7 تموز 2004
تحتل مسالة الهوية في الخطاب الفلسفي المعاصر مكانة أساسية، و المتتبع للكتابات الفلسفية على اختلاف اتجاهاتها، يعرف ان هذه القضية ما تزال موضوع مناقشة و تحليل و اجتهاد، و لعل الإشارة على سبيل المثال و ليس الحصر إلى فلاسفة من أمثال الفيلسوف الكندي " شارل تايلور" في كتابه (التعدد الثقافي: الاختلاف و الديموقراطية)، او (مصادر الذات) وكتاب الفيلسوف الفرنسي "الان رينو و سيلفي موزير" ( مفارقات الهوية الديموقراطية) وكتاب الفيلسوف الالماني "هابرماس" (الاندماج السياسي، محاولات في النظرية السياسية)، يدرك حجم المشكلات المطروحة على المجتمعات المعاصرة و المرتبطة بمسالة الهوية في علاقتها بالديموقراطية و العولمة و ثقافة الاقليات و المرأة. و بالطبع فان الكتابات العربية زاخرة بهذا الموضوع و ان كانت التحليلات المقدمة في هذا المجال تتسم بردود الفعل و بنوع من الإعلاء للذات و مبالغة في الخصوصية و غياب للطرح العلمي و الفلسفي الذي لا يرى في موضوع الهوية مشكلة عالمية و كونية متعلقة بإنسان الألفية الثالثة، و ذلك لما حققه من منجزات علمية و سياسية و اخلاقية جعلت من موضوع الهوية مسالة مركزية.
و في هذا السياق، نريد ان نناقش ما طرحه عالم الاجتماع و الفيلسوف الفرنسي (ادغار موران) من افكار حول الهوية و ذلك ضمن مشروعه العلمي و الفلسفي الموسوم بـ: المنهج. ولكي نناقش هذه المسالة، علينا بداية ان نشير الى بعض المنطلقات الفكرية للفيلسوف، و لما يسميه على وجه التحديد بالسياسة الحضارية، لان ذلك سيساعدنا على ادراك مغزى الهوية الإنسانية التي يدعو اليها. و لعل من بين اهم هذه المنطلقات تصوره العام لمفهوم الحضارة الغربية المعاصرة التي تقودها اوربا و امريكا. ففي تقديره ان هذه الحضارة تمر بأزمة عميقة و متعددة الأشكال، بحيث تحولت جميع المكاسب التي حققتها خلال القرون الماضية الى مشاكل مستعصية، و تأزمت الاسس ذاتها التي انطلقت منها هذه الحضارة، فعلى سبيل المثال لا الحسر، فان احد الأسس المشكلة للحضارة الغربية و هو الإيمان بقيمة الفرد، الذي تم التعبير عنه بالنزعة الفردية، وهي فكرة اكتشفها العصر الحديث و بلورها عصر التنوير، هذا الاساس تحول الى مشكلة مستعصية في المرحلة المعاصرة التي تمر بها الحضارة الغربية، بحيث تحولت الفردانية الى نزعة مضادة لقيمة الفرد و ذلك بظهور اشكال من (التذريرatomisation ) أي تحويل الفرد الى ذرة ضمن بنيات عامة و شاملة و قاهرة، كما تعرض الفرد المعاصر الى اشكال من العزلة القاتلة بفعل التحولات الكبرى التي طرات على الاسرة سواء من حيث بنيتها و طبيعتها و ما نتج عنها من علاقات اجتماعية و عاطفية مغايرة، هذه العزلة التي ادت الى شيوع ظاهرة التمركز الذاتي او الانغلاق حول الذات(égocentrisme)، و هو ما ادى بدوره الى تراجع الاشكال المختلفة للتضامن الاجتماعي.
كما ان التقنية التي تعتبر احد الاسس المركزية للحضارة المعاصرة، قد طرحت مشكلات اكثر تعقيدا، فهذه التقنية التي حررت الانسان من الكثير من القيود و حققت له الكثير من الامكانيات و سخرت له الكثير من الطاقات، قد حولت الانسان المعاصر و المجتمعات المعاصرة الى نوع من الآلة الرهيبة، آلة محكومة بمنطق الحساب و الارقام و التكميم و القياس، و كذلك الصناعة التي لبت الكثير من حاجات الانسان و وفرت الاحتياجات الضرورية لاعداد ضخمة من الافراد، قد تسببت في الكثير من المشاكل على راس هذه المشاكل مشاكل البيئة و التلوث و كل المخاطر التي يواجهها المحيط الطبيعي للانسان، فالسيارة على سبيل المثال و هي النتاج الصناعي الذي يفخر به انسان الحضارة المعاصرة، قد اصبحت مشكلة بل انها في نظر الفيلسوف تعد علامة للحضارة الصناعية التي تمر بمفترق طرق، لانها، و هي الوسيلة المفضلة للتنقل و الراحة، اصبحت تتضمن شرورا لابد منها ليس اقلها تلوث الجو و الحوادث القاتلة للانسان.
