تتراكض الأحرف إليك يا من اختصرت مسافة الحياة بين يديك.
لكني ضيعت طريقي إليها في غابات الكلمات، فهي تحيط بي، تغمرني. هي الدفء، ودفق الحرية. نقية، بهية كالفجر، ولي عندها مواطن وأشرعة ومراكب، ولي طفولتي وحنيني ومشاوير الحياة. ولي غيابها ومراحل الألم وبعض الصور.
لكن مسارها المضئ مديد، مرهق.
هكذا انسابت من بين الأضلع إلى الأعمق، إلى الأقرب واستقرت في المسافة ما بين البؤبؤ والرؤيا.
وأحار، أحار. لا أعرف عن أي زمن أتحدث: فإن ذكرتها في طفولتي أحسست أحرف الكلمات تتفكك، تصغر، تصغر لتعود خائبة إلى دفاتر الهجاء.
وإن ذكرتها في سجنها، تتفجر براكين الثورة ولا أعود أذكر سوى نقمتي على شعب لا يزال يحبو كالطفل، لا يعرف كيف يقرأ التاريخ والناس والقيم والحياة، يجهل كيف يصون أحبابه وأصالته وتراثه، شعب تدهشه الصور الملونة المتحركة، تأخذه مسارح الدمى وأقنعة الكرنفال والبربارة، تأخذه مكبرات الصوت والخطب والتمثيليات، لا يعرف أفراده، حتى من ملأت الصحف أسماؤهم وتناقلتها أفواه الببغاء. ولا يعرف عن جمال نفوسه وكرامتها إلا ما شوهته الدعايات والخصوصيات. وإن كنت أعلم ويعلم معي من أحب الحياة وعرف الأمينة الأولى أن تلك كانت الطريق وتلك هي المسيرة لا محال.
وتيقنت في المنفى. من بعد ليل السجن الطويل كم أن سرها المتجذر بقي دفيناً، ربما لكثرة المآسي التي يعاني منها شعبي حتى درجة الخدر. فبقيت حياة الأمينة الأولى كما حياة سعاده، أسطورة لا يجرؤ على الاقتراب منها الأحياء ولا تعنيهم إلا بقدر ما تبرر أحجامهم عن تناول مصيرهم بملء أيديهم وتحمل مسؤوليته على هذا المستوى.
وانتظرت... وانتظرت معها هبوب رياح التغيير وإطلاق سراح رفقائنا من سجون لبنان من بعد سجون الشام. انتظرنا انطلاق الشرارات وطلوع السنابل طويلاً... طويلاً. ولكننا سجلنا في خلايا الذاكرة هزيمة حزيران 1967 ورحلات مواكب الشهداء الأبطال المنفردة من بعد الهزيمة كما كانت منفردة من قبل.
وحده اللغز كان يكبر... ولا عجب فبلادنا بلاد المفارقات!
ولكن ليس المجال لتعرية المشاعر والسكين يوسّع جراحات بلادي، وتموز يتسع على امتداد أمتي وبعض من ترابها يستشهد في الجنوب.
لقد فاتنا جميعاً البعد الحقيقي الشامل لشخصية الأمينة الأولى، ولم نخرج يوماً عن التصور المبتور الموروث عن امرأة كانت أماً لجميع الرفقاء والمواطنين، وكانت أكثر من ذلك كلما كثرت جراحهم. ورفيقة الدرب الشائك الطويل التي تعمل بصمت دون كلل أو ملل. ورفيقة سعاده في المهجر والوطن. وإنسانة نذرت نفسها لقضية أمتها وتفانت في العطاء. وتجرّدت إنفة وشموخاً على مسيرة الآلام الجسيمة، حتى رآها البعض ملاكاً، ورأى فيها آخرون العذراء، وتحسّر آخرون على مصيرها... وتواضعت، تواضعت حتى إنكار الذات.
ولم نتساءل مرّة أو يوماً في مدار عمر بكامله لماذا تآزرت القوى المناهضة لقضيتنا، تلك القوى نفسها التي أغرقت أيديها في دم سعاده وظنت أنها انتهت منه، ضد هذه المرأة التي كانت لا تزال في الإقامة القسرية في صيدنايا. وكم من وسائل الضغط والتهديد استعملت لحملها على مغادرة البلاد. ولا زلت أراهم يقودونها في الصباح إلى غرفة المقابلات، وأسمع صوتها يرتفع: "لا .. لا .. لا أريد" في وجه رجال الدولة الشامية آنذاك، وفي وجه رجال الدين وكل من أرسلوا من طوابيرهم.
هم كانوا يدركون، كما لم ندرك نحن، خطر بقاء امرأة حرة آمنت بقضية بلادها وآمنت بالرجل لأنه صاحب قضية، في هذه البقعة حيث لا رأي ولا إرادة للنساء.
والسواد الأعظم منا لم ير في مواقف الأمينة الأولى سوى وفاء والتزام الزوجة بزوجها. وكم من مرة شهدنا فتيات العائلة الواحدة ينسين جذورهن ويتعصبن انعزالياً وتقدمياً وللأجنبي وفق عقود الزواج المختلفة، وكأنهن كن في طهر من التفكير!
قد لا أتمكن في الأسطر القليلة هذه أن أبرز معالم تحرر الأمينة الأولى عبر المسيرة من بيت لبناني تقليدي من بيوت الميناء في طرابلس إلى الاغتراب إلى انتمائها للحزب وزواجها من الزعيم، وحتى المراحل الأخيرة من حياتها.
لكنني أسوق وثيقة اتهامية ضد أجيال لم تستوقفها هذه الظاهرة ولم تحرك ساكناً بالرغم من تكرار الحوادث ومن فداحة الاستباحة، وبالرغم من كل ما كان يجري على الساحة القومية. وفي عام 1955 جاءت الفرصة غير المنتظرة لقهر وكسر إرادة هذه المرأة التي عاندت الأمر المفعول ولم تسكت على جور، فكان سجن المزة وكانت الأحكام. وكنا قد رسبنا في امتحانات سابقة، فتركنا للجلادين حرية التصرف وأطلقنا لهم العنان. فنحن لم نفهم ولم ندرك شيئاً مما كان يجري من حولنا، نحن لم نفهم قضية تخلفنا ولم نفهم مضمون تحررنا.
قبلنا في السابق أن تسجن امرأة طوال ثلاث سنوات وثمانية أشهر في السجن الانفرادي، وخمس سنوات تلت في السجن المدني. وهذا ما لم يحصل في التاريخ وما لن تسمح الشعوب الحرة بتكراره. وكأنما كرامة النساء في بلادي ليست من كرامة بلادي، وكأنما النساء رصدن لقدر مشؤوم. ونحن نقبل اليوم، مغلوبين على أمرنا، ما هو أعظم وأدهىز.. أن تنحر بلادنا وينحر الأحرار فيها، وكأن البلاد ينبوع ينضب من معينه!
لم نمسك طرف الخيط المضئ لندخل حلبة التحرر من صلب واقعنا، بل فضلنا أن نستورد مطالب تحرير البلاد وتحرير المرأة من الغرب مع جملة ما نستورد من الأزياء والعطور وثقافة تهدف إلى سحقنا.
لقد تفردت الأمينة الأولى في حياتها وفي مواقفها، فكانت إولى نساء بلادنا في المجابهة وفي تحمل ما ترتب على هذه المجابهة. وتفردت في التزامها وممارستها، فكانت الأولى في خط نهج يتناسب مع حجم القضية ومع فهمها ووعيها لها. وهي في ذلك لم تكتب كتباً ومقالات، ولم تطلق البيانات والتصريحات، ولم تطل على الجماهير من على منبر، بل تركت لنا من تاريخ حياتها نسغاً متناغماً منسجماً مع ذاته... وفي كل من هذه الحقب لنا منها رسالة.
لقد أرادت الأمينة الأولى أن تبرهن بالفعل لا بالقول مدى أهمية القضية وتفوقها على أهمية الأفراد في مجتمع لطالما تنازعته المصالح الفردية الشخصية وطغت فيه الأنانيات. كما أنها كانت مقتنعة بأن في هذه الأمة وفي الحزب طاقات ومواهب واختصاصات يجدر أن تُمنح فرصة فرض نفسها وتفوقها لتمضي القضية قدماً في شتى الميادين الفكرية والعسكرية والتنظيمية والفنية وغيرها. ولكن هذا لم يجد نفعاً فقد استغل أفراد في الحزب هذا الموقف وسقطوا، ولكنهم في سقوطهم فوتوا على القضية فرصاً نادرة لن تتكرر. والأهم من ذلك أنهم زرعوا هذه الجرثومة في جسم الحزب اليافع. ولنا من تاريخنا النضالي عبر وأمثلة.
وهي إلى جانب ذلك أرادت أن تبرهن للرفيقات والمواطنات كما للرفقاء والمواطنين أن النضال القومي النهضوي وبناء الإنسان الحر ليس وقفاً على نخبة من المثقفين وحملة الشهادات الجامعية الذين أخذهم دخان الغرور فعاملوا قضايا البلاد وأفرادها بفوقية وتعال، ولم ينجحوا إلا في إبراز مركبات النقص فيهم وترسبات تربية مغلوطة. فهي نفسها لم تكن من حملة الشهادات الجامعية أو من ذوي الاختصاص العالي. ولكنها ذات طموح واستقلالية وثقافة وخبرة في الحياة لأنها دخلت معركتها في سن مبكرة.
كانت تعرف أن لها قضية غير قضية المجتمع الذي كبرت فيه، وظلت تبحث عنها حتى التقتها واعتنقتها ورسّخت مع سعاده مفاهيمها في دورها كامرأة، وفي مشاركتها التامة في الحياة الاجتماعية وفي تحمل المسؤوليات إن في المجالات العامة أو الخاصة أو في تربية النشء الجديد الذي عليه يترتب مصير الأمة.
وما كان بالإمكان أن يصح كل هذا لولا معرفة عميقة بالذات وبالعقيدة، وصدق وإخلاص متناهيين مع النفس ومع الآخرين، وتقدير مدرك لطاقاتها ولإمكانات وجهود الآخرين. ولولا ثقة بالنفس تثبت وجودها بجدارة حيث يتطلب الموقف ذلك، أي لولا خلقية ومناقب سمت بها وارتقت حتى احتلت مكانها في قلوب وأذهان رفقائها وشعبها... كانت وستبقى منارة لمن اختار أن يقتفي أثرها ليحيا في النور والكرامة.
أعرف أن كل هذا وأكثر منه لا يفيها حقاً أو يعطي صورة جلية عنها. جل ما أفعل هو تلمس القيمة الرسولية التي حملتها طيلة سني النضال الصعبة، والتي يعرفها فيها رفقاؤها الذين واكبوها وحتى أعداؤها أكثر مني. واعترف أن محاولة التحدث عنها بتجرد وموضوعية أمر مضن يبقى في صيغة المحاولة في ظل تداخل أنسجة حياتنا وتشابك المشاعر المتبادلة.
وتجمح التحية فتقفز الذكرى من نهايات حزيران إلى الثامن من تموز لتلتحم في الموت والخلود كما التحمت في الحياة. ويبقى لنا العهد أن نستمر كما استمرت الأمينة الأولى بعد استشهاد سعاده، رافضين كما رفضت تحت مطلق ظرف من الظروف مبدأ التهاون والتنازل عن حقنا في الصراع وحقنا في الغلبة، عاملين بعزم وبساطة وإيمان. فنحن أمة أكبر من أن تقع في الصغائر، وقضيتنا أكبر من أن تقبل بغير المطلق.