فاجأني رفيق عزيز باتصال هاتفي أطلق نحوي من خلاله وابلاً من الأسئلة المتلاحقة، كلها تتمحور حول علم السلالات البشرية، وكيف تعامل معه أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، وهل كان متأثراً بالنزعات العنصرية الأوروبية، وما هي جدواه في عصرنا الراهن؟ وبعد أن أفرغ رفيقنا الحبيب ما في جعبته، حانت فرصتي لأستفسر منه عن السبب الذي دفعه للبحث في هذه المسألة الآن؟ فأجابني قائلاً إنه حضر نقاشاً بين عدد من الرفقاء القوميين الاجتماعيين تعرّضوا لنظرة سعاده إلى السلالات. وقد تبيّن له أن هناك آراء مختلفة بينهم، بل ومتناقضة، حتى وصل الأمر عند بعضهم إلى "تخطئة" سعاده في طريقة توظيفه لعلم السلالات.
ردة الفعل الأولى عندي هي الاستغراب! فأنا أعتقد بأن مفهوم السلالات وخلفية قراءة سعاده له قد حُسما منذ زمن بعيد. وكذلك وصل الاقتناع أو التبدل إلى بعض الذين كانوا يعتبرون الفصل المتعلق بالسلالات في كتاب "نشوء الأمم"، والمحاضرة الرابعة من "المحاضرات العشر"، من المآخذ على الفكر القومي الاجتماعي، ويرون فيها مواصفات نازية وفاشستية. ومبعث استغرابي الأساسي أيضاً أن يكون هناك رفقاء ما زالوا يشعرون حتى الآن بأن مسألة السلالات تستدعي نقاشاً نقدياً. وعلى الرغم من قناعتي بأن مثل هذا البحث في ظروفنا العصيبة الراهنة يدخل في نطاق الترف الفكري غير المجدي، فقد شجعني الرفيق العزيز على الكتابة لتوضيح بعض جوانب مفهوم السلالات في فكر سعاده.
من حيث المبدأ، سيكون من الأفضل والأنفع لو أن مثل هذه الموضوعات الفكرية يتم طرحها عن طريق المؤسسات الثقافية كما وضعها سعاده (الندوة الثقافية المركزية، وما شابه). لكن من المؤسف أن هذه المؤسسات غُيّبت أو ألغي دورها خلال السنوات القليلة الماضية، فلم يعد لها أي وجود فاعل. ولذلك يقع على عاتق الرفقاء المعنيين أن يسددوا النقص الثقافي الناتج عن التغييب الممنهج. وسوف أقدّم بعض الأفكار القابلة للحوار، على أمل أن نحرّك ساكناً في مستنقعنا الثقافي الراكد.
يتحدث سعاده عن السلالات بتوسع في كتاب "نشوء الأمم" وفي شرح المبادئ، ثم في المحاضرة الرابعة، والقسم الأول من المحاضرة الخامسة. ونحن نعرف أن له أفكاراً حول المسألة السلالية موزعة هنا وهناك في كتاباته الأخرى، لكن المصادر المذكورة أعلاه هي المرجع الرئيسي. والنقطة الأولى التي أود التأكيد عليها هي الطبيعة العلمية المجردة لكتاب "نشوء الأمم"، الذي أراده سعاده مدخلاً علمياً لفهم نشوء المجتمعات وتطورها. وكان من المفترض أن يشكل القاعدة النظرية لكتاب "نشوء الأمة السورية"، الذي صادرت سلطات الانتداب الفرنسي مخطوطاته وملاحظاته ولم ترجعها أبداً. ولأن "نشوء الأمم" ذو منحى علمي، فهو لا يشكل جزءاً من العقيدة القومية الاجتماعية حتى وإن كان مضمونه يؤهلنا لتفهم عوامل نمو القوميات. التعاقد مع الزعيم قام على أساس القضية القومية ودستور الحزب الذي يتضمن عقيدته. وعلى شروحات سعاده وفكره القومي الاجتماعي. ومع أن الكتاب يوسّع آفاقنا المعرفية في ما يتعلق بنشوء المجتمعات وتطورها وما ينتج عنها، فهو لا يدخل في صلب العقيدة بالمعنى الضيق للكلمة.