و حتى العلم ذاته، الذي كان بالنسبة لعصر النهضة في الحضارة الغربية قوة و سلطة لا يرقى اليها الظن والشك، كما دعا الى ذلك الفيلسوف الانجليزي (فرنسيس بيكون)، هذا العلم اصبح في زماننا موضوع شك و ريب، لانه اصبح يحمل في طياته سلبيات و مخاطر ليس اقلها الرعب النووي الذي يهدد مصير الانسان و الحياة على الارض.
و عليه فان كل ما يمثل الحضارة المعاصرة من اوجه ايجابية و عوامل ناجعة، متضمنة في كلمة التقدم بمختلف مظاهره، و خاصة ذلك التقدم الخطي المتصاعد الذي يفيد من بين ما يفيد ان حاضرنا افضل من ماضينا و ان مستقبلنا افضل من حاضرنا، هذا التقدم الذي تحول الى مثل لجميع المجتمعات الغربية و الشرقية على السواء، لانه تصور يضمن مستقبلا واعدا، لكنه نراه اليوم ينهار مثل انهيار الكثير من الاساطير. من هنا يجب ان نعترف كما يقول الفيلسوف بان (الحضارة الصناعية و التقنية و العلمية قد خلقت مشاكل اكبر من تلك التي تقوم بحلها).
الا ان هذه الازمة البنيوية للحضارة الغربية، هذه الازمة المتعددة الوجوه و المستويات، لا تخص المجتمعات الغربية فقط، و انما تشمل العالم، و ذلك نظرا للطابع العالمي لهذه الحضارة، انها الحضارة المعولمة، التي تقوم بتوحيد جميع اشكال التنظيم و التسيير الاجتماعي و الاقتصادي للانسان، من هنا فان ما تطرحه من مشاكل لا يلزم جهة معينة من العالم و لا ناحية من نواحيه، وانما طبيعة هذه المشاكل انها عالمية مع اختلاف في الدرجة، و من دون شك فان هذا ما يتم التعبير عليه منذ اكثر من عقد بمفهوم العولمة، خاصة و ان جميع المجتمعات من دون استثناء يذكر، تعمل و ان كان ذلك بطرق مختلفة و اشكال متعدد، على قيام تنمية لها قدرة تنافسية كبيرة، و لكنها تنمية كمية بالدرجة الاولى وفي المقام الاول، و تعتمد تقريبا على الوسائل التقنية و الصناعية ذاتها، سواء في الشرق او في الغرب.
ان هذه التنمية في نظر الفيلسوف و عالم الاجتماع، قد طورت جانبا واحد من حياة الانسان هو الجانب الاقتصادي، و اهملت جوانبه الانسانية و الاخلاقية الاخرى، يتساوى في هذا المنحى و التوجه المجتمعات المسماة متقدمة و المجتمعات المسماة متخلفة او السائرة في طريق النمو. و جميع الحلول المقدمة سابقا لهذه المشاكل، قد تم تجاوزها و اعادة النظر فيها، و لذا فان من بين التحديات الكبرى لانسان الالفية الثالثة هو ان يجد حلولا جديدة لمشكلات الحضارة الصناعية. و من بين اهم هذه التحديات، هو انه ما كان يعتقد سابقا بمثابة حلول اقتصادية لحاجيات الانسان، و القائمة على استغلال الثروات الباطنية للارض قد اصبح اليوم مشكلة تنذر بندرة و تناقص هذه الثروات، فالاستغلال اللامحدود لثروات الارض اصبح يشكل خطرا حقيقيا يتمثل في نضوب الموارد الطبيعية على راسها الماء و الاشكال المختلفة للطاقة. و كذلك من بين التحديات الكبرى لهذه الحضارة التفاوت النوعي بين التقدير الكمي و النوعي الذي يتم في الغالب على حساب النوعي، و ذلك راجع الى كون هذه الحضارة تقوم كما سبق و ان اشرنا الى ذلك، على الكم و العد و الحساب، و استبعدت الجانب الكيفي و النوعي لحياة الانسان، و الماساة كما يقول ان (الحب و المعاناة و الرغبة و المتعة و الشعر يدخلان في الباب النوعي و لذا يتم تجاهلها). علما ان هذه النزعة الكمية للحضارة الصناعية لم تفلح في حل اكبر و اخطر مشكل من مشاكلها وهو البطالة، فجميع الأيديولوجيات و النظريات في التسيير و الاصلاح، وقفت عاجزة امام مشكلة البطالة التي يواجهها انسان الالفية الثالثة، و ما يترتب عنها من اثار سلبية، لعل اولها كيفية تقدير الفرد لذاته و ادراكه لهويته. و هي مشكلة كما تشير جميع الدلائل تزداد تفاقما يوما بعد يوم.
