إمتد اللقاء على مدى اربعة أيام من 30 تموز لغاية 2 آب 2009 . تضمن نشاطات فكرية وثقافية وفنية مختلفة
1- كلمة ترحيب لرئيسة المؤسسة الأمينة هيام محسن
2- كلمة حول ورشة عمل الرسم والموسيقى: السيدة نيرمين أبي خليل
3- كارولين ماضي وعمار طربيه يغنيان
4- غداء قروي
5- محاضرة للدكتور عادل ضاهر بعنوان "مفهوم الإنتماء"
6- قراءات شعرية: تحية لمحمد يوسف حمود
7- أمسية موسيقية لعمار طربيه
1- محاضرة للرفيق أسأمة المهتار بعنوان "الخطة الإسترايجية عند سعادة"
2- الدكتور وسام حمادة مغنياً الأرض والوطن والإنسان
1- محاضرة نديم محسن بعنوان "سعاده خطاب الفكر والعاطفة"
2- أمسية موسيقية لمالك وكارولين ماضي
زيارة إلى الجنوب (قانا وبوابة فاطمة)
تخلل اللقاء ورشة رسم تشكيلي إستمرت طيلة أيام اللقاء شارك فيها:
الدكتور أمين حامد لبنان
حسين نشوان الأردن
ديما رعد لبنان
سمير الخليل لبنان
الدكتور عصام خيرالله لبنان
علي عمران الأردن
لينا ديب الشام
محمد أبو عفيفة الأردن
نبيل السمان الشام
تحية "اللقاء السنوي الثاني مع سعاده " في ضهور الشوير.
تحية إلى الجهود التي تضافرت والآمال التي انعقدت في صحبة المعنى لتحاول ان تقدم ما يضيف إلى الإنسان في مجتمعنا. هل أرحب بكم في بيتكم وداركم وعرينكم وجذوة آمالكم. ولكن الأجمل هو إيماننا باللقاء الذي اتى بنا إلى هذا المكان الأعز على قلب سعاده وفكره.
هنا استحالت الكلمة إلى مكان وإلى زمان. هنا يجمعنا هذا اللقاء وفي صلب غايته العودة إلى الينابيع الحقيقية في الفكر والثقافة والفنون. من الإنسان بدأ انطون سعاده، ومن الإنسان بدأ جميع المصلحين والمفكرين الكبار في التاريخ. علينا ان ننهض بالإنسان فينا بما هو عقل يطلب المعرفة، وبما هو قلب وإرادة ينزعان إلى الإيمان بالقيم.
وبعد، لماذا اللقاء السنوي الثاني مع سعاده؟
ولماذا مؤسسة سعاده للثقافة؟
أولاً، لقاؤنا اليوم والأمس وغداً هو اللقاء عينه مع فكر سعاده وأهدافه في نهضة مجتمع المعرفة والقوة في بلادنا.
ثانياً: ان الهدف من هذا اللقاء هو ان نلتقي مجدداً على الثوابت والأسس والتفاعلات والتجليات والأبعاد الغنية في فكر سعاده وخصوصاً طروحاته في الحياة والثقافة والفن. بما يجعلنا نتطلع معا إلى الآفاق الجديدة والحياة الجديدة.
ثالثاً: ان أهم تقدير او تكريم للفكر الأصيل هو في تفعيله في الواقع، وفي القبس منه والتفاعل مع أبعاده بما يخدم قضية الإنسان والمجتمع في بلادنا، قضية النهضة.
رابعاً: طموحنا ان نسعى بمشاركتكم إلى تكريس هذا اللقاء ليكون حدثاً سنوياً يتكرر مع سعاده الفكر العلمي النهضوي الإصلاحي التنويري ولتتحول ايضاً هذه المناسبة إلى أيام فكرية وثقافية تضيف إلى الوعي القومي والثقافة النهضوية والفكر العلماني المدني.
اما لماذا مؤسسة سعاده للثقافة؟ فلأن المؤسسة أخذت على عاتقها نشر فكر سعاده ونهجه في بعث النهضة القومية الاجتماعية، والإسهام في ترسيخ القيم والمفاهيم المدنية والعلمانية في المجتمع.
ليست المؤسسة بديلاً او رديفاً لأحد، ولا تحمل دعوة سياسية بل انها تسعى في المجالين العلمي والثقافي لتحقيق غاياتها وتطلعاتها.