إذن نحن ندعو إلى قراءة "نشوء الأمم" من حيث كونه دراسة مركّزة في علم الاجتماع. وبالنسبة إلى مسألة السلالات، فقد أفرد سعاده الفصل الثاني "السلائل البشرية" ليعرض أبرز النظريات التي كانت سائدة في العالم (تحديداً في أوروبا) حتى النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي. إن سعاده لم "يخترع" التصنيفات التي توصل إليها العلماء منذ القرن الثامن عشر، وإنما كان يعرض للقارئ معظم الطروحات التي حاولت تفسير الأصول السلالية للجنس البشري. ويقول: "... إن البشر جميعهم يؤلفون نوعاً واحداً بالمعنى الطبيعي الحيواني (الزولوجي) ولكنهم يتقسمون إلى سلالات متعددة تتوارث كل واحدة منها صفاتها ومزاياها الخاصة". ثم يستدرك بالقول إنه لن يبحث في "تعليل حدوث هذا التقسم التنوعي (...) ولكنه لا بد لنا في سياق هذا البحث من أن نعرض لبعض النظريات العلمية في ذلك، من باب التوسع الذي لا يدخلنا في خطر إصدار أحكام عامة جازمة". ("الأعمال الكاملة"، الجزء الثالث. صفحة 21).
إن المراجع التي اعتمد عليها سعاده عمرها حوالي المائة عام أو أكثر. ولسنا بحاجة إلى القول إن علم الأقوام البشرية (السلالات) وعلم الإنسان شهدا تطورات جذرية قد تُفقد بعض مراجع سعاده حيثياتها. ذلك أن العلماء "القدامى" قسموا النوع الإنساني بناء على الظواهر الفيزيائية مثل اللون وحجم الجمجمة والقامة وأوصاف الوجه والعينين والأنف. ومع أن العلماء المعاصرين حافظوا على تلك التقسيمات، إلا أنهم عدّلوها وأضافوا إليها الكثير. ومهما تغيّرت وجهات النظر العلمية وتطورت أساليب البحث المعاصرة، فإن المظهر الخارجي يبقى المؤشر الأول لتمييز الأصول السلالية. ولذلك لا بد للعلماء المعاصرين من أخذ السمات الخارجية بعين الاعتبار في أبحاثهم البشرية. يُعرّف قاموس ويبستر Webster السلالة بأنها "مجموعة من البشر يشتركون بمواصفات فيزيائية مميزة". لكن تعريفاً آخر يقول "إن السلالة هي مجموعة من البشر يشتركون بصفات بدنية وصفات اجتماعية وثقافية". (موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية). ويتحفظ بعض العلماء على عبارة "صفات اجتماعية وثقافية"، في حين يحظى هذا الجانب بقيمة خاصة عند سعاده كما سنرى.
ويعود هذا الاختلاف في وجهات النظر إلى كيفية التعامل مع مفهومين متشابهين هما Race و Ethnicity، إذ غالباً ما يتم استخدامهما باللغة العربية بمعنى واحد تقريباً: السلالة، العرق، العنصر، الجنس... ويربط العلماء الغربيون المفردة الأولى بالمظاهر الفيزيائية فقط، في حين تتضمن الثانية المظاهر الاجتماعية مثل الثقافة، القومية، الدين، اللغة، العادات والتقاليد. وأعتقد بأن هذا الجانب يتطلب معالجة مستقلة، سنعود إليها في مقال لاحق.
ومن أبرز النظريات المعاصرة تلك التي تقسم البشر إلى ثلاث سلالات: القوقاز والمغول والزنوج. ولكل سلالة مجموعة من الصفات العامة:
القوقازيون: عيون مستقيمة، أسنان صغيرة، قامة تتراوح بين المتوسطة والطويلة، شعر مموج، بشرة تتراوح بين البياض والسمرة، رؤوس مستطيلة أو متوسطة أو عريضة، فك غير بارز.
المغوليون: عيون مائلة، قامة متوسطة، شعر مستقيم، بشرة صفراء، بروز عظام الخدين، فك متوسط البروز، رأس عريض، أنف متوسط العرض.
الزنوج: عيون واسعة، أسنان كبيرة، رأس بين الطويل والعريض، بشرة سوداء، فك بارز، عظام الخدين غير بارزة، أنف عريض، شعر مجعد.