و بما ان الحضارة الغربية وصلت الى هذا المازق و الى هذه الدرجة من التازم، فان الفيلسوف يرى انها لا تختلف في هذا الشان عن جميع الحضارات السابقة التي وصلت الى هذا الانسداد، بحيث لم يبق أمامها الا احد الخيارين، اما التقهر و التراجع و الانحطاط، او التغيير و التجديد في مختلف النظم التي تشكلها. و الحضارة الصناعية المعولمة لا تخرج عن هذا المصير، و في تقديريه ان لهذه العولمة جوانبها التخريبية و الهدامة، و خاصة ذلك الجانب المتمثل في اقتلاع الثقافات الخاصة و توحيد الهويات المتنوعة، الا انها في نظر الفيلسوف تبقى امكانية جديدة و هامة امام انسان الالفية الثالثة، تظهر هذه الامكانية في (الاشكال المختلفة للتواصل و التفاهم بين الناس مما يؤدي الى اشكال مختلفة من التهجين).
ان هذه المحطة الواعدة للعولمة لا يمكن لنا ان نبلغها ما لم نجذر ـ كما يقول ـ في وعينا و اقعة و فكرة مركزية، وهي اننا جميعا و رغم اختلاف ثقافاتنا و لغاتنا و ادياننا واوطاننا و تاريخنا، مواطنو هذا العالم، او بتعبير آخر، اننا مواطنون لهذه المعمورة الواحدة، سواء كنا اوربيين او اسيويين او افارقة او امريكان، اننا جميعا نشكل مواطنة هذا العالم. ان الوعي الجديد بالجماعة الانسانية، و بمصير الارض و المعمورة، هو الشرط الضروري لتغيير آلية و نظام الحضارة الغربية الصناعية القائمة الى حد الان. و بهذا الشرط، يعتقد الفيلسوف، اننا يمكن ان نتجاوز الحروب الاثنية و اشكال الهيمنة المختلفة، و ما تؤدي اليه من صراعات قومية تمثل من دون ادنى شك الجانب السلبي لعملية توحيد العالم و تضامن الارض و المعمورة.
من هنا يقترح الفيلسوف ضرورة اقامة بعض المؤسسات العالمية حول البيئة و الطاقة و التنمية الانسانية، أي انه يجب تجاوز الطرح الفردي و الوطني الى الطرح العالمي و ذلك نظرا لتشابك المشاكل المعاصرة. و سياسة الحضارة التي يدعو اليها الفيلسوف ادغار موران، هي تلك السياسة التي تجعل الانسان مركز كل سياسة ممكنة. أي جعل الانسان وسيلة و غاية في الوقت ذاته. و العمل على تنمية الحياة الفضلى و ليس العيش الافضل. ولا يتحقق ذلك في نظر الفيلسوف الا بعاملين اساسيين هما: انسنة المدن، و اعمار الارياف. و لتحقيق ذلك يجب القيام باصلاح فكري يشمل اصلاح مؤسسات التربية و التعليم و البحث، و العامل المقرر في هذا الاصلاح هو ضرورة ربط جميع المعارف والعلوم والتخصصات فيما بينها، أي ما يسميه بتعدد الاختصاصات(pluridisciplinarité). ذلك ان التصنيف القديم للعلوم و المعارف القائم على التجزئة و التقطيع و الفصل و المفاضلة بين العلوم و خاصة بين العلوم الطبيعية و الانسانية و ما تضمنه من احكام قيمة ما تزال تعاني منها العلوم الانسانية على وجه التحديد، قد ادى الى كوارث في تصور المشكلات المختلفة، و بالتالي الى تقديم حلول خاطئة، من هنا يتقدم الفيلسوف باحد المفاهيم المركزية الا وهو مفهوم المركب (le complexe)، لانه يعبر عن السمة المركزية للكائن الانساني، و بالتالي لا يمكن ان يتم الاصلاح الفكري ما لم تكن هنالك مفاهيم و نظريات تعكس هذا التعقد وقادرة في الوقت نفسه على التعبير و الربط بين مختلف المعارف و التخصصات، ففي هذه المرحلة الكوكبية من عمر الكرة الارضية، اصبح من المحال فصل المشاكل الوطنية عن المشاكل العالمية و كذلك استحالة فصل المسائل العلمية بين مختلف التخصصات العلمية و الصناعية، مما يؤدي بطبيعة الحال الى ضرورة قيام تعاون و تبادل سواء بين البلدان المختلفة، او بين الباحثين المنتمين الى مختلف الاختصاصات العلمية و التقنية و الصناعية.
ضمن هذا السياق العام للمشكلة الحضارية، يطرح الفيلسوف مشكلة الواحد و المتعدد و الهوية و التنوع و الاختلاف، و مشكلة الفردي و الجماعي و الوطني و العالمي، ليؤكد على ان الفكر البشري عموما و الغربي خصوصا، قد تجاهل بل و غيب قضية هامة في معالجته لموضوع هوية الانسان، و تتمثل هذه المسالة في تغييب و حدة النوع الإنساني. وان المشكلة الحقيقية التي يواجها الفكر الانساني على العموم تكمن في مدى قدرته على النظر في هذا الطرف و ذاك الطرف في الوقت نفسه. أي القدرة على النظر و التفكير و الإدراك للمتعدد و للواحد في الوقت نفسه، ذلك ان الاقتصار على طرف دون الاخر يؤدي في الغالب الى ازمات و صراعات مكلفة، من هنا فان اصلاح الفكر يكون بتوجيهه، و في هذه المسالة بالذات فانه من الضروري، ادراك ان الهوية تقوم على الوحدة و التعدد، و ان قوة الانسان و قيمته لا تظهر الا في هذا التنوع و التعدد، الذي من دونه، سيعاد النظر في وحدة الانسان التشريحية و الحيوية و الذهنية و الفكرية و العاطفية و الجنسية. علينا ان نفهم ان العام لا يتعارض مع الخاص، فالنوع الانساني متفرد مقارنة مع بقية الانواع الحية الاخرى، و ذلك لانه ينتج و يخلق و يبدع اشكالا لا متناهية من الفرديات المتعددة. و ان العالم الذي نسكنه، و المعمورة التي نحيا فيها، و الارض التي نعيش فيها، هي ذاتها متفردة مقارنة بالأكوان و المجرات الاخرى، لانها تنتج باستمرار موادا في غاية التنوع و التفرد، من هنا يجب ان تكون لدينا القدرة و الاستطاعة على تفكير الواحد و المتعدد، لان عدم القدرة على التفكير بهذه الطريقة يؤدي غالبا الى الانغلاق و التعصب و العنف. و لعل في سياسات الاندماج التي اتبعتها الحضارة الغربية على ما فيها من نقائص و عيوب، تمثل في نظر الفيلسوف احد الوسائل الهامة في تنمية هذا التنوع القائم على الوحدة و التعدد، هذا الاندماج الذي كان حصيلة نضالات ديموقراطية عززتها دائما فكرة الحرية.
و بناء عليه يدعو الفيلسوف الى ضرورة تكثيف عملية التبادل بين البشر، و الى قيام علاقات تبادل بالمعنى الواسع للكلمة، فمثلا اذا كانت آسيا قد انفتحت على الصناعة الغربية، فعلى الحضارة الغربية ان تنفتح على الثقافة الآسيوية و على دياناتها و قيمها الانسانية التي تجمع بين الذات و الروح و الجسد، و هو الجانب الذي همشته الحضارة الاوربية، فعلى الرغم من ريادة الحضارة الغربية المعاصرة في الكثير من المجالات الا ان عليها كما يرى ذلك الفيلسوف ان تتعلم الكثير من الحضارات السابقة و الثقافات المختلفة، و عليها ان تقوم بما قامت به في مرحلتها الاولى ابان عصر النهضة، عندما اعتمدت على العلم العربي و المنابع اليونانية كما قدمتها الحضارة الإسلامية.
و عليه يتقدم الفيلسوف بتشخيص هام للحضارة الغربية، تشخيص ينفرد به،و مفاده انه رغم التقدم الحاصل في هذه الحضارة الا اننا في الواقع لم نبلغ الا مرحلة ما قبل التاريخ الإنساني (préhistoire )، و بالتالي فان هنالك من الطاقات و الإمكانيات الإنسانية الهائلة التي لم يتم استغلالها بعد، و منها على وجه الخصوص العلاقة مع الآخر.
فنحن كما يرى الفيلسوف ما نزال (برابرة في علاقتنا مع الآخر ليس فقط على صعيد العلاقة بين الأديان و الشعوب و الثقافات المختلفة، و لكن داخل العائلة الواحد حيث ما يزال التفاهم صعبا و يؤدي الى الكثير من المخاطر)، كما انه يعتقد ان التاريخ يعلمنا ان نحسن تقدير المحتمل، ففي الوقت الذي يجب فيه ان نفكر المخاطر التي نواجهها علينا ان نعمل على ابتكار الامكانيات الجديدة، و بالاعتماد على الشاعر الالماني (هولدرلين) يرى الفيلسوف، ان الخطر الذي يهددنا قد يساعدنا على الخروج منه، شريطة ان نكون على وعي كاف، و بالتالي فان ما تطرحه الهوية في زماننا من مشاكل و ما تؤدي اليه من مخاطر محتملة، تجعلنا ننظر اليها بوصفها امكانية للخروج من كل ما يؤدي الى التعصب و العنف و الحرب، شريطة ان نكون على وعي و ادراك سليم لها، و بالتالي تحليلها و معالجتها في اطار ما يسميه بإنسانية الإنسان.
ينطلق ادغار موران في تحديده لمفهوم الهوية الإنسانية من ثلاثة عناصر مترابطة و متكاملة و هي الفرد و المجتمع و النوع، بحيث يفيد الفرد كل واحد منا، و كل واحد منا هو جزء من نوع و من مجتمع. نحن في المجتمع و المجتمع فينا من خلال اللغة و المعايير و الافكار والأيديولوجيات، و بقدرتنا على التكاثر فاننا نضمن بقاء النوع، من هنا فان هذه الثلاثية تشكل كلا واحدا و متعددا في الوقت ذاته، و علاقاتها علاقة متعدية و تتم بطريقة دائرية بحيث ان الفرد يؤدي الى المجتمع و منه الى النوع و العكس صحيح، وكل عنصر يشكل سببا لغيره، من هنا فانه لا يمكن ابدا الفصل بين هذه المستويات الأساسية المشكلة لهوية الانسان.
و اذا كانت الهوية في تقدير العالم لا يمكن تفكيرها خارج ثلاثية الفرد و المجتمع و النوع، فانه لا يمكن كذلك تعريفها خارج الوحدة و التنوع، و في تقديره ان التعارض الاولي الذي نلاحظه بين الوحدة و التنوع او التعدد، ناتج من كون ان هنالك من يؤكد دائما على التنوع و من يؤكد على الوحدة، و هذا التضارب في النظرة، قديم نقراه على سبيل المثال عند (فولتير) و (هيردر)، و المشكلة في نظر العالم انها تعود الى طبيعة تفكيرنا التقليدي حول الوحدة و التنوع، كما ان من عيوب هذا التفكير هو الرغبة في الاختصار او الاختزال بعد الفصل، ذلك ان هنالك، على سبيل المثال تيارات تقوم باختزال النفسي و الاجتماعي في البيولوجي او العكس، من هنا فان المشكلة الاساسية في الهوية تتعلق بطبيعة تفكيرنا و بطريقة تنظيم معارفنا، و في تقديره، انه من المهم ان ننتبه من جديد الى مفهوم الانبثاق (émergence) أي ظهور وقائع جديدة ضمن نظام معين، تشكل وحدته، فالانسان كما سبق و ان اشرنا الى ذلك يتكون من ثلاثية هي النوع و الفرد و المجتمع، و ان هذه العلاقة دائرية، فالمجتمع ينتج الافراد وكذلك البيولوجيا تنتج الافراد، و ان أي مثال ناخذه نجده يؤكد على الترابط بين الوحدة و التنوع، فالثقافة الواحدة، على سبيل المثال، لا توجد الا ضمن ثقافات اخرى، فليس هنالك ثقافة واحدة بالمطلق، و كذلك الدين لا يوجد دين واحد الا ضمن الاديان، و كذلك الحال بالنسبة للموسيقى و غيرها من الاشكال الثقافية، من هنا فليس الإشكال في المفهوم، او الصعوبة في التعريف، و انما في نوع التربية و التعليم، فالانسان ذاته موضوع الوحدة و التنوع انه هو هو، ولكنه متنوع و متعدد، فخلاياه تتجدد دائما و تؤدي الى تغيرات كل عشرة او خمسة عشرة سنة، لذلك ينتقل الانسان الواحد في مراحل عمرية مختلفة، و لكنه يبقى هو هو، و حتى عندما تفهم الهوية كذات فاننا في هذه الحالة نلاحظ، تزاوجا بين حركتين متضادتين و لكنهما متكاملتين و متحدتين، الاولى هي حركة النفي، الانسان يعمل على الغاء كل من يحاول ان يحتل مكانه، و لكن في الوقت نفسه يعمل كل ما في وسعه لاحلال الآخر فيه، فهو يحب و ينجب الاولاد و يحب وطنه أي كل ما يشكل آخره و غيره. وهذا هو وحدة الهوية الذي لا يمنع من قيام التنوع، فعندما يكون الانسان غاضبا على سبيل المثال فانه ينفي عمليا ان يكون محبا، و لكن ذاته و هويته واحدة، و في مجال علم النفس يمكن الحديث حتى عن شخصيات مختلفة لذات الشخص الواحد حسب الظروف و السياقات، و لكن بطبيعة الحال من دون السقوط في الحالات المرضية، لان داخل كل ذات هنالك حضور متنوع للكثرة، و من هنا يجب الإقرار بان كنز الإنسان في تنوعه و قوته في وحدته.
و لكن رغم ذلك، يجب الإقرار بالطابع المركب لمختلف مناحي هوية الانسان. لذا وجب قيام فحص شامل لها، لا يقتصر على جانب من الجوانب، من هنا جاء كتابه (هوية الانسان) الذي يشكل الجزء الخامس من مشروعه، شاملا للعديد من المعطيات الانتربولوجية و التاريخية و الفلكية والبيولوجية و النفسية و الاجتماعية و الفنية، لان الإنسان كل لا يتجرا، و ان عمليات التجزئة التي قامت بها مختلف العلوم لم تنتج الا نظرة اختزالية او اقصائية او اختزالية و اقصائية في الوقت ذاته. و من دون عملية فحص جديد لموضوع الهوية، فحص يستند الى تعدد المعارف و ترابطها و الى نظرة إنسانية للإنسان، فانه لا يمكن الخروج من مرحلة (العصر الحديدي) الى (العصر الكوكبي planétaire)، كما يقول.
و مما لاشك فيه ان هوية الإنسان، تطرح مشكلات عديدة منها مشكلة البدايات، فهل نحن حلقة من سلسلة تطور حتمي، و هل نحن مجرد حلقة مفقودة بين القرد و الإنسان كما ذهب الى ذلك (بيار داك Pierre Dac) . يرى ادغار موران ان مشكلة بداية الإنسان ترتبط اساسا بالمعرفة التي شكلها الإنسان حول نفسه، و عليه فانه لا شيء يدعونا الى مثل هذا الاستنتاج التطوري، ذلك اننا نعرف و منذ حوالي خمسين سنة ان هذه العملية التي جرت و ادت الى ظهور الانسان قد بدات منذ حوالي سبعة ملايين سنة، مما يعني انه كلما تقدمت المعرفة الإنسانية كلما ازداد لغز الانسان، وكلما اقتنعنا ان الفكر الإنساني ما يزال في مرحلة ما قبل التاريخ. و بناء عليه لا يجب الزهو باننا نعيش فعلا عصر الانسان العاقل او المفكر او العارف أي ما يعرف في الانتربولوجيا بـ(homo sapiens ) و السقوط في الاختزالات التي تعود عليها الفكر الانتربولوجي، أي تقسيم الانسان الى ثلاثة مراحل اساسية هي العاقل و العامل (homo faber ) و (الاقتصادي homo économicus)، من هنا محاولته في "هوية الانسان" تقديم تعريف للانسان اكثر تعقيدا من هذه الخطاطات النظرية التي تعود عليها العلماء و المفكرون.
ان الانسان، في تقدير العالم والفيلسوف ادغار موران، لا يحمل خاصية العقل فقط بل خاصية الجنون كذلك، و ان ما اشتهر به الانسان ككائن عاقل قد غطى على الكثير من خواصه الاخرى الحاضرة في هويته و التي يحاول استبعادها و نفيها و منها على وجه الخصوص ان الانسان لا يرتبط بالعقل فقط و انما بالجنون كذلك، لذا نجده يضيف الى خاصية الانسان العاقل خاصية (الانسان المجنون homos démens). و لقد اثبت علماء النفس و خاصة علماء النفس الاعصاب، ان العالم الرياضي و هو يجري ابحاثه الرياضية التي هي مثال للعقلانية، يدخل في حساباته ومعادلاته الكثير من العواطف و الرغبات و المشاعر. لذا فانه من غير الممكن لا علميا و لا منهجيا فصل جانب من هوية الانسان عن الجوانب الاخرى. كما ان تلك الصفة التي تربط الانسان بالاقتصاد و ترده الى نوع من الذرائعية التي تبحث في الربح و الفائدة فقط، تتجاهل جانبا آخر من هوية الانسان التي يتم ايضا تهميشها و التقليل منها و نعني بذلك دور اللعب و الفرح و الاحتفال و العطاء و المجانية و الحب و الشعر، و هي جوانب لا يمكن باية حال من الاحوال تجاهلها ولا ردها الى الانسان الاقتصادي. و عمليا فان الدعوى التي تقوم على ان الانسان العاقل يعيش عصر العقلانية يتناسى ان العقل ما يزال يعيش في الوهم و الاساطير و الغرائب و لعل من اكبر مفارقات العقل انه هو الذي يصنعها، لننظر يقول الفيلسوف الى اسطورة التقدم و ما ادت اليه. ان هذا الانسان العاقل لا يختلف في واقع الحال عن الانسان "النيودرتالي neaudertal " الذي كان يدفن و معه سلاحه و طعامه.
على ان هنالك بالتاكيد من يعترض على هذا التوجه في التحليل، و يقول ان هذا الجمع بين العقل و الاسطورة قد تجاوزه الانسان، و خاصة انسان الحضارة التقنية، و بالتالي فنحن في زمن نهاية الاساطير. و يرد الفيلسوف على هذه الحجة باقرار قاعدة منهجية تمثل في الحقيقة جانبا من جوانب فكره العام، و هي انه لا وجود لحضارة اسطورية بالمرة او بشكل كامل و لا لحضارة تقنية بشكل كامل، و الدليل على ذلك، ان الحضارة التقنية التي تعرفها البشرية المعاصرة، تحكمها اسطورة التقدم، و ان حياة الانسان المعاصر تجتمع و تتعايش فيها اشكالا و صورا من الايمان و العقلانية و التقنية و السحر و الوهم. و كذلك فان فكرة الالوهية تعرف دائما تجددا في كل مذهب و ايديولوجية، يدل على ذلك كثرة و تنامي التيارات العقائدية المختلفة المعاصرة.
و لكن ايضا هنالك من يعترض على هذا التحليل بتقديم حجة سياسية و اجتماعية، وهي ان الحضارة المعاصرة حضارة علمانية في غالبيتها. لا ينكر الفيلسوف ان الحضارة المعاصرة حضارة علمانية و قامت على الفصل بين الدين و الدولة وبين الروحي و الزمني، و لكنه يرى ان هذه الحضارة قامت بتطوير ديانة جديدة هي الديانة الوطنية. بحيث اصبحت قوة الوطن و سيادته و حمايته و ضرورة حبه و الحفاظ عليه من كل ما هو خارجي، احد المميزات الاساسية لهذه العلمانية. ان الوطن حاضر في كل مناحي الحياة و له رموز وطقوس قائمة في المجال الاجتماعي و الفردي على السواء، ولعل اكبر هذه الرموز و اكثرها حضورا و انتشارا هو صورة العلم.
و مع ذلك فانه يرى ان الوقت قد حان، الى ان تدرك البشرية ان وطنها هو الكوكب الارضي، و ان الواجب يقتضي العمل على انبثاق ما يسميه بـ " المجتمع-العالم" او " المجتمع العالمي"، و لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو: ما هي امكانية قيام مثل هذا المجتمع البديل؟
يرى العالم ان احد الشروط الاساسية لقيام أي مجتمع كان، هو توفر شرط التواصل او شبكة التواصل، و في تقديره ان هذا العنصر قائم بفعل الوسائل المختلفة التي توفرها العولمة، و خاصة عولمة الاتصالات. كما ان هنالك اقتصادا عالميا، و لكنه لا يخضع لرقابة المجتمع الكوكبي، كما ان هذا المجتمع يفتقر ايضا الى مؤسسات عالمية قادرة على التقرير و التاثير. و ما يحول دون قيام مثل هذه المجتمع هو بدون شك غياب فكرة انتمائنا الى وطن واحد. الانتماء الى "الارض-الوطن" الذي يعطينا الشعور بالاخوة.
و لان احد معالم طريقته و منهجه في تحليل القضايا يستند الى فلسفة اللغة و فقه اللغة، و خاصة الاشتقاق اللغوي، فانه يحلل كلمة الوطن ضمن معطياتها الثقافية و اللغوية، ففي الفرنسية نقول عن الوطن "Patrie " و تفيد هذه الكلمة في اصلها اللاتيني الامومة أو الوطن الام، و الابوة أو السلطة و الدولة، و لذا يرى ـ بلغة قريبة من لغة الفيلسوف و المعلم الثاني ابو نصر الفاربي ـ ان افضل وطن هو المعمورة او ما يسميه بـ : المجتمع ـ العالم.
و اذا كان الارهاب على سبيل المثال يشكل احد وجوه الرعب الذي تواجهه البشرية المعاصرة، فانه في تقدير عالم الاجتماع لا يمكن ان نجد له حلا الا بقيام المجتمع ـ العالم، لانه يمكن من توثيق الجهود و تنسيق البرامج و بالتالي خروج الانسان من العصر الحديدي الى العصر الكوكبي، من هنا ضرورة استعادة الوعي ليس فقط بالوعي بالمخاطر التي نواجهها و لكن بالإمكانيات التي تملكها الانسانية. و اول هذه الامكانيات، هو ان العصر الكوكبي قد سمح بقيام تواصل بين الناس، الا ان هذا غير كاف على الاطلاق، من هنا فان علينا جميعا واجبات و خاصة في المجتمعات الديموقراطية، و من هذه الواجبات المستعجلة ضرورة ان تهتم المجتمعات المتقدمة بمشاكل المجتمعات النامية او التي هي في طريق النمو، و ضرورة احلال العدالة في العلاقات الدولية، و قيام شراكة متوازنة.
و في هذا السياق يرى، ان المجتمعات الاسلامية تواجه تحديات خاصة، لذا على العالم الغربي ان (يسالم العالم الاسلامي) لان في تقديره هنالك اسبابا عديدة ( جعلت هذا العالم يعيش في تناقض حاد بين هوية منطوية و رغبة جامحة للحداثة، مع شعور بالقهر تحت نظم استبدادية و علاقات دولية ظالمة، من هنا يظهر الماضي اكثر اشراقا و الحاضر اكثر بؤسا و المستقبل مظلما، هذا بالاضافة الى الصراع العربي ـ الاسرائلي المحتدم الذي يؤجج هذا الوضع، و مع ذلك لا نجد احدا يفكر في هذه الحالة الاستعجالية الخطيرة التي لا يمكن حلها بمنطق السياسات الحالية، و انما المطلوب اقامة سياسة حضارية)[1].
- خاتمة و آفاق:
لا شك ان هذا التصور لمفهوم الهوية، يعد، في نظرنا، بمثابة دعوة ونداء الى بعث نهضة إنسانية جديدة، تقوم على فكر كوكبي ان صح التعبير، واع بالمصير المشترك للإنسانية. صحيح ان هنالك صعوبات جمة لبناء هوية الانسان في الظروف الحالية، رغم اننا نعرف الان جميعا، اننا نملك جسما واحدا مكونا من جينات واحدة ولدينا بنية دماغية واحدة، و عواطف واحدة، بمعنى ان للانسان قدرة جينية و عصبية و نفسية واحدة، تاخذ اشكالا مختلفة، لكن ليس لنا وطن واحد، و بما ان مصيرنا اليوم اصبح مهدد باكثر من خطر ليس اقلها السلاح النووي و الصراعات العرقية و القومية و الأوبئة و المشاكل البيئية المختلفة. من هنا ليس هنالك من بد من قيام مواطنة كوكبية او عالمية، و هي مواطنة بدات تظهر معالمها الاولى في شكل منظمات عالمية، كمنظمة اطباء بلا حدود، ومنظمة العفو العالمي، و لكن الطريق ما تزال طويلة امام هذه الهوية، و لعل اهم عنصر ينقصها هو وعيها بذاتها، و وعيها الجماعي باعتبارها هوية إنسانية.
لا تعني الهوية الانسانية، هوية واحدة، لان لكل فرد ولكل مجتمع هويته المركزية. فلكل واحد منا ذاته الخاصة، و عائلته، و قريته، ومدينته و وطنه. لكن هذا لا يمنع من قيام مواطنة عالمية، فالفرنسي على سبيل المثال يستطيع ان يكون أوربيا و هو ما يحصل الآن عمليا، و يمكن كثيرا ان يصبح عالميا اي مواطنا عالميا. لقد تعودنا فيما يرى الفيلسوف كثيرا، على التفكير الأحادي و الاقصائي في الوقت ذاته، في حين ان الواقع و الحياة تبين لنا دائما اننا نجمع بين (هوية عميقة) خاصة و هوية كلية او عامة تكون اكثر اتساعا و رحابة، ننضوي فيها. لذا لا يتردد في الدعوة الى قيام هوية أوربية ومن ثمة هوية عالمية، و في حالة تشكل و قيام مثل هذا المجتمع العالمي فان هوية الانسان بوصفها إنسانية الإنسانية، هي التي تشكل مستقبل الإنسان و بالتالي فهي أمله.
الا ان هنالك، من يحتج على هذا المنحى باسم الثقافة الوطنية و الخصوصية التاريخية و الاصالة، و ما الى ذلك من ضروب الهويات المغلقة. و جواب الفيلسوف على ذلك هو انه ليس هنالك من ثقافة خالصة او هوية خالصة او تاريخ خالص او ذات خالصة. فالثقافات هي دائما في حالة انفتاح و انغلاق، تكون الثقافات او الهويات منفتحة عندما تكون قادرة على امتثال عناصر جديدة، و منغلقة عندما تريد ان تحتفظ باساسها او ميزتها الخاصة، الا ان الهويات في الغالب تقوم بعملية الامتصاص و المزج الخاصة بها، لكن لم يحدث ان بقيت هوية واحدة خالصة، فكل الهويات هي نتاج لعمليات مزج وتركيب شديدة التعقيد والتنوع، و تلجا دائما الى إظهار خصوصيتها و علاماتها الأصيلة سواء في حالة الانغلاق او الانفتاح.
و لا شك ان حضارتنا الكوكبية، تواجه مضاعفات خطيرة ليس اقلها صراع الهويات، و ما تجده من دعم نظري و فكري من قبل منظري صراع الهويات و الحضارات و الثقافات، لذا وجب في تقدير الفيلسوف، ليس فقط تغيير منظور و مفهوم الهوية، الذي يؤكده تاريخ الانسان ذاته بوصفها هوية متعددة و متنوعة و واحدة، بل يجب إصلاح الفكر و اعادة النظر في تنظيم المعارف، أي انه بقدر ما ان هنالك مخاطر على صعيد هويتنا الإنسانية، فان هنالك ايضا إمكانيات لقيام هوية إنسانية عمادها ثلاثية الفرد و المجتمع و النوع.
و عليه فهل هنالك إمكانية لاستبعاد البربرية و تمدين الانسان؟ هل يمكن ان تتواصل عملية انسنة الإنسان؟ و هل هنالك إمكانية لإنقاذ الإنسانية ؟ يجيب الفيلسوف، بانه لا شئ مؤكد سلفا بما في ذلك وقوع الأسوأ و الأخطر. ذلك ان ادغار موران، يرى ان هذه البشرية الارضية، قد بلغت مرحلة النهاية او بالاحرى قد ادركت مرحلة الموت، ليس الموت المنظور و المعروف و لكن الموت و النهاية الآنية، و ذلك بسبب ما أنتجته هذه الحضارة من وسائل الدمار الشامل، التي تفني الإنسانية. و ان عصرنا قد عرف ترابطا بين شكلين من أشكال البربرية، الأولى متعلقة ببربرية ضاربة في أعماق التاريخ و العصور القديمة المغرقة في القدم، بربرية الاقتتال و الصراع و الحرب، و البربرية الثانية المنبثقة من داخل حضارتنا التقنية، و الناتجة عن السيادة المجهولة و الباردة كما يقول للتقنية و لأسلحة الدمار الشامل، و لفكر يجهل كل ما لا يخضع للحساب و القياس. و في المقابل فان هذه الحضارة قد أوجدت قيما أساسية على رأسها هذه القيم، قيمة الإنسانية و الديموقراطية والعلمانية. من هنا وجب حماية هذه القيم من الأشكال البربرية التي أنتجتها. و في نظره، ان الغرب الشديد الحساسية كما يقول لآلامه و معاناته، يظهر لامبالاة عجيبة تجاه آلام و معاناة الآخرين، و عليه يجب الإقرار بأنه لا يمكن أبدا بلوغ أهداف نبيلة بوسائل غير نبيلة، و لذا فان قيام مجتمع عالمي وهوية إنسانية عمادها إنسانية الإنسان، لا يشكل فقط بديلا ممكنا بل ضرورة حيوية للإنسانية الألفية الثالثة.
[1] - Edgar Morin, Politique de civilisation, in, Construire, n 49, du, 4-12-2001, p,22.
- ملاحظة : كل النصوص و الإحالات المثبتة بين قوسين ماخوذة من نص كتاب هوية الإنسان.
- Edgar Morin , La Methode, L’humanité de L’humanité, L ’identité humaine, ed, Seuil, Paris, 2001.