أردنا في أهدافنا وغاياتنا بعضاً مما أراده سعاده نفسه في المجتمع، المجتمع الذي يتنج الثمار والغلال والفنون.
اننا في "مؤسسة سعاده للثقافة" ندعوكم مثلما ندعو أنفسنا للجهاد في المضمار الثقافي، لأنه في نهاية المطاف المسألة كما طرحها سعاده، مسألة ثقافية بامتياز. ولذلك يحمل "اللقاء السنوي الثاني مع سعاده" هذ السنة التحية المستحقة دائما لباعث النهضة في الذكر كما الستين لإستشهاده، وتحية للقدس عاصمة للثقافة العربية، وتحية لبيروت عاصمة عالمية للكتاب.
أيها الأحباء،
آلمنا كما آلمكم الغياب المؤسف لحفيد انطون سعاده، الشاب الفقيد سعاده ابو ناصيف ومع العزاء الخالص الذي نرفعه لعائلته فلقد قررنا ان نهدي إلى روحه هذا اللقاء .
اخيراً، اجزل الترحيب بكم مجدداً وخصوصاً الفنانين الذين قدموا من الدول العربية. واجدد شكري للجنة التي أعدت البرنامج، والشكر موصول للذين قدموا الرعاية والدعم للنشاطات. وأعلن افتتاح اللقاء السنوي الثاني مع سعاده 2009 في ضهور الشوير.
ان مشاركتكم وحضوركم تعني لنا الكثير، تعني لنا ان الدنيا لا تزال بخير وانه لا يزال للحب آوان، وان الأمل بالفكر الحقيقي الأصيل لا يزال يحركنا ويبث فينا روح الصراع نحو التغيير والتجدد والإبداع.
يتخذ مفهوم الإنتماء أبعاداً شتى، من أهمها البعد النفسي، والبعد الاجتماعي والبعد الأخلاقي، ويشتمل على حالات متنوعة تنوع موضوع الإنتماء. ولكن سوف أركز في حديثي إليكم اليوم على البعد الأخلاقي للإنتماء الذي يتخذ من الجماعة القومية موضوعاً له، معرجاً على تناول جوانبه الأخرى، بحسب مقتضيات التحليل.
ما زال الإنتماء القومي، بعكس ما أوحت به تنبؤات قادة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر، من بين العوامل ذات الأهمية القصوى في السياسة العالمية. فمفكرو القرن التاسع عشر تنبؤوا بكثير من الاتجاهات التي شهدها القرن العشرون وما زالت ذات أثر حتى هذه اللحظة، الا الاتجاه القومي. بوركهارت، مثلاً، تنبأ باتخاذ المركّب العسكري – الصناعي مركزا مهماً في الحياة العأمة. وماكس فيبر تنبأ بتعاظم شأن البيروقراطية في حياة المجتمع الحديث. وباكونين تنبأ بثورات العالم الثالث. ودوركهايم تنبأ بتقوض المعايير الأخلاقية في المجتمع الصناعي. وتوكفيل تنبأ بسيطرة النزعة الإمتثالية في المجتمعات المساواتية. وماركس تنبأ بتسارع نسبة التغير التكنولوجي واستئثار قلة من البشر بملكية وسائل الإنتاج. ولكن لا نجد أي دليل في كتابات أيّ ً منهم على أنهم توقعوا مصيراً للقومية غير الزوال السريع، على الرغم من أنهم كانوا واعين لمدى أهمية النزعة القومية في أوروبا في عصرهم. فكما نقرأ في البيان الشيوعي لماركس وأنجلز، ان توسع اقتصاد السوق في شكله الرأسمالي لا بد ان يضعف كثيراً من قبضة القومية. فأنظمة السوق أكبر من الوحدات القومية في مجالي الإنتاج والتمويل. ولذلك لا بد للقومية من أن تذوي تدريجياً جراء تنافسها مع السوق. الفروقات القومية والعداوات بين الشعوب، كما ورد في البيان الشيوعي، في طريقها إلى الزوال على نحو متسارع جراء حرية التجارة وتعاظم شأن السوق العالمي وانتظام طرق الإنتاج وما تلا كل ذلك من تغيرات في شروط الحياة.