لكن هناك من يضيف سلالة رابعة هي سكان أستراليا الأصليون. بينما يقدم آخرون تقسيماً خماسياً: إفريقي، آسيوي، أوروبي، أميركي أصلي، المحيط الهادئ (الباسفيكي). أما مكتب الإدارة والموازنة الأميركي (OMB) فيسجل ستة أقسام: أبيض، أسود، أميركي أسود، أميركي هندي، آسيوي، المحيط الهادئ. وهدفنا من استعراض كل هذه التفاصيل التأكيد على أن علوم الاجتماع عموماً، وعلم السلالات البشرية على وجه التحديد، هي مجال متحرك ومتطور ويحمل متغيرات تدفعنا إلى مقاربة النظريات القديمة بعقلية منفتحة كما علمنا سعاده.
وهكذا نرى أن علم السلالات، القديم منه والحديث، لا بد له وأن ينطلق من الصفات الفيزيائية. وسعاده نفسه لا يشذ عن هذه القاعدة في "نشوء الأمم"، وإن كان يعتمد على أفكار علمية معينة أكثر من غيرها... من دون أن يعني ذلك أن هذه الفكرة أو تلك أكثر صواباً من الأخرى. إضافة إلى ذلك، علينا أن نبقي نصب أعيننا حقيقة أن "نشوء الأمم" ليس بحثاً في أصل النوع الإنساني فقط، أو في السلالات فقط، وإنما هو صياغة متكاملة لكل التركيبات البشرية والبيئية التي تتفاعل على مدى قرون فتنشأ عنها المتحدات المتمايزة، أي الأمم. إن بعض طروحات سعاده في تنقيباته الاجتماعية يرصد المراحل الأولية من "نشوء" المتحدات، عندما تستقر السلالات "البدائية" وتبدأ في تكوين "مجتمعها". ولذلك فإن تلك الطروحات لا تنطبق على المجتمعات التي تجاوزت عتبات "النشوء"، وباتت تمتلك شخصيتها المميزة. (الرفيق شحاده الغاوي كتب دراسة قيّمة حول هذا الموضوع بعنوان "الفرق بين السلالتين العرقية والتاريخية" منشورة على موقع "مؤسسة سعاده للثقافة"، أقترح الرجوع إليها).
التقسيمات السلالية المذكورة أعلاه ليست النظريات الوحيدة المتداولة حالياً، وإنما هي جزء من أبحاث معمقة تتناول مختلف القضايا الاجتماعية ومنها علم السلالات. ويُفترض بالعقل القومي الاجتماعي أن يتوسع في مقابلة ما ورد عند سعاده بما هو سائد اليوم. وربما نعثر على طروحات تختلف عمّا جاء في "نشوء الأمم"، وهذا طبيعي لأن العلوم في وضعية تطور دائم. ويجب أن لا نصاب بالرعب في حال وجدنا أن مجموعة من الأفكار السلالية المذكورة في "نشوء الأمم" قد تجاوزها الزمن. فالفلسفة القومية الاجتماعية لا يؤطرها علم السلالات، وإنما هي تعنى بالمجتمع السوري الناتج عن التفاعل الأفقي بين الجماعات البشرية، والتفاعل العامودي بين تلك الجماعات والبيئة الطبيعية. لقد كان العامل السلالي حاسماً في مراحل فجر التاريخ إجمالاً. لكن بعد أن تبلورت هوية المتحد، وتكاملت الشخصية الاجتماعية المميزة، لم يعد للأصول الدموية تأثيرات قادرة على تبديل تلك الشخصية... إلا في ظروف نادرة جداً. وهذا ما عبّر عنه سعاده في المحاضرة الرابعة بقوله: "لا حاجة إلى أصل واحد معيّن لنشوء الأمة، لنشوء القومية. فالأمة موجودة بتفاعلها ضمن بيئتها ومع بيئتها". ("الأعمال الكاملة"، الجزء الثامن. صفحة 50).
هذا في ما يتعلق بالنظريات العلمية التي قدمها سعاده في "نشوء الأمم"، فماذا عن تطبيقها إزاء الأصول السلالية للشعب السوري؟
نقف على آراء سعاده بشأن التكوين السلالي للشعب السوري، أولاً في شرح المبادئ المطبوع سنة 1936 (أعاد النظر فيه بالطبعة الرابعة سنة 1947)، ثم جاء الشرح الموسع في المحاضرة الرابعة سنة 1948. ويبدو أن الأمر تطلب توضيحاً، فعاد إلى الموضوع في القسم الأول من المحاضرة الخامسة. ينطلق سعاده من الواقع الموجود، وليس من نظريات يقوم بعضهم بقولبة الواقع كي يتناسب معها! يقول: "إننا ننظر إلى الأمة في واقعها، في تكونها وحدة حياة" (المحاضرة الرابعة). ومن بين نظريات علم السلالات المختلفة، أبرز العنصر المتعلق بشكل الجمجمة مقياساً: "كل الأمم الموجودة هي خليط من سلالات المفلطحي الرؤوس والمعتدلي الرؤوس والمستطيلي الرؤوس". هذا التصنيف الذي ذكره سعاده هو إذاً التصنيف العلمي الذي كان سائداً يومذاك، وليس رأياً خاصاً به. ليس سعاده هو الذي قال بهذا التصنيف بل نقله كما هو ليقول لنا إننا لسنا سلالة واحدة مفلطحة أو متوسطة أو مستطيلة الرؤوس بل نحن مزيج سلالي، ولا يجوز لنا علمياً "رد الأمة السورية إلى أصل سلالي واحد معيّن". فسعاده واضح للغاية في تأكيده على "أن مبدأ القومية السورية ليس مؤسساً على مبدأ وحدة دموية أو سلالية بل على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية".("الأعمال الكاملة"، الجزء الثاني. صفحة 42 و43).
لا يقول سعاده بالسلالة العرقية الدموية، ويعتبر أنها لم تعد موجودة إلا نادراً وفي قبائل منعزلة عن مجرى الحياة الاجتماعية. فكل أمة في العالم هي خليط من سلالات مختلفة تمازجت في زمن موغل في القدم. يقول في "نشوء الأمم": "الحقيقة أنه ليس لأمة من الأمم الحديثة أصل سلالي واحد، ولا أصل شعبي واحد، إذا أردنا أن نعود إلى الأصل الفيزيائي أو التاريخي". ("الأعمال الكاملة"، الجزء الثالث. صفحة 138). إن تمازج السلالات، على مدى قرون عديدة، ينتج ما يُعرف بـ"السلالة التاريخية" التي تجمع الخصائص السلالية الناتجة من مزيج سلالي معيّن عبر التاريخ. فسعاده يؤكد: "أكرر أن الأصل الإنساني الوحيد للأمة هو وحدة الحياة على تعاقب الأجيال، وهي الوحدة التي تتم دورتها ضمن القطر. المزيج المتجانس أصل كاف للأمة، وهذا المزيج هو ما يعبر عنه أحياناً بلفظة السلالة". (المرجع السابق، صفحة 140)
يبقى أمامنا أن نناقش مفهوم السلالات الراقية والسلالات المنحطة الذي أشار إليه سعاده: "مع ذلك لا بد من الاعتراف بواقع الفوارق السلالية ووجود سلالات ثقافية وسلالات منحطة، وبمبدأ التجانس والتباين الدموي أو العرقي (...) نوعية المزيج المتجانس الممتازة والمتجانسة تجانساً قوياً مع نوعية البيئة". ("الأعمال الكاملة"، الجزء السابع. صفحة 316) صحيح أن سعاده، كعالم أجتماع، يقول في "نشوء الأمم "بأن الإنسانية موزعة إلى سلالات راقية وسلالات منحطة. لكن الصحيح أيضاً أنه كان يتكلم على السلالات الأولية فقط، وهذه لم يعد لها وجود الآن إلا في الأقوام المنعزلة تماماً وهي نادرة. كما أنه كان ينقل لنا ما هو مقرر علمياً من قبل علماء الاجتماع في عصره. فلنقرأه تحت عنوان "نشوء السلائل وعددها" يقول: "وقد اختلف العلماء في تعيين عدد السلالات، ولعل ذلك عائد إلى اعتماد بعض أدلّة أكثر من البعض الآخر. والأمانة لغرض هذا الكتاب تقضي ألا نتوسع في هذا البحث أكثر مما يجب، ولذلك يحسن بنا، للتوفيق بين غرض الكتاب وهذا الموضوع، أن نقسّم السلالات البشرية إلى قسمين: أولي ومرتقٍ". وبعد ذلك مباشرة، وتحت عنوان "السلائل والعقليات" يقول: "إن السلالات أمر فيزيائي واقع والأدلة على وجوده متوفرة. ومما لا شك فيه أن هناك فوارق بين السلالات في الارتقاء والتمدن والاستعداد لهما عند السلائل الأولية (...) وقد يكون ذلك نظراً لعدم اكتمال تطورها (...) وإذا تركنا السلالات الابتدائية (أي الأولية) وعمدنا إلى السلالات الواقعة ضمن نطاق المدنية الآسيوية ـ الأوروبية وجدنا أنها كلها قد برهنت عن توفر مزايا الارتقاء فيها (...) وبديهي أن لكل فرد نفسية أو عقلية خاصة مستقلة، ولكن ذلك لا يعني أنها أساس للمقابلة والتفضيل السلاليين. وللسلالات عقليات مستقلة موجودة فعلاً ولكن يجب ألا يتخذ ذلك حجة للتمسك بعقائد تفاضل السلالات المتمدنة تفاضلاً أساسياً جوهرياً" (...) وإن الأدلة على عدم صحة القول بتفوق إحدى السلالات الراقية في المواهب العقلية على الأخرى لمتوفرة". ("الأعمال الكاملة"، الجزء الثالث. صفحة 22 ـ 23)
إن المزيج المتجانس والتفاعل مع البيئة هما عنصران أساسيان في التفكير القومي عند سعاده. فالجماعات التي جاءت إلى سورية تمازجت عرقياً، واشتركت في الحياة الواحدة، وواجهت محرضات البيئة خلال ألوف السنين، فتكونت لها "نفسية خاصة وطابعاً فيزيائياً خاصاً مستقلاً". ("الأعمال الكاملة"، الجزء الثامن. صفحة 51). وبالنسبة إلى سعاده، فإن الأصول الدموية غير ذات أهمية إلا من حيث تجانسها فيما بينها. العامل الأكثر فاعلية يتمثل بـ"النفسية الخاصة" لأنها الأساس الذي يقوم عليه بنيان الأمة. ومن هنا نرى أنه من غير المفيد البحث النظري في السلالات الأولية والأصول الدموية والصفات الثقافية لهذه السلالة أو تلك. ولا أقصد تجنب الموضوع برمته، بل على العكس. إن هناك ضرورة ملحة لإعادة النظر في مفهوم "المزيج المتجانس" ودوره في تكوّن المجتمع السوري. وهذا ما يأخذنا إلى معضلة التاريخ الاجتماعي للأمة السورية. لقد كان مخطط كتاب "نشوء الأمة السورية" مشروعاً في هذا الاتجاه... لم يُقيّض لسعاده أن يُنجزه، ولم يبادر مؤرخوننا إلى إكماله!
إن جل ما كان سعاده يريد أن يؤكد عليه هو أننا "لسنا جنساً عاطلاً"، كما كان يعتقد من مات وجدانهم القومي جراء عصر الخمول الطويل وعدم الثقة بالنفس وبالأمة وإمكاناتها. كان سعاده يقول لنا: صحيح أننا من الوجهة السلالية لسنا سلالة واحدة بل مزيج سلالي، لكن مزيجنا السلالي لا بد أن يكون ممتازاً وصحيحاً ومتفوقاً لأن تاريخنا ومآثر أمتنا في التاريخ هي مآثر حضارة وتمدن وتفوّق. كان سعاده يزرع فينا الثقة بالنفس وبالأمة وإمكانية نهوضها، فهذه هي غايته الأخيرة... وليست غايته لا علم السلائل ولا علم الأجناس.
إستفادت هذه المقالة من ملاحظات وإسهامات الرفيقين شحاده الغاوي وأسامة المهتار. وهناك مصادر أخرى غير "الأعمال الكاملة":
ـ موسوعة ستانفورد الفلسفية.
ـ "الإنسان: دراسة في النوع والحضارة"، محمد رياض.
ـ مواقع إلكترونية مختلفة.