ان المرحلة الاولى في حياة الجماعات البشرية لم تكن تشكلاً جمعياً بل هو تجمع ظرفي حيث كثيراً ما كان يحدث للتعقب على طريدة ما ومن ثم سيطرة الاقوى على اهم ما فيها وقبول الاضعف بما تبقى له يأخذ اكله الى وكره فيطعم المرأة والاطفال الذين يعتبرهم ملكاً له، وكثيراً ما كان يأتي جريحاً اليهم ويموت لاحقاً مما يجعل المرأة تأخذ دوره او تبحث عن رجل آخر يطعمها مع اولادها، ولعل المرأة في وضعها الصعب هذا هو الذي جعلها تبحث في زوايا الارض عن الاعشاب التي لها مفاعيل في شفاء الامراض وتضميد الجروح كذلك يعود لها الفضل في التعامل مع بقايا الحيوان من حفظ اللحم في طمره بالارض بعد طليه بالملح او استعمال جلود الحيوانات لتدفئة صغارها او القبض على الحيوانات الضعيفة كي تدجنها وتتمكن من استعمالها من حليب الى أداة تحميل. وهذه العمليات لعبت دوراً كبيراً وريادياً من تحويل مرحلة الصيد الى مرحلة الرعي لاحقاً.
بداية التشكل الجمعي في مرحلة الرعي اعتمدت على عنصرين اساسيين الاول عدم الثبات في العلاقات بسبب حركة الرعي نفسه والثاني العلاقة الرحمية التي كانت تتيح لصاحب القطيع ان يعطي الزعامة لأي كان من اولاده ما دام يتمتع بالقوة العضلية وسرعة الحركة واتخاذ القرارات الصائبة اذ ان قراراً خاطئاً يمكن ان يحول القطيع الى صحراء ينفى فيها. والارض في هذه المرحلة التي استمرت طويلاً لم تكن تعني في مرحلة الرعي سوى حاجة مؤقتة وبالتالي لم تكن هناك علاقة عضوية معها او ثابتة وزمن البقاء فيها والرحيل عنها يقرره كثافة العشب الصالح للرعي فيها. أما العلاقة الاساس فقد كانت مع الحيوان وكانت البقرة الولود اهم بكثير من حياة انسان ما، وعندما كانت القبيلة تكبر برجالها وعدد فتياتها تجتاحها قبائل اخرى لسرقة حيوانها وبناتها لذا كانت القبائل الضعيفة خصوصاً تحرص على وأد بناتها الصغيرات وعدم تسمين حيواناتها حتى لا تكون مجال اغراءات للقبائل المغيرة وقد عبدت هذه القبائل اشجار الواحات في المناطق الصحراوية وصنعت تماثيل من تمور تأكلها اذا جاعت مما يعني ان الآلهة بالنسبة اليها ليست اكثر من تعبير وجداني مستمّر للحاجات البيولوجية.
كما عبدت بعضها الحيوان متطوراً عن حالة الطوطم المعبود في زمن الصيد، وهو في هذه الحال كانت تحمله معها متجسداً في اوان من فضة او نحاس واما البعض الآخر من القبائل فقد عبد الطبيعة متجسدة تارة بجبل او تلة او نهر او ينبوع او صخرة حتى في حين عبد البعض الآخر النجوم لأنها كانت كبيرة الأهمية بالنسبة اليها فهي دليلها في التنقل المستمر وقد تغنى شعراء تلك المرحلة بالمرأة واعتبروها بنت الشجرة وعبدوا عشتار الاولى كأمرأة خارجة من شجرة تعطي الحياة من بطنها كما الشجرة تعطي الثمار من جوفها، كما شبهوا المرأة بالنجمة والقمر لأن القمر ينيرهم ليلاً وهو يبعد الحيوان عنهم لذا كانوا يهرعون للدفاع عنه اذا غاب استثنائياً واعتبروا ان الحوت من البحر يريد ابتلاعه فيتراكضوا محدثين قرقعة ودوياً كي يهرب الحوت ويترك القمر وشأنه ، كما اعتبروا القمر مسؤولاً وذات ارتباط مباشر بحالات نسائهم الشهرية لدرجة انهم اطلقوا عليها اسم الدورة القمرية.
العمران البشري لم يبدأ الا في العهد الزراعي حيث استقر فيه الرهط على ضفاف الانهار وراح يلم وبقطف ما تقدمه الارض منتظراً المد الذي يروي الطمي فيخصب الارض كما راح يدجن المزيد من الحيوانات ويقيم لها الاسوار والمزارع كي لا تهاجمها الحيوانات المفترسة او تهرب هي. ومن ثم راح يتعامل ليس فقط مع لحمها ولبنها وكسوتها بل أيضاً يكتشف امكانية استخدامها في حراثة الارض وتحميل المنتوجات الزراعية عليها. وكون الارض تحتاج الى زمن كي تعطي حبوباً واكثر كي تنمو اشجاراً راح الانسان يساعدها من خلال الفلاحة والحراثة بحيث يتبع الفصول ويسبق الامطار في وضع الحبوب بأمكنتها المناسبة مما اعطى حصاداً وفيراً وجعل الانسان يتدخل في رسم اوائل الانشاءات السكنية وهذه بدورها فرضت انشاء قواعد دفاعية على تخومها مما جعل القرية الاولى تتمدد من حدود النهر الذي تزرع قربه الى اعالي التلال المشرفة كي تنظر القادم وتدافع عن الارض والقاطنين فيها.
في هذه المرحلة صارت الآلهة المعبودة تتجاوز الحيوان والنبات وصارت ذات علاقة بانماء الزرع والفصول لذا ظهرت في الميتولوجيا آلهة السماء كأد اله الزوبعة وايل اله الرعد وبعل اله المطر وقد سجلت الملاحم صراعات بين هذه الالهة كتصوير لما كان يجري في حقيقة الطقس الشتوي.
التمدد السكاني على الاراضي المجاورة كان يدفع السكان الى البحث عن المزيد من الايدي العاملة لذا كانت المصاهرة هي الرافد الاكبر للايدي العاملة الذكورية خصوصاً فكان الرجل يأتي ليخطب فتاة فيلزمه ابوها بالعمل في الارض لفترة ما قد تطول بين خمس الى سبع سنوات قبل ان يسمح له بأخذها الى قبيلته اما في حال اصرّ الرجل على اخذها مباشرة الى رهطه عندها وُجب عليه ان يدفع بدلاً عنها مهراً انثى لأن التبادل هو رحم برحم والشاب الذي يأتي لاخذ زوجة وهو في حال معدمة وليس له مكانة في عشيرته كان يفضّل ان يبقى كل العمر في ارض زوجته وبالتالي فأولاده ينتمون الى الام وعشيرتها والقيّمون عليها الاولاد هم الاخوال والاولاد لا يرثون الارض بل يبقون عاملين فيها. اما عندما يكون العريس ذات حظوة في عشيرته ويأخذ امرأة اليها فعندها يكون هو واخوته – أي الاعمام- مسؤولون من الاولاد والاولاد عندها يرثون الارض. وهذه المنظومة تشرح الحاجة الطبيعية لميراث الارض حيث الاقوياء فقط يمكنهم الدفاع عنها والعمل فيها. وكلما كبرت سطوة الرجل وزادت قوته وغلته كلما حصل على المزيد من النساء والاولاد.
هذه المعطيات تدعونا للاعتقاد ان عملية الاستيلاء على اراضي الغير او استعمارها لم تكن تقوم بين التجمعات السكانية او القرى الاولى بل ان الغزو كان يأتي من قبائل الرعي عليها لأكثر من سبب : الاول هو ان السكان الزراعيين يكتفون برغد عيشهم واستمرارية عملهم فهم سلاميون في طريقة عيشهم في حين ان قبائل الرحّل يحتاجون باستمرار الى الطعام والنساء والسبب الثاني هو ان التحرك من ارض الى ارض يعني ترك الارض وهذا ما لا يمكن تصور حدوثه لأن علاقة السكان بأرضهم تعني المهم الحياة والانتماء.
وفي غزو الرحل هذا هناك اكثر من احتمال، الاول هو ان ينهبوا ويحرقوا ويقتلوا ويسبوا ويذهبوا،عندها اما ان تُباد القرية او ان يعيد بناءها من بقي حياً فيها، والثاني، ان يبقى بعض الغازيين ويرحل الآخرون والباقون يسيطرون على الارض ويدخلون في عملية تدجين انفسهم كي يتحولوا الى مزارعين. والثالث، هو ان يقطن كل المهاجمين القرية ويجعلون سكانها عاملين عندهم وهم يتفرغون للغزوات والعودة وهذا الاحتمال الاخير هو الذي حكم منطق شعوب الارض لاحقاً وما زال.
عملية ميراث الارض كانت الاساس في تحول القبائل الى شعوب حيث صار هناك انتماء لا الى طقوس او طواطم بل الى ارض. وصار الجهد المبذول في الارض بغية قطف ثمارها هو الملحمة الاولى التي جعلت الانسان يستميت للدفاع عنها لأنها تعني له الحياة فهي مصدر رزقه، وهي عنوان استمرارية نسله، وبالتالي تعني وجوده كفرد وخلوده كنوع .
واذا كانت استمرارية وجوده كنوع تكمن في العلاقة التناسلية والجنسية المرافقة لها الا ان استمراريته في الحياة منوط بالمكان وما يقدم هذا المكان من غلة اقتصادية. من هناك يمكن اعتماد ثلاث ابعاد اساسية لحياة القبيلة الزراعية الاولى ميتولوجية تتعلق بالتوتم والموت وما بعده ومبررات وجدانية للألم والخوف . الثانية وجودية تتعلق ببقائه كنوع وهذا مرتبط بالمتولوجيا . الثالثة اقتصادية تتعلق ببقائه حياً كفرد .
ان التطورات الحاصلة في حياة القبيلة الزراعية طالت كل هذه الابعاد بدءاً من الميتولوجيا فهذه الشعوب التي بدأت بالتكون لم تتخل عن معبوداتها بل حاولت تطوير تفكيرها الميتولوجي لذا صارت المظاهر الطبيعية ذات العلاقة العضوية بالارض والزراعة تفرض ذاتها فصارت الشمس في مصر هي الاله الاكثر انتشاراً واصبحت الاله الوحيد عندما بدأت الشعوب تستعمر وكانت طبيعياً ان الشعب الذي يستعمر شعباً آخر ان يقتل اله الشعب المهزوم ويفرض الهه . ففي مصر، كان الاله آمون هو الاله المثلث: الشمس والريح والخصوبة وهو ظاهر في ظواهره خفي في ذاته لذا دعي بآمون أي الخفي وكون الكرة النارية المضيئة هي الطاغية عليه دعي ايضاً بآتون أي النار وكان الفراعنة ينتمون اليه لذا كانت اسماؤهم مضافة اليه بحيث ان الفراعنة الكبار كأخناتون او توت عنخ آمون يتصرفون بوحيه والهاماته، لذا كان اسم الاول يعني روح الشمس والثاني الصورة الحية للشمس وفي كل الاحوال فالفرعون يعني تجسيد الاله على الارض، وعندما قام الفرعون حورمحب ميري آمون حورس أي المحبوب من الشمس لم يضف اسمه الى الاله بل اضاف اسم الاله اليه فصار اسمه رعمسيس أي رع انجبه، دامت قوة رع وبالتالي كرس نبوته الالهية فصار هو الاله نفسه جسداً وروحاً وقوة، أي هو اله وانسان معاً، هذا التواتر في العلاقة الالوهية – الانسانية ستجعل من تصرفات الفرعون بعيدة عن اية محاكمة او مقايضة او محاسبة لأن الالوهة هي التي تتصرف من خلال تصرفاته.
وهذا سينسحب لاحقاً على كل الشعوب التي سيطرت على الشعوب الاخرى بحجة الهية كالبابليين والآشوريين والكنعانيين حيث كانت الحروب كر وفرّ بين اله الرعد واله المطر (اد) و (بعل) وبين يهوه والفلسطينيين ومن ثم الامبراطورية الرومانية التي كان الامبراطور الروماني يحطم تماثيل الآلهة المحلية ليضع تمثال الهه مكانه ولعل هذا كان من الاسباب الكبرى التي اضطهد المسيحيون في العهد الروماني حيث ان المسيحيين قالوا باله واحد فوق الجميع مما يعني انهم ليسوا شعباً له الهه بل شعب يقول ان الهه هو الوحيد والاعظم وهذه جريمة اين منهما جريمة سقراط في فرض الهه على شعب اثينا. وعندما قام قسطنطين يبحث عن اله يسيطر به خطر له – وربما بتوجيه أمه هيلانه – ان يستعمل اله المسيحيين كي يفرض نفسه من خلاله وفي ذات الوقت يجعل من الشبان المسيحيين وقوداً وخطوطاً دفاعية اولى عنه وبالفعل لقد حصد الانتصار العسكري من خلالهم ولاحقاً استعمل اسقف روما كي يكون رمز المسيح الاله وخليفته وان يكون الامبراطور حامياً لهذا الخليفة وعملياً تحت سيطرته وهذه نقلة نوعية في التعامل الالوهي اذ اصبح الامبراطور الوصي على خليفة الله أي على الاله نفسه.
ورغم ان هذه العملية لم تصمد طويلاً الا أنها كرست اعرافاً لفترة وسرعان ما عاد الخليفة كي يمسك السلطان بيده وصار يحكم باسم الله ويقاتل باسم الله ولعل الحروب الصليبية ذات دلالة على ذلك. وعندما قام الفتح الاسلامي استعمل الاسلوب نفسه فمن اجل فرض الاله بصورته القرآنية على الشعوب التي لا تؤمن بهذه الصورة الالهية قام الجهاد واستعمرت البلاد واذا كان مسيحيون في الغرب يعتقدون ان الحروب الصليبية لها ما يبررها من خلال تحرير الاراضي المقدسة من سيطرة المسلمين فهذا يعني انهم يعتبرون المسلمين كفاراً لا يستحقون ان يكونوا على ارض مقدسة، واذا كان مسلمون في الشرق يعتقدون ان عملياتهم العسكرية للاستيلاء على بلاد غير الجزيرة العربية هو فتح فهذا يعني انهم يعتبرونها مغلقة على الايمان بالاله الواحد وبالتالي فسكانها كفرة، ان كل الحالات التي تتقدم فيه عساكر لاحتلال اراضٍ ليست ارضها الام هي حالات استعمارية بامتياز مسيحية كانت ام اسلامية. ان التوقف المطوّل نسبياً عن قضية تداخل الالوهة او السلطة الالهية مع السلطة العسكرية او الزمنية مهم في تشكيل الشعوب ، فإذا كان الشعب اكتسب دلالته من خلال ارتباطه بالارض فإن المفهوم الالهي للزعامة حركته خارج ارضه مما يعني ان الآلهة المحلية كانت تكرّس اوطاناً في حين ان الاله الواحد كرّس استعماراً للاوطان الاخرى واعطى المكانية بعداً شمولياً وقد سجل التاريخ أنه كلما توسعت البلاد عسكرياً وسيطرت ليصبح القائد الناطق باسم الاله مرتاحاً فيؤل الاله ما يريده هو، وكلما كانت البلاد مُستعمرة ومسحوقة صار قائدها يركن الى الشخصية الدينية كي تحميه وتجعل الشعب يعيش الامل الالهي في الانقاذ او حماية القائد من أي تغييرات تطاله. ولعل في تصرفات بعض الخلفاء المسلمين من امويين وعباسيين والخلفاء المسيحيين من الباباوات تدل دلالة واضحة على ابتعاد هؤلاء من مسيحيين ومسلمين عن أي امكانية لقياس قيمي او انساني او روحي.
وبسبب ان الديانات في طبيعة بيئتها تحوي شقيّن : المعتقدات والطقوس فإن المعتقدات تقوم على رأس الهرم في حين ان الطقوس تكون الاساس في قاعدته لدرجة ان الطقوس يمكنها ان تبتلع المعتقدات بحيث تصبح المعتقدات طقوساً. وكون الشعوب في تكوينها الاساس قبلي فإن الطقوس هي امتداد وتزاوج بين القديم واللاحق بحيث تشكل مع زمنية الارض المقيمة عليه خصوصية تسمى بالطائفة. فالطائفة هي جماعة تعيش على ارض ذات اصول قد لا تكون آنية لها لذا فهي تنتمي للارض سياسياً ومعيشياً وتنتمي لمعتقداتها دينياً.
هناك لغط كبير في المفاهيم العربية حول بعض المسميات منها الطائفة والدولة والشعب، فالطائفة عند بعض المؤرخين هي الجماعة وليس بالضرورة ان تكون لها خصوصية اعتقادية في حين عند اكثريتهم لها هذه الخصوصية، واما الدولة فهو مفهوم كثير الارتياب، فهناك في التاريخ الدولة الاموية والدولة العباسية من خلال مفهوم ان الامور قد دالت اليهم ومن هناك اطلاق لفظ الدولة الاسلامية او الدولة المسيحية او الدولة اليهودية. وهكذا مفهوم يثير لغطاً بذاته حيث الدولة تصبح الحكم والحاكم وسلطته ولا تعود الارض ذات قيمة ولا حتى الدين نفسه هو الاساس، ففي الدولة الاسلامية كان هناك مسيحيون ويهود في العصرين الاموي والعباسي في حين يصح القول اكثر ان العصر الاموي كان طوائفياً سنياً في حين ان العصر العباسي كان طوائفياً شيعياً كذلك الامر فمنذ القرون الاولى للمسيحية كان الاريوسيون والغنوصيون يشكلون جماعات طوائفية خلخلت الدولة وبدءاً من عصر النهضة لم تعد هناك دولة مسيحية بل طوائفيات مسيحية موزعة بين الكاثوليكي والارثوذكسي والانجيلية البروتستانتيه والانغليغانية وغيره.
صراع القبائل اسهل من صراع الطوائف لأن الصراع الاول يمكن حله بالتصاهر في حين ان الميدان الثاني يُمنع فيه التصاهر، من ناحية اخرى، الصراع الاول هو احقية في الارض او النفوذ ويمكن معالجة ذلك اما في الثاني فهو احقية في السماء واله السماء وهذا ما لا يمكن معالجته. لذا يمكن قيام دولة بين القبائل لكن لا يمكن قيام دولة بين الطوائف. واذا كانت معالجة دولة القبائل تكون بتوزيع الحصص على اساس العدد او القوة بما يعني ان الدولة هي القبيلة الاقوى ثم الاضعف الا ان قيام دولة بين الطوائف لا يمكن ان تقوم الا على انتماء يتخطى حدود الطوائف نفسها بحيث ان كل الطوائف التي لها معتقداتها السماوية تؤمن بمعتقد ارضي واحد هو الوطن الارض. وهنا تكمن الصعوبة الفعلية في قيام هكذا دولة لأن الانتماء الاولي للارض يصبح هو شرط اساس واوله يجب ان يسبق الانتماء الديني الشمولي واللامركزي وقد يكون هذا مستحيلاً عند الطوائف لذا تعمد احياناً الطوائف الى ان تتصرف كالقبائل فتوزع السلطة على الاكبرعدداً او قوة لكن سرعان ما تتكشف مكامن الضعف في هذه التركيبة لأن القبائل سندها بذاتها في حين ان الطوائف سندها بمرجعياتها مما يعني ان مشاكل الاولى داخلية في حين مشاكل الثانية خارجية. وهذه هي الحال في العراق وفي لبنان.
وقد يكون للمساندات الخارجية لهذه الطوائف غير مرجعياتها الدينية مما يجعل الامر اشبه بسخافة طفولية وغباء موضوعي اذ قامت الدول الاستعمارية بحماية الطوائف بانتقاء سياسي في كل من سوريا ولبنان فتنبت مثلاً انكلترا الانغليغانية الموحدين الدروز وقامت النمسا الكاثوليكية بتبني الروم الملكيين الكاثوليك في عصر امتيازات الستينات.
كما قامت مؤخراً البلاد السكندنافية بتبني السريان، وكون هذا التبني مبني على مصالح جد متقلبة ومتغيرة فإنه من غير المعروف والثابت اذا كانت الولايات المتحدة الاميركية تتبنى السنة في العراق ام تتبنى الشيعة في حين ان الكل عفّ عن تبني المسيحيين كونهم لا يشكلون مصلحة ذات قيمة لدول العالم. ولعل في الامر فضيحة يمكن تسميتها بفضيحة عندما تتبنى المسبحة الاميركية الطائفة اليهودية وتبديها عن مسيحيين كثر في انحاء العالم.
الدولة في مفهومها الحديث هي نظام حكم اما الوطن فهو ارض عليها شعب لمدة طويلة وعليه، فقد تكون هناك عدة اوطان في دولة كما هي حال الامارات العربية والاتحاد السوفيتي سابقاً والولايات المتحدة الاميركية حالياً ونظام الحكم قد يكون امبراطورياً كما هو حال اليابان او ملكياً كما هو حال بلجيكا واليونان وبريطانيا وغيرهما وقد يكون جمهورياً كما هي حال اكثرية بلدان العالم وتحت اسم جمهورياُ تدخل الالتباسات والتباينات بحيث تخبىء الديكتاتوريات العسكرية والتوليتارية والاوليغارشية وحتى الثبوقراطية تحت الجمهورية فالكل يعلم ان جمهورية ايران ثبوقراطية والجماهيرية الليبية ديكتاتورية، كذلك تحت اسم الملكية تختبىء العائلية كالمملكة السعودية والاردنية والمغربية في بلادنا العربية اضافة الى كل منطقة الخليج.
لكن هذه التسميات والاشارات لا تعني تفضيلاً في واقع الحال، فالانظمة ليست هي المشكلة الاساس بقدر ما المشكلة تكمن في المكونات المجتمعية للدولة. ففي سلطنة عمان هناك شعور عام وعارم عند الناس بأن السلطان هو الذي اعطى للسلطة طمأنينتها ورخاءها وأمنها، لذا فهي تعتبره لدرجة كبيرة ولا مشكلة فعلية على المستوى الشعبي والرسمي.والسبب ان المكوّن الاجتماعي متوحد في مستوى المعيشة وفي الايمان بدين واحد هو الاسلام وبطائفية واحدة ايضاً.
في حين ان دولاً جمهورية أي تدل على ارادة الجماهير في اختياراتها لها مشاكلها ومذابحها نتيجة المكونات المختلفة ان كان على صعيد القبائل كاليمن او على صعيد الدين والقبائل كالسودان .
المشكلة تكبر عندما تصبح الطوائف الدينية ذات حضور سياسي بكل طقوسياتها ومعتقداتها مما يجعل حكم الدولة اشبه باستحالة اذا لم يتم توافق كاذب كمرحلة معينة وبتغطية خارجية حكماً كما هو الحال في العراق وفي لبنان ايضاً.
عندما طرح الزعيم انطون سعادة الدولة القومية في بلاد الشام فهو لم يطرحها عن مزاجية ولا عن استلهام او وحي الهي. انما درس اوضاع تطور الحضارات والمتغيرات الديمغرافية والاتنولوجية في بلاد الشام ومن ثم وضع مقاييس الدولة القومية في اوروبا التي قامت على اسس ثابتة هي العلمانية في الاعتقاد والاماني والآمال المشتركة في الوجدان والعلاقة العضوية بالارض كسبب للوجود والاستمرارية والعمل المشترك في التنمية والتطور والدفاع عن المكتسبات مما يعطي التاريخ المشترك حيوية تجعل العلاقة الاجتماعية متحداً اجتماعياً. وهذا يتطلب القوة التي مصدرها الانتماء النهائي لهذا الوطن ولهذه الدولة، لقد اكدّ سعادة ان الدولة والوطن صنوان لذا وضع اساساً فريداً وانسانوياً وهو عدم التفكير باستعمار أي بلد آخر بل اعادة تكوين الدولة السورية والكيان السوري وتحصينه ضد كل اعتداء وتقديم نفسه للعالم كقيمة حضارية ومجتمعية وهو بهذا يختلف كل الاختلاف عن الدولة النازية الاستعمارية وعن الدولة القومية الاستعمارية.
لقد امتلأت طروحاته بكلمات عن الأمة السورية والسورية القومية الاجتماعية ومن الغريب ان ينعته البعض بالشوفينية وهو الذي ما حقّر دولة ولا اهان وطناً آخر سوى الاغتصاب الصهيوني الذي سرق ارضاً وشتت شعباً هو من اساس مكونات الشعب السوري والأمة السورية.
ان الواقع السياسي في لبنان خصوصاً هش كون يقوم على اتفاق متكاذب بين الطوائف ولولا الضمانات ذات المصلحة بين النظم السياسية الاقليمية والمصالح الدولية لما استمر لبنان في أمنه الاجتماعي على الاقل والواقع الاجتماعي يقوم على توافق طوائفي ينمو كل يوم نحو التوافق القبلي حيث الطائفة الاكبر عدداً تحكم فعلاً وان لم تحكم رسمياً، واذا كانت هناك من آفاق تغيرية فهي تكمن في طرح الدولة القومية والعلمانية الشاملة والكاملة، واذا كانت الطوائف تعتبر هذا تعدياً على وجودها وكياناتها فلأنها ليست مؤمنة بوطن واحد ولا بأمة واحدة بل هي متقوية بخلفيات اسنادية لها. ومن الضروري ان تعي ان خلاصها لا يكون الا بانتماء اصيل اولي اساسي هو الانتماء للارض والكيان وان التحالفات الخارجية مهما عظمت فهي متبدلة ومتغيرة، الثابت وحده هو الارض الثابت وحده هو الوجدان، الثابت وحده هو المتحد الاجتماعي القومي.
قتل سعادة من لا يريد الخير للامة السورية ومن يخشى قيام الدولة السورية القومية الاجتماعية وهو يعمل على ان يبقى مقتولاً، لكننا في تاريخنا السوري القومي الاجتماعي لا يمكن لقبر ان يضم حياة.