إن التوتر الذي افترض ماركس قيامه بين القومية والتجارة العالمية لم يحصل في الواقع. ما هو حاصل الآن هو توتر بين القومية والعولمة الإقتصادية. فالاقتصاد العالمي ينطوي على هجرة لا محدودة للمنتجين وذوي الخبرات، بحسب حاجات السوق. وهذا قد يقود إلى تغيير طبيعة الأمم وتحويلها إلى مجتمعات مهاجرين تتغير تركيبتها البشرية باستمرار. هنا تصبح الأسواق العالمية عاملاً مهدداً للقومية، لأن تنافس هذه الأسواق يقوم على علاقات الإنجاز لا علاقات الإنتماء. ولكن العلاقات الأخيرة هي الأساس لإحتفاظ الجماعة القومية بوجودها.
ولكن كائنة ما كانت المرحلة التي بلغها التوتر بين القومية والاقتصاد العالمي، فإننا ما زلنا شهوداً على الأهمية الكبرى للنزعة القومية في عصرنا. فما زال هذا العصر، شئنا أم أبينا، عصر أمم وقوميات، وما زالت الشعوب الغافلة عن مصالحها القومية هي الضحية في النظام العالمي الجديد. من هنا نجد أن ثمة حاجةَ لنا لا يجوز إغفالها أو الاستخفاف بأهميتها، حاجة لإيقاظ الوجدان القومي في ظهرانينا ولجعل الشعور بالإنتماء إلى متحدنا القومي في مركز الدائرة من حياتنا. ليس هذا موقفاً رجعياً، كما يهيء لنا الماركسيون التقليديون ومنظرو العولمة، على حد سواء. فحتى المجتمعات الحديثة والمتقدمة تجد حاجة إلى تمتين الشعور بالإنتماء إلى الأمة أو الوطن باعتباره شعوراً بالتضامن ودافعاً للتضحية وللدخول مع الآخرين في علاقات تعاونية ضرورية لتأمين حياة لائقة للجميع. فالمجتمعات الحديثة، بسبب ضخامتها وتعقد الحياة داخلها، تسود فيها العلاقات اللاشخصية. وهذا يوجب توليد شعور بالإنتماء القومي أو التضامن للتعويض عن الآثار السلبية للعلاقات اللاشخصية داخل هذه المجتمعات. أي مجتمع يفقد هذا الشعور بالتضامن بين أبنائه لا يكتب له البقاء أو الازدهار طويلاً.
ليس مجتمعنا طبعاً مجتمعاً حديثاً بل مجتمع تقليدي، وحاجته إلى توليد شعور بالإنتماء القومي أو التضامن القومي مزدوجة. فهو، أولاً، مجتمع تعددي، مثل الكثير من المجتمعات الحديثة والتقليدية في عصرنا. ولكن، بعكس ما ينطبق على المجتمعات الحديثة، ما زالت الولاءات فيه ولاءات متناكرة. فالمشكلة الكبرى للمجتمعات التقليدية ليست، في الدرجة الأولى، متعلقة بالطابع اللاشخصي للعلاقات الاجتماعية، كما هي الحال بالنسبة للمجتمعات الحديثة، بل متعلقة بكون التعددية فيها مولّدة لولاءات متناقضة. حتى الولاء للعائلة أو العشيرة يتخذ أحياناً، في هذه المجتمعات، مركز الصدارة في حياة الناس. فإنه مثلاً، ينعكس عندنا بشكل واضح في الصراع السياسي الذي شهدناه بين الجنبلاطيين والإرسلانيين أو بين آل فرنجية وآل الدويهي والذي تمتد جذوره إلى عصور سابقة. وإن تخطى الفرد عندنا الولاء للعائلة أو العشيرة، فانه يتخذ من الطائفة موضوعاً لولائه. وحتى عندما يعلن الفرد عندنا ولاءه للقطر الذي ينتمي اليه بالولادة ويردد، مثلاً، شعار "لبنان أولاً"، فإن هذا، على الأرجح، هو مجرد ستار للإنتماء الطائفي. فلبنان المقصود هنا هو لبنان الموارنة أو لبنان السّنة أو لبنان الشيعة أو الدروز، وليس لبنان باعتباره هيئة اجتماعية واحدة، أو وطناً واحداً لجميع أبنائه.
المشكلة ليست طبعاً في الولاء للعائلة أو الطائفة في حد ذاته بل في اتخاذ هذا الولاء مركز الصدارة في حياة الفرد، بحيث يؤدي هذا إلى إضعاف أي شعور بالولاء للمجتمع أو الجماعة القومية ويهدد بتعريض المجتمع لصراعات اجتماعية قد تكون مدمرة. فتناكر الولاءات الجزئية كفيل بإضعاف الشعور بالتضامن، وبالتالي، إضعاف أي دافع لدى الفئات المختلفة للمجتمع للتعاون على النحو الذي يقتضيه تحقيق المصالح المشتركة بينهم. يتضح، إذن، أن التأكيد على الأهمية القصوى للولاء للوطن أو المتحد القومي هو الخطوة الأولى في اتجاه التنبيه إلى ان اتخاذ هذا الولاء مركز الصدارة، فيما يخص مواقف الفرد من القضايا العأمة، كفيل بوضع حد للآثار السلبية للولاءات الجزئية، دون إلغائها. فلا يمكن عملياً، كما سأوضح لاحقاً، إلغاء الولاءات الجزئية، ولكن ما هو ممكن وما هو مطلوب هو أن يعي الجميع، كائنة ما كانت الولاءات الجزئية لكلّ منهم، أنهم يشتركون في حياة واحدة وتجمعهم مصالح مشتركة تستدعي التضامن وتوحيد الجهود. الشعور بالإنتماء للوطن هو أكثر بكثير من تعلق عاطفي بشيء مجرد نسميه "الوطن"، بل يتجاوز، أو ينبغي أن يتجاوز هذا ليعبر عن وعي حقيقي لأهمية التضامن والتكافل الاجتماعيين والتزاماً أخلاقياً بعدم تقديم أي مصلحة فئوية على المصالح الاجتماعية المشتركة.
قلت في مستهل حديثي إن حاجة مجتمعنا لتوليد شعور بالإنتماء القومي مزدوجة. فمجتمعنا، وإن كان تقليدياً وليس حديثاً، إلا أن الحياة فيه ابتدأت تتعقد وابتدأنا نشهد تحول العلاقات في مراكزنا العمرانية إلى علاقات لاشخصية. إذن، بالإضافة إلى أننا لم نتجاوز، كالمجتمعات الحديثة، مشكلة الولاءات الجزئية المتناقضة، فإننا ابتدأنا نواجه مشكلة الطابع اللاشخصي للعلاقات الاجتماعية. ومما يعقد الأمور أكثر في حالتنا أننا ما زلنا حتى هذه اللحظة من تاريخنا نجهل هويتنا القومية. المشكلة، اساساً، لا تكمن عندنا في غياب الشعور بالإنتماء، بل في غياب موضوع مشترك للإنتماء. فلا شك انه شأن طبيعي، من الوجهة النفسية، ان يستهدف الفرد تجاوز ذاته إلى حدّ ما- الذهاب إلى ما وراء حدود عالمه الفردي المعزول وإكساب حياته معنى عن طريق تأسيس علاقات مع الآخرين. والتماهي مع جماعة ما يزود الفرد بطريقة لتحقيق هذا التجاوز الذاتي. إن الأهمية السيكولوجية للشعور بالإنتماء إلى جماعة ما هي شيء لازم عن طبيعة الإنسان الاجتماعية.
في العالم الحديث، الذي ما زلنا نقع خارجه، نجد أن مشكلة الهوية القومية محلولة، الأمر الذي مهد الطريق لحلول الجماعة القومية محل العائلة أو الطائفة أو الجماعة الإتنية باعتبارها الموضوع المركزي للإنتماء. وقد أصبح تماهي الفرد مع الجماعة القومية التي ينتمي اليها، متجاوزاً بذلك حدود عالمه الفردي الضيق وحدود ولاءاته الجزئية، مصدراً مهماً لإحترام الفرد لذاته. فهو، عن طريق هذا التماهي، يشعر أن انتصارات وإنجازات أمته هي انتصارات وإنجازات له، وأن غاياتها هي غاياته وأنه، بالتالي، يشارك في شيء أكبر منه وأكثر ديمومة. وباعتباره يتماهى معها، يشعر أنه يستمر باستمرارها، وهذا يعطي الفرد شعوراً بالأمن والإستقرار والقوة.
إن جهلنا لهويتنا القومية يحول دون سد الفرد عندنا لحاجته النفسية لتجاوز حدود عالمه الفردي الضيق عن طريق التماهي مع الجماعة القومية التي ينتمي اليها. ولذلك لا يتخطى الفرد، في محاولته سد حاجته هذه، حدود التماهي مع العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو الجماعة الإثنية، إن وجدت. فإذا كان الفرد، كما ينبهنا هردر، يجد في الإنتماء وسيلة لإرضاء حاجة عميقة لدية للتعبير عن ذاتيته الخاصة به، فإن الفرد عندنا، بسبب عدم تطابق موضوع إنتمائه مع المجتمع الأوسع الذي شهد فيه النور، يعبر عن ذاتيته جنبلاطياً أو أرسلانياً أو دندشياً أو مارونياً أو شيعياً أو كردياً، وليس على نحو يظهر إنتماءه إلى متحده القومي. في المجتمعات الحديثة، حيث شعور الشخص بالإنتماء إلى أمته يحتل مركز الدائرة في تصوره لذاته وفهمه لهويته، من المتوقع أن يتلون تعبير الفرد عن ذاتيته بلون هويته القومية. فالفرنسي يعبر عن ذاتيته فرنسياً والألماني يعبر عن ذاتيته ألمانياً. ولكن أنّى للفرد عندنا أن يعبر عن ذاتيته على نحو مماثل، ما دام لم يدخل في وعيه بعد ما الذي يشكل هويته القومية التي تتجاوز حدود هوياته الجزئية؟
واذا كان الشعور بالإنتماء، بالمقارنة مع الإنجاز، يعني أن يقبلني الآخرون في الجماعة التي أشعر أنني أنتمي إليها كما أنا، وليس نتيجة لما أنجزته، إذن، في غياب وعي الفرد عندنا لهويته القومية، أنّى له أن يجد هذا القبول سوى في إنتمائه الجزئي – في إنتمائه إلى عائلة أو عشيرة أو طائفة ما؟ فالحاجة الأساسية للفرد، في هذه الحالة، هي أن يشعر أنه في بيته، أي ألا يشعر بالغربة، وأن بإمكانه، بالتالي، أن يتصرف بحرية وعفوية، أينما كان في مجتمعه. في المجتمعات الحديثة نجد أن الإنتماء إلى الجماعة القومية هو ما يسد هذه الحاجة لدى الشخص. فالفرنسي، مثلاً، يشعر أنه في بيته في أي مكان من فرنسا، وكذلك هو شعور السويدي أو الروسي أو الانجليزي، أينما كان في بلده.
ثمة دلالة أخرى للإنتماء تربط بين الإنتماء والانجاز. فالإنتماء القومي، مثلاً، يزود الفرد بالشعور بالفخر بأمجاد أمته وإنجازات عظمائها السابقين والحاليين. ولكن بسبب غياب الوعي القومي عندنا وغياب الإجماع، بالتالي، على هويتنا القومية، فإن هذه الدلالة للإنتماء لا بد أن تتخذ صورة أخرى. والصورة التي تتخذها تتوقف على ما يشكل للفرد في ظهرانينا الموضوع الأهم لإنتمائه. فإذا كان هذا الإنتماء هو للعائلة أو العشيرة، فإن إنجازات عائلته أو عشيرته هي وحدها مصدر فخر له. واذا تجاوز هذا ليتخذ من الطائفة أو الجماعة الإتنية موضوعاً لإنتمائه، فإنه إذاك سيضيف إنجازات الأخيرة إلى الإنجازات التي تشكل مصدر فخر وإعتزاز له.
لا أريد أن يُفهم من كلامي أن الفرد عندنا لا تقع داخل دائرة إنتماءاته سوى الإنتماءات الجزئية. فلا شك أن الكثيرين من أبناء وطننا يشعرون بالإنتماء إلى شيء مجرد كالوطن، شيء يتسع لجميع الفئات بدون استثناء. ولكن المشكلة هي في كيفية تحدد هذا الوطن في أذهانهم والدور الكبير الذي تقوم به إنتماءاتهم الجزئية في منع حصول إجماع بينهم حول هوية هذا الوطن. أضف إلى كل هذا أن شعورهم بالإنتماء إلى هذا الشيء الأكبر، بغض النظر عن كيفية تحدده في أذهانهم، ليس بنفس قوة شعورهم بإنتماءاتهم الجزئية.
كيف نميز هنا بين الشعور الضعيف بالإنتماء والشعور القوي؟ ثمة سمات عدة للشعور القوي بالإنتماء يفتقر إليها الشعور الضعيف، منفردةً ومجتمعة ً. فالشعور بالإنتماء على أقواه، ذو سمات ثمان ٍ. أولاً، هو شعور بالولاء للأمة، شعور يحتل مركز الصدارة لدى الفرد الذي يحمل هذا الشعور. ثانياً، إنه يتخذ لدى هذا الفرد صورة تعلق بأشكال ومظاهر الثقافة القومية الموروثة، كالعادات والتقاليد والقيم، بحيث يعني هذا التعلق احتضان الفرد لها كما هي. ثالثاً، إنه يتجسد لدى هذا الفرد بالتمسك باعتقادات معينة، كالإعتقاد بأن أسلوب الحياة السائد في أمته هو الأسلوب المناسب، وأنه أفضل من أي بديل، والإعتقاد بضرورة ازدهار أمته، إضافة إلى التمسك بإعتقادات أخرى تتعلق بماضي الأمة ومستقبلها وعظمتها وتفوقها. رابعاً، إنه ينطوي على آمال معينة، كالأمل بأن تحتل الأمة مركزها اللائق بين الامم وأن تحقق "مصيرها". خامساً، إنه بمثابة التزام بواجبات معينة تجاه الأمة، كالإلتزام بالمساهمة بالدفاع عن المصالح القومية وصد المخاطر التي تهدد الأمة من خارجها والإمتناع عن عمل أي شيء قد يساهم في الحؤول دون إعلاء شأنها وتحقيق "مصيرها". سادساً، إنه يقترن بالشعور بالكبرياء، والفخر بإنجازات الأمة أو انتصاراتها، وبالشعور بالخيبة والخجل في حال إخفاقها فيما تسعى لتحقيقه. سابعاً، إنه شعور بتماهي الفرد مع الجماعة القومية التي يشترك أعضاؤها في الولاءات والطموحات والإلتزامات المناسبة. ثامناً، واخيراً، إنه شعور يحتل لدى الفرد مركز الدائرة في تصوره لذاته وفهمه لهويته.
لا شك أن الشعور بالإنتماء قد يكون قوياً بما يكفي دون أن يتميز بكل السمات الثماني التي تناولتها. ما هو مطلوب كحد أدنى هو أن يتجسد هذا الشعور في التزام الفرد بالإنحياز لأخوته في القومية، أي بإعطائه لمصالحهم وزناً أكبر من الوزن الذي يعطيه لمن هم من قومية أخرى. ولكن ثمة جانب آخر للإنتماء يتعلق بطبيعة استمرار الثقافة القومية في الوجود. فالثقافة ذات قيمة لا شخصية للمشاركين فيها، أي أن قيمتها كامنة فيها وليست دالة ً للخيرات الفردية. والنظر إلى الثقافة من هذا المنظور اللاشخصي يعني النظر إلى قيمة السيادة القومية وتأسيس دولة قومية نفس النظرة. في الواقع، ثمة غايات كثيرة لا شخصية يُنظر اليها من قبل أصحاب التوجه القومي نظرة متحيزة، مثل ازدهار الثقافة القومية في الحقول الأدبية والعلمية والفنية وتحقيق أمتهم تفوقاً في شتى المجالات. وتحيز كهذا لا ضير فيه. ولكن ثمة غايات سياسية لا شخصية قد يتحيزون لها كأن تحتل أمتهم رقعة كبيرة من الأرض، أي أن تتوسع وأن تكون قوية عسكرياً إلى حد يجعلها تفرض إرادتها على الأمم المجاورة. هنا يبلغ الإنتماء القومي أقصى قوته ويهدد بالإنزلاق نحو الشوفينية ويقوي النزعة للسيطرة على الأمم الأخرى وإخضاعها، كما خبرنا ذلك في زمن النازية.
القومية بمعناها الحق تدمج الإهتمام بالخيرات اللاشخصية المرتبطة بثقافة الأمة، لا بغاياتها السياسية، بالإهتمام بمصالح الجماعة القومية. من هنا يتضح ان التحيز القومي النابع من الشعور القوي بالإنتماء هو، في آن، تحيز الفرد لأخوته في القومية وتحيز للأمة باعتبارها تجسيداً لخيرات لا شخصية.
من الضروري التنبيه هنا إلى ان الإنتماء، بمعناه الأقوى، ليس مناسباً أو ضرورياً في معظم الحالات. فالحد الذي ينبغي أن تصله متانة هذا الشعور بالإنتماء يتوقف على طبيعة وممارسات وأهداف الأمة التي تشكل موضوع الإنتماء. وهو يