أيعقل أن تكون فلسفة سعادة الاجتماعية جوهرها الاقتصاد.." مسألتان يثيرهما هذا النقد، الأولى هي أن سعادة قال بالفلسفة القومية الاجتماعية وليس بفلسفة اجتماعية، وتقديم مصطلح القومية على مصطلح الاجتماعية أن الأولى تفترض الثانية وتقوم عليها من حيث الخصائص والصفات تبعا للظروف والأوضاع والأحوال التي يمر بها المجتمع، ثانيا لم يقل سعادة وتاليا رعد أن فلسفة الأول جوهرها الاقتصاد، إلا إذا كان فهم الأمين حيدر للعلاقة مع الطبيعة ـ البيئة، على أنها علاقة اقتصادية، وهذا ما ينفيه كلاهما، فسعادة يقول:" يجب أن لا نتصوّر الرّابطة الاقتصاديّة عبارة عن عمليّة اقتصاديّة أو غرض من أغراض الرّبح الاقتصاديّ، بل مصلحة تأمين حياة الجماعة وارتقائها.. (وعليه) إذا كانت الرّابطة الاقتصاديّة أساس الرّابطة الاجتماعيّة البشريّة، فالعمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع... وهكذا الجماعات شخصيّاتها مرتبطة بالأرض الّتي تملكها ارتباطاً وثيقاً، بل قوام شخصيّاتها البيئة. الوطن.. ويضيف قائلاً:" لا بدّ لنا.. من تقرير حقيقة ضروريّة لفهم تركيب المجتمع..، هي حقيقة الضّرورة الاقتصاديّة للاجتماع البشريّ. فالرّابطة الاقتصاديّة هي الرّابطة الاجتماعيّة الأولى في حياة الإنسان أو الأساس الماديّ الّذي يقيم الإنسان عليه عمرانه.. والتّطوّر الاجتماعيّ هو دائماً على نسبة التّطوّر الاقتصاديّ.." يضيف سعادة على قوله المتقدم:" إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة، الّتي تتأثّر كثيراً بعامل البيئة.." أما رعد فيقول:" لا يمكن حصر الصراع الاجتماعي في ظاهرة الصراع الطبقي، إن الثورة القومية الاجتماعية عند سعادة.. أشمل من الثورة الاقتصادية المشكلة ليست مجرد مشكلة انسان وطبقات، في أمتنا جيوب طائفية عنصرية.. في أمتنا مفهوم الأكثرية الطائفية.. هذه المشكلة لا يمكن أن تحل بتبديل علاقات الانسان بوسائل الانتاج.. و تبقي مفاهيم المجتمع كما هي.."
في ثامناً، يقول الأمين حيدر:" القول بأن التفاعل ينتج الدورة الاجتماعية ـ الاقتصادية، عند سعادة، صحيح، ما دام الكاتب يفهم من تعبير "التفاعل" تفاعلاً للجماعة مع بيئتها.." ليس هذا وحسب، بل إن التفاعل مع البيئة لا يتم بين أفراد وبيئتهم كل منهم على حدة، بل بين بعضهم البعض أيضا..
أما في تاسعاً، فالمسألة تبدو مستغربة، بل ومتناقضة تناقضا مطلقا مع مفهوم سعادة للأمة حيث يقول الأمين حيدر:" القول بأن دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية هي جوهر الوجود القومي أي (الأمة)، فهو مرفوض من سعادة إذ الأمة وجود مادي ـ روحي، فمن حيث مادتها، الأمة هي المزيج البشري المشترك، ومن حيث روحها، الأمة في الشعور المشترك لدى أبنائها بحقيقتهم الواحدة.."
سعادة وفي مختلف كتاباته وخطبه لم يقل في يوم أن "الأمة من حث مادتها هي المزيج البشري المشترك" سعادة وفي معرض حديثه عن السلائل البشرية، يقول أن الارتحالات الكبرى التي كانت تدفع بالجماعات لترك موطنها الذي نشأت به، سعيا وراء الرزق، دفع بها للتمازج والسلالات المضيفة، وتاليا عدم وجود سلالة صافية نقية، وهذا ما تؤكده الأدلة الرأسية التي يمكن أن تكون عامة في البشرية نتيجة هذا التمازج، وعلى الرغم من أن الأدلة الرأسية تكون عامة في السلائل المنحطة كذلك في الجماعات المتفوقة، فإن نسبة هذه الى تلك هي التي تحدد مدى استجابة الجماعة المتكونة من هذا المزيج لمحرضات البيئة..
يتضح مما تقدم كيف يفهم الأمين حيدر المقولة الأبرز في فلسفة سعادة المدرحية أي (دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية) ويقف معترضا عليها، في مختلف انتقاداته لما سماه ( مدرحيات التلامذة) فالمدرحية بالنسبة له هي في كون مادة الأمة مزيجها البشري ومن حيث روحها، الأمة في الشعور المشترك لدى أبنائها بحقيقتهم الواحدة، بناء على موقفه من كتاب نشؤ الأمم واستثنائه له من كونه ممثلا للفلسفة القومية الاجتماعية ـ المدرحية..
نعيد ونكرر أن الفلسفة المدرحية تقوم على مقولتين رئيسيتن: الأولى هي "أن المادة تعين الشكل"، أي البيئة الطبيعية هي التي تقرر ماهية المجتمع المتفاعل بها ومعها، الثانية هي "دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" التي تقرر المرتبة الثقافية التي يكون عليها المجتمع، فمادة الأمة هي بيئتها أما روحها (شكلها) فهو دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية.
تعت عنوان /نسبة الأمة للبيئة/ يقدم لنا الأمين حيدر اجتهاده في أن الأمة هي غير البيئة يقول:" إذن البيئة عامل من عوامل نشؤ الأمة، الأمة، واقع اجتماعي في حين البيئة واقع طبيعي، لكنما العلاقة بينهما علاقة حيوية إذ تقدم البيئة للأمة إمكانيات الحياة.." يضيف:" نعتقد أن الاتحاد في الحياة (أو الاشتراك في الحياة) يكون بتفاعل القوى الإنسانية المؤلفة للجماعة البشرية المستقرة في القطر بعضها مع بعضها الآخر داخل القطر، ونعني بذلك تفاعل جميع العناصر والجماعات الإثنية وغيرها من الجماعات التي استقرت في القطر فيما بينها تفاعلا تذوب لشدته جميع الحدود السلالية، الحواجز الاجتماعية ويظهر الى الوجود جسم اجتماعي جديد هو الأمة من حيث مادتها.."
المدرحية، عند سعادة، في قوميته الاجتماعية، هي، أن ترى الشمس، شمسا واحدة، لا شمسين، لأنه في الحالة الثانية، أنت مصابٌ بالحول لا محالة، هي، (الزمكان) وليس الزمان والمكان، وفق ما يذهب اليه "أنشتاين" في نظريته النسبية، الزمان والمكان، مصطلحان، يَفهم من خلالهما العقل البشري، وفق فيزيولوجيته، ما يحيط به، لكن ما يحيط به هو شيء واحد، العلاقة الفيزيائية (من حيث أن الكون مجرد علاقات فيزيائية وفق أنشتاين)، بين الأرض والقمر هي ذات العلاقة بينهما وبين الشمس أو المريخ أو زحل وإن اختلفت الكتلة والمسافات بينها..
المتاهة التي يضعنا فيها الأمين حيدر هي أنه يتركنا نفسر مصطلحاته التي يستخدمها بتفاسير قد لا تتوافق والمفاهيم التي يستخدمها هو بها، فهو لا يبين لنا الفرق بين التفاعل والترابط على سبيل المثال، أو بين الواقع الاجتماعي والواقع الطبيعي، حتى في موضوعة " جسم اجتماعي جديد" أهو مزيج سلالي أم أنه سلالة جديدة، أو هل هو مجرد تلاقح بين السلالات المستقرة في البيئة، أم هو نواميس جديدة من عادات تحولت الى تقاليد أم هو كل ما تقدم..، ويحيلنا الى سعادة الذي يستخدم كلا المصطلحين ( ترابط وتفاعل) في مختلف الموضوعات التي يثيرها علم الاجتماع..، وللخروج من هذه المتاهة، علينا بداية، أن نحدد المقصود، المفهوم، من كلٍ من الترابط والتفاعل، لنمايز بين مصطلحات حيدر ورعد، فالترابط لغويا، يفيد بالتلاحم والتماسك والوحدة، اجتماعيا، يفيد تحديد طبيعة علاقة الفرد بالجماعة في كل مجتمع، والشعور بالترابط من أهم الدعائم التي تحافظ علي استقرار ونمو المجتمع، وهو يشير إلى مدى شعور أفراد المجتمع بالترابط مع مجتمعهم، والمشاركة الإيجابية في أنشطة المجتمع، والدفاع عن مصالح المجتمع، والشعور بالفخر والاعتزاز بالترابط المجتمعي..
أما التفاعل (الذي يستخدمه حيدر في بيان ما هو عليه الترابط) التفاعل الاجتماعي هذا، هو بشكل عام نوعاً من المؤثرات والاستجابات، وفي العلوم الاجتماعية يشير إلى سلسلة من المؤثرات والاستجابات التي ينتج عنها تغييرا في الأطراف الداخلة فيه عما كانت عليه عند البداية، أو هو التأثير المتبادل بين طرفي أو الأطراف الداخلة في التفاعل، بحيث ينتج عنهما شيئا واحدا أو أشياء أخرى..
يُفهم مما تقدم، أن الترابط إرادي، أما التفاعل لا إرادي، التفاعل موضوعي، بينما الترابط ذاتي..
التفاعل والترابط، مختلفان من حيث الموضوع، الترابط ذات اتجاه مجتمعي، أما التفاعل فذات اتجاه اجتماعي ـ بيئي، اجتماعي ـ طبيعي، اجتماعي ـ موضوعي.
بين الواقع الاجتماعي والواقع الطبيعي
الواقع، أكان اجتماعيا أم طبيعيا، فهو للدلالة على ما هو قائم أو الذي لا انفكاك منه، فالواقع، موضوعيا كان أم ذاتيا، هو مُعطى يصف الحالة الراهنة، كما هي لا كما يمكن أن تكون عليه، بما لا يعني أنه، علميا، لا يمكن أن يكون استشرافيا، أي أبعد من أن يكون راهنيا، بمعنى آخر، أنه يمكننا اعتبار نظرية "هوكينغ" في "إشعاع هوكينغ" أو "الانفجار الكبير"، واقعا لا انفكاك منه، بمعنى آخر أن هذا الكون وليد كون سابق له ومقدمة لكون جديد يولد به الزمان والمكان من جديد.. وهو(الواقع) في مختلف الأحوال، يشكل مادة المعرفة..
فأي من المفاهيم المتقدمة يمكننا فهم سعادة عندما يقول:"أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيراً يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعاً لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته.. أماعلاقة الطّبيعة بالإنسان فهي مزدوجة. ففي الدّرجة الأولى نجد أنّ بيئة الإنسان الطّبيعيّة هي الّتي تمدّه بالموادّ الخام اللاّزمة له لإرضاء شعوره بالحاجة. وهي في الدّرجة الثّانية مشهد أعماله وسعيه لبلوغ أربه مداورة (غير مباشرة).. أنّ امتياز الإنسان على الحيوان في سدّ حاجته مداورة ــ بإعداد الأدوات للصّيد والقتال والبناء وغير ذلك ــ جعل علاقته بالأرض أمتن من علاقة سائر الكائنات الحيّة بها إذ هو يقدر على معالجتها مباشرة فحيث لا نبات صالح لغذائه يحفر في الأرض وينقب ويزرع. وحيث بعض الحبوب والنّباتات واللّحوم لا تصلح لتناولها مباشرة يعمد الإنسان إلى معالجتها بالطّبخ والشّيّ. فالأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يردّ الفعل ويكيّفها. وإلى هذه العلاقة المتينة يعود تفوّق الإنسان على بقيّة الحيوانات في تنازع البقاء. يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة.." ويضيف " وهذه الخصائص هي الّتي تعيّن وجهة تقدّم الإنسان في سدّ حاجاته مداورة ــ أي مدنيّته. بل إنّ البيئة هامّة لتقدّم الإنسان بقدر ما هي الأرض عموماً هامّة لحياته. ولمّا كانت البيئة جزءاً من الأرض فهي هامّة لحياة الإنسان أيضاً. فمن جميع الموادّ الّتي يتطلّبها الإنسان لحياته في كلّ مكان بشكل يسدّ حاجة الحياة مباشرة أو مداورة."
يستخدم سعادة في شرحه لعلاقة الانسان بالطبيعة أو البيئة مصطلحات مثل " تأثير" مزدوجة" "علاقة" "مباشرة" "مداورة" "يرد الفعل"
العلاقة هي إذن موضوعية وليست ذاتية، هي كذلك، لأنه " لا يختار الإنسان المجتمع الّذي يعيش فيه أكثر ممّا يختار والديه، ولكنّه قد يخير أمّه على أبيه أو العكس".. تفاعلية وليست ترابطية كما يرى الأمين حيدر، والواقع الذي يفهمه سعادة إذن هو واقع "اجتماعي ـ طبيعي" وليس واقع اجتماعي وحيد الجانب، يقول سعادة:" شرط المجتمع، ليكون مجتمعاً طبيعيّاً أن يكون خاضعاً للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة تشمل المجموع.." هنا نجد تعريف سعادة للاتحاد في الحياة" أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة.." وليس كما يذهب الأمين حيدر بقوله:" نعتقد أن الاتحاد في الحياة (أو الاشتراك في الحياة) يكون بتفاعل القوى الإنسانية المؤلفة للجماعة البشرية المستقرة في القطر بعضها مع بعضها الآخر داخل القطر"
" الأمة ليست البيئة" كما يقول الأمين حيدر، الأمة كيان بشري، قوامه المادي، بيئته الطبيعية، وشكله المتحد، الجماعة، المجتمع، عملا بمقولة سعادة الرئيس" المادة تحدد الشكل" أما المزيج السلالي فهو في حركة مستمرة من التطور لا يعرف ثباتا أو سكونا، فبدئا من منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وبدء الهجرات العربية من الجنوب الى سورية الطبيعية وتمازجها مع سكان سورية الأصليين مرورا بالهجرات الآتية من الشمال "الملوك الرعاة( الهكسوس) أو الحثيين الى القبائل المهاجرة من الغرب ـ بحر إيجة وقبائل الفلاستي، وقيام الإمبراطوريات السورية والتي وصل بعضها حتى موسكو في الشمال، الى الغزو الفارسي على يد قورش الى الاحتلال اليوناني على يد الاسكندر الكبير وقيام الدولة السلوقية الى الاحتلال الروماني و تبوء أباطرة سوريون للعرش الإمبراطوري الروماني الى الفتح العربي وقيام الإمبراطورية الأموية ومن ثم العباسية الى الغزوات الصليبية فالاحتلال العثماني فالفرنسي ـ البريطاني ، كل هذا التاريخ الحافل بالتمازج بين مختلف الشعوب ، شكل وبنسب متفاوتة المزيج الحالي السوري الذي ما يزال يمضي قدما بتطوره بقدوم الهجرات الأرمنية والتركمانية والشركسية.. ينتج "مادة" الأمة، والتي هي " وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع الى ما قبل الزمن التاريخي الجلي" ولنفرض جدلا، أن سعادة عنى "بوحدة الشعب السوري" مزيجه السلالي" فهل يقصد بذلك نشؤ مزيج خاص بالأمة السورية دون سواها، بمعنى: هل السلالات التي ضربت في الأرض، عبر ارتحالاتها الكبرى، اقتصرت على سورية دون سواها، أم أنها تشاركت( سورية) مع غيرها من البيئات، استقبال واحتواء هذه السلالات، فتشكل بنتيجة الحال، مزيجا سلاليا، له خصائصه البيولوجية والفيزيولوجية والسيكولوجية الناتجة عن نوعية تفاعله بعضه مع بعض من جهة وبيئته الطبيعية من جهة أخرى؟ فتمايزت الأمم وفق نتائج هذا التفاعل المزدوج بين الانسان وبيئته وفق شروط الأخيرة وسوية تلك السلالات بين منحط وراقٍ؟ هذا التمايز بين الأمم لا يجد تعبيرا له إلا في دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تقوم عليها، كما يقول سعادة:" كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة (أي دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية ) الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ.."
يدفعنا الأمين حيدر، دفعاً، لنقاطٍ خلافية، هي في مختلف الإشكاليات التي يثيرها، ليست خلافية أصلاً، فهو يُصر، ويجتهد ويُجهد نفسه، في البحث عما يؤكد وجهة نظره التي تنتهي للقول: " تحصيل ذلك، أن الأمة واقع اجتماعي لمزيج بشري اشتركت في حصوله الجماعات الإثنية والعناصر التي استقرت في البيئة الطبيعة، إن تفاعل هذه الجماعات فيما بينها ضمن القطر هو قانون نشؤ الأمة، وليس تفاعل هذه الجماعات مع البيئة الطبيعية الذي هو قانون ظهور خصائص، ومزايا الأمة، وشخصيتها، وثقافاتها، التاريخية المادية والنفسية "
بين "قانون نشؤ الأمة" و" قانون ظهور خصائصها" بين "الواقع الاجتماعي" و"الواقع الطبيعي" بين الشيء ودرس نشؤه" و" الشيء وشرطه" وبين" الشيء وصفاته" بين " العلم ومقولاته والفلسفة ومقولاتها" بين "مفهوم التفاعل قبل نشؤ الأمة ومفهومه بعد نشؤ الأمة" بين "زمان الأمة وزمان السلائل" بين "ما هو طبيعي وما هو صنعي" وفي كل ما تقدم لا يبين لنا كيف علينا أن نفهم هذه ال (شتان بين هذا وذاك)..
سبق لنا وأشرنا، مراراً وتكراراً، على أن المدرحية كفلسفة اجتماعية، لا تسمح عمليا بما يمليه الـ (نظريا) على الواقع، الوجود، المعرفة، المادي، الروحي.. بين الشيء وشرطه وصفاته ودرسه و.. الخ
في المدرحية هناك حقيقة، هي ليست وجودا كما وليست معرفة، هي ركناها، هي باطنها وظاهره، هي جوهرها ومظهره، هي مضمونها وشكله، هي مادتها وشكلها، فعندما يثير الأمين حيدر إشكالات كالواردة أعلاه فهو يُخرجنا على مفهوم المدرحية بكليته، نظريا، لا ينفي أحد أن الأمة مزيج سلالي وأن البيئة الطبيعية بوتقة انصهار هذا المزيج، مدرحيا، هما "دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" وهذا ما عبر عنه سعادة بوضوح لا غموض في أي من جزئياته عندما عرَّفَ "وحدة الحياة" أو "الاشتراك بالحياة" بالدورة الاجتماعية ـ الاقتصادية يقول:" :" شرط المجتمع، ليكون مجتمعاً طبيعيّاً أن يكون خاضعاً للاتّحاد في الحياة والوجدان الاجتماعيّ، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة تشمل المجموع.."
فعندما يقول:" أن المزيج السلالي هو مادة الأمة" كون الأمة "واقع اجتماعي" بناءً على " إن تفاعل هذه الجماعات فيما بينها ضمن القطر هو قانون نشؤ الأمة" لا يفيدنا كيف يتم هذا التفاعل بمعزل عن البيئة" كواقع طبيعي" لأنه من حيث المبدأ، كـ "تفاعل" لا بدَّ له من موضوع يكون المحور الذي تدور في فلكه مستويات ذاك التفاعل في ما بين تلك الجماعات والذي يُصر على أنه "يتم ضمن القطر" إذن فالتفاعل ليس عشوائيا أو مطلقا أو كيفما اتفق، إنه تفاعل مشروط بالبيئة لأنه "يتم ضمن القطر" هذا التفاعل بين الجماعات والذي موضوعه و محوره البيئة الطبيعية والذي تتمايز بنتائجه جماعة عن الأخرى، هو ما يسمه سعادة بـ" دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" الّذي منه تنشأ التّقاليد والعادات واللّغة والأدب والدّين والتّاريخ.." والتي على أساسها تتمايز أمة عن أخرى، وفق سعادة، أيضا، فدورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية هي البوتقة التي ينصهر فيها قطبي الأمة، البيئة والجماعة دونما فضل من واحد على الآخر، فالبيئة الجيدة تحتاج لمزيج سلالي راق، وفي الحال المعاكسة تكون كما يقول سعادة:" فحيث كانت الأرض خصبة والجماعة البشريّة عديمة الخبرة في الأرض لم ينشأ عمران، كما هو الواقع في أودية أميركا الخصبة الّتي ظلّت عديمة العمران إلى أن جاءت أميركا أقوام جديدة راقية في خبرتها بطبيعة الأرض واستعدادها للاستفادة منها.." والعكس صحيح أيضا.
تحت عنوان "الأمة غير الاقتصاد" يثير الأمين حيدر إشكالية أيهما الأسبق " الشأن القومي والشأن الاقتصادي" في قول الأمين رعد " وهكذا فالقومية الاجتماعية اعتبرت منذ البدء أن الشأن القومي هو بالضرورة منطلق فهم الشأن الاقتصادي، لأن الأمة هي ذات دورة اجتماعية ـ اقتصادية واحدة، ولأن الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى" ليعلق الأمين حيدر قائلاً:" كأني بالكاتب يريد أن يقول هناك شأن قومي وهناك شأن اقتصادي والشأن الثاني يفتقر الى الشأن الأول على مستوى فهمنا له، أو نقول أن هناك شأنين وليس شأنا واحدا هما الشأن القومي والشأن الاقتصادي وعلاقة الثاني بالأول علاقة التابع بالمتبوع، مثل هذه الفكرة ينتج عنها فكرة أن الشأن القومي غير مطابق للشأن الاقتصادي أو أن الأمة غير الاقتصاد.. وفي قوله اللاحق بأن الأمة ذات دورة اجتماعية ـ اقتصادية وليست الأمة دورة اجتماعية ـ اقتصادية "
في القول أن الشأن القومي منطلقا للشأن الاقتصادي، لا احتمال لمجمل التأويلات التي جاء بها حيدر، فالمقصود من قول الأمين رعد واضح لا لبس فيه، فالشأن القومي هو منطلق للشأن الاقتصادي يعني أنه لا يمكن قيام اقتصاد قومي إلا في نطاق قوميته الشاملة لمختلف كيانات الأمة من حيث أن الأمة هي ذات دورة اجتماعية ـ اقتصادية واحدة، يقول سعادة:" الدولة هنا هي الدولة القومية فقط. الدولة التي يصح القول فيها أنها قومية تشمل المجتمع القومي كله، ذا الدورة الاقتصادية الكاملة التامة.. نحن نعتقد أن درساً اقتصادياً صحيحاً من الوجهة القومية على أساس نظام سياسي لا قومي صحيح، هو درس عقيم لا يمكن أن يعطي نتائج صحيحة.. إذاً العملية الاقتصادية، الاقتصاد كموضوع لأمة ولشعب لا يمكن أن ينظر إليه إلا بالمنظار القومي بمنظار المجتمع الموحد، الأمة التي هي وحدة جماعة ووحدة أرض، وحدة اقتصاد.." ما تبقى من هذه المقالة يبقى مجرد اجتهاد لا أساس قومي اجتماعي له..
تحت عنوان آخر "علاقات الانتاج طبقية "
يعلق أيضا الأمين حيدر على قول الأمين انعام رعد القائل:" وإذا كانت كل المذاهب الاقتصادية المعاصرة، قد انصبت على موضوعة علاقات الإنتاج، فإن القومية الاجتماعية التي شاركت المذاهب المعاصرة اهتمامها بهذه الموضوعة وحددت موقفها منها إلا أنها اهتمت بنشؤ الإنتاج الذي بدونه لا تقوم علاقات انتاج.." بقوله (الأمين حيدر):"إن فكرة علاقات الإنتاج تفيد علاقات الاستغلال الطبقية.."
بالعودة لكتاب " بؤس الفلسفة" "لكارل ماركس" وهو الكتاب الذي تضمن مصطلح "علاقات الإنتاج" على الرغم من أن ماركس قد سبق وعرف المصطلح في كتابه " الأيديولوجيا الألمانية" للمرة الأولى، فإن المصطلح أخذ معنى" محصلة مجمل العلاقات الاجتماعية التي يجب على الناس أن تدخلها من أجل البقاء، إنتاج وإعادة إنتاج وسائل العيش.." وليس كما جاء به الأمين حيدر من أنها تفيد "علاقات الاستغلال الطبقية" بمعنى آخر، إن اضطرار الانسان لسد حاجته مداورة فهو يدخل تلقائيا في علاقة مع الآخرين، فعلاقة الإنتاج هذه قد تتخذ أشكالا عدة وفق شروط ضرورياتها، وإن كان ماركس قد اتخذ من هذا المصطلح ــ بناءً على شروط ضرورياتها ــ عدة مفهومات وفق المرحلة التاريخية التي يعالجها في مختلف كتاباته، وبناءً على المقولة الماركسية الأساس " التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية" والتي هي بالتعريف الماركسي:" المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره" على سبيل المثال، علاقات الإنتاج الرأسمالية من حيث سعر السلعة وعلاقتها بأجر العامل المُنتج لتلك السلعة علاقة القن بسيده؛ علاقة مالك العبد بعبده إلخ. تقابلها وتؤثر عليها ما أطلق عليها ماركس اسم قوى الإنتاج. هذا ماركسيا، قوميا اجتماعيا، فإن علاقات الإنتاج الناشئة عن شروط ضروراتها، تقوم على مقولة سعادة في "أن الاقتصاد لا يعني حقيقة سوى سدّ الحاجة أو تأمين سدّها بأقل مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنين.." والتي تختلف من حيث المرتبة الثقافية التي يتم فيها الإنتاج فعلى سبيل المثال عندما يكون الإنتاج يستغرق زمنا أكبر وجهدا أكبر بكثير من كمه ونوعيته، فإن المرتبة الثقافية لهذا الإنتاج متدنية أو متخلفة أو بدائية، في المرتبة الثقافية الثانية ـ والتي عليها حال الأمة السورية ـ يكون الإنتاج معادلا أو مساوياً للزمن والجهد، وتاليا فالإنتاج يبقى راكدا غير قادر على التطور وهو الحال الذي تعم فيه العلاقات الإنتاجية الاقطاعية، يقول سعادة بهذا الصدد:" والمرتبة الثّانية هي التي بلغتها الشّعوب الساميّة منذ أقدم عصورها المعروفة وهي المرتبة التي تحاول سورية الآن الخروج منها إلى المرتبة الثّالثة، وهي أساس هذه المرتبة الأخيرة.." أخيرا، فالمبدأ الإصلاحي القائل" تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج وانصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة.." يقف الى جانب الأمين رعد في قوله: " .. إلا أنها اهتمت بنشؤ الإنتاج الذي بدونه لا تقوم علاقات انتاج.." فسعادة يعتبر أن الإنتاج هو الهدف الأسمى من العملية الاقتصادية أيا كانت علاقاتها وقواها عموما..
ما تبقى من المقالة، يبقى موقفا يدان به الأمين حيدر حاج إسماعيل، لأنه اعتمد التهكم والسخرية وهذه مسألة شخصية لا علاقة لها ببحث يتناول قضايا كبرى
مدرحية وليد زيدان
في مختلف المقالات أو المحاضرات أو الدراسات التي تناولناها حتى الآن، والتي يسمها الأمين حيدر حاج إسماعيل، بالمدرحية، لم تكن أيٍ منها سوى اسقاطات لمفاهيم مدرحية على موضوعات ذات اتجاه سياسي أكثر منها موضوعات فكرية، تتناول المدرحية تحديدا كفلسفة، حيث يختلف البحث النقدي الفلسفي عن البحث النقدي الاجتماعي والسياسي على وجه التحديد..
"مدرحية" وليد زيدان، تقدم عرضا فكريا ـ سياسيا لماهية الطبقة ـ الطائفة يقول زيدان:".. إن مقولة الطائفة ـ الطبقة هي مقولة مدانة، لأنها الغطاء النظري للممارسات المنحرفة عند بعض أطراف "الحركة الوطنية" خاصة وأنه ارتكبت باسمها الموبقات والجرائم والممارسات الطائفية التي عُبِرَ عنها بالقتل على الهوية والتهجير الطائفي والقصف العشوائي دون تمييز.." منتقدا موقف الحزب الشيوعي في مقولته" الطائفة ـ الطبقة" "والتي كانت بدورها "تصحيحا خاطئا لمفاهيم سابقة خاطئة.." يفسر زيدان ما تقدم بقوله: "إن الطائفية مرتبطة بالواقع الاقتصادي وبالنظام القائم، لكن ليس لها علاقة محددة بطبقة معينة كما يحاول ربطها البعض، إنها نتيجة تطور تاريخي في المنطقة ولها أسباب موضوعية في واقع الأقليات وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.." والدراسة على وجه العموم ليست بحثا في المدرحية كفلسفة، بقدر ما هي مقارنة بين ما تدعيه الماركسية وما تقوله القومية الاجتماعية ـ المدرحية، في موضوع محدد كل التحديد / الطائفة ـ الطبقة/ وفي هذا السياق وبما يخدم الفكرة الرئيس..
يبدأ زيدان طرحه فيما قاد اليه المنهج الديالكتيكي بما يتعلق بالوضع اللبناني عام 1979 (تاريخ نشر المقالة) في أن المنهج الماركسي عبر مقولته "أسبقية المادة على الروح"، اعتبر أن الطائفية تزييفا للصراع الطبقي، لكن، وعلى الرغم من أن المدرحية تقول أيضا بأسبقية المادة على الروح ( النفس) اعتبرت أن " دراسة الظواهر الاجتماعية لا تتم في المطلق وفي التعميمات السطحية التي تأخذ بعض الحقائق الموضوعية المتوافقة مع نظرتها، وتتجاهل الحقائق الموضوعية الأخرى المناقضة لها، (ذلك) إن المنهج العلمي الصحيح هو المنهج القادر على تفسير جميع الحقائق والمعطيات والظواهر، وليس بعضها، وإلا وقع في التفسيرات الجزئية التي تنفي عنه الصفة العلمية الموضوعية ..إن أخطاء معظم المناهج وقصورها هو في كونها لم تستطع أن تحلَّ ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الإرادة الإنسانية ..تخضع دراسة الواقع الاجتماعي وظواهره، الى تحليل بنية المتحد الاجتماعي ومعرفة حركية الجماعة، لأن هذه الشخصية "مركب اجتماعي ـ اقتصادي نفساني، يتطلب من المرء أن يضيف الى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية جماعته، أمته.. الخ،" ويضيف قائلا:" يمكننا معرفة مختلف الظواهر الاجتماعية على أساس فهم الانسان ـ المجتمع ونسبة اليه نستطيع أن ندرك حركية الانسان العشائري والطائفي والطبقي والفردي.." يقول مضيفا:" الانسان ـ المجتمع ليس مطلقا بل هو دينامية متطورة لأنه حركة مستمرة يجب درسها وفهمها في كل لحظة من لحظات وجودها، هذه الحركة ليست حتمية ولا فوضوية عشوائية، بل اتجاه عام يحدد طرفي حركتها (المجتمع والانسان) تاركا المجال لحيز من الحرية التي هي اختيار الممكن والضروري.. إن منهجية سعادة لا تنظر الى الظواهر نظرة تراتبية لتحدد الأسبقية لمن، بل تنظر الى الظواهر على أساس مدى فعلها في حركية الانسان، الذي هو المقياس ونسبة إليه تُدرس الظواهر وتُقَيَّمْ، وتقسيم الواقع الى مادي روحي هو تقسيم اعتباطي وافتراضي ذهني، غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل."
في نقده لما تقدم، يطرح الأمين حيدر تساؤلاته ليجيب هو عليها، ملخصا إجابته بالنقاط التالية:
1 ـ ابتدأ بالقول بأسبقية المادة (الأرض على الحياة من حيث المنشأ.
2 ـ ذكر أن الوجود البشري بنية متفاعلة لها أساس مادي (لم يحدده)
3 ـ "المنهج المدرحي" صار بعد ذلك منهج انطلاق من مبدأ الانسان ـ المجتمع (لكننا لا ندري كيف تم هذا التحول).
4 ـ منهجية " الانسان المجتمع" أسقطت الفكر التراتبي بخاصة فكرة الكلام عن الأسبقية للمادة او الروح.
5 ـ الانسان ـ المجتمع هو مقياس الظواهر والقيم.
6 ـ الواقع الموضوعي يدحض تقسيمه الى مادي وروحي.
وهكذا تكون النتيجة الباهرة التالية: هناك واقع مادي ـ روحي وليس هناك واقع مادي ـ روحي (انظر 2و6) وتكون النتيجة الباهرة الثانية: حتى الآن لم نفهم ماذا يريد صاحب الدراسة أن نفهم من " المنهج المدرحي" وتكون النتيجة الباهرة الثالثة، سعادة يقول بالمدرحية والدارس لا يقول بها لأن تقسيم الواقع الى مادي وروحي هو تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل.
يلفتنا، يقول الأمين حيدر:" تعبير المتداخل وصفا "للواقع الموضوعي"، هل يريدنا الدارس أن نفهم من هذا التعبير أن "الواقع الموضوعي" تتداخل فيه الشؤون المادية والشؤون الروحية، فتصبح المادة والروح موجودتين فيه، وهما غير موجودتين؟
من وجهة نظرنا، أنه في هكذا أبحاث، لا يحق لنا اتباع أسلوب السخرية أو التهكم، في نقدنا لأي موضوع كان، فعلى النقد أن يكون موضوعيا بعيدا كل البعد عن المواقف الشخصية والذاتية وإلا فقد قيمته النقدية وأصبح موقفا شخصيا، لا يدان به الموضوع ولا صاحبه، بقدر ما يدين هذا الأسلوب صاحبه بالدرجة الأولى " فما أعطي لإنسان إلا أن يهين نفسه" كم يقول سعادة.
المقالة كما سبق وأشرنا، ليست بحثا في المدرحية، كفلسفة، بقدر ما هي إسقاطات لبعض مفهوماتها على موضوع معين تأخذ مدلولاتها الفلسفية والاجتماعية من السياق الذي وردت به، في محاولة لبيان اشكالاتها بهدف حل هذه الإشكاليات، أو إيضاح حقيقة مفاصلها الرئيسية والخلوص لحلول موضوعية مدعّمة علميا وتجريبيا في المجتمع، وهذا ما حاوله الرفيق زيدان.
وعليه فالنقاط التي استنتجها الأمين حيدر، بصيغة السؤال، والاستفهام، لم ترد في النص أساسا، فعلى سبيل المثال، قوله (الأمين حيدر): هناك واقع مادي ـ روحي وليس هناك واقع مادي ـ روحي مستندا لاستنتاجاته فيما يقوله الرفيق زيدان،:" إن تقسيم الواقع الى مادي روحي هو تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني، غير موجود في الواقع !!
سبق لنا وأشرنا لكون المدرحية كفلسفة ترى الوجود في وحدته، وليس في تشظياته التي تفترضها فيزيولوجية العقل البشري والتي بدورها، من حيث مادة المعرفة، هي نتيجة لافتراضات مقتبسة من ثنائية الليل والنهار، الأبيض والأسود الأعلى والأسفل، الأمام والوراء، اليمين واليسار.. الخ، فالوجود مثلا يفترض العدم، لكن العدم ليس سوى افتراض، والمادة تفترض الروح، لكن الروح ليست أكثر من افتراض من حيث هي شأن مستقل عن الانسان، أو من حيث هي كيان من خارجه وضعت به بقدرة الله والذي بدوره مجرد افتراض لحل التناقض بين العدم والوجود، اذ كيف يأتي الوجود من العدم؟ أو كيف كانت بداية هذا العالم وكيف يمكن أن تكون نهايته، فالبداية والنهاية مقولتان لا تتطابقان مع الوجود المادي تحديدا، لأن بداية الانسان باتت أكثر من مثبتة علميا من أنه قد نشأ بالتطور، نقول ذلك على الرغم من أن" ستيفن هوكينغ" قد بيَّن في كتابه" إشعاع هوكينغ" كيف هي بداية هذا الكون ـ العالم، وتاليا أيضا وأيضا، أنه لا وجود لمثل هكذا ثنائية في عالم هو مجرد علاقات فيزيائية، وفق "أنشتاين" فليس هناك زمان ولا مكان، كلاهما شأن واحد في الجوهر والمظهر أي " الزمكان" فالثنائية التي ألمحنا لها آنفا، ليست سوى رد فعل فيزيولوجي لآلية عمل العقل( المخ والمخيخ و البصلة السيسيائية) البداية والنهاية اذن مصطلحان افترضتهما فيزيولوجية العقل وألية معرفته، وليس لأن لهذا الوجود بداية ونهاية، بالمعنى الديني وليس بالمعنى الذي أثبته "هوكينغ" وأجاب به عن سؤال كان قد طرحه الانسان على نفسه منذ أقدم أطوار نشؤ معرفته لما يحيط به، يقول سعادة:" لم يعد يقنع (الادراك البشري) بالتّعليلات الخياليّة البحتة المعزوّة إلى افتراض وجود شخصيّة وراء نظام الكون تُحْدِثُ النّظام وتَحْدُثُ بلا نظام، إليها ينسب كلّ ما يقف أمامه عقل الطّفل وعقل البالغ المجرّد من العلم حائراً.." وعليه، فالواقع الموضوعي الذي يشير اليه الرفيق زيدان، " بالاعتباطي وافتراض ذهني" إنما يعني حقيقة ما تقدم، بمعنى أن المدرحية تنظر الى الواقع الموضوعي في وحدته وليس في تشظياته، وهذا المعنى واضح في قول زيدان:" إن منهجية سعادة لا تنظر الى الظواهر نظرة تراتبية لتحدد الأسبقية لمن.." طالما ان الوجود قد افترض العدم، وليس العدم هو الذي افترض الوجود، وتاليا، وبناء على أن الانسان هو الذي افترض العدم، فعليه تقع مسؤولية تأكيده أو نفيه باعتبار الانسان هو، وكما يقول الرفيق زيدان" المقياس" واليه تنسب معرفة الظواهر وتُقَيَّمْ (وليس القيم كما أشار الأمين حيدر).
يقول الأمين حيدر: "حتى الآن لم نفهم ماذا يريد صاحب الدراسة لنا أن نفهم من " المنهج المدرحي"
يحمل هذا السؤال في طياته الكثير من الاتهامات للرفيق زيدان، لكننا في تجاوزنا لهذا، نقول، لو أجاب الرفيق زيدان على تساؤلات الأمين حيدر، في دراسته، لخرج عن محورها الرئيس بما يمكن تسميته بالاستطراد ، فالدراسة بحد ذاتها لا تسمح بمثل إجابات لهكذا تساؤلات، فمجرد طرحها، يبقى طرحا غير مقبول، لكن وبناءً على قراءتنا للدراسة، نسمح لأنفسنا بإجابة الأمين حيدر على مختلف تساؤلاته، يقول الرفيق زيدان تحت عنوان "المنهج الفكري الخاطئ": " إن أخطاء معظم المناهج وقصورها هو في كونها لم تستطع أن تحل ما يبدو من تناقض بين حتمية التطور الاجتماعي وحرية الإرادة الإنسانية.." في قول الرفيق زيدان (ما يبدو من تناقض) نلمج (مدرحيا) أنه ليس هناك تناقضا في الجوهر وإن كان المظهر يوحي بذلك، أي إن حتمية التطور الاجتماعي لا تتعارض وحرية الإرادة الإنسانية إلا حيث شاء أو رغب بعض القاصرين علميا بحل إشكالات على حساب أخرى علما "بأن المنهج العلمي هو المنهج القادر على تفسير جميع الحقائق والمعطيات والظواهر، وليس بعضها، وإلا وقع في التفسيرات الجزئية التي تنفي عنه صفة العلمية.." كم يقول زيدان.. ونضيف على قول الرفيق زيدان أن سعادة قد أشار لما يشير اليه الرفيق زيدان قائلا:" إنّ التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أنّ الأرض هي أحد الافتراضات الّتي لا بدّ منها لنشوء التّاريخ. والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة.." سعادة يؤكد في هذا القول أن الحتمية في التطور الاجتماعي، حيث البيئة(الأرض) أحد الافتراضات التي لا بدمنها لنشوء التاريخ، لا تلغي الحرية الإنسانية حيث " العوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة.."
لكن تبقى تساؤلات الأمين حيدر (كاتجاه من اتجاهات المناهج الفلسفية) بحاجة للإجابة عليها طالما أن عنوان مقالتنا هذه هو ( المدرحية..)
يقول الرفيق زيدان أن المنهج المدرحي، هو منهج علمي موضوعي يأخذ الكل دون استثناء:" إن المنهج العلمي هو المنهج القادر على تفسير جميع الحقائق والمعطيات والظواهر وليس بعضها.. (ويضيف) المطلوب هو منهج علمي لمعرفة الوجود الانساني، أما مقولات ما قبل الوجود فهي ليست موضوع علم الاجتماع، تنطلق القومية الاجتماعية من الوجود البشري كبنية متفاعلة لها أساس مادي وبناء روحي ـ بمعنى الفكر، الثقافة.. ـ دون أن تخلق ميتافيزيقا لما قبل الوجود، وتعتبر موضوع بحثها هو الانسان ـ المجتمع وليس الانسان ـ الفرد وهي لا تطرح المشكلة من الزاوية التي تطرحها المادية أو المثالية بل تنطلق من الوجود الإنساني وتقول بأسبقية الانسان ـ المجتمع" على الفرد..
إذن، يحدد الرفيق زيدان المنهج المدرحي بالمنهج العلمي الموضوعي وموضوعه الانسان ـ المجتمع، وهذا ما تسمح به الدراسة من حيث هي دراسة في الطائفة ـ الطبقة.
لكن ما هو المنهج بشكل عام وما موضوعه وما هي أدواته و. الخ؟
المنهج بشكل عام مجموعة من الإجراءات والخطوات والاختبارات والقواعد التي يتبعها الانسان لبلوغ حقائق وجوده، ولنقل أنه، أسلوب، صيغة، كيفية، وسيلة، لبلوغ الحقيقة، تختلف المناهج وفق موضوعاتها فهناك من يعتمد الحدس والتمثيل، وهناك من يعتمد منهج الشك أو المنهج الظواهري والتحليلي والبنيوي والمنهج الفيلولوجي. منهج تجريبي ومنهج علمي ومنهج سلوكي.. الخ وما نعتقده أن سعادة قد حدد بعضا من ملامح أو مواصفات وخصائص منهجه المدرحي عندما قال: " أنّ النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة (منهج تحليلي لتلقط المتكرر أو المستمر في تأثيره على حركة الوجود المادي أو الاجتماعي) لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. (غير حتمي أو مطلق قابل للتغير أو التطور أو التبدل..) وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب ألا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب ألا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. (عدم التناقض الذاتي أي ألا نعتمد في بلوغ الحقيقة على جملة من المعلومات أو المعارف المتناقضة بعضها مع بعض) فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب ألا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، (عدم التناقض الموضوعي أي تناقضه مع حقائق مثبتة علميا..) فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع. (أي أن العام لا يمحو الخاص فكلاهما في وحدة وإلا نكون قد دخلنا في تناقض ذاتي، تناقض الشيء مع ذاته) وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب ألا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة.." (عدم التعميم).
فالمنهج المدرحي الذي يرسم مناحيه سعادة هو منهج تحليلي في الدرجة الأولى ليس حتميا ـ مطلقا بالدرجة الثانية ليس متناقضا ذاتيا وموضوعيا، والعام فيه لا يمحو الخاص، وبناء على هذه المواصفات أو الخصائص، يمكننا القول أن المنهج المدرحي هو منهج تحليلي وتركيبي في آن كما هو وصفي ومعياري في آن أيضا، هو منهج يحلل الظواهر حتى منتهى جزئياتها، يقول سعادة في جزئية متناهية في الصغر".. فهذه الصّفات المشتركة تظهر بقوّة في الشّعوب الّتي لمّا تحرّكها الثّقافة الزّراعيّة التجاريّة وساعدتها أحوال معاشها الضّيّقة على حصر قواها النّفسّية في بعض المظاهر المحدودة. ونرى أذواق هذه الجماعات مشتركة حتى في الطّعام. فهم، لجوعهم، يزدردون الطّعام بطريقة لا تسمح بالتّلذّذ به على حدّ الجماعات الرّاقية، حتّى إنّ بعض العلماء يذهب إلى جعل درجة لذّة الطّعم في عداد الفوارق بين الأقوام الأوّليّة والشّعوب الرّاقية.." ليبني بعد ذلك بناء حقيقته ـ نظريته، هو منهج يرى الواقع كما هو دون تزييف، يفرز المتكرر والمستمر عن الطفرة أو الآني، اللحظي، ليصل في نهاية المطاف الى العام الذي يتكامل مع الخاص، فعلى سبيل المثال، عندما ينطلق المنهج من حقيقة أن الاجتماع خاصة ملازمة للبشرية وأن البيئة الطبيعية لها القول الفصل في تمايز الجماعات، وتاليا أن المجتمع ـ الانسان هو ما تسعى اليه، لا تستثني في هذا كون العوامل الفاصلة في التاريخ هي العوامل النفسية والفردية على الرغم من قولها إن الفرد مجرد إمكانية اجتماعية..
لكن كيف توصل الأمين حيدر الى" النتيجة الباهرة الثالثة، سعادة يقول بالمدرحية والدارس لا يقول بها لأن " تقسيم الواقع الى مادي وروحي هو تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل" لافتا الى وصف ـ المتداخل ـ للواقع الموضوعي وخالصا لنتيجة رابعة (باهرة ـ وفق حيدر) الى أن التداخل في الشؤون المادية والشؤون الروحية فتصبح المادة والروح موجودتين فيه وهما غير موجودتين؟" لكن كيف هما موجودتين في الواقع الموضوعي وليستا موجودتين فيه، فهذا ما لا يخبرنا به الأمين حيدر، وما علينا في حالة من هذا النوع سوى الاجتهاد في أن سعادة يُقسم الواقع الموضوعي الى مادي ـ روحي، بينما الرفيق زيدان يعتبر تقسيم سعادة مجرد (تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل) فإذا كان اجتهادنا صحيحا، فالأمين حيدر يُحمِّل أو يُقوِّل الدراسة ما لم تقله ، فإشارة الرفيق زيدان الى "أن تقسيم الواقع الى مادي وروحي هو تقسيم اعتباطي وافتراض ذهني غير موجود في الواقع الموضوعي المتداخل.." يعني أن المدرحية لا تقول بهذا التقسيم كونها من جهة أولى ترى الوجود المادي والروحي في وحدته، وأن كل ما يُجزئ هذه الوحدة هو مجرد فكر تأملي لا علاقة له بحقيقة هذا الواقع غير العابئ بمثل هكذا تأملات ومن جهة ثانية فقول الرفيق زيدان:" إن معرفة حركة الوجود كما هو لا تستلزم معرفة سر الوجود وكيفية الخلق وسائر المقولات الميتافيزيقية.." بما يعني أن المدرحية " لا تطرح المشكلة من الزاوية التي تطرحها المادية والمثالية لتقول بأسبقية المادة أو الروح، بل تنطلق من الوجود الإنساني وتقول بأسبقية الإنسان ـ المجتمع" وبما يعني أيضا، عدم التناقض الموضوعي من حيث أن الوجود المادي والاجتماعي أيضا والى حدٍ بعيد، لا يستلزم بحثا فيما يناقضه من افتراضات هي محض تأملية وتبقى افتراضية مهما قيل أنها غير افتراضية، ذلك وكما يقول الرفيق زيدان "إن دراسة الظواهر الاجتماعية لا تتم في المطلق وفي التعميمات السطحية والتي تأخذ بعض الحقائق الموضوعية المتوافقة مع نظرتها وتتجاهل الحقائق الأخرى الموضوعية الأخرى المناقضة لها.. لأننا عندما نُلمُّ بمختلف الظروف المجتمعية نتفادى الوقوع في الاجتزاء.. الانسان ـ المجتمع ليس المطلق الثابت، بل هو دينامية متطورة، لأنه حركة مستمرة يجب دراستها في كل لحظة من لحظات وجودها " هذه الإشارات، بمختلف توجهاتها لا تعني بأية حال ما ذهب اليه الأمين حيدر من أن" التداخل في الشؤون المادية والشؤون الروحية فتصبح المادة والروح موجودتين فيه (أي في الواقع الموضوعي) وهما غير موجودتين؟ ما يعنيه الرفيق زيدان بــ(التداخل) هو أن الواقع الاجتماعي في حالة من الحركة التفاعلية، تتمظهر من خلال حركته التفاعلية هذه في أحيان كثيرة، الشؤون المادية بمظاهر روحية(نفسية) والعكس صحيح أيضا، ويضرب أمثلته على حالات من هذا التداخل، فعنوان المقالة يحمل أول نوع من أنواع هذا التداخل، حين تتمظهر الطائفة بالطبقة، أو الطبقة في الطائفة يضيف قائلا:" لا يتحرك الانسان بصورة دائمة، بدافع المنفعة الاقتصادية (المادية)، كما وان وعيه (الروحي ـ النفسي) ليس دوما وفق موقعه من وسائل الإنتاج.." ولأنه في أحيان كثيرة أيضا لا تكون "منفعة العامل الاقتصادية متوافقة مع مصلحة الثورة.." على الدوام، على الرغم من أن الثورة تستهدف نقله من مرحلة العوز الى مرحلة الاكتفاء استقرارا وطمأنينة، يتضح ذلك من قوله:" إن كل منهج ثوري يستهدف قبل كل شيء تغير الواقع الاجتماعي، وهذا الواقع يختلف عن الواقع الطبيعي لوجود الانسان الذي يتمتع بمصالح مادية ـ روحية وعنده القدرات والقوى القادرة على الاختيار والعمل والوعي والتذكر.." بمعنى القدرة على تغير الممكن والذي يمكن لهذه القدرات أن تتجاوزه الى غير الممكن في محاولة لبلوغ درجة أعلى من سلم التطور، التغير، التبدل، الانتقال، التكيف مع المستجد من هذه الحركة، وهذه الحركة التفاعلية، بمختلف مترادفاتها ومسمياتها وخصائصها، ومواصفاتها، تبقى تعبيرا عن حالة من حالات التطور والرقي والتقدم.. ويضيف الكثير من الأمثلة الأخرى التي تتعدى الطائفة والطبقة، ويقارن بين ابن الجنوب اللبناني وعلاقته ب((اسرائيل)) وعلاقة الفلسطيني بهذا الكيان السرطاني وبما لا يدع للشك مكانا فيما يذهب اليه الرفيق زيدان ويدحض ما يؤوله الأمين حيدر حاج إسماعيل..
يميز سعادة بين المصلحة والمنفعة، فالمصلحة هي "كل ما تنطوي عليه النفس الإنسانية في علاقاتها.. المصلحة هي طلب ارتياح النفس وتحقيق ارتياح النفس هو غرض الإرادة.. المصلحة هي كل ما يولد عملا اجتماعيا." أما المنفعة فهي على عكس المصلحة، المنفعة شأن فردي، مصلحة فردية، فائدة فردية، خصوصية لا تتعدى نطاق الفردية..
من هذا المنطلق يطرق الرفيق زيدان باب الاقتصاد ليتساءل: "ما هو دور الاقتصاد في الانسان؟ وهل الاقتصاد هو المحرك الوحيد للإنسان؟ يجيب على سؤاله قائلاً:" لا يتحرك الانسان بصورة دائما، بدافع المنفعة الاقتصادية، كما أن وعيه ليس دوما وفق موقعه من وسائل الإنتاج (كما تقول الماركسية) لذلك ليست المنفعة الاقتصادية الأساس في التحريض الثوري والتوعية دائما، لأن منفعة العامل الذاتية لا تكون دوما متوافقة مع مصلحة الثورة.." يضيف:" ومن هذه الزاوية، يعتبر المنهج المدرحي أن المصلحة القومية الاجتماعية هي المقولة الثورية في التحريض والدافع النضالي للتوعية وعلى أساسها تقاس المنفعة الاقتصادية وكل منفعة أخرى.. المنفعة التي يمكن أن يحققها المواطن عبر طائفته أو عشيرته أو علاقاته الخاصة والتي تصل أحيانا الى حد العمالة والخيانة، هي منافع جزئية تتحقق على حساب باقي المواطنين، وتقضي على وحدة المجتمع.. الاقتصاد من ضمن هذه الرؤية، هو أحيانا يتضمن مصلحة اقتصادية تشكل عاملاً ثوريا يجب تعميمه وتعميقه، وأحيانا يشكل منفعة فردية سلبية يجب تجاوزها بالوعي الثوري النضالي.. ترى القومية الاجتماعية أن الثورة الفعلية هي التي تشمل البنى وعلاقات البنية التحتية والفوقية معا.. "
في نقده لما ورد أعلاه، يقول الأمين حيدر:" مما تقدم من نصوص، يتبين لنا أن رفيقنا صاحب الدراسة، يتجه اتجاها مختلفا عن الاتجاهات التي ابتدأها في فهمه للمنهج المدرحي فهو الآن منهج "بنية تحتية" و"بنية فوقية" وعلاقة التفاعل بينهما والتي يراها محددة بليستين هما: اللا تراتبية واللاسببية ويكون الحاصل الفكري الأخير للدراسة هو التالي:
المادة هي الأرض من حيث المنشأ
والروح هو الفكر والثقافة و..
والمدرحية هي الانسان المجتمع.
والمادة والروح تقييم اعتباطي وافتراض ذهني لا وجود له في الواقع، والمادة هي البنية التحتية أو الاقتصاد والروح هو االبنية الفوقية أو البناء النفسي."
سبق لنا وأشرنا، الى أن الدراسة لا علاقة لها بالمدرحية كفلسفة، فهي لا تبحث بها من حيث هي كذلك، لكنها (الدراسة) تُسقط بعض المفهومات المدرحية على واقع علاقة الطائفة بالطبقة وبالعكس، على سبيل المثال ما أوردته الدراسة من مفهوم الطبقة والطائفة والمصلحة والمنفعة والمنهج المدرحي والانسان ـ المجتمع والاقتصاد والبنى التحتية والفوقية.. الخ، هذا الاسقاط لا يتيح للأمين حيدر الخلوص الى ما خَلُصَ اليه في موضوع المادة والروح وتاليا المدرحية وهي النقاط ألتي أوردها في نهاية تساؤلاته حول الدراسة والتي لم يجب على أي منها بما ينفيها أو يؤكدها، فإذا كان التساؤل هو أحد المناهج الفلسفية ، فطرحه يوجب الإجابة عليه نفيا أو اثباتا، وهذا ما لم يقدمه لنا الناقد، فطرح السؤال على نحوٍ كهذا يثير الشك في الدراسة من حيث صوابية الطرح أو غلطه، وهذا ما لا نقع عليه في دراسة الرفيق وليد زيدان ونرى أنها جاءت متماسكة غير متناقضة في طروحاتها كافة فقد عالج الرفيق زيدان موضوعه بكل الوعي والمعرفة بتشابكاته وعلاقاته ونتائجه..
ينهي الأمين حيدر حاج إسماعيل نقده لدراسة الرفيق ووليد زيدان بملاحظتين:
الأولى:" لم نجد في هذه الدراسة أية إشارة للمبادئ القومية الاجتماعية التي جملتها تشكل الفلسفة المدرحية."
الثانية:" الفلسفة المدرحية (كما ذكرنا تكرارا) هي فلسفة نهضة الأمة من حيث مادتها (المزيج السلالي ومن حيث روحها (الشعور القومي المشترك أو إجماع الفكر على المصلحة العامة) الذي ينشأ نشؤا طبيعيا مرافقا للتفاعل البشري المشترك بين جماعات الأمة أو بواسطة التربية داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي
نحن هنا حيال تعريف للأمة يناقض كليا وبالمطلق، مختلف ما طُرح حول هذه الفلسفة، أصاب ذاك الطرح أم أخطأ، لكنه (الطرح بمجمله) لم يجافي حقيقة أن "نشؤ الأمم" كان المرتكز الذي قامت عليه الفلسفة المدرحية من حيث هي فلسفة اجتماعية تدرس الانسان، نشؤا وارتقاء، عوامل وأسباب ونتائج..
هذا التناقض، يرتكز الى جملة دعائم يقول بها الأمين حيدر حاج إسماعيل:
1 ـ استثناءه لكتاب "نشؤ الأمم" على قاعدة أنه مبحث علمي في الاجتماع وليس مبحثا فلسقيا وعلى قاعدة أن العلم غير الفلسفة.
2 ـ فهمه الخاص، والخاص جدا، لمقولة" الأمة واقع اجتماعي بحت".
3 ـ قوله " والحقيقة أن سعادة لم يأت بغير المبادئ"
4 ـ إخضاع مختلف الصياغات الفكرية ـ والتي جاء نقده مبنيَّاً عليها ـ لقاعدة، منطقية أو منهجية لديه تقول: " أن الشيء ليس صفاته، أو خصائصه، أو مواصفاته، أو درس نشؤ الشيء ليس الشيء بذاته، أو أن الشيء ليس شرطه، أو أن تعريف الشيء بـ " الليسيات" ليس هو الشيء.. الخ..
سبق لنا وناقشنا هذه الدعائم أو المرتكزات التي يستند اليها الأمين حيدر في تعريفه للأمة، وقد لا نضيف جديدا إذا ما أسهبنا في تفنيد ما جاء به تعريف الأمين حيدر، ففي المبدأ، لم يقدم الأمين حيدر تعريفا للفلسفة المدرحية بل اكتفى بتعريفها على النحو التالي: " الفلسفة القومية الاجتماعية = تجب المبادئ لتنهض الأمة" ومن ثم جاء تعريفه لها في نهاية نقده للرفيق وليد زيدان، بالتعريف الوارد أعلاه، لذا يتوجب علينا تناول تعريفه الأخير بشيء من التفصيل..
سبق وأشرنا، أيضا، الى أن الأمين حيدر لم يحدد، يعين، لنا مفهوما محددا، معينا، لمصطلحي مادة وروح، بل تركهما على إطلاقهما، فليفهم كل منا المفهوم، المعنى، المقصود، الذي يريد من هذين المصطلحين، مما يؤدي بطبيعة الحال الى عدد لا يحصى من المعاني والمفاهيم لهذين المصطلحين، فتصبح حقيقتهما، بعدد الأفراد الذين يتداولون بهما، ولما كان "شرط الوضوح التعين" كان من حق البحث تحديد، تعين، المفهوم، المقصود، من هذين المصطلحين، وأي من هذه المفاهيم هو المفهوم الذي تأخذ به المدرحية في تفسير العالم الذي يحيط بنا، ومن جملته، "نحن"، فنحن جزء من هذا العالم الذي هو(نحن) بحاجة ماسة للتعريف به، كمصطلح فلسفي، يشكل، جزءا جوهريا من معنى أو مفهوم، أو المقصود من هذا "العالم".
المفهوم المدرحي للمادة:
تنطلق المدرحية في تحديدها لمفهوم المادة من أسبقيتها على المعرفة، الوعي، الانسان، كقاعدة لا يمكن تجاوزها، تحت أية ذريعة، علمية كانت، أم غير علمية(تأملية)، المادة في أسبقيتها على الوعي، تأخذ المفهوم التالي: كل ما لا يرتبط وجوده، بوعي، بمعرفة، الانسان له، فهي وجود، مستقل كل الاستقلال عن الوعي الإنساني له، هي كيان موضوعي لا غنى للإنسان عنه، فهي محتوى وعيه، معرفته، ادراكه، إذ لا معنى للوعي دونها، والذي لم يكن ( الوعي) بدونها أيضاً، ذلك أن العضوية، (كيميائيا وفيزيائيا) تتكيف، وفق ما هي به وعليه، من عوامل وشروط موضوعية، هذا التكيف، ـ والذي اختصت به العضوية عن سواها من الموجودات المادية( باعتبارها مادة في الأصل) ـ هو الذي يقود العضوية الى ما هي عليه، فلولا الضوء، لما تكيفت هذه العضوية مع الضوء وتطورت الى حالة الرؤية، وبدون الهواء، والروائح، لما كانت حاسة الشم، ولو لم يكن للوجود ملمس، لما كانت حاسة الحس أو اللمس، لولا الصوت لما كانت حاسة السمع، وكذلك حاسة الذوق، ودليلنا العلمي على ما تقدم، هو أن حاسة السمع مثلا، هي حاسة مرتبطة كليا بما نحن عليه من درجات السمع، فنحن لا نسمع ما هو أعلى كما ما هو أدنى، فنحن لا نسمع سوى الموجات التي لا تتعدى ال(20 ـ 20,000) هرتز، بينما تصل الموجات المافوق صوتية الى أكثر من (20,000) هرتز، كما لا نسمع كل ما هو دون ال(20) هرتز، كذلك في الضوء، وتحديدا ألوان الطيف الضوئي، فنحن لا نرى سوى سبعة ألوان، علما أن مزيجا منها قد يصل الى ( 15,000,000) لون، هذا الكم الهائل من الألوان نحن لا نرى منه سوى سبعة فقط..
ما تقدم، يعني، أن المادة سابقة للوعي، لأنها هي التي شكلت له أدواته الحسية، والتي لولاها، لما استطاع التعرف على ما يحيط به!!
المادة إذن، كل ما هو موضوعي، ولا يدين بوجوده ـــ بأية حال ـــ لوجود الانسان، كيانا وادراكا ومعرفة وعلما، المادة وجود موضوعي، موجود رغما عن الانسان، كيانا ومعرفة وعلما، المادة، وجود موضوعي، سابق لوجود الانسان، المادة، محتوى الوعي، الفكر، المعرفة، العقل..
الروح في المفهوم المدرحي:
"الروح" مصطلح عبري، مقتبس، أو بالأحرى منهوب، ومحور عن الريح، في قصة الخلق الأشورية، حيث الإله مردوك يقتل تيامات (تيهوم ـــ بالعبرية) بواسطة الرياح الأربع، في التوراة السامرية، نتبين مدى التشابه بين التوراة وقصة الخلق البابلية والآشورية:
1"- في بداية خليقة السماوات والارض (سفر تكوين) = في بداية الخلق (ملحمة بابل)
2- كانت الارض خربة وخالية وعلى وجه تيامات ظلمة (سفر تكوين) = (مقتل تيامات وخلو الارض للإله مردوخ )(ملحمة بابل)
3- (ورياح الإله ترف على وجه الارض) (سفر تكوين ) = أرسل الرياح الأربع لتُحيط بها (تيامات) من كل جانب ثم أرسل سبع رياح في بطنها وهكذا تمكن من سحقها (ملحمة بابل)
4- فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ.... وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سماء.. وقال:" لِتَجْتَمِعِ الْمِيَاهُ تَحْتَ السَّمَاءِ الَى مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلْتَظْهَرِ الْيَابِسَةُ (المياه: تيامات) (سفر تكوين ) = (ثم قسم تيامات إلى سماء وأرض) (ملحمة بابل).."
ما يهمنا أن الريح في قصة الخلق البابلية أصبحت روحا في التوراة، وليس هذا فقط فقد حورت التوراة اسم "إيل" الإله الى "الله"، لاحظ " اسماع إيل، جبرا إيل، عذرا إيل، إسرا إيل، صومو إيل.. وهكذا، ما تبقى من أساطير توراتية.. اعتمدت المسيحية والمحمدية هذا التحوير وأطلقته إيماناً لأتباعها.. "الإيمان بوجودها يجسد مفهوم المادة الأثيرية الأصلية الخاصة بالكائنات الحية. استنادا إلى بعض الديانات والفلسفات، فإن الروح مخلوقةً من جنسٍ لا نظير له في الوجود مع الإعتقاد بكونها الأساس للإدراك والوعي والشعور عند الإنسان. ويختلف مصطلح الروح عن النفس حسب الاعتقادات الدينية (يُقصد الإسلام) فالبعض يرى النفس هي الروح والجسد مجتمعين ويرى البعض الآخر إن النفس قد تكون أو لا تكون خالدة ولكن الروح خالدة حتى بعد موت الجسد."
الروح، فلسفيا، هي الوعي، كل ما ليس محسوسا وملموسا ومسموعا وهو نتاج العقل (المخ والمخيخ والبصلة السيسيائية)، مدرحيا، هي النفس، وفق ثلاثية سعادة (المحيط ــ الجسم ــ النفس)، مدرحيا، الروح تعبير مجازي للنفس، مدرحيا، الروح مصطلح عبري تحويري للريح، مدرحيا، الروح مُفْتَرَضْ نقيض للمادة، كما يفترض الوجود العدم، لا تقول المدرحية بالروح ككيان مستقل، مبثوث في الجسم، النفس نتاج الجسم..
من سعادة نستقي ما يروي عطشنا، يقول:" التعيين هو شرط الوضوح، والوضوح هو الحالة الطبيعية للذات المدركة الواعية الفاهمة. كل مطلق ليس واضحاً هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء. المطلق الذي هو شيء هو المطلق الواضح. فإذا وجدنا أمامنا مطلقاً غير واضح، إذا افترضنا أي مطلق افتراضاً وابتدأنا نحوم حول فهم هذا المطلق ومعرفته، فإننا قد عيَّنا مبهماً للخروج من جدل لم نصل فيه إلى الحقيقة. فكل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساساً لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير. فالوضوح ــ معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة ــ هو قاعدة لا بد من اتباعها في أية قضية للفكر الإنساني وللحياة الإنسانية.. ففي العقائد التي تمت إلى الإنسان الحر بصلة لا يمكن الاستناد إلى أي قول استبدادي مطلق لتقرير حقيقة إنسانية لها علاقة بالإنسان المجتمع. فلا بد لقيام الحقيقة من شرطين أساسيين: الأول الوجود بذاته أي أن يكون الشيء موجوداً. والثاني أن تقوم المعرفة لهذا الوجود. والمعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها.. لا يمكننا أن نتصور وجوداً بلا معرفة. فلا يمكننا أن نقول إن لأي وجود مفترض، غير مدرك بالمعرفة، قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة إنسانية نفسية والإنسان هو وحده الذي يميز بين الحقيقة والباطل بالمعرفة.."
الأمة في المفهوم المدرحي:
يشوب مفهوم الواقع الاجتماعي لدى الأمين حيدر حاج إسماعيل، الكثير من الشوائب، فهو يراه كيانا بشريا قائما بذاته، كمزيج سلالي مستقل استقلالاً تاما عما يحيط به من أوضاع وأحوال وظروف، فعندما يعتمد مقولة "الأمة واقع اجتماعي بحت" لا يتراء له سوى كيانها البشري من حيث مزيجه السلالي، مما يدفعه للقول بأن مادة الأمة مزيجها السلالي.. متجاهلاً أو متناسيا قول سعادة الحاسم في هذا الموضوع بالذات "لا يمكن القول أن هنالك أمماً وشعوباً قدرت بفطرتها الممتازة وفاعليتها الذاتية أن تجد إلى الارتقاء سبيلاً.. القطر الصّالح والقوم المؤهّلون، هذان هما العنصران الأساسيّان لنشوء الأمّة." ومتغافلا عن أن الواقع في علم الفلسفة يعني حالة الأشياء كما هي موجودة، وكما وجدت حولنا، وما وجد فعلا في مقابل الخيال، الواقع ما يكون راهنا أو معطى ويفيد الاشياء كما هي لا كما يمكنها ان تكون..، ابستمولوجيا يفيد الواقعي معنى يتعلق بفكرة الشيء بوصفه غرضا فكريا فهو الراهن والمعطى ويشمل مادة المعرفة كلها.. ان ما يمثله المفهوم العلمي للواقع بوصفه يتضمن فكرة لا تشمل فقط الراهن ولكن أيضا لحالة لا راهنية لها تشارك مع ذلك في تصوير الواقع بحيث أن تصورا علميا لا يصور فقط ما هو كائن وانما يتخيل ما يمكن أن يكون..
وعليه فعندما يُعرِّف سعادة الأمة بأنها واقع اجتماعي، يعني بذلك أنها كيان موضوعي لا علاقة له بفرد ما أو جيل ما، هي استمرار، هي أفرادها بما هم عليه بخصائصهم ومواصفاتهم وأشكالهم و.. الخ هي مجموع أجيالها عبر الزمن، يقول:" الأفراد يأتون ويذهبون أما المجتمع فباقٍ." يضيف قائلاً: "لا يختار الفرد مجتمعه إلا بقدر ما يختار أمه وأبيه" للدلالة على موضوعية الواقع الاجتماعي بالنسبة للفرد وأجياله، مدرحيا، الأمة كواقع اجتماعي هي شكل المادة التي هي البيئة، متمثلة ماديا "بدورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية"، الأمة هي هذه الدورة الحياتية الاجتماعية ـ الاقتصادية معا دون أي انفصام بينهما، لذلك يشدد سعادة على مصطلح "الاشتراك في الحياة" أو "وحدة حياة" للدلالة على البعد الزمني الذي يبقى العامل الرئيس في تشكل الأمم وتطوراتها، سلبا وإيجابا، الأمة وفق سعادة " جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة ــ الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات. " ما يُميز أمة عن أخرى هو إذن تفاعلها مع بيئتها وليس أي شيء آخر، لذلك نراه (سعادة) يشدد على أن "كلّ أمّة تنشأ بعامل ارتباط جماعة من النّاس، مهما كانت تقاليدها وعاداتها ومهما كان مصدرها، ببقعة من الأرض لا بدّ من أن تكون في مجرى حياتها تقاليد جديدة وعادات جديدة.. " هكذا تتشكل مواصفات أمة عن أخرى، لذا كان "الأصل الإنسانيّ الوحيد للأمّة هو وحدة الحياة على تعاقب الأجيال وهي الوحدة الّتي تتمّ دورتها ضمن القطر.." "المزيج المتجانس أصل كاف للأمّة وهذا المزيج هو ما يعبّر عنه أحياناً بلفظة السّلالة. إنّ الأمّة من الوجهة السّلاليّة أو من وجهة الأصل، هي مركّب أو مزيج معيّن كالمركّبات الكيماويّة الّتي يتميّز كلّ مركّب منها بعناصره وبنسبة بعضها إلى البعض الآخر..، يضيف قائلا:" فإذا تتبعنا تاريخ تكوّن الأمّة الإيطاليّة كان الأصل الوحيد الثّابت الّذي نتمكّن دائماً من تقريره هو الأرض، أمّا الأصل الشّعبيّ فهو مشترك في عدّة أصول. الحقيقة أنّه ليس لأمّة من الأمم الحديثة أصل سلاليّ واحد، حتّى ولا أصل شعبيّ (مزيج سلالي) واحد.. فالأمّة تكون قويّة أو ضعيفة، متقدّمة أو متأخّرة، على نسبة ممكنات بيئتها الاقتصاديّة ومقدرتها على الانتفاع بهذه الممكنات.." الحكم النهائي الذي يصدره سعادة في هذا الشأن والذي لا رجعة فيه هو:" القطر الصّالح والقوم المؤهّلون، هذان هما العنصران الأساسيّان لنشوء الأمّة.. " مما يضع حداً لمختلف تقولات الأمين حيدر حول موضوع الأمة، أكثر من ذلك يشدد سعادة على أهمية البيئة الطبيعية في نشؤ الأمة، اية أمة، يقول: "الأمّة تجد أساسها، قبل كلّ شيء آخر، في وحدة أرضيّة معيّنة تتفاعل معها جماعة من النّاس وتشتبك وتتّحد ضمنها.." يضيف موضحا بقوله: "لعلّ سورية أفضل مثال للبيئة الّتي تصهر الجماعات المختلفة النّازلة بها وتحوّلها إلى مزاج واحد وشخصيّة واحدة.. فالبيئة المحدّدة هي البوتقة الّتي تصهر حياة هذه الجماعات وتمزجها مزجاً يكسبها شخصيّة خاصّة.." هذا على صعيد ما جاء به سعادة بكتابه العلمي " نشؤ الأمم" على حد وصف الأمين حيدر لهذا الكتاب، أما على صعيد اعتباره أن المبادئ هي الفلسفة المدرحية، نراه يقول :" والحقيقة أن سعادة لم يأتِ بغير المبادئ" وسنذهب مع الأمين حيدر لما يقوله سعادة في المدرحية التي هي "المبادئ" وفق وصف الأمين حيدر، ففي شرح سعادة للمبدأ الأساسي الرابع الذي ينص على أن " الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع الى ما قبل الزمن التاريخي الجلي" يقول ما يدحض تعريف الأمين حيدر للأمة من حيث مادتها :" وهكذا نرى أن مبدأ القومية السورية ليس مؤسساً على مبدأ وحدة سلالية ، بل على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزيج سلالي متجانس.." الوحدة الطبيعية لمزيج سلالي، لكن ماذا يعني سعادة في مصطلح" الوحدة الطبيعية" يقول:" أننا نعتبر الأمة أمراً واحداً: إنه وحدة الحياة التي جمعت فيه مجمل العناصر الأساسية (البيئة والمزيج السلالي) التي تتركب منها ودمجها بعضها ببعض فكونت منها حياة واحدة متفاعلة موثقة أي مجتمعاً واحداً موحد الحياة والمصير.. إذاً لا حاجة إلى أصل واحد معين لنشوء الأمة. لنشوء القومية. فالأمة موجودة بتفاعلها ضمن بيئتها ومع بيئتها.." فقوله الأمة موجودة بتفاعلها بعضها مع بعض "ضمن بيئتها ومع بيئتها" مما لا يدع للشك مكانا في أن الأمة هي نتيجة للتفاعل بعضها مع بعض ومع بيئتها، يضيف موضحاً (سعادة) " فإذا أخذنا مجموع الشعب السوري أو أي شعب آخر وجدنا أنه شعب يتكون من مستطيلي الرؤوس ومعتدلي الرؤوس ومفلطحي الرؤوس ومع ذلك نجد أن الحياة جبلتهم جبلة واحدة فامتزجوا سلالة ودماً واشتركوا في الحياة الجيدة والصعبة وعملوا وأجابوا على محرضات البيئة أعمالاً وإجابات مستمرة خلال أجيال أو أدهار كونت نفسية خاصة وطابعاً فيزيائياً خاصاً مستقلاً. " الحياة بمفهوم سعادة المدرحي نمو، تقدم، تطور، رقي، وعلى نسبة ما تقدم تتبوأ الأمة مكانتها بين الأمم، شرط الحياة لتكون وفق مفهوم سعادة لها، استمرارا زمنيا كشرط ضروري وهام وحاسم في تمايز الأمة عن سواها، شرط لازم، لكنه غير كافٍ لأنه لا يقوم إلا بعنصريه، المزيج السلالي والبيئة الطبيعية، محددا المرتبة الثقافية التي عليها الأمة، هذا ما نجده في التاريخ السوري، حيث شهدت هذه البلاد محنا واحتلالات قلبت موازين حياتها وأحالت استقرارها لاضطراب وحروب وويلات، لكنها بقيت على ما هي عليه من ميزات، لذلك نرى سعادة يؤكد " أن في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم ... إذا لم تقو النفسية السورية وتنزه عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة فإن سورية تبقى فاقدة عنصر الاستقلال الحقيقي، فاقدة المثل العليا لحياتها".
مدرحيا، يمكننا القول، بناء على ما تقدم:" على قاعدة المقولة الأساس في الفلسفة المدرحية " المادة تعين الشكل" وعلى قاعدة أن الانسان هو المتكيف مع البيئة وليس العكس، تلعب البيئة دور البوتقة والانسان دور الماء الذي يتخذ من شكل البوتقة شكلاً له، أكثر من ذلك، يتخذ من لون البوتقة لونا له، وزيادة في ذللك، يتخذ طعم بل ورائحة البوتقة، في حال وجد لها هذا الطعم وتلك الرائحة، من هنا نجد كيف أن الانسان الفرد عند انتقاله من بيئته الأصلية يبدأ بالتكيف والبيئة التي انتقل اليها، هذا الانتقال يعبر عنه سعادة في قوله " وقد يفضل أمه على أبيه أو العكس" وحيث أن المادة واقع موضوعي، فمادة الأمة هي بيئتها، وهي محتوى وعيها، أي شكلها ـ فلسفيا ـ حيث دورة حياتها الاجتماعية ـ الاقتصادية، هي هذا الشكل الذي نجد عليه أمة من الأمم، أما مرتبة هذا الشكل الثقافية فتعود لنسبة إجابة مزيجها السلالي لعوامل أو لمحرضات البيئة ونسبة تقبله لها أسبابا، تاريخية وظرفية بآن، وعلى ما تقدم تكون النتائج التي تعي الأمة من خلالها عوامل وأسباب وكيفيات ووسائل نهوضها
مقدمة في المنهج المدرحي
لفهم المنهج المدرحي الذي ينتهجه سعادة في بلوغ الحقائق التي تقول بها فلسفته، لا بد لنا من إلقاء نظرة ولو وجيزة، على ما هو المنهج، حنى لا تبقى المصطلحات التي نستخدمها على اطلاقها، كل يقول بمفهوم خاص، يقوم على سعة المعلومات التي لديه كما ونوعا، وبما يسمح به البحث للحيلولة دون الخروج عن محوره..
المنهج تعريفا هو الأسلوب أو الوسيلة أو الصيغة التي يعتقد الباحث ـــ أيا كان ـــ أنها تفيد في بلوغه خلاصات موضوعه، أي حقائقه..
والمنهج بحد ذاته، هو فرع من فروع المنطق، الذي يفترضه العقل البشري لعدم تناقضه مع ذاته، والمنطق كما المنهج ، هو الصيغة أو الأسلوب أو الوسيلة الفكرية التي يعتمدها العقل وفق فيزيولوجيته، أي الطريقة التي تتعامل من خلالها مكونات العقل البشري (المخ والمخيخ والبصلة السيسيائية) * كلٌ وفق خصائصها التي تمتاز بها، مع الأخرى، حيث ينعكس الواقع عبر أدوات العقل (الحواس الخمس) انعكاسات مختلفة بعضها يعود للموضوع بذاته وبعضها الآخر يعود لمدى فاعلية أجزاء العقل ومكوناتها مع ما تتلقاه من معلومات على شكل ومضات كهربائية..
سبق لنا وأشرنا، في إحدى حلقات هذا البحث الى أننا عندما نقول، على سبيل المثال "جيولوجيا" فنحن نقصد بذلك " منطق طبقات الأرض" و"المفردة ـ المصطلح" جيولوجيا، تقسم الى قسمين الأول هو طبقات (جيو) أما الثاني فهو منطق (لوجيك ـ Logic) سيسيولوجيا، تاليا تعني منطق الاجتماع البشري، من حيث عوامله وأسبابه ونتائجه، فمهمة عالم الاجتماع إذن هي: تفسير أو الإجابة على سؤال " لماذا الاجتماع البشري على هذا النحو دون ذاك؟ متبعا في إجابته طرقا مختلفة أو معتمدا على حقائق أولية أو رؤيته الخاصة، ليبني عليها إجابته..
اختلفت المناطق (جمع منطق) بعضها عن بعض وفق ما تقدم وتاليا المناهج، بحيث اختصَّ كل عالم اجتماع برؤيته للواقع الاجتماعي الذي يعاينه، فنشأ عن ذلك تعددا في المناطق تبعا للموضوع كما أشرنا آنفا أو للأسلوب الذي اتبعه العالم الاجتماعي في رؤيته، فهناك على سبيل المثال، منطق صوري، منطق حيوي، منطق لغوي، منطق ارسططالي، منطق رياضي.. الخ، سعادة ووفق رؤيته المدرحية، رأى أنه لا يمكن تعميم المشكلات التي ينتهجها أو يبتدعها العقل في فهمه لموضوعه، على موضوعه، ذلك أن العالم، المادي والنفسي، لا يمكن تجزئته وفق ذلك، فسعادة يقول بأسبقية الوجود المادي على الوعي، وتاليا لا يمكن تصور الواقع، أيا كان، وفق ما يراه العقل بناءً على فيزيولوجيته، حينها يكون الوجود المادي انعكاسا للوعي وليس العكس، أو بناءً على قواعد أو معلومات غير مثبتة علميا، بالتجربة أو بالاستدلال عليها من خلال الوقائع التي تؤيدها ولا يكون للعقل فيها أي تدخل، فعلى سبيل المثال، في إجابة سعادة على سؤال: لماذا العالم، على ما هو عليه، واقع أمم؟ كانت إجابته: لأن العالم واقع بيئات، " إنّ تقسّم الأرض إلى بيئات هو السّبب المباشر لتوزّع النّوع البشريّ جماعات. فالبيئة كانت ولا تزال تحدّد الجماعة، لأنّ لكلّ بيئة جغرافيّتها وخصائصها، كما مرّ بك. فلو أنّ الأرض كانت سهلاً منبسطاً في درجة واحدة من الحرارة والرّطوبة، خالياً من الحدود الجغرافيّة من صحاري وجبال وأنهار وبحار، لكان من البديهيّ أنّ يؤدّي انتشار النّوع البشريّ فيها إلى إنشاء جماعة واحدة كبيرة.." يستدل سعادة إذن من الواقع الموضوعي على نتائج هذا الواقع، اجتماعيا، وفي غوصه في مراحل تاريخ التطور البشري، حتى مراحله الأولية، حيث الانسان في حيوانيته، وجد أن الانسان كان مجتمعا، ووجد أنه بالرغم من التطور اللاحق وحتى بأشواط طويلة، أبقي الانسان على حالته الاجتماعية، فقال:" ولقد تكلّمنا عن الاجتماع البشريّ، وأشرنا إلى أنّه عريق في القدم وأنّه صفة بشريّة عامّة، حتّى إنّ ما قلناه بهذا الصّدد ليحمل على الاعتقاد أنّ اجتماعيّة الإنسان شيوعيّة بلا حدود أو قيود، والواقع غير ذلك. فالمجتمع الإنسانيّ ليس الإنسانيّة مجتمعة، ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور؟ " سعادة في بحثه عن حقائقه، يستنطق الواقع الموضوعي مستخرجا منه قواعده في بناء فلسفته، ولا يستقرئ الواقع ليبني عليه أحكاما مطلقة خارجة عن حدود الزمان والمكان، بالمعنى الماركسي الذي تنبأ ، بناء على معاينته لواقع المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر أحكاما ثبت بما لا يقبل جدلاً، أنها مجرد تهيئات لماركس أو أنغلز، وعلى سبيل المثال، أيضا، فإن منهج سعادة في التحري عن العوامل والأسباب، لأية موضوعة يواجهها، ينهج منهجا تحليلياً، يغوص الى أعمق أعماقها بما لا يترك مجالا للشك لديه، ليعيد ترتيبها من جديد في منهج تركيبي، ينتهي به الى نتائج أقرب ما تكون الى الموضوعية، لكنه مع ذلك لا يطلقها أيما اطلاق، ففي استقصائه عن السلالات البشرية، مثلا، لا يقف موقف كارل ماركس من السلالات حيث اعتمد ماركس مفهوم السلالة العامي وتعامل معه كواقعة ملازمة للبشرية، سعادة يدقق حتى في المفاهيم والمصطلحات التي تواجه أبحاثه، فلا يتركها على الغارب، يعاينها يحللها ويعيد ترتيب جزئياتها ويبني عليها حقائقه، يغوص محللا مصطلح السلالة بدئا من مدلول السلالة العامي، الى معتقدات السلالة في مختلف القارات، الى عقائدها، ونظرياتها ليعود بانيا موقفه منها بدراسته لنشوئها وأعدادها وتأثيرها في عقول معتنقيها، يقول:" إذا تركنا وجهة التّخمين والتّقديرات التّخيّليّة في الفوارق الظاهرة في جماعات النّوع البشريّ وبحثنا عن مدلول كلمة [السّلالة] العلميّ وجدنا أنّ هذه اللّفظة هي من مصطلحات العلم الطّبيعيّ. والغرض منها تقسيم النّوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصّة (7)، أمّا النّوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحيّة الّتي ينتج تزاوجها نتاجاً ناجحاً يكون له ذات المقدرة بلا حدود (8). فالأجناس تقبل الاختلاط والتّزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلاّ شذوذاً نادراً" يضيف: "إذا تركنا المعتقدات السّلالية والنّظريّات المبنيّة عليها جانباً وعمدنا إلى الوجهة العلميّة من الموضوع وجدنا السّلائل البشريّة خاضعة لعلمين رئيسيّين يتناولانها بالدرس في دوائر اختصاصيّة، هما الإثنلوجية، أو علم الأقوام أو السّلائل البشريّة (25) والأنثروبولوجية أو علم الإنسان " . وما ندخل هنا في أيّ بحث يتناول تعليل حدوث هذا التقسيم التّنوّعيّ لسببين:
أولهّما أنّه ليس غرض هذا الكتاب التّحقيق في هذا الموضوع المستقّلّ.
والثاني أنّ آراء العلماء وأدلّتهم ليست متّفقة بهذا الصّدد فيكون الخوض فيه خطراً. ولكنّه لا بدّ لنا في سياق هذا البحث، من أن نعرض لبعض النّظريّات العلميّة في ذلك، من باب التّوسّع الّذي لا يدخلنا في خطر إصدار أحكام عامّة جازمة." لكنه (سعادة) يبني على ما تقدم نظريته في هذا الموضوع ويقول:" والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن، وقبل أن يكون الارتقاء قد مكّن الإنسان من التّحوّط ضدّ اختلاف البيئات. فإذا كان الأمر كذلك، وهو ما نرجّحه، فقد توافقت نظريّة القائلين بخضوع السّلالة للبيئة والقائلين باستقلال السّلالة عن البيئة.." في قول سعادة:" فقد توافقت نظريّة القائلين بخضوع السّلالة للبيئة والقائلين باستقلال السّلالة عن البيئة.." تتضح منهجية سعادة في فلسفته المدرحية، من أنها:" الـ Synthese أو المخرج النظري من تعارض النظريتين، مذهباً واحداً هو القومية. إن في هذا المبدأ إنهاء جدل عقيم يهمل الواقع المحسوس ويتشبث باللاحسي ــ جدل يحل علم الكلام محل علم الاجتماع.."
في شرحه للمبدأ الأساسي الرابع، يعلن سعادة صراحة عن منهجه يقول:" "يتبع هذا المبدأ مبدأ التسلسل التحليلي. فهو تحديد لماهية الأمة المذكورة في المواد السابقة. وهو من حيث مدلوله الاثنلوجي يحتاج إلى تدقيق وإمعان.." يضيف ويعلن:" ".. القصد منه إعطاء الواقع الذي هو النتيجة الأخيرة الحاصلة من تاريخ طويل يشمل جميع الشعوب التي نزلت هذه البلاد وقطنتها واحتكت فيها بعضها ببعض واتصلت وتمازجت، منذ عهد أقوام العصر الحجري المتأخر.." يتبع التحليل منهجاً آخر هو المنهج التركيبي في قوله:" هو النتيجة الأخيرة الحاصلة من تاريخ طويل.."
ليست المدرحية في حقيقة الأمر سوى رفض لتجزئة الوجود وفق توصيفات العقل، فوحدة الوجود كلٌ لا يتجزأ، وإن كان ذلك من ضرورات المعرفة، فتبقى تلك التوصيفات لا تتنافى ووحدة الوجود، فسعادة عندما يحلل الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية، يُبقيها في حدود جزئياتها، دون تدخل منه إلا في تموضعات تلك الجزئيات، في تحليلات أخرى لنظريات أخرى، هو يعيد ترتيب أولوياتها ليبني عليها نظريته في منهج تركيبي يتبع به منهجا وصفيا يرصف من خلاله معياريا ما ينتهي اليه توصيفه، في نظرته للإنسان، يرفض سعادة اعتبار الفرد مقياسا للحقيقة" فالأفراد يأتون ويذهبون، يتساقطون تساقط أوراق الخريف، أما المجتمع فباقٍ" المجتمع، ها هنا، تعبير عن وحدة الوجود، عن الاستمرارية أو التكرارية ، والتي يعتبرها سعادة جوهر الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية، أو بالأحرى، القانون الموضوعي الذي لا محيد عنه، والذي لا يقبل تحييدا، أو إهمالاً، أو تجنيباً، لذا ، كان المجتمع، كلاً لا يمكن تجزئته، الى أفراد وأجيال ومقاطع تاريخية وأخرى بنى طائفية أو عرقية أو اقتصادية، هي تشويه لوحدته كوجود موضوعي لا يقبل بأية حال التجزئة إلا في حدود بيان سلبيات الواقعة( الطائفية ، الطبقية، العرقية، اللغوية، الدينية..) أو إيجابياتها..
سعادة، يدرس الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية، فيصفها بطريقة علمية، أقرب ما تكون الى المنهج المقارن، والذي يعتبر من أفضل الطرق للوصول لتفسيرات منطقية لها دلالاتها وبراهينها ومن ثم يضعها في أطر، محددة لها، لكنها تبقى تنتمي لوحدتها التي لا تقبل التجزئة، وهذا هو بحد ذاته المنهج الوصفي الذي يتبعه في مختلف مقارناته، يقول:" يمكننا الآن أن نتقدّم بارتياح إلى النّظر في خصائص أو مزايا المجتمع البدويّ والمتوحّش.. ونوعا هذه الجماعات الأوّليّ والبربريّ يشتركان في العادات الاجتماعيّة والأذواق بحكم مستوييهم الاقتصاديّين المتقاربين. فترى الضّيافة الّتي تفرضها عليهم أحوال معاشهم صفة عامّة عندهم على السّواء وكذلك تعاملهم فيما بينهم، وخصوصاً معاملتهم المرأة (76). وما يروى، مثلاً، عن كرم العرب وفروسيّتهم والشّعور بالشّرف عندهم وضيافتهم، يروى مثله عن أهل بلاد النّار (تراد لفويقو) وهنود أميركا والفيجيين والطنقوسيين (77) فهذه الصّفات المشتركة تظهر بقوّة في الشّعوب الّتي لمّا تحرّكها الثّقافة الزّراعيّة التجاريّة وساعدتها أحوال معاشها الضّيّقة على حصر قواها النّفسّية في بعض المظاهر المحدودة. ونرى أذواق هذه الجماعات مشتركة حتى في الطّعام. فهم، لجوعهم، يزدردون الطّعام بطريقة لا تسمح بالتّلذّذ به على حدّ الجماعات الرّاقية، حتّى إنّ بعض العلماء يذهب إلى جعل درجة لذّة الطّعم في عداد الفوارق بين الأقوام الأوّليّة والشّعوب الرّاقية، وجميع هذه الجماعات أو المجاميع لا تعرف توزيع العمل.. وبالإيجاز نقول إنّ أغراض الجماعات الأوّليّة المتوحّشة والجماعات البربريّة المنحطّة أو المتأخّرة محدودة جداً بالنّسبة إلى أسباب سدّ الحاجة المعاشيّة مباشرة أو مداورة إلى مدى محدود.." منهج وصفي لا يقتصر على عينة محددة بل يعمل على مقارنتها بما يشابهها في خصائصها وما يخالفها في ذلك..، من الوصفي الى المعياري، ونقصد بالمنهج المعياري، كيفية ترتيب عناصر الواقعة الطبيعية او الاجتماعية، وفق أفضل المعايير التي تجعل من الانسان قيمة بحد ذاته، وأيضا هنا يعمل سعادة على اشتقاق معاييره من الحالة التي يعاينها، وبما يتناسب وامكانتها، وما يحقق لها مرمى وجودها في وحدته..
لكن كيف يجمع سعادة في منهجه المدرحي عددا من المناهج في آن؟
لا يرى سعادة وقائعه الطبيعية والاجتماعية في جزئيتها، بل تبقى كلٌ منها، أياً كانت، في مجمل ارتباطاتها مع وقائعه الأخرى، فالعام عند سعادة لا يمحو الخاص، هذه مسألة جوهرية في فلسفته المدرحية، ففي نظرته للإنسان ـ المجتمع يرى الفرد مجرد إمكانية، لكنه، في التاريخ يبقى القول الفصل، يقول:" والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطوّرها هي العوامل النفسيّة والفرديّة.." ومع ذلك يرفضه رفضا قاطعا من أن يكون، في واقعة الديموقراطية شريكا مباشرا في تقرير مصالح الدولة، يقول: "إنّ العقل السّوريّ العمليّ لم يكن يميل إلى تخيّلات فاسدة من الوجهة العمليّة. ولذلك فهو قد اكتفى من التّجربة الإغريقيّة للحكم الشّعبيّ، بواسطة الشّعب أجمع، بالمشاهدة. إنّه لخيال بديع، في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيي أن يكون كلّ فرد من أفراد المدينة المعترف بهم [شريكاً] فعليّاً في إدارة الدّولة. إنّ المدينة السّورية ظلّت محافظة على الفرق بين السيّاسة والاجتماع، وهذا الفرق هو ما مكّن الدّولة من اطّراد تقدّمها.."
في منهجية سعادة، تبقى ثلاثياته في حالة تداول الأدوار، في اطار الزمان والمكان ( جسم ، محيط، نفس، ـ قضاء، تشريع، تنفيذ، ـ ماضي، حاضر، مستقبل، ـ الهو، الأنا، الأنا العليا،ـ الغريزة، العاطفة، العقل، ـ البيولوجي" الحيوي"، الفيزيولوجي" الوظيفي"، السيكولوجي" النفسي".. الخ) لا يلغي أيٌ منها الآخر، تبقى في ترابطها وفي وحدتها، كلٌ لا يتجزأ، يتبوأ كل منها القيادة حتى درجة الاشباع، ليتنحى بعدها فاسحا المجال رحبا للآخر سدة القيادة مشاركا مشاركة فعَّالة في تنفيذ مقرراته، هكذا لا يلغي التحليلي المنهج التركيبي، كما لا يلغي هذا الوصفي، وفي المنهج المقارن، يأخذ كلٌ من هذه المنهاج دوره في القيادة، أما المعياري "القيمي" فيبقى في حالة انتظار ليقدم له الجمع خلاصات أفعالهم وأعمالهم، ليخط عليها القيمة الفضلى لإنسانه.
على قاعدة / شرط الوضوح التعين/ يحدد سعادة مواصفات منهجه في التزامه بقوننة خلاصاته، بالقانون العام لفلسفته، "الناموس" الذي يقول به:" أنّ النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع. وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة."
في تعريفه للناموس، أي القانون العام، أو المقولة التي تجمع شتات العلوم في صيغة جد مختصرة تفسر جملة من العلاقات لواقعة أو وقائع طبيعية أو اجتماعية، يضع، سعادة مرتكزات فلسفته المدرحية، فالناموس، القانون العام، المقولة، هو مجرد مصطلح (من اصطلح، اتفق)، اتفاق بشري، على أن هذا الشيء هو كذا وكذا، ومن حيث هو كذلك أي اتفاق، فهو يحتمل الخطأ والصواب، وخير مثال على صحة ما يذهب اليه سعادة، أنه وعلى مدى ثلاثة قرون، سيطرت نظرية نيوتن في الجاذبية على مختلف فروع الميكانيك، حتى أطل انشتاين بنظرية" وهم الجاذبية" فقلب موازين الرياضيات رأسا على عقب.. بما يعني أننا وإن اتفقنا على مسألة ما طبيعية أو اجتماعية، فهذا الاتفاق قابل للتعديل أو التغيير.. ذلك أن المادة السابقة للوعي، تبقى على ما هي عليه وإن انعكست في الوعي على غير ما هي عليه..
يضيف، مدللا على موضوعه" لمجرى من مجاري الحياة أو الطبيعة.." بما يعني أيضا أن موضوعه هو الوجود بكليته وليس ما وراء الوجود، ذلك أن هذا ال" ما وراء الوجود" هو مجرد افتراض كما العدم، كما البداية والنهاية، والتي هي بمجملها انعكاس للمادة في الوعي، فالشيء في الوعي يفترض نقيضه، مقتبسا من تجربة الوعي في ثنائية الليل والنهار، الأبيض والأسود، الأعلى والأسفل.. لكنه لا يوجد في الطبيعة ولا يحرك في الحياة شيء، بين الوجود بالفعل والوجود بالقوة، ينحاز سعادة كليا الى الأول ويرفض رفضا قاطعا الثاني..
من وجهة نظر سعادة، ليست الطفرة بقانون وإن حدثت، ذلك أنها لا تملك خاصية وصفة الديمومة، أو الاستمرار، أو المتكرر، خاصية الاستمرار في التأثير، في الفعل، تبقى هي الجوهر الذي يدلل على تأثير هذا على ذاك، وتاليا هو ما يمكن قوننته، لذا كان القصد من الناموس" تعيين استمرار حدوث فعل أو خاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة.." عند سعادة ليس الفرد مقياس الأشياء، لأن الأفراد يأتون ويذهبون.. أما المجتمع فباق، الفرد مجرد "طفرة" الإستمرارية للمجتمع.. من هنا كان الانسان ـ المجتمع هو الناموس في الاجتماع البشري..
يقول:" لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها.." وجهان لهذه الخاصية للناموس، وجه معرفي، أي أن الناموس قابل للتغير أو التبدل أو التطور، والوجه الآخر، أن لا مطلق في الوجود، وكل الأوامر والنواهي التي جاءت بها الفلسفات ليست سوى وهم ابتدعه الوعي " كل مطلق ليس واضحاً هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء.." ولا يستثني سعادة فلسفته التي تتمحور، اجتماعيا، حول فكرة الأمة، من ذلك في قوله:" ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور؟" بمعنى أنه لا يطلق لنظريته الديمومة على مدى العصور القادمة، بل هي خاضعة بدورها لناموسه، الذي يقبل بالتغير أو التبدل أو التطور، فقد تؤول العلاقات بين الأمم الى وحدتها في مجتمع عالمي تمحي به الفوارق بين الأمم نتيجة التحاك اليومي عبر مختلف الوسائل التي يمكن للعقل أن يبتكرها مقاربا بين الجماعات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا..
يضيف قائلاً:" وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها.." مقياس الخطأ والصواب عند سعادة، هو الحياة، كل ما يعيق حركة الحياة في تطورها ليس بناموس، ليس بقانون، ليس بمقولة، هو مجرد إعاقة لمسيرة الحياة، هو تجزئة لوحدة الحياة المادية ـ النفسية، التي لا تقبل التجزئة، مهما دعي اليها انعكاس الوجود في تشظياته، في الوعي..
في قوننته للحقيقة، لا يغفل سعادة أنها مستخرجة من الوجود الموضوعي، الطبيعي والاجتماعي، لذلك يشترط عدم اطلاقها، بمعنى تعميمها على ما تبقى من نواميس فالعام لا يمحو الخاص، يقول:" فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب أن لا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى، فالنّواميس لا تمحو خصائص الأنواع.." من هنا كان اعترافه بالفرد على أنه مجرد إمكانية لكنه في الوقت عينه، من العوامل الفاصلة في التاريخ كما وأنه" قد يكون حبّ المجد هو الموحى أو الدافع لبعض الأشخاص على العمل للمصلحة العامّة، فتكون المصلحة في هذا المثل مركّبة بالنّسبة إلى الشّخص، ولكنّها بالنّسبة إلى العموم عامّة بسيطة، وهنا نضطرّ إلى التّمييز بين المصلحة العامّة الأوّليّة بالنّسبة إلى الكلّ وبين المصلحة العامّة الثّانويّة بالنّسبة إلى الشّخص الّذي يتّخذ من المصلحة العامّة وسيلة لمصلحة شكليّة شخصيّة (حبّ المجد) هي المصلحة الأوليّة له. فالأساس الاجتماعيّ للمصلحتين واحد هو خير المجتمع وهو وحده يوجد علاقة المصلحة الاجتماعيّة الثّابتة. ومهما يكن من الأمر في هذه المسألة فمصلحة المتّحد تظلّ قائمة لأنّها دائمة.."
يقول:" وإذا كنّا قد اكتشفنا سنّة التّطوّر فيجب أن لا نتّخذ من هذه السنّة أقيسة وهميّة تذهب بنا إلى تصّورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة." سعادة هنا يؤكد على ضرورة حصر القانون أو المقولة أو الناموس في نطاقها، دون تعميمها على ما يتعداها، في إشارة الى المادية الديالكتيكية في اسقاطاتها قوانين الطبيعة على الاجتماع البشري، مما أدى بها الى تصور حتمي لمجتمع مشاعي هو الأخير في التطور الإنساني حيث تتناهى الدولة لمجرد " مصلحة بريد" ويضيف أنه لا يمكن ذلك ليس بين الطبيعة والمجتمع فحسب، بل لا يمكننا ذلك حتى في حالات تتقارب فيها بعض الخصائص بين الحيوان والانسان، يقول:" وإذا كان الإنسان يقع، من الوجهة الإحصائيّة، في جدول الحيوانات المتجمهرة، فلا يعني ذلك بوجه من الوجوه أنّ بينه وبين الحيوانات والحشرات المذكورة قرابة اجتماعية تمكّن من استخراج أقيسة عامّة تطبّق على كلا الحيوان والإنسان، كما ظنّ ويظنّ عدد من الكتّاب الاجتماعيّين وغيرهم. وإنّ من أكبر الأخطاء الّتي وقع فيها هؤلاء الكتّاب محاولتهم تطبيق أحوال المجتمع الإنسانيّ على مظاهر تجمهر الحيوانات والحشرات واتّخاذ قواعد اجتماعيّة من هذا التّجمهر ومظاهره. وإذا كان في أنواع حياة الحيوانات والحشرات المتجمهرة شيء ذو فائدة للإنسان فليس ذلك في واقع التّجمهر بل في الحقائق الأخرى الّتي نتوصّل إليها بالدّرس في جميع الحيوانات والحشرات، سواء أكانت من المتجمهرة أم من غيرها ففي الحياة سنن عامّة تجري على الأجسام الحيّة كلّها. على أنّ في المتجمهرة منها فائدة أخصّ.."
يقف سعادة موقفا صارما من اتباع منهج القياس في الموضوعات التي تتطرق لها العلوم الاجتماعية أو الإنسانية بصورة عامة، يقول:" إنّ القياس كان ولا يزال مصيبة كبيرة في الأبحاث العلميّة الاجتماعيّة، خصوصاً في الأبحاث الّتي لا تجرّد علم الاجتماع من النّظريّات الفلسفيّة، من الفلسفة الاجتماعيّة، وهو الالتجاء إلى القياس ما أوجد شيئاً كثيراً من الخلط في المسائل الاجتماعيّة عموماً ومسألة الأمّة والقوميّة خصوصاً.."
بناء على ما تقدم، فإن المنهج المدرحي، يتصف بقابليته للتطور تبعا لمستجدات الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية باعتبار أن النواميس ليست سوى انعكاس للموضوعي في الوعي الذي قد يقتصر في خلاصاته على معلومات غير مكتملة من الوجهة الموضوعية أو الذاتية أما الصفة الثانية فهي أنه يقتصر على المتكرر في الواقعة، من حيث أن المتكرر، هو جوهر الواقعة، أما الصفة الثالثة فهي أنه مشتق من الواقعة بذاتها وغير متعارض معها، وأما الصفة الرابعة والمكملة لقابليته للتطور أنه ليس مطلقا بل نسبيا متوافقا ونسبية المعلومة التي يقوم عليها، أما الصفة الخامسة وهي جوهره أنه يعبر عن وحدة الوجود الطبيعي والاجتماعي الذي يعاينه وغير متجاوز لها، لهذا فهو يجمع مختلف مناهج البحث العلمي بادئا بالمنهج التحليلي مصنفا جزئيات الواقعة وفق أولوياتها بالنسبة لوحدتها، ليقيم عليها بناءه عبر منهج تركيبي، لا يهمل في أي جانب من جوانبه الوصفية بغية بلوغ مرتكز يحقق له منهجه المعياري ـ القيمي ، فالمنهج المدرحي اذن هو وحدة المناهج في قراءة ودراسة واستخلاص النتائج التي تكشف عنها الواقعة الطبيعية أو الاجتماعية..
في الختام، لا بد لنا من الإشارة الى ما يشير اليه / عبد الرحمن بدوي/ في توطئته لدراسة / مناهج البحث العلمي/ مستخلصا إياها من جملة ما قيل في توصيف مختلف مناهج البحث، يقول:
" والنتيجة لهذا إذن، أن الفصل بين المناهج العلمية غير ممكن في البحث العلمي: ولكننا نقوم بهذا التقسيم من أجل دراستها فحسب، وعلينا إذن أن نراعي تلك الوحدة، وأن لا نعد هذا التقسيم، تقسيما مطلقا، فهي كلها في الواقع خطوات مختلفة في منهج واحد عام قد نسير بها كلها بالنسبة الى مسألة واحدة في علم واحد.."
بعد أكثر من نصف قرن على ما يقدمه سعادة في أبحاثه، يقتفي أثره علماء الاجتماع كافة متجاهلين أنه واضع أسس علم اجتماع جديد، يبقى مهما قيل عنه نظرة جديدة بالفعل الى الحياة والكون والفن .
مدرحية" علي عمران:
في مختلف الدراسات أو المقالات التي تناولناها حتى الآن، كانت المدرحية مجرد اسقاطات على موضوعات مختلفة بحيث لا يمكن وصفها بالسمة التي يسمها بها الأمين حيدر..
"قراءة في الفلسفة المدرحية" عنوان مقالة الرفيق علي عمران هي الدراسة الأولى التي تناولت المدرحية كموضوع رئيس لها، والتي يمكن وسمها برؤية الرفيق علي عمران للمدرحية، من وجهة نظر أقرب ما تكون للأكاديمية منها الى البحث في المدرحية كفلسفة، لذلك فإن هذه القراءة، تعتبر فريدة من نوعها نظرا لتماسكها وترابطها واقتصارها على الجوهري من الفلسفة المدرحية، وهي ميزة تحسب للرفيق عمران..
لم يولي الأمين حيدر هذه الدراسة الاهتمام الذي أولاه لغيرها من تلك الاسقاطات، أو الدراسات أو المقالات، لعلة في ذاته أم لأنه لم يجد ما يمكن نقده في هذه القراءة، فهي كما سبق وأشرنا اليه أعلاه، وكان المجال رحبا للأمين حيدر إيلاءها الاهتمام الكافي لبيان رأيه فيما أوردته من إشارات فلسفية تناقض ما يورده هو من مرتكزات يعتبرها تعريفا للمدرحية من وجهة نظره..
يبدأ الرفيق عمران قراءته من السؤال الفلسفي البكر: من يحتل مركز الأولوية في الوجود المادة أو الوعي، فيقول: " كان العقل يفتش عن الغامض المطلق الذي كان علة الوجود.." فكان سؤاله" الفلسفي التقليدي:" من وجد قبل الآخر المادة أو الروح" لبيان أين هو موقف الانسان باعتباره معلولاً للجواب " وفي جميع الإجابات الفلسفية كان موقع الإنسان محكوما بالعلة المطلقة التي كانت سببا لوجوده. فـ "الإنسان" في الفلسفات المادية إمكانية تحقق قوانين المادة. وهو في الفلسفات الروحية " إمكانية إيمانية " تخضع خضوعاً تاماً لقوانين الروح المطلقة. وبقدر ما كانت المسافة شاسعة بين مثالية المادية ومثالية الروح.. بقدر ما كان على العقل الإنساني أن يبذل من الجهد لملء هذه الفجوة الفاصلة بين القطبين النقيضين (المادة والروح) بالفكر الجديد." الذي جاء مع الفلسفة الوضعية التجريبية، فتحولت الفلسفة كما يقول عمران من (علم الحكمة ) الى ( العلم الكلي ) وبنتيجة ذلك كان التأسيس لعلم الاجتماع..
من السؤال الفلسفي (مَنْ قبل مَنْ) الى السؤال الذي طرحته المدرحية كبديل للتناقض القائم بين تلك الأسبقية، فكان السؤال:" من أين جاءت الحياة" وكانت الإجابة كما يقول عمران:" "شيوع الحياة في المادة شيوع الإنسانية في الحياة.. (بمعنى أنه) يجب تفسير الوجود بالإنسان على قاعدة ربط موضوعه بحركة الحياة.. (من منطلق أنه) إذا كان شيوع الحياة في المادة شرطاً لوجود الإنسانية واستمرارها، فان شيوع الإنسانية في الحياة هو أيضاً شرط لإعطاء الظواهر المادية بعدها المؤنسن، المعّرف، والمتسق في عملية بنائية (كمية وكيفية) لا حدود لها. وهذه النظرة تستقرئ كيفية تحول الحياة من كمون مجرد إلى حيوية، ومن ثم إلى حركة. وتنطلق إلى تحديد المنطق الناظم لتحول الوجودات من أشياء إلى ماهيات، ومن عبث إلى وظيفة، فالحياة لا معنى لها إن لم تكن صيرورة.. وخلقاً مستمراً.." في تحول الوجود من شيء الى ماهية، يقف الوعي فاعلا لتحويله من إمكانية الى فعل..
فلسفة التفاعل:
هنا تبرز للوجود أهمية الوعي الإنساني في الفعل باعتباره الرد الأمثل للتحدي الوجودي الموضوعي، وفي العلاقة بين الوجود والوعي، تقوم مقولة التفاعل التي تقول بها المدرحية كمخرج عملي ، فعلي، من صراع أضداد مفترضة هي في وحدة مهما قيل غير ذلك، يقول الرفيق علي عمران:" يشكل فكر سعادة نهجا مغايرا لمنحى الفلسفات التي سبقته، وتتجلى نقطة افتراقه عنها في موقفين نظريين متكاملين :
الأول: انه أبطل السؤال الفلسفي التقليدي..
الثاني: بما أن الإنسان هو قضية الفلسفة، لا يجوز تجاهل ما تفرضه الظاهرة الإنسانية من واقع وضعي.." بالطبع، على صعيدي الوجود والوعي، يضيف الرفيق عمران:" يرى سعادة وجوب فهم هذه الظاهرة حسب القوانين الطبيعية التي تحكم وجودها وفق ثلاثة مستويات متلازمة ومترابطة سببياً.." واحدة من أهم ثلاثيات سعادة، الانسان، الأرض، التفاعل، بمعنى دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية.. الانسان كمفهوم، يقول عمران:" هو إشارة إلى حالة اجتماعية ذات خصائص طبيعية ولا يتضمن هذا المفهوم أي إشارة إلى الفرد كحالة بشرية معزولة.." أما الطبيعة ـ البيئة، فهي في خصوصيتها كما يقول عمران:" يربط سعادة بين خصوصية الأرض (المكان)، وخصوصية الظاهرة الإنسانية (الحالة الثقافية والنفسية للمجتمع) بعلاقة طبيعية هي التفاعل بين طرفي معادلة الحياة ( البيئة والمجتمع) حيث تبرز للوجود ظاهرة راهنية " التفاعل الذي ينشأ بين المجتمع (الحالة الثقافية النفسـية) وبين الأرض (البيـئة الطبيعية) . وفي هذا التفاعل يشكل القطبان الأساسيان (الأرض =الإمكانيات المادية) و (الإنسان = الوعي) عاملي السلب والإيجاب، بحيث يصبح كل قطب في موقع الفعل والانفعال.." وهنا ما يحسب للرفيق عمران في كشفه عن جوهر العلاقة التفاعلية التي تقول بها المدرحية، ذلك أنها ليست مجرد علاقة كيمائية يأخذ كل من قطبيها دوره متماهيا في الآخر، إنها علاقة مدرحية بامتياز عندما يقول عمران" بحيث يصبح كل قطب في موقع الفعل والانفعال.." أي تداولية الأدوار في العلاقة التفاعلية المدرحية، فأي من طرفي مقولة التفاعل، هو في آن منفعلٌ وفاعلٌ، يقول سعادة:" يكيّف الإنسان الأرض ولكنّ الأرض نفسها تعيّن مدى هذا التّكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليميّة. وفي الوقت الّذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيويّة يجد نفسه مضطرّاً لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النّازل فيها.." وعليه يبني الرفيق عمران موقفا مدرحيا بامتياز:" · في كل مادي نقع في الوجود الانساني على مدلول روحي أو أكثر. وفي كل روحي هناك مدلول مادي أو أكثر.. ولا وجود عملياً للتناقض في "المادة "، سواء داخلياً (بين مكوناتها) أو خارجياً (بين مادة وأخرى)، فالموجب "يكامل" السالب، وكل سلب شرط لوجود الإيجاب والعكس صحيح. " مدللاً في هذا الموقف على وحدة الوجود التي لا يمكن تجزئتها وفق تشظيات فهم العقل لها، ومعرفا الانسان كمركب من " المعرفة (العقل) والوجدان (النفس والإرادة) وتشكل المعارف العقلية في تفاعلها مع الوجدان البنية الروحية للإنسان.. “ بمعنى أكثر وضوحا، أن ما نعرفه يدخل فيه شرطاه، الوجود والمعرفة، فالوجود مضمون المعرفة، كما المعرفة هي التي تُعطي الوجود قيمته..
التناقض اذن في العقل الذي لا يقبل بالتناقض، فيمضي في تجزئة الواقع المادي لفهمه.. ومع ذلك فعلى الرغم من التناقض في الوعي (بمعنى تجزئة الواقع المادي الى ثنائية هي انعكاس لما فطر عليه من ثنائية الليل والنهار البعيد والقريب، الأعلى والأسفل) فإن "التفاعل بين الإنسان والوجود، يتبدى عملياً في مستوى العلاقة بين الوعي وعالم الظاهرات، وهذه العلاقة تنطوي على تفاعل متواصل بين عالم الأشياء في ذاتها (الذي هو الوجود الموضوعي) وبين العقل الاجتماعي، وتحكم خصائص المجتمع (العامل الذاتي) مسار العقل الاجتماعي في التحقق من الظاهرات، وإدخالها مدار التفاعل.. · في الحقل الاجتماعي الواحد (الأرض + الجماعة) تجري عملية التفاعل في مستويين:
أ. المستوى الموضـوعي: وهو الذي تتم فيه العـلاقة الحيـوية بين الإنسـان والبيئة (المحيط المادي) وقياساً عليه، يمكن القول أن الفكرة تنتج من تفاعل مثلث العناصر الأساسية:
المكان (البيئة الطبيعية) – الحالة (بنية المجتمع) – العقل والوجدان (الثقافة والإرادة)..بمعنى آخر أكثر دقة، أن المادة مرتبطة بمدى استجابة الجماعة لها، هذه الاستجابة هي التي تعين مستوى المرتبة الثقافية للمجتمع وفق المرتبة الثقافية لدورة الحياة الاجتماعيةـ الاقتصادية..
فلسفة الحقيقة:
يُعرف عمران الحقيقة من حيث كونها" ظاهرة وجودية متفاعلة ومنفعلة مع الوعي.. "أي أن المادة بالمعرفة تخضع للإنسان، فتصبح مسخرة لخدمة أغراضه التي إن أحسن صياغتها باتت المادة أقدر على تلبية مطالبه منها، في الحال المعاكس تبدو المادة مستعصية على الاستجابة، والاستعصاء دليل على فهم مغلوط في الوعي وليس في المادة، استعصاء الوحدة الاجتماعية دليل فهم مغلوط لهذه الوحدة ( مفهوم العروبة، مفهوم الأممية الدينية والطبقية..) وعليه يقول عمران:" فهي نسبية وشرط تحولها إلى حقيقة مطلقة أن تصل عملية التفاعل (فعل وانفعال) بين شرطيها إلى حدها النهائي.. ولذلك فالحقائق الوجودية المطلقة لا وجود لها عملياً في منطق الحياة، لأن كل مطلق سكوني، بينما الحياة مسكونة بديناميات التغيير التي تصنع حركة التاريخ التي لا تعترف بنهائيات في الفكر وحتى الحقائق الرياضية والفيزيائية التي أسستها للعلوم المعاصرة نقضها منطق العلم الحديث، وانقلبت عليها أدوات المعرفة المعاصرة.." يضيف عمران موضحا أن الافتراض العلمي مقبول مبدئيا، لأنه افتراض مُدعم بمنطق موضوعي، لذلك" في كل فلسفة يمكن أن نقع على منطق افتراضي في المستوى الأول من منهج التفكير.." لكنه (عمران) ينبه الى أن "الظواهر رغم وجودها تكاد تكون عدماً في غياب الوعي، لأن وجود الإنسان كان شرطا قطعيا لإدراك الوجود فالكون لا وجود له معرفيا لولا وجود الإنسان.. أي أنه في غياب الوعي الإنساني يظل (الوجود) في كينونته افتراضا غير محقق.."
فلسفة التاريخ:
في فلسفة التاريخ، يقدم لنا الرفيق عمران كيف أن المدرحية أو القومية الاجتماعية، هي المخرج العملي لتنازع الأمم لمصالحها، فهذا التنازع محكوم بتجزئة بيئات الأمم الى كيانات سياسية فرضتها ظروف تاريخية حكمتها نزوعات للتوسع والسيطرة على الموارد، لذا، كان المخرج الوحيد من حالة الاضطراب هذه التي تعيق الإنسانية من اضطراد التقدم، هو العودة الى " مبدأ الخصوصية الذي يحكم نشوء الأمم هو القانون الوحيد الذي يمكن على أساسه فهم التباينات الحاصلة في مسارات المجتمعات الإنسانية . إذ لا يمكن أن نتصور تحديدا للمجتمع بما هو ليس فيه أو عليه . فالإنسانية لم تؤلف في الماضي ولم تؤلف حاليا ولن تؤلف مستقبلاً كلاً متجانساً تنتفي فيه التمايزات الحضارية والقومية. ولا أحد يستطيع الإدعاء بأن الجنس الإنساني يشكل في مجموعه جماعة واحدة تتطور دائما وكليا في الاتجاه ذاته وفقا لمسار واحد واتجاه واحد . فالإنسانية (الملأ الإنساني) لا تزال مجرد فكرة عقلية ترمي إلى وضع مدلول صالح للتعبير عن مجموع الجماعات الإنسانية في تعريف مطلق وشديد العمومية... أن الإنسان والمجتمع هما مظهران لجوهر واحد يتحقق بالتفاعل ويتمايز بالنوازع الثقافية والنفسية (روح المجتمع) التي لا تتوقف عن الإلتحام والتفاعل مع البيئة (ارض - أمة) ، محققة صيرورة مدرحية متفاعلة لا تنتهي إلا بانتهاء أحد شرطيها (الأرض) أو (الأمة). وهذا لا يكون إلا بزوالهما معا
مدرحية الدكتور عادل ضاهر
على مدى سبع وثلاثون صفحة، يقدم لنا الأمين حيدر حاج إسماعيل، نقده لما يطرحه الدكتور عادل ضاهر في كتابه " المجتمع والانسان" الصادر في عام 1980، والذي حاول فيه الدكتور ضاهر " متوجسا" تلمس الطريق الى فهم ما هو أقرب ما يكون لفلسفة أنطون سعادة،" المدرحية"
وقبل الخوض فيما قدمه الدكتور عادل ضاهر، وما أنتقده الأمين حيدر، وعلى اعتبار أننا هنا، لسنا بمعرض ما قدمه الرفيق عادل ضاهر، بل بنقد الأمين حيدر له، فإننا نختص هاهنا بما قدمه الأخير حول دراسة الأول، مع الإشارة الى ثناء الأمين حيدر على دراسة الرفيق ضاهر، من منطلق أنه الثناء الوحيد بين كل ما تناوله في كتابه "الفلسفة المادية ـ الروحية عند سعادة" من دراسات أو مقالات أو محاضرات في الفكر السوري القومي الاجتماعي.
والسؤال البدئي في محاولتنا قراءة ما يقدمه كليهما ـ ضاهر وحيدر ـ هو:" لماذا نعتمد علماء الاجتماع الغربيين في تقييم ما يقوله سعادة في رؤيته الى الحياة والكون والفن؟ فكأننا بهذه الحال، نعارض سعادة كلية في ضرورة استقلالية الذات السورية في نظرتها للحياة والكون والفن، والتي ـ الاستقلالية ـ كانت من أهم المحاور التي دار في فلكها فكر سعادة! وقد يقول قائل:" لكن سعادة نفسه قد استعان بعلماء الغرب في مؤلفه " نشؤ الأمم"!! نقول مع صحة هذا التساؤل، فاستعانة سعادة بعلماء غربيين كانت على قاعدة نقدهم وليس اعتماد ما يقولونه إلا ما توافق مع رؤيته لذات الموضوعات التي تطرق هو وهم لها!! وهذا ما لا نجده في كلتا المحاولتين (حيدر وضاهر) فعلى قياس الغرب يحاولان تفصيل ما قدمه سعادة لجهة الفصل بين العلم والفلسفة أو لجهة المنهج فيما كتبه وقاله سعادة!!
من وجهة نظرنا، فإن علماء الغرب، يُفصلون العالم على مقاسهم، هناك ثلاثة من كبار علماء الاجتماع في الغرب ، هم كذلك، لأن نظرياتهم سادت أوروبا ومن ثم أمريكا، دوركهام في نظريته الوظيفية، وفريدريك أنغلز في ماديته التاريخية، وماكس فيبر في نظرته الفردانية (الفرد هو المقياس)، سقطت الوظيفية في التجربة التي قدمتها أمريكا عبر التطورات التي سادت أوروبا بعد أمريكا، كما سقطت المادية التاريخية بسقوط الاتحاد السوفيتي، واستغراق كل من الصين وكوبا وكوريا وحتى فيتنام في كيانيتهم وعزفهم عن "مركست" العالم، أما فيبر فما تزال نظريته تفعل فعلها في الغرب، متوافقة مع متطلبات الغرب الاستعمارية ..ومع كل هذا الإفلاس لعلماء الغرب، ما زلنا نستشهد بهم على سعادة..
سعادة، لم يدرس مجتمعه السوري فقط كما درس دوركهايم المجتمع الأوروبي من حيث أنه كيان قائم بذاته بمعزل عن مختلف التطورات التاريخية (اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا..) التي انتهت به للحالة التي درسه بها دوركهايم، كما أن سعادة لم يعتمد "مورغان" في دراسته لشعوب أمريكا، كما اعتمده أنغلز في "أصل العائلة والملكية والدولة" ولا في سؤال ماكس فيبر الرئيس": لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية والبيروقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط ؟ ”
في كل ما كتبه سعادة وقاله، كان تعبيرا عن رفضه نقدا ونقضا لكل فلاسفة الغرب الاجتماعيين وغيرهم، قدم سعادة فكرة ونظرية جديدة كل الجدة مقارنة مع علماء كُثر غربيين وغير غربيين، يقول:" أما التكلم المبعثر على وولتار وموليار ولنكلن وهيقل ووليم جايمس وكانت وشوبنهور... الخ. وعلى مختلف المدارس الفكرية بدون أن يكون لنا رأي وموقف واضح في تلك الأفكار وأولئك المفكرين، فلا يعني أن لنا نهضة. إن ذلك لا يعني إلا بلبلة وزيادة تخبط. إن الفكر البعيد عن هذه القضايا هو أفضل من الفكر المضطرب المتراوح الذي لا يقدر أن ينحاز أو أن يتجه، لأنه متخبط وليس له نظرة أصلية، ولا يدرك ماذا يريد.."
نعيد طرح فهمنا لفلسفة أنطون سعادة "المدرحية" في اطارها العام، الذي سبق تفصيله من خلال هذه الدراسة / نقد على نقد/:
" لا تعني المدرحية أكثر من كون، حقيقة أن "أسبقية المادة على الوعي، بما هي انعكاس للمادة في الوعي، تأتي في سياق إن عكس ما في الوعي على المادة" أياً كانت مفهوماتنا للمادة أو الوعي، موضوعا ومنهجا ونتيجة، يبقى خلافا لما هو مادة وما هو روح، بمعنى آخر، لا يمكن قسمة الوجود بما فيه الانسان، الى مادة وروح (نفس) على الرغم مما تتمتع به النفس أو الوجود من خصائص وميزات وصفات أو ماهية، تبقى بأية حال، مهما بالغت من المنطقية، قسمة هي واحدة من تشظيات الوعي لفهمه ذاته أو ما يحيط به."
وقد يكون خير مثال على ما تقدم، هو ما أشار اليه الأمين حيدر في معرض نقده لدراسة الرفيق ضاهر في قوله:".. الفلسفة المدرحية عند سعادة، و"الفلسفة القومية الاجتماعية" عند سعادة و"النظرة الى الحياة" عند سعادة و"العقيدة" عند سعادة و"المبادئ" عند سعادة، كلام يكافئ بعضه بعضا.." بمعنى أننا إذ نتداول في أي من هذه المصطلحات، فإننا لا نتداول (مدرحيا) سوى بما يكافئ بعضه بعضا، وبما يفيد أيضا، أن وحدة الوجود بما فيه الانسان، في مختلف ما نعنيه في الفلسفة أو الفلسفات، أو المنهج والمناهج، أو المنطق والمناطق، أو العلم والعلوم، فكل من هذه، تبقى " كلام يكافئ بعضه بعضا" من حيث أن موضوعه هو الوجود والانسان، وهذا ما تقول به المدرحية وما تعنيه، فوعي الوجود والانسان، بما تعنيه المعرفة، من حيث هو ضرورة، تكمن الأخيرة في الاستدلال على ما يمكن تسخيره من الوجود لما فيه تقدم ورقي الانسان، وبقدر ما تكون فيه المعرفة حقيقية، بمعنى قابضة على خصائص وميزات الوجود بما فيه الانسان، بقدر ما تكون قابلة لتحقيق غاية وجودها موضوعا لخير الانسان، وهذا ما عناه سعادة بقوله:" وأنّ الشّمس لا تدور حول الأرض. ولو لم تتّفق هذه الحقيقة مع مجد يشوع بن نون.." بمعنى أن ما تنقله لنا حواسنا مما حولنا، يبقى إذا لم يعمل العقل على مطابقته مع الوجود بما فيه الانسان، مجرد فهم قاصرٍ على تسخيره لما فيه خير الانسان بذاته" فالحقيقة من حيث هي "قيمة نفسية إنسانية.." تبقى "المعرفة هي التي تعطي الوجود قيمة لا يمكن أن تكون له بدونها " بمعنى آخر، إن المعرفة هي السبيل الوحيد للإنسان لتسخير الوجود لصالحه، شرطها الوحيد أن تكون حقيقية، أي أن تكون متطابقة وخصائص الوجود بذاته لا متوقعة أو متخيلة.
في بداية نقده لطرح الرفيق الدكتور عادل ضاهر، يتناول الأمين حيدر، قول الرفيق ضاهر في تصديره لكتابه:" زد على ذلك أن آثار سعادة، لم تنشر كلها بعد، وأن جزءا لا يستهان به مما لم ينشر في غير متناول الباحث، لهذه الأسباب لا بدَّ للباحث من التخوف والحذر في بعض الاستنتاجات وخاصة ما يتعلق منها بنظرة سعادة للإنسان والقيم والتطور التاريخي، فالفجوات كثيرة هنا، ولذلك يجب تنبيه القارئ الى أن تأويلنا لنظرة سعادة المرتبطة بالشؤون المذكورة كان أحياناً خاضعاً لفهمنا الخاص لما يشكل المنحى العام لفكر سعادة وليس لما توحي به نصوص معينة من كتاباته.." بما يعني كما يقول الأمين حيدر:" ألا نعتبر فهمه الخاص مطابقا مطابقة تامة لفكر سعادة.." أما في مقدمة الكتاب، فاللافت عند الأمين حيدر قول الباحث:" ولكن إذا كان لا بد من معرفة الواقع الاجتماعي، فما هو المنهج الذي يجب استعماله للوصول الى هذه المعرفة؟ من الضروري أن نلفت نظر القارئ في بداية معالجتنا لهذا السؤال الى أن سعادة كدارس اجتماعي، ليس صاحب منهج خاص به ولا هو ذو موقف فلسفي تجاه المسائل المنهجية يميزه عن سواه، لقد شدد سعادة في أمكنة كثيرة من كتاباته على الموضوعية في تقصيه للحقائق الاجتماعية والتاريخية ولكن لم يفرد سعادة بحثا أيا من أبحاثه، لتناول أسئلة منهجية تتعلق بما يعنيه أن ننحو نحوا علميا أو موضوعيا في حقل الدراسات الاجتماعية، فأسئلة منهجية كالتي نشير إليها هنا على درجة عالية من الأهمية، ولكن بما أن العلوم الاجتماعية حديثة العهد، فإننا نجد أنه، حتى في الغرب، الذي ازدهرت فيه هذه العلوم قبل غيره، لم تطرح هكذا أسئلة، جديا وتعالج على نطاق واسع إلا منذ فترة قريبة .." كل ما تقدم من تبريرات الباحث، يقول الأمين حيدر:" كل ذلك لا يصلح أن ينتج عنه نتيجة جازمة بأن سعادة ليس بصاحب منهج.." يضيف قائلا:" مناهج الفلاسفة وطرائق البحث عند المفكرين والعلماء لا تُعرف فقط من أبحاثهم المباشرة فيها أو كتاباتهم عنها، يمكن التعرُّف عليها أو استنباطها من مكتوباتهم في قضايا أخرى.." في شرحه للمبدأ الرابع من مبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية، يقول الأمين حيدر:" هذا المنهج يسميه سعادة بالحرف الواحد " مبدأ التسلسل التحليلي" وهو المثال الذي سبق وأشرنا اليه في دراسة الرفيق عمران، لكنه ليس المبدأ الوحيد الذي يتبعه سعادة في مختلف كتاباته، ذلك أن تحليل الوقائع الى أدق جزئياتها، بمعنى بلوغ التحليل العوامل والأسباب التي كانت الوقائع نتيجة لها، يتطلب ترتيبها من جديد وفق منطقيتها المادية ـ الموضوعية، ومن ثمَّ إعادة بنائها وفق تلك المنطقية المادية الموضوعية والخلوص لنتائج تتوافق أيضا مع ماديتها الموضوعية، نتائج تتبين الشوائب التي أدت لنتائج هي ظاهرات اجتماعية ، كظاهرة الطائفية أو الطبقية أو الكيانية أو العنصرية أو...الخ وتاليا كيفية معالجتها بغرض الحد من تأثيراتها على تقدم ورقي الانسان وخيره، أو إزالتها، فعندما يقول سعادة في شرحه للمبدأ الرابع من مبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية:" يتبع هذا المبدأ مبدأ التسلسل التحليلي. فهو تحديد لماهية الأمة.." وأنه " ليس القصد من هذا المبدأ رد الأمة السورية إلى أصل سلالي واحد معين، سامي أو آري، بل القصد منه إعطاء الواقع الذي هو النتيجة الأخيرة الحاصلة من تاريخ طويل.." أي بيان الواقع الذي يمكن الانطلاق منه لعالم أفضل، والذي هو "نتيجة لا سبب" يكون سعادة قد أعاد بناء ما توصل اليه عبر منهج تركيبي وليس تحليلي، وعليه يكون "مبدأ القومية السورية ليس مؤسساً على مبدأ وحدة سلالية، بل على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزيج سلالي متجانس، الذي هو المبدأ الوحيد الجامع لمصالح الشعب السوري، الموحد لأهدافه ومثله العليا، المنقذ القضية القومية من تنافر العصبيات الدموية البربرية والتفكك القومي." وبطبيعة الحال، فإن المنهج التحليلي هو بطبيعته منهج وصفي لأنه يتتبع الظاهرات الاجتماعية أو الكونية من حيث عواملها وأسبابها المادية ـ الموضوعية، دون إضفاء أي خصائص أو مواصفات أو مؤثرات ذاتية، هي بحد ذاتها تشويه للمنهجين التحليلي والتركيبي، في آن، موضوعيا اذا ما اعتبرنا المنهج التحليلي بحث في الأسباب، فالمنهج التركيبي بحث في النتائج، فالأسباب دون نتائج لا معنى لها كذلك النتائج غير المستندة لأسبابها تبقى تصورات أو تهيئات ذاتية، مثالية، على نحو ما انتهى اليه "كانت" في كتابه " نقدر العقل المجرد" والذي استغرق منه خمسة عشرة سنة من التأمل، لينتهي للقول:" أن المعرفة البشرية لا تناسب الأشياء، لكن يمكن تسخير الأشياء لتناسب المعرفة.. " ومع أن هذا القول يحتمل الوجهين الإيجابي والسلبي، فإننا نتغاضى عن بحثه تخوفا من خروجنا عن النص، كذلك يبقى المنهج التركيبي منهج معياري، لأنه يبحث في النتائج الواجب بلوغها من إجمالية الدرس لأية ظاهرة من الظاهرات، مادية كانت أم روحية..
(*) راجع دراستنا " دراسة في فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية"
ننتهي من كل ما تقدم للقول، أنه وفق رؤيتنا وفهمنا للمدرحية من حيث أنها نظرة ترى العالم في وحدته وليس في تشظيات الوعي، أن كلاً من المنهاج الآنف ذكرها هي في وحدة، تتبادل كل منها مع الأخرى الأدوار، متكاملة بعضها مع بعض، أو كما يرى الأمين حيدر، أنها" كلام يكافئ بعضه بعضا.." فلا التحليلي بمستغن عن التركيبي وليس الوصفي بمستغن عن المعياري، وفي مجملهم لا يستغني أيٌ منهم عن الآخر، فالأسباب في نتائجها، كما العلة في معلولها، كما المادة في شكلها، وكذا الانسان في الوجود..
يعلق الأمين حيدر على قول الرفيق ضاهر:" لم يهتم سعادة بمفهوم المجتمع لأسباب نظرية أو علمية خاصة، فالدافع الرئيسي وراء انخراط سعادة في تحليل مفهوم المجتمع هو رغبته في الوصول الى مبادئ عامة يصح اتخاذها كمنطلقات أساسية لفكر ثوري جديد يستهدف إحداث تغيرات جذرية في البنية الاجتماعية لمجتمعه.. فالسؤال " ما هو المجتمع" ذو أهمية لسعادة، إذن، ليس على الصعيد الفلسفي أو الصعيد العلمي وحسب بل والأهم من ذلك على الصعيد العملي أيضا، فسعادة لم يطلب المعرفة على أي صعيد كانت، من أجل المعرفة وحسب.. لم يستهو سعادة قط مبدأ "الفكر من أجل الفكر" أو "العلم من أجل العلم"، كل سؤال يطرحه سعادة إما طرحه بقصد معالجة معضلة اجتماعية ما، أو بقصد الوصول الى وضوح أكبر بشأن طبيعتها فتسهل معالجتها أكثر.." يقول الأمين حيدر معلقا على ما تقدم:" يعتقد الباحث أن سعادة وضع نظرية في المجتمع، وأن السؤال "ما هو المجتمع" كان ذا أهمية لسعادة.. وعندما يبدأ الباحث بالكلام التحديدي عن المجتمع يقول، المجتمع في نظر سعادة هو المتحد الأتم.. المفارقة هنا أن ينسب الباحث كل ما ورد في ذلك الفصل لسعادة في حين أن سعادة نفسه ينسبه الى ماكيفر.. وقد استفاد سعادة من فكرة المتحد عند ماكيفر.. وذلك عن طريق رده الأمة (وليس المجتمع) الى جنس المتحد وتعريفه الأمة (وليس المجتمع) بأنها " أتم متحد.. لكن قول الباحث بأن المجتمع هو" المتحد الأتم" وقول سعادة بأن الأمة " أتم متحد" يضعان الباحث أمام نتيجة من هذا النوع، المجتمع هو الأمة أو الأمة هي المجتمع، غير أن الباحث لم ينتج هذه النتيجة، بل نجده يذهب الى تنبيهنا الى عدم جواز الاستنتاج أن مفهوم المجتمع لسعادة هو متساو مع مفهوم متحد الأمة، لماذا؟ لأن "المجتمعات وجدت قبل عصر القوميات" أو بروز الأمم على مسرح التاريخ، تحصيل هذا الكلام، هو أن المجتمع ذو أسبقية تاريخية على الأمة (أي وجد قبل وجود الأمة) والحق أن حكمه جاء دون سند في قوله:" كل متحد أتم هو حتما مجتمع كامل بالنسبة لسعادة، ولكن ليس كل متحد أتم أمة أو متحدا قوميا.." ينهي الأمين حيدر، تعليقه، بالقول:" من كل ما تقدم نحصل على ما يلي: ليس لسعادة تحليل مستقل لمفهوم المجتمع والمتحد كما يقول الباحث الدكتور عادل ضاهر، تحليل مفهوم " المجتمع " و" المتحد " هو أصلا لماكيفر..".
على ثلاث مستويات سنناقش ما تفضل به الأمين حيدر حاج إسماعيل:
المستوى الأول: هو نسبة ما يقوله سعادة في الفصل السابع ل"ماكيفر" (عند سعادة " ميكور" كما يشرح الأمين حيدر).
سبق لنا وأشرنا الى أن سعادة في محاولته فهم التاريخ الإنساني، قد استعان بعلماء اجتماع دون آخرين، وان استعانته بهؤلاء لم تكن مجرد نقل ، كانت في واقعها تبحرا في ما يقوله هؤلاء في موضوعات تشكل محورا من محاور تفكيره، ومجاراته هنا لميكور ، لم تكن تعني أكثر من ذلك، لأنه وإن اتخذ من مصطلح" ميكور" بداية لبحثه، عدل من مفهوم هذا المصطلح، فأعاده الى نطاقه، يقول سعادة:" أريد أن أجاري هنا مكيور في إيضاحه المتّحد أنّه كلّ مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميّزة عن المساحات الأخرى تميّزاً لا تصحّ بدونه تسمية المتّحد(216).. فإذا سلّمنا بالافتراض أنّ المرّيخ مأهول وأنّ فيه نوعاً من البشر يحيون في جوّه وأرضه حياة توافق ذلك الجوّ وتلك الأرض، صحّ أن يكون النّاس على هذه الدّنيا متّحداً مشتركاً، على كل ما فيه من متناقضات، في خصائص تميّزه عن متّحد سكّان المرّيخ، الّذين، على ما قد يكون لهم من فوارق متناقضة، لا بدّ أن يشتركوا في خصائص حياتهم العامّة المميّزة لهم عن سكان كلّ سيّار آخر، الموجدة لهم إمكانيّات تفاعل داخليّ تحدّد مجموعهم بالنّسبة لمجموع هذه الدّنيا ويكون أساس هذه الإمكانيّات خصائص النّوع، ويكون معنى هذا المتّحد منتهى التّوسّع في استعمال هذه اللّفظة الّتي تفيد التّجانس والتّلاحم والّتي أريد بعد الآن أنّ أقتصر فيها على الواقع الاجتماعيّ، على الجماعة المشتركة في حياة واحدة تكسبها صفات مشتركة بارزة وتسبغ عليها ما يمكننا أن نسمّيه شخصيّة ووحدة خاصّة.." واضح كل الوضوح كيف أن مجاراة سعادة ل"ميكور" كانت من باب تعديل مفهوم " ميكور" لمصطلح " متحد" والذي قصره هنا سعادة على "الواقع الاجتماعي" وتاليا فإن ما يأتي عليه الفصل السابع من نشؤ الأمم، هو لسعادة بكليته لأنه اعتمد فيه مصطلح " ميكور" بمصلح أدق دلالة مما ذهب اليه ميكور، أو في الحد الأقصى، مواز له في الاتجاه دون الحامل، هو "الواقع الاجتماعي" وليس كما تفضل به الأمين حيدر.
المستوى الثاني :
حول أسبقية المجتمع على الأمة كما يتفضل الدكتور ضاهر، فهذه الأسبقية، تبقى في أفضل حالاتها، أسبقية نظرية، دراسية، ليس إلا، فسعادة لا يعترف بمثل هذه الأسبقية، فهو يقول في المبدأ الرابع: "الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع الى ما قبل الزمن التاريخي الجلي." هذه الوحدة عبر التاريخ، تجلت بشكل أو بآخر في دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية، والتي هي النتيجة الجوهرية في تمايز الأمة السورية عبر التاريخ والتي يعترف بها العالم أجمع، (*) وقد يكون صحيحا كل الصحة أنه لم يكن هناك مفهوم للأمة، لكن ما كان يعبر عن هذه الأمة هو دورة حياتها الاجتماعية ـ الاقتصادية والتي باستمراريتها على مدى أجيال الأمة كانت المعبر الوحيد عنها، والتي بقيت فاعلة رغم مختلف الاحتلالات التي ابتدأها قورش وانتهت بفرنسا وبريطانيا، عبر ما يقارب الألفي عام ونصف كانت الأمة فاقدة لاستقلالها السياسي، لكنها كانت في وحدة حياتها الاجتماعية ـ الاقتصادية متميزة عن باقي الأمم التي ألحقت بإمبراطوريات الاحتلال، منذ أن اتخذ الإسكندر من بابل عاصمة لملكه الى الدولة السلوقية الى تبوء عائلة "سبتيموس سفروس" الحمصية، عرش رومة لمدة تقارب النصف قرن الى اتخاذ معاوية من دمشق ومن ثم بغداد عاصمة للإمبراطورية الإسلامية الى عائلة " الأحمر " في الأندلس التي اتخذت من حمص مثالا لها الى الاحتلال العثماني الذي أدرك مؤسس الدولة خطورة تفوق السوريين فأقصاهم عن أي مركز سياسي في دولته..
منطلقين من مقولة سعادة الأساس " المادة تعين الشكل" يمكننا القول أن دورة الحياة الاجتماعيةـ الاقتصادية هي الشكل الذي أفرزته مادة الأمة " البيئة الطبيعية" والتي منذ فجر التاريخ كانت المحرك الرئيس لمختلف مجريات التاريخ السوري بحد ذاته، وهي التي ميزت الشعب السوري عن سواه، ومنذ أن أعلن الإمبراطور السوري "كركلا" قانون "معدودية" الإمبراطورية الرومانية، حتى بدأت الشعوب الملحقة بهذه الإمبراطورية الشعور بشخصيتها الذاتية (القومية) فكانت انتفاضاتها على محتليها وحكامها يوما بعد يوم تعبيرا عن هذا الشعور، والذي ابتدأ مع "غاريبالدي" وانتهى بالثورة الفرنسية، ولربما كان المثال الأدق عن هذا الشعور هو الطابع السوري الذي طبع فيه الإمبراطور " ايلاغابالوس-إله الجبل" الإمبراطورية الرومانية بكاملها و الذي رفع مدينة حمص إلى مصاف متربول المدن الكبرى .. وكان يجلب العنب والخمور من سوريا، وحاول إنشاء ديانة توفق بين مختلف العقائد حتى تشمل المسيحية. هذا النفوذ هو الذي دعا الشاعر اللاتيني (جوفنال) لأن يتذمر في هجائيته المسماة “بابل” من أن نهر (العاصي) السوري أصبح يصب منذ زمن بعيد في (التيبر) والحياة أصبحت في روما لا تُطاق من كثرة هؤلاء الأغراب الذين توافدوا على العاصمة واستقروا فيها.. (**) وهذا ما دفع بسعادة الى اعتبار أن الحروب التي قامت بين مختلف الدول السورية قديما، كانت نزوعا لاستكمال مداها الحيوي، والذي لم يكن مؤطرا بمفهوم الأمة أو القومية بل كانت دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية تدفع اليه دفعا، وما الوضع السياسي الذي نعيشه اليوم سوى وضع مشابه الى حد بعيد للوضع الذي كانت عليه الإمبراطوريات السورية قديما، فهل تجزئة الأمة الى كيانات اليوم يلغي دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية عن فعلها في شعور كل منها بحاجته الماسة للتكامل مع الكيانات الأخرى على الرغم من الاحتراب الدائرة رحاه بينها وفي كياناتها أيضا؟
المستوى الثالث:
بقول الأمين حيدر:".. وعندما يبدأ الباحث بالكلام التحديدي، عن المجتمع، ينسب لسعادة الكلام التالي يقول: " المجتمع في نظر سعادة هو المتحد الأتم" ولكننا نعرف أن سعادة لم يعرف المجتمع على هذا النحو الذي ذكره الباحث، الكلام عن " المتحد الأتم" في كتاب نشؤ الأمم، كان مدخلا لتحديد الأمة وليس المجتمع، ويتابع قائلا:".. قد استفاد سعادة من فكرة المتحد عند ماكيفر مثلما استفاد ماكيفر منها، وذلك عن طريق رده الأمة (وليس المجتمع) الى جنس المتحد، وتعريفه الأمة (وليس المجتمع) بأنها "أتم متحد".."
"المتحد" الذي قصره سعادة على "الواقع الاجتماعي" هو الأمة من وجهة نظر الأمين حيدر، وليس المجتمع، يتابع قائلا:" من كل ما تقدم نحصل على ما يلي:
"ليس لسعادة تحليل لمفهوم "المجتمع" و "المتحد" كما يقول الباحث الدكتور عادل ضاهر، تحليل "المجتمع" و"المتحد" هو أصلا لماكيفر، سعادة استفاد من الحقائق التي توصل إليها علماء الاجتماع ومنهم ماكيفر في سياق بحثه عن كيفية نشوء الأمة، شاغله كان نشوء الأمة.."
وعلى الرغم من أنه لا يقدم لنا تعريفا للمجتمع يميزه عن تعريف سعادة للأمة، يمضي في اعتبار أن الرفيق ضاهر قد أرتكب "اغلوطتين" مما يجعل من الفصل الثاني ساقطا يقول:" استنادا للحقائق التي قدمناها، يحق لنا أن نعتبر الفصل الثاني.. ساقطا لارتكازه على أغلوطتين هما: أغلوطة الخلط بين فكرة "المجتمع" وفكرة "الأمة" خصوصا وأغلوطة الخلط بين فكر ماكيفر وفكر سعادة، على وجه العموم."
سبق لنا وناقشنا "الأغلوطة" الثانية، من حيث أن سعادة لم يأخذ مصطلح " المتحد" كما قال به "ماكيفر" بل قصره على "الواقع الاجتماعي" بعد أن فك ارتباطه بمطلقية مفهوم ماكبفر، وقصره على الأمة من حيث هي "واقع اجتماعي بحت"..
الأغلوطة الأولى التي يقول بها الأمين حيدر، ليست هي ب "الأغلوطة"، كما نفهم سعادة من كتاباته وأقواله، إذ لا يمايز سعادة بين الأمة والمجتمع كما يذهب الأمين حيدر، فالمتحد والأمة والمجتمع هي" كلام يكافئ بعضه بعضا" وفق تعبير الأمين حيدر، عند سعادة، وإلا فما معنى قول سعادة في المبدأ السادس، من مبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية:" الأمة السورية مجتمع واحد" والى هذا المبدأ يرد كافة ما تضمنته المبادئ الإصلاحية؟! يقول سعادة:" إلى هذا المبدأ الأساسي تعود بعض المبادئ الإصلاحية التي سيرد ذكرها وتفصيلها (فصل الدين عن الدولة، إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب). وهذا المبدأ هو من أهم المبادئ التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كل سوري. فهو أساس الوحدة القومية الحقيقي ودليل الوجدان القومي، والضمان لحياة الشخصية السورية واستمرارها. أمة واحدة – مجتمع واحد. فوحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح، ووحدة المصالح هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي المصلحة العامة، التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية.." فعندما نقول "أمة واحدة" نعني بها "مجتمع واحد"..
المتحد، الأمة، المجتمع، مصطلحات لمسمى واحد هو واقعٌ اجتماعي، وهذا الواقع الاجتماعي هو أيضا مصطلح لدورة الحياة الاجتماعيةـ الاقتصادية، والتي هي المحور الذي تدور حوله مختلف التوصيفات التي يقول بها سعادة صراحة وتضمينا، ففي رؤية سعادة المدرحية لا يمكن أضفاء تشظيات الوعي على الواقع، فعندما يُعرف سعادة الناموس يشدد على عدم اطلاقه أو اعتباره مصطلحا مطلقا، على النحو الذي جرد به مصطلح ماكيفر من مطلقيته ورده لمصطلح محدد هو الواقع الاجتماعي، يقول سعادة:".. لا أنّ الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّير عليها. وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب أن لا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب أن لا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها.." وبما يعني، أنه حتى النواميس لا تقبل الإطلاق، بل تبقى مقيدة بالمجرى الطبيعي الذي قادنا اليه الاستدلال العقلي والذي قد يضفي على الظاهرات المادية أو النفسية قدرا من الذاتية تشوه تطابقه مع الواقع، فشرط الصحة أو الحقيقة، أن تكون قادرة، بتطابقها مع مجراها الطبيعي، على تغييره أو تسخيره،
(*) https://www.facebook.com/186235948194388/videos/332885540196094/UzpfSTE4NjIzNTk0ODE5NDM4ODoxNDg2OTc5OTcxNDUzMzA2/
(**) https://www.facebook.com/pg/جورج-معماري-186235948194388/posts/?ref=page_internal
(***) https://www.facebook.com/186235948194388/videos/2226081727607350/?t=6
الملاحظة الثالثة:
يعلق الأمين حيدر في ملاحظته الثالثة على ما يعرضه الرفيق عادل ضاهر في الفصل الثامن قائلا:
" في نفس الفصل الثامن، يذكر الباحث أن السؤال عن: ما هو الانسان؟ في التاريخ، كان مدار فكر سعادة، وهذا غير صحيح، فمدار فكر سعادة، كما ذكرنا ونكرر كان الأمة (من نحن؟) وفي هذا الفصل نفسه لا يحدد الباحث ما يقصده بــ (البنية التحتية للمجتمع) عند الماركسيين، تاركا انطباعا بأنها (عوامل الإنتاج، في حين أن البنية التحتية للمجتمع في المفهوم الماركسي هي مجموعة مترابطة من علاقات الإنتاج الاجتماعية وقوى الإنتاج."
سبق وأشرنا الى أن المفردة تأخذ معناها من السياق الذي ترد به، بل ويتحدد في كثير من الأحيان الموقف من الحدث، موضوع المفردة، بانتقاء مرادفها، فمثلاً عندما نقول "مضرجاً بدمه" يكون موقف القائل عدائيا من القتيل، ويكون القائل متعاطفا مع القتيل في قوله "متسربلا بدمه" ويكون أكثر بل وأشد تعاطفا عندما يقول "مضمخاً بدمه"، وعلى ما يبدو، أن عمل الأمين حيدر، كمترجم، وهو الخبير في الترجمة، لم يسعفه عمله أو شاء تجاهل خبرته فيما تقدم..
أشرنا الى علاقة المفردة ومرادفها وسياقها، لما أبداه الأمين حيدر من مواقف حيال الكثير من المفردات التي يستخدمها مَنْ تناولهم نقده، وعلى الأخص، عندما لا يجد ما يتعارض والفكرة الرئيس في النص عقديا، فيلجأ الى الحرفية لإبداء ملاحظاته؟!!
فقول الرفيق ضاهر " السؤال" ما هو الانسان ؟!" في معناه التاريخي وليس في معناه الأنطلوجي هو، إذن، مدار تفكير سعادة، هذه النقطة، كانت بارزة في بحثنا مفهوم سعادة للإنسان، حيث رأينا كيف يتحول البحث عن ماهية الانسان، في فكر سعادة، من بحث عن صفات جوهرية ثابتة الى بحث عن المعطيات الاجتماعية للوجود الإنساني وتجلياته في الواقع التاريخي.." يضيف الرفيق ضاهر قائلاً:".. واسناد ماهية اجتماعية للإنسان يعني أن الانسان هو، بالضرورة، امتداد لهذا الواقع الاجتماعي ـ التاريخي بقدر ما هو هذا الواقع امتدادا له، فالحقيقية الإنسانية هي بحكم الضرورة وجه للحقيقة الاجتماعية بكل معناها الحركي مثلما هي الحقيقة الاجتماعية وجه للحقيقة الإنسانية.." بما يعني، أن الرفيق ضاهر يأخذ الانسان ببعده الاجتماعي ـ التاريخي وليس ببعده الفردي، هذا من جهة، من جهة أخرى، يأخذه من حيث البعد الاجتماعي ـ التاريخي، وهذا يعني أنه يدرسه من حيث هو جماعة، متحد، مجتمع، تشكل تاريخيا عبر مراحل طويلة من التطور حتى بلغ درجة وعي ذاته في الأمة، بمعنى آخر، أنه إذا كان محور تفكير سعادة هو الانسان، فهذا الانسان هو في البعد الاجتماعي التاريخي، أي "انسان ـ جماعة" و"انسان ـ متحد" و"انسان ـ مجتمع" وأخيرا "انسان ـ أمة"، على اعتبار أن وعي الأمة لذاتها لاحق لتشكل الانسان ـ الجماعة، المتحد، المجتمع، فدراسة التطور الاجتماعي ـ التاريخي( ما قبل وعي الأمة لشخصيتها)، هو المقدمة لبيان كيفية تشكل هذه الجماعة وتمايزها عن سواها من الجماعات، عوامل وأسباب ونتائج كانت الأمة محصلتها الأخيرة التي نحياها اليوم وعلى اعتبار أن وعي الذات الاجتماعية لم يكن قد نضج بما فيه الكفاية لبروز دور الشعور بالشخصية الاجتماعية التي هي القومية والتي هي بالتالي شخصية الأمة..
الأمة مرحلة من مراحل تطور المجتمع، وسعادة يدرس التطور ال>ي انتهى بالمجتمع لهذه المرحلة التي هي الأمة، وإلا كيف نفهم قوله:" ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور؟" هذا السؤال المتضمن اجابته يلقي الضوء ساطعا، على أن التطور الاجتماعي ـ التاريخي والذي يقول به الرفيق ضاهر هو المحور الرئيس، أو لنقل السياق الذي يأخذ من خلاله مفهوم الانسان البعد الاجتماعي لا الفردي أو الغيبي الذي يرفضه سعادة رفضا لا رجعة فيه..
صحيح أن الأمة شغلت فكر سعادة وكانت محورا مهما في كل ما كتبه وقاله وتحدث به، لكنها بقيت النتيجة النهائية لما توصل اليه من تحليله للتطور البشري والسياق الذي جاء به، وانطلق منه تركيبيا بإعادة ترتيب جزئيات ما توصل اليه تحليله، وبنى عليه تعريفه للأمة والقول بالقومية التي لم تنفصل عن الاجتماعية والتي كان لإضافتها بعد تشكيل الحزب بسنوات اعتراض من بعض قيادييه، لكن سعادة كان قد توصل الى هذه الإضافة باعتبارها القاعدة التي قامت عليها قوميته السورية، أما سؤاله (من نحن؟) فكان البداية التي دفعت به لدراسة تاريخ التطور الإنساني والذي انتهى منه للقول بالقومية الاجتماعية، فالسؤال من نحن لم يكن سوى مقدمة يقول:" ويتراءى لي أن أمتنا كانت، منذ عصور قديمة جداً، أمام عدة مسائل تتطلب أجوبة صريحة هي:
هل نحن أمة حية؟
هل نحن مجتمع له هدف في الحياة؟
هل نحن قوم لهم مثل عليا؟
هل نحن أمة لها إرادة واحدة؟
هل نحن جماعة تعرف أهمية الأعمال النظامية؟"
وهذه الأسئلة هي أيضاً بسيطة وواضحة جداً ولكنها أسئلة خطيرة وأهميتها واضحة للمدقق البصير المتبصر في القيم الإنسانية وفي طرق التفكير الفلسفي وأهدافه.
هل نحن أمة؟ هذا السؤال الذي يعني أيضاً "ما نحن؟"، يعني ابتداء البحث عن حقيقتنا، ما هي. إنه نقطة الابتداء في أي تفكير إنساني يحاول إدراك حقيقته ومحيطه ومقاصده في الحياة والمحيط. يعني ابتداء التفكير في معنى ماهية الجماعة الإنسانية التي هي نحن وأهدافنا الكبرى التي تعبر عن حقيقتنا ووجودنا نحن وجوهرنا نحن. كل هذا يعني أن قواعد الفكر التي نشأت عليها هذه النهضة القومية وينمو بها الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قواعد فلسفة عميقة تتناول المسائل الأساسية غير التي ترتبط بوقت معين تمضي بمضيه أو بشكل من الأشكال الجزئية، بل هي عامة ثابتة، أو بالمعنى الفلسفي المطلق، ليست منسوبة إلى وقت أو حالة معينة وقتية تزول بزوال تلك الحالة".
بهذه الأسئلة وابتداء الفكر من هذه النقاط وضعت مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي لتعطي الجواب على الأسئلة العلمية الفلسفية العميقة المتقدمة. فلنتقدم الآن إلى هذه المبادئ لندرسها وندرس كيف عينت من نحن كيف عينت أهدافنا ومقاصدنا."
ما تقدم، واضح كل الوضوح من أن السؤال من نحن كان نقطة ابتداء التفكير للإجابة على "كيف عينت من نحن.." أما عن "كيف عينت أهدافنا ومقاصدنا" فيأتي جوابه بناء على مقولة سعادة (الانسان ـ المجتمع) وهو ما انتهى اليه عبر منهج وصفي ـ معياري في آن وهذا ما ألمح اليه الرفيق ضاهر بقوله:".. تشديد سعادة على الأهمية التي بعطيها للعلم، للعلم الاجتماعي بصورة خاصة، كعامل في تكوين عقيدة اجتماعية صحيحة، هنا يظهر سعادة بوضوح أنه لا يمكن الوصول الى موقف معياري معقول، موقف تتحدد ضمنه الأهداف والغايات الاجتماعية التي يجب أن نسعى لتحقيقها، بدون فهم علمي واضح لأحوال المجتمع بعامة، وأحوال المجتمع الذي توضع له الأهداف والغايات المذكورة، بخاصة."
في الملاحظة الثالثة أيضا، يقول الأمين حيدر:" وفي هذا الفصل نفسه لا يحدد الباحث ما يقصده بــ (البنية التحتية للمجتمع) عند الماركسيين، تاركا انطباعا بأنها (عوامل الإنتاج)، في حين أن البنية التحتية للمجتمع في المفهوم الماركسي هي مجموعة مترابطة من علاقات الإنتاج الاجتماعية وقوى الإنتاج."
القول الفصل في هذه المسألة تبقى لماركس نفسه وليس للماركسيين الذين، في مجملهم، لم يدققوا ويبحثوا ويمعنون النظر والفكر في ما كتبه وقاله أستاذهم، على نسق القوميين الاجتماعيين، أيضا في مجملهم، الذين اكتفوا من سعادة بترديد ما سمعوه أو تصفحوه دون تبصر وإمعان بما قاله وكتبه وتحدث به سعادة.
في مقدمته لكتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859)، يقول ماركس:" في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتمشى معه أشكال اجتماعية. فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام. ليس وعي الناس بالذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. فعندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع أحوال الإنتاج القائمة أو بالتعبير القانوني مع أحوال الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه الأحوال التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الإنتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر في أذياله قلبًا سريعًا بدرجة أكثر أو أقل، لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي من هذا النوع يجب دائمًا أن نفرق بين القلب المادي الذي يحدث في أحوال الإنتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة علمية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة واحدة الأشكال الأيديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه. إذا لم يكن في الإمكان الحكم على فرد طبقًا لما يراه هو عن نفسه، فلن يكون في الإمكان الحكم على حقبة مشابهة من الثورة على أساس وعيها بنفسها؛ وإنما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم.»
البنية التحتية، تعني بما تعنيه، مختلف القوى الاجتماعية التي تعمل لقاء أجر، أو الطبقة البائعة للجهد، الطبفة التي لا تملك سوى هذا الجهد، بما يحقق للبرجوازي أو الرأسمالي فائضا في الإنتاج هو الفارق بين الأجر الذي يعطيه رب العمل للعامل متضمنا أجر وسائل الإنتاج، وسعر المنتج في السوق، هي الطبقة المسحوقة في المجتمع التي لا تملك وسائل الإنتاج ولا تتدخل في أسلوب الانتاج، هذه هي البنية التحتية بمعزل عن فهمها من حيث هي" عوامل الإنتاج أو مجموعة مترابطة من علاقات الإنتاج الاجتماعية وقوى الإنتاج." فعندما يقول ماركس:” ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم" يعني أن البنية التحتية على خلاف البنية الفوقية لها علاقاتها الإنتاجية ـ الاجتماعية التي تختلف جذريا عن تلك التي تقوم عليها البنية الفوقية، وتاليا في المفهوم الماركسي، البنية الفوقية هي أشبه ما تكون ببنية "فطرية" تمتص جهد العامل بائع الجهد، أما مفهوم علاقات الإنتاج فهي المحصلة للعلاقة القائمة بين قوى الإنتاج وأسلوب الإنتاج ووسائل الإنتاج، إن البنية التحتية هي مجمل علاقات الإنتاج، وغير مقتصرة على عنصر اقتصادي معين، بل تشمل بعدا اجتماعيا ثقافيا سياسيا أيضا.
الملاحظة الرابعة:
في ملاحظته الرابعة، يعيد الأمين تكرار ما سبق وحدد به موقفه من كتاب نشؤ الأمم، من حيث أنه كتاب علمي ولا علاقة له بالفلسفة المدرحية، لكنه يضيف قائلاً: " أولاً: ليس لسعادة "نظرة في تفسير التطور التاريخي" في كتاب نشؤ الأمم أو أية جهة أخرى من مكتوباته، نعود ونكرر القول إن ما ورد في كتاب نشؤ الأمم ليس لسعادة، هذا ما يقوله سعادة نفسه في المقدمة، بل لعلماء متنوعين اختصاصيين في الجغرافيا والاجتماع والتاريخ الخ، الفكرة الأصلية لذلك الكتاب والتي هي اطروحته وإنتاج سعادة الخاص، هي فكرة نشؤ الأمم وتعريف الأمة تعريفا يبعد عنها الأوهام والخرافات والشعوذات، والعقائد السياسية العنصرية المذهبية وغيرها.."
لن نكرر ما سبق وقلناه حول علاقة العلم بالفلسفة ولا حتى هل كتاب نشؤ الأمم هو كتاب علمي أم فلسفي يختص بالفلسفة الاجتماعية، ولا مقولات الأمين حيدر الأخرى، التي سبق وأبدينا رأينا فيها، بل ما نناقشه هو قوله:" إن ما ورد في كتاب نشؤ الأمم ليس لسعادة (هذا ما يقوله سعادة نفسه في المقدمة) بل لعلماء متنوعين اختصاصيين في الجغرافيا والاجتماع والتاريخ.. الخ" مع أننا كنا قد ألمحنا لذلك مسبقا، لكننا نزيد في ردنا على هذه الأطروحة بالقول: إن استشهاد سعادة بمن ذكرهم في مؤلفه نشؤ الأمم، لم يكن مجرد نقل، ولم يكن مجرد استشهاد على صحة ما يذهب اليه في بحثه، كان إيرادا نقديا لما ذهبوا اليه في دراساتهم حول جملة القضايا التي أثارها موضوع الأمة، وسعادة نفسه عندما يقول:" وندرس كيف عينت من نحن كيف عينت أهدافنا ومقاصدنا.." لا يترك مجالا للشك من أن إيراده لمقتطفات مما قاله علماء الاجتماع والتاريخ والجغرافيا، كان إيرادا نقديا انتهى منه سعادة للكيفية التي عين بها من نحن والمقاصد والأهداف التي قامت على هذه الكيفية يقول:" بهذه الأسئلة وابتداء الفكر من هذه النقاط وضعت مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي لتعطي الجواب على الأسئلة العلمية الفلسفية العميقة المتقدمة.." فالمبادئ اذن كانت نتيجة بحث وتأمل وتفكير ودرس وتحليل وتركيب وصفي لجهة تعين من نحن ومعياري لجهة تعين الأهداف والمقاصد، وليس هذا وحسب بل إنه يصف هذه المبادئ من حيث هي إجابة على أسئلة سبقتها بأنها إجابة علمية فلسفية، وليست مجرد حقائق علمية أتي عليها علماء آخرين أورد أقوالهم بكتابه نشؤ الأمم، على نسق صلاح الدين البيطار وميشيل عفلق في تبني مقولات المدارس الأوروبية في تعريف الأمة من حيث هي جملة من الصفات التي يوردها سعادة ناقدا لها مبينا أنها كصفات تتبع المتحد وليس المتحد هو هذه الصفات ، إنه واقع اجتماعي ـ تاريخي، حيث " الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع الى ما قبل الزمن التاريخي الجلي" هذه الوحدة في التاريخ كانت تتطلب من سعادة الغوص في التاريخ لمعرفة الخصائص والصفات التي دفعت لهذه الوحدة وتلك التي نشأت عنها لذلك نراه( سعادة) يقول:" وقد أجبت نفسي بعد التنقيب الطويل فقلت: نحن سوريون ونحن أمة تامة. وكان وضعي هذا المبدأ."
وهكذا فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو:" أين نجد تنقيب سعادة "العلمي الفلسفي" الذي انتهى به للقول "بأننا سوريون وأننا أمة تامة"؟ هل نجده في كتاب التعاليم أو في المحاضرات العشر أم في جنون الخلود أم في الصراع الفكري في الأدب السوري أو في مجمل ما كتبه وخطه من رسائل أو خطب أو أحاديث ومقالات؟ والتي كانت بمجملها أيضا شرحا لما كان قد تضمنه نشؤ الأمم فقط لا غير؟!!
نعود لقول الأمين حيدر:" ‘ن ما ورد في كتاب نشؤ الأمم ليس لسعادة (هذا ما يقوله سعادة نفسه في المقدمة) بل لعلماء متنوعين اختصاصيين في الجغرافيا والاجتماع والتاريخ.. الخ" ولنبحث في مؤلف سعادة " نشؤ الأمم" عن مستندات الأمين حيدر، ونخوض في مثالين لا أكثر فيهما الدحض الكامل لما يقوله: يستعرض سعادة في بداية كتابه مفهوم السلالة، ويستعرض جملة طويلة من نظرياتها ومواقف الكثير من علماء الاجتماع فيها، وينتهي للقول:" والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن" فمن من علماء الاجتماع ودعاة السلائل قال بهذه النتيجة؟ بل من منهم انتهى به التوصيف السلالي للتفريق بين المدلول العلمي والمدلول التقليدي للسلالة :" إذا تركنا وجهة التّخمين والتّقديرات التّخيّليّة في الفوارق الظاهرة في جماعات النّوع البشريّ وبحثنا عن مدلول كلمة [السّلالة] العلميّ وجدنا أنّ هذه اللّفظة هي من مصطلحات العلم الطّبيعيّ. والغرض منها تقسيم النّوع الواحد إلى فروع (أجناس) تتوارث صفاتها ومزاياها الخاصّة(7)، أمّا النّوع فيقصد منه تحديد الكائنات الحيّة الّتي ينتج تزاوجها نتاجاً ناجحاً يكون له ذات المقدرة بلا حدود(8). فالأجناس تقبل الاختلاط والتّزاوج والإنتاج ويمتنع ذلك في الأنواع إلاّ شذوذاً نادراً."
ومن من العلماء الذين تباروا في بيان امتيازات السلائل قال بأن الجماعة أيا كانت هي مزيج من عدة سلالات...؟ أليس سعادة فقط هو من توصل الى هذه النتيجة التي قلبت موازين علم الاجتماع رأسا على عقب؟!
وفي دراسته للمتحد، هل كان سعادة ينقل ما تداوله علماء الاجتماع من أن المتحد هو مجموعة من صفات اللغة والدين والتاريخ والعادات والتقاليد والتي بمجملها مجرد إرث ديني في كثير من مواصفاتها، او المصالح المشتركة ووحدة الأصل.. الخ على نسق "الأمة العربية " أم أنه فرَّق بينها وبين المتحد؟
قد يكفي قول سعادة:" فوضعت في هذا الكتاب مصطلحات جديدة أرجو أن أكون قد توفّقت في اختيارها للدّلالة على الصّفة المعيّنة، كقولي: [الواقع الاجتماعيّ] و [المتّحد الاجتماعيّ] و [المناقب] و [المناقبية] (لمورال)." فهذه لسعادة دون سواه..
نضيف على ما تقدم، أن سعادة باعتباره " وحدة الحياة" المرتكز الأساس لمفهوم "لواقع الاجتماعي"، دفعه للقول ب “ دورة الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية" والتي هي محور البحث في نشؤ الأمم، والذي خط الطريق اليها، فهل كانت هذه المقولة من ابتكار أي من العلماء الذين جاؤا على لائحة مصادر نشؤ الأمم؟ وعندما جارى سعادة "ميكور" في مصطلح "المتحد" هل أبقى هذا المصطلح في مفهوم ميكور له أم أنه عدله وقصره على الواقع الاجتماعي، ومقولته الأساس التي بنى عليها مختلف ما جاءت به فلسفته المدرحية، " المادة تعين الشكل" هل كانت لغيره من العلماء الذين استشهد بهم، بمعزل عن أي مفهوم فلسفي لمقولة " المادة" أو ما تعنيه لبعض فلاسفة علم الاجتماع، فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما يستشهد سعادة ب" بواس" قائلا:" تأثير البيئة الطّبيعيّة على لون البشرة ونزيد هنا أنّ تأثير البيئة الطّبيعيّة في أشكال الهيئة غير السّلاليّة تأثير قويّ جدّاً فقد ذكر بواس(51) أنّ البيئة تؤثّر، في الغالب، على أشخاص مختلفين تأثيراً يؤدّي إلى اتجاه واحد بناء على أنّ لكلّ عضو [حدود سلامة] يتكيّف ضمنها تبعاً لمقتضيات البيئة، فيتّخذ الهيئة الّتي تتطلّبها عوامل البيئة دون أن يفقد خصائص وظيفته. فإذا جئنا بشخصين متباينين إلى بيئة واحدة فقد يتشابهان في الإجابة العضويّة على المحرّضات البيئيّة حتّى إنّه قد يتراءى لنا حدوث تشابه أشكال تشريحيّة متميّزة ناتج عن البيئة، لا عن التّركّب الدّاخلي.
نرى ممّا تقدّم أنّ البيئة تعدّ الفوارق الشّكليّة أيضاً للجماعات البشريّة وأنّ التّرابط بين الجماعة والبيئة في أنواع الحياة وفوارق الأشكال ومميّزات العمران والاتجاه التّمدنيّ، متين جدّاً." فقول سعادة " يتراءى لنا" يعني أن له رؤية خاصة في ما يذهب اليه "بواس" في العلاقة مع البيئة، بل ويبدي رأيه في تأثير البيئة وحدوده، فيقول:" نرى ممّا تقدّم أنّ البيئة تعدّ الفوارق الشّكليّة أيضاً للجماعات البشريّة وأنّ التّرابط بين الجماعة والبيئة في أنواع الحياة وفوارق الأشكال ومميّزات العمران والاتجاه التّمدنيّ، متين جدّاً." بواس يكتفي بتأثير البيئة بيولوجيا على الانسان بينما سعادة يذهب للقول بأن البيئة لا تؤثر فقط على المستوى البيولوجي، بل تتعداه الى تأثيرها على الفوارق الشكلية ومميزات العمران والاتجاه التمدني، فهل عمم بواس تأثير البيئة كما عممه سعادة لنقول أن سعادة كان مجرد ناقل ..
الملاحظة الخامسة:
سبق لنا وبحثنا ما تتناوله الملاحظة الخامسة للأمين حيدر حول مقاربة الدكتور ضاهر ماركس بسعادة، لذا سنكتفي من هذه الملاحظة بما أورده الأمين حيدر حول "الانسان المنتج" الذي يقول به الدكتور ضاهر في مقاربته لماركس بسعادة:" الباحث الدكتور ضاهر يكرر كلامه السابق، في نفس الفصل، عندما يقول في موضع آخر ما يلي:" فنقطة الانطلاق الأساسية لماركس في محاولة فهم الانسان هي النقطة ذاتها التي شكلت المنطلق الأساسي لسعادة أي " الانسان ككائن منتج" فالقيام بالعمل المنتج يشكل الأساس لتجربة الانسان وللمعرفة الإنسانية"
يعلق الأمين حيدر على ذلك قائلا:" لكنا نسأل، إذا كان العمل المنتج ( الانسان المنتج) هو أساس تجربة الانسان والمعرفة الإنسانية، فهل نفهم أن العمل المنتج يحصل بدون معرفة إنسانية؟ وهل الثقافة تشمل التجارب والمعارف الإنسانية أم لا تشملها؟
وكأني بالأمين حيدر يعيدنا بهذه الأسئلة لنقطة الصفر: أيهما أسبق المادة أم الوعي!! فسؤاله: فهل نفهم أن العمل المنتج يحصل دون معرفة إنسانية؟ يعني وكأنه يقول لا بد للعمل المنتج من معرفة تسبقه، لكن ما هذه المعرفة وما مصدرها وكيف تتشكل قبل أن يباشر الانسان عمله المنتج؟ لا يجيبنا الأمين عن سؤاله ولا عن المغزى من هكذا سؤال!! خاصة وأن أسئلة من هذا النوع تترك مجالا واسعا من الشك في الموضوع المطروحة حوله، وتحديدا عندما لا تجد إجابة لها في النص ذاته، والتي كان على حضرة الأمين الإجابة عليها طالما أنه هو طارحها بصيغة نقدية، وحتى لا تبقى تساؤلات الأمين حيدر بلا إجابة، وطالما أننا لم نعثر على إجابة لها من قبل الرفيق ضاهر، فحريٌ بنا الإجابة عليها، بما لا يتعارض وسياقها الذي جاءت به:
من كونه لاقط ثمار الى أن استقر الانسان في الأرض، كان قد قطع شوطا طويلا في التاريخ حتى توصل الى قراره بالاستقرار، لقد قادته تجربته في التنقل الى المفاضلة فيها بين التنقل وبين الاستقرار بالأرض، فكان أن اختار الأخيرة من حيث هي الأوفر للطاقة والزمن في تحصيل قوته، التجربة تسبق المعرفة التي تقوم عليها، لكنها ـ المعرفة ـ تبقى تثير من التساؤلات عن الأوفر في الطاقة والزمن عبر التجربة الإنسانية ذاتها، فالتجربة الإنسانية هي الميدان الذي تنمو فيه المعرفة بهدف تحسين شروطه، فعندما يقول سعادة تكيف الأرض الانسان وهو يرد الفعل ويكيفها لكنها هي التي تحدد مدى هذا التكيف وأشكاله، يعني أن الانسان يضطر بداية لأن يتكيف مع البيئة النازل بها، بما يعني أيضا أن معرفته تقوم على تجربته في ضرورة تلبية حاجات البيئة حتى قبل حاجاته المادية الطبيعية بالتكيف معها لتأمين تلك الاحتياجات، هي التجربة، التي تقود بطبيعة الحال الى المعرفة، فالتحوط من الحيوانات المفترسة لم يأت عبثا كان قد سبقته تجارب كثيرة ذهب ضحيتها الكثير من البشر قبل أن يبتكر الانسان فكرة التحوط من تلك الحيوانات واتخاذه الكهوف والنار ملجأ له، هذا مثال واحد من مليارات الأمثلة التي يمكن لها أن تضرب في مجال أيهما أسبق المعرفة أم التجربة، هل كانت فكرة المحراث قبل أن يعي الانسان أن قلب الأرض ضروري لتأمين الأوفر من الطاقة في الزمن؟ فهو ودون أدنى شك في ذلك كان قد قطع شوطا زمنيا كبيرا في مراقبته للأرض وعطائها، لقد كانت فكرة الحرث هي النتيجة المنطقية للاستقرار في الأرض أولا ومن ثم كانت التجربة في المكان للتدليل على أن الحرث أفضل من عدمه فكانت فكرة المحراث التي كانت بداية على غير النحو الذي نعرفه به لكن التجربة هي التي قادت لتطويره، وهكذا تبقى التجربة سابقة للمعرفة وإلا فما معنى المخابر المنتشرة في مختلف البلدان وعلى مختلف أنواع العلوم، هل سبقت المعرفة اكتشاف البترول أنه يمكن تجزئته لشتى الأنواع المعروفة الآن.
لم تكن ماري كوري، تبحث عن الراديوم كعنصر اشعاعي، لكنها كانت قد لاحظت أن تجاربها يشوبها بعض التشويش فبحثت عن مصدره فكان اكتشافها الذي خلد اسمها..
المعرفة قبل أن تكون "مجرد معلومة" هي دهشة واستغراب لغير المألوف، وهي أيضا تساؤل عن سبب أو علة ما يحدث، هي دهشة ومن ثم تساؤل ومن ثم تفكير ومحاولة إجابة، وهذه خصائص عقلية محضة كان لا بد للإنسان من أن يحوزها ليتمكن من القيام بتجربته المعرفية، وكان لا بد للعقل من أن ينمو بيولوجيا و فيزيولوجيا لكي يحوز على هذه الخصائص، وكان لا بد له من زمن لبلوغها، وهو في طريقه اليها كان يكتنز معلوماته غرائزيا، لذلك فإن محاولاته لمعرفة محيطه مرت بعدد لا متناه من التجارب، فالتجربة أم المعرفة والتجربة ليست مجرد محاولة، إنها خبرة تكتنه مواصفات وخصائص المادة لتطوعها لقضاء حاجات الانسان البيولوجية والفيزيولوجية والسيكولوجية هذه المحاولة قد تكون عددا لا متناهيا من التجارب، فعندما سأل مساعد أديسون معلمه: الى متى تستمر في تجاربك لإضاءة هذا المصباح وقد أجريت أكثر من ألف تجربة وكانت فاشلة؟ أجابه أديسون:" لقد تأكدنا من أن أكثر من ألف تجربة لا تفيد في إضاءة هذا المصباح، وأن علينا أن نجري تجربة أخرى لإضاءته!!
يتساءل الأمين حيدر".. وهل الثقافة تشمل التجارب والمعارف الإنسانية أم لا تشملها؟"
نكتفي بإجابتنا على هذا السؤال بقول سعادة:" بأنّ النّطق وحده كفل تحويل الاكتشافات والاختبارات التّطوريّة الأوّليّة إلى معارف اجتماعيّة وراثيّة (اجتماعيّاً).. ويضيف:" ومن صناعته هذه الأدوات نستطيع أن نتتّبع ثقافة الإنسان منذ ابتدائها.." إذن، بنمو خصائص العقل على التتابع كان النطق وتاليا تحولت الاكتشافات والاختبارات التّطوريّة الأوّليّة إلى معارف اجتماعيّة، فالثقافة تتضمن وتشمل مختلف الاختبارات والتجارب التي مر بها الانسان، وهكذا كان تصنيف سعادة للثقافة العمرانية مقترنا بهذه التجارب والاختبارات لذ، فهو، (سعادة) يصنف مراتبها كما يلي:"
1) ثقافة المعزق (Hoe) = زراعة المعزق.
2) أـ ثقافة المحراث = زراعة المحراث.
ب ـ ثقافة البستان = زراعة البستان.
3) ثقافة الإنتاج التّجاريّ = زراعة المحاصيل وإنشاء الصّناعات وإعداد الحاجيّات والكماليّات.
الملاحظة السادسة:
يقول الرفيق ضاهر:" الذي يبدو واضحا أن كلا من ماركس وسعادة ينطلق من المصادرة الكانتية (الذات تلعب دورا فعالا في تكوين الشروط اللازمة لتحويل الأشياء لموضوعات جاهزة للمعرفة.." ويعلق الأمين حيدر:" من جهتنا، نحن لا نرى سبيلا لمقارنة كانت بسعادة وماركس، ذلك لأن الفيلسوف كانت قضيته تختص بدائرة كيفية حصول المعرفة التي تسمى ابستمولوجيا.." (نظرية المعرفة) لا نود هنا التوسع في ما سبق لنا وتطرقنا اليه، لكننا نضيف عليه، أننا سنسلم جدلا بافتراق قضيتي ماركس وسعادة عن كانت، فإن هذا لا يلغي أن يكون هناك تشابها ما بين الفلاسفة يمكن أن يكون أساسا للمقاربة أو مقارنة بين فلسفتين أو ثلاث..
الإبستمولوجيا هي علم دراسة ما نزعم أنه معرفة، إما عن العالم الخارجي (المادي) أو عن العالم الداخلي (الإنساني)، وهو علم يدرس (بشكل نقدي) المبـادئ والفرضـيات والنتائج العلمـية بهـدف بيان أصلها وحدودها ومدى شموليتها وقيمتها الموضوعية ومناهجها وصحتها.
وفق وليم جمس "تتركب التجريبية الأصلية من مصادرة وحقيقة ونتيجة، أما المصادرة فهي أن الأشياء التي تكون موضع نقاش بين الفلاسفة هي الأشياء التي يمكن التعبير عنها بألفاظ تجريبية (قد توجد الأشياء التي لها طبيعة تجريبية إن شئت، لكنها لا تكون جزءا من مادة المناقشة الفلسفية.. هو مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة"
"المبدأ المدرحي" أو "المثال المدرحي":
على مدى التاريخ، كان هناك صراع بين النص والاجتهاد فيه، أو بين النص وروح النص، بين الحرف في نصه وبين الحرف في سياقه، ولم تخلُ حركة من الحركات التي ظهرت عبر التاريخ إلا وتعرضت لهذا الصراع، وكان هذا الصراع السبب المباشر في الانشقاقات التي تعرضت لها مختلف هذه الحركات الدينية منها والاجتماعية والسياسية والفكرية وحتى الاقتصادية.. بالطبع كان هذا الصراع مسوغا رئيسيا لاستهدافات فردية وعامة بآن، فكان لابد من دعم تلك الاستهدافات بأطر عقدية، مبررات، لتحريض العامة أو جمهرتها حول هذا الاتجاه أو ذاك..
هنا، مجازيا، سيمثل النص بحرفيته، الأمين حيدر حاج إسماعيل، بينما يمثل النص في سياقه الرفيق عادل ضاهر، الذي يقدم لنا في ختام مؤلفه الجريء /الانسان والمجتمع/ ـ دراسة في فلسفة أنطون سعادة الاجتماعيةـ وتحت عنوان / مجتمع النهضة/ بحثا مسهبا في العوامل والأسباب التي دفعت بسعادة للقول بمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الأساسية منها والاصلاحية مستفيضا في شرحها حيث لم يكن لسعادة من الوقت للتعمق ـ كما الدكتور عادل ضاهر ـ في رسم معالمها العامة والخاصة، أو لنقل شرحها "أكاديميا" كما قدمها لنا رفيقنا الدكتور ضاهر( *)، في ما يسميه رفيقنا "المبدأ المدرحي" والذي يبن لنا فيه العلاقة بين العام والخاص ـ معياريا ـ في فلسفة سعادة المدرحية(**)..
في العام، ما يعنيه المبدأ المدرحي وفق الرفيق ضاهر: مصلحة الانسان في الحياة والارتقاء.
في الخاص: مصلحة انسان معين في مجتمع معين.
في المبادئ المعيارية العامة، يقدم لنا الرفيق ضاهر، خمسة مبادئ:
1) ـ المبدأ القومي.
2) ـ مبدأ الاستقلال
3) ـ مبدأ الوحدة الاجتماعية
4) ـ مبدأ التقدم المادي
5) ـ مبدأ التغيير الاجتماعي
بالطبع هذه المبادئ مشتقة من فهم الدكتور ضاهر العميق لفلسفة سعادة، وتحديدا ربطها بواقع الحياة من حيث هي مصلحة الانسان في الحياة والارتقاء، أما المبادئ المعيارية الخاصة فهي:
1) ـ مبدأ الأمة السورية.
2) ـ مبدأ الأمة مجتمع واحد.
يعلق الأمين حيدر على مجمل شروحات الرفيق ضاهر بالقول:" أغرب ما في محاولة الباحث الاشتقاقية.. نسبته لما يقوله هو، هو لسعادة، وأن ما فعله، هو، فعله سعادة، والحق يقال أن ليس لسعادة أية علاقة بما قال وفعل.. نكتفي بالقول إنها، بصورة عمومية، محاولات فاسدة من الوجهة المنطقية.. تبقى نقطة واحدة لم نناقشها حنى الآن، وهي المرتبطة بوصف الباحث المبادئ الخمسة المشتقة بأنها "معيارية" سؤالنا: لماذا هي كذلك؟ نحن نفهم المعيار والمعيارية يتصلان بفكرة الوجوب، فيقال مثلا يجب أن تكون صادقا، هذا معيار أو مبدأ معياري من النوع الأخلاقي، أليس المبدأ القومي الذي اشتقه الباحث من "المصالح الإنسانية الاجتماعية" ومن" واقع الإنسانية المجتمعاتي " مرتبطا "بمصالح" و"بواقع" هما حقائق وجودية وليسا قيما وجوبية؟ فكيف أمكنه اشتقاق الوجوب من الوجود؟ بكلام آخر، إذا قلنا أن المصالح الإنسانية اجتماعية موجودة، وبما أن واقع الإنسانية المجتمعاتي موجود، فكيف يمكننا أن نحصل على النتيجة التالية: إذا يجب أن يكون كل مجتمع ملزم بتحقيق مصلحته في الحياة والارتقاء؟ .." بمعنى آخر، يريد أن يخبرنا الأمين بأن الرفيق ضاهر قوَلَ سعادة ما لم يقله، وهذا برأينا منتهى التجني على الرفيق ضاهر، ذلك أنه يقوم بشرح مستفيض لسعادة في ضوء مستجدات الواقع الحزبي من جهة والاجتماعي والسياسي والفكري والاقتصادي العام المحلي والدولي من جهة أخرى، وهو(ضاهر) في توسعه في شرح ما لم تسمح به الظروف لسعادة بشرحه، لا يخرج عن تدعيم شرحه عن سعادة، بسعادة نفسه، فهو لا يُقَوله ما لم يقله، ومن الأمثلة على ما نذهب اليه الكثير ، على سبيل المثال قوله:" لقد حان الوقت الآن لندخل في عالم سعادة الثوري محاولين استكشاف معالمه الرئيسية وطبيعته ومغزاه الأخير، السؤال الأساسي الذي نريد تناوله هنا بالتفصيل هو: بما أن سعادة أراد تثوير البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع السوري، ففي أي اتجاه ولأية غاية أراد تثويرها ؟ بمعنى آخر، ما هي المبادئ والأهداف التي يجب أن يرتكز عليها النظام الثوري الذي يُفترض قيامه في المجتمع السوري؟ يوجد سؤال آخر، أولاه سعادة عناية خاصة ولكننا لن نعالجه هنا لابتعاده عن صلب موضوعنا، هذا السؤال يستهدف الكشف عن الاستراتيجية الثورية المناسبة لإقامة النظام الاجتماعي الجديد وهو سؤال هام جدا، لأن سعادة كان يدرك.. أن القفزة الثورية من واقع الهلال الخصيب.. ليست بالقفزة السهلة على الاطلاق، فالهوة التي تفصل بين الواقع والمثال في هذه الحالة هوة عميقة جدا، وعندما ندرك ذلك، ندرك مدى خطورة وصعوبة المهمة الثورية التي القاها سعادة على عاتقه وبالتالي مدى أهمية اختيار الوسائل المناسبة لهذه المهمة، فالمسألة ليست مسألة تغيير نظام سياسي بنظام سياسي آخر، أو مسألة تعجيل ولادة نظام يتمخض عنه المجتمع في وضعه الحالي، أو مسألة إعطاء المجتمع زخما إنسانيا لتعجيل اتجاهه نحو تحقيق غايات ابتدأ يتجه نجو تحقيقها. المسألة، لسعادة، هي مسألة تغيير حياة أمة بأسرها، أمة توقف تطورها منذ فترة بعيدة وتقلصت الإمكانيات الموضوعية لتحريكها في اتجاهات جديدة الى لا شيء تقريبا.. في هذا الوضع لا تعود الوسائل الثورية الصالحة لتحقيق أهداف ثورية في المجتمعات التي لم تتعطل عملية تطورها الطبيعي هي الوسائل الصالحة لإقامة نظام ثوري جديد في سورية الطبيعية. من هنا نفهم لماذا رأى سعادة أن مشكلة تعين الوسائل الثورية التي يجب استعمالها، مشكلة توازي في أهميتها وخطورتها مشكلة تعين الأهداف الثورية التي يجب تحقيقها.."
الرفيق ضاهر في السياق الوارد أعلاه يستنطق سعادة ولا يُقَوله أي من التقولات التي يلمح اليها ألأمين حيدر، هو يسأل سعادة ويجيب من سعادة، فعندما يسأل: "السؤال الأساسي الذي نريد تناوله هنا بالتفصيل هو: بما أن سعادة أراد تثوير البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع السوري، ففي أي اتجاه ولأية غاية أراد تثويرها؟ بمعنى آخر، ما هي المبادئ والأهداف التي يجب أن يرتكز عليها النظام الثوري الذي يُفترض قيامه في المجتمع السوري؟.."
يبقى الهدف من السؤال شرح المبادئ والأهداف التي دفعت بسعادة للانطلاق من هذه المبادئ لبلوغ تلك الأهداف، في "أمة توقف تطورها منذ فترة بعيدة، وتقلصت الإمكانيات الموضوعية لتحريكها في اتجاهات جديدة الى لا شيء تقريبا.." بما يعني كما يقول الرفيق ضاهر " في هذا الوضع لا تعود الوسائل الثورية الصالحة لتحقيق أهداف ثورية في المجتمعات التي لم تتعطل عملية تطورها الطبيعي هي الوسائل الصالحة لإقامة نظام ثوري جديد في سورية الطبيعية.. "وبما يعني أيضا أن استيراد ما يصح أو صح في بلدان أخرى يمكن له أن يُصلح الوضع الذي تعاني منه أمة سعادة، بمعنى آخر أيضا، أنه لا بد من تحريك العوامل الذاتية وابتكار الطرق والوسائل والكيفيات في المكان والزمان، التي تتناسب ووضع كالذي تعاني منه أمته، وبمعنى آخر أيضا وأيضا، أن القوميات الأوربية التي حملها عفلق والبيطار/ التاريخ المشترك والألآم والآمال ووحدة الأصل واللغة ../ على سبيل المثال، لا تصلح لأن تكون سبيلا لتحريك القوى الذاتية لأمته ولا تلك التي قالت بها الماركسية/ تحريض الصراع الطبقي/ ولا حتى ما نادى به "محمد عبدو" و"جمال الدين الأفغاني" / لا قيام للدين إلا بقيام دولته/ يمكن لها ان تنقل أمته من وضعها المذري الى ما يطمح اليه سعادة، "من هنا نفهم لماذا رأى سعادة أن مشكلة تعين الوسائل الثورية التي يجب استعمالها، مشكلة توازي في أهميتها وخطورتها مشكلة تعين الأهداف الثورية التي يجب تحقيقها.." كما يشير الرفيق ضاهر. ملخصا إجابته على مختلف تساؤلاته بالقول بمبادئه الخمسة العامة التي يمكن أن تكون لأي مجتمع يعاني ما تعنيه أمته كذلك مبادئه الخاصة، وهي مبادئ مشتقة من فهم سعادة لمنطلقات ووسائل وكيفيات العمل الثوري في المكان والزمان المناسبين..
صحيح أن سعادة لم يأت على مصطلح كمصطلح الرفيق ضاهر" المبدأ المدرحي" أو المثال المدرحي" لكن المصطلحان يبقيان مفصلين أساسيين من مفاصل قضية سعادة في دراسة الرفيق ضاهر، وهما مصطلحان دراسيان ولا يدعي الرفيق ضاهر أنهما لسعاد فهو يصرح ويقول مثلا ".. نأتي الآن الى المبدأ الرابع من المبادئ المعيارية التي ينطلق منها سعادة وسأسميه " مبدأ التقدم المادي".. إذن، هو يطلق تسمياته أو مبادئه ليس من وجهة أن سعادة قد قال بها لكن من منطلق تقسيم شروحاته الى اقسام وفقرات يسهل من خلالها فهم " عالم سعادة الثوري محاولين استكشاف معالمه الرئيسية وطبيعته ومغزاه الأخير.."
يضيف الأمين حيدر قائلا:".. نكتفي بالقول إنها، بصورة عمومية، محاولات فاسدة من الوجهة المنطقية.." كيف هي كذلك؟ لا يجيبنا حضرة الأمين على سؤالنا، وعلى أية حالة هي "فاسدة"؟ ومن أية وجهة منطقية، هي كذلك؟ يبقى الجواب في ذمة حضرة الأمين، لكننا نرى أن في قول الأمين حيدر خروجا على ما سبق له وقام به هو في محاولته تعريف المدرحية فسؤاله:" ما هي الفلسفة المادية ـ الروحية ؟"تضمنت اجابته فقرات تسع، لم يأت سعادة على الإشارة لأي منها، وهي فقرات حاول فيها حضرة الأمين الإجابة على سؤاله السابق ذكره، فكيف يسمح لنفسه ادراج فقرات لم يقل بها سعادة معتبرا أن الرفيق ضاهر قد قام بمحاولات " فاسدة" من الوجهة المنطقية؟ بإدراجه فقرات يسمها هو تسهيلا للفهم، خاصة وأننا أشرنا في سياق هذا النقد، بأن دراسة الرفيق ضاهر تدخل في سياق الدراسات الأكاديمية، والتي تبقى غايتها الإيضاح والشرح والتفصيل لبلوغ المرتجى منها..
أما قوله:" فكيف أمكنه اشتقاق الوجوب من الوجود؟" فالسؤال ـ الإجابةـ هو: من أين يريدنا الأمين حيدر أن نشتق الوجوب؟ إذا لم يكن الواقع هو منطلق الوجوب!! الوجود المفترض تغييره كيف يمكننا ذلك بدون أن نحدد كما يقول الرفيق ضاهر:" المسألة، لسعادة، هي مسألة تغيير حياة أمة بأسرها، أمة توقف تطورها منذ فترة بعيدة وتقلصت الإمكانيات الموضوعية لتحريكها في اتجاهات جديدة الى لا شيء تقريبا.. " فكرة التغيير تفترض تلقائيا، كمنطلق، البحث عن الوسائل والأهداف أو الغايات التي "يجب" أن نحددها أولا، ونصل اليها ثانية، لإحداث التغيير، بمعنى آخر إذا لم ننطلق من معرفة الواقع بمعوقاته، فكيف يمكننا تذليل هذه المعوقات؟ وإذا لم نكن على معرفة يقينية بعوامل وأسباب ما أدى لما يتطلب تغيره، فكيف يمكننا إحداث التغيير؟ وإذا لم نكن على معرفة تامة بموجبات ما علينا الخروج منه لحياة أفضل مما نحن به، فكيف يمكننا تحديد الأفضل؟ الأفضل، والذي هو في الجانب المعياري وفق تصنيف الأمين حيدر. هكذا يفترض الوجود الوجوب وإلا فنحن نبحث في فراغ عن وجوب لا يمكن تحققه على نسق المدينة الفاضلة حيث يفترض بالبشر أن يكونوا ملائكة.
عدد الصفحات الكلي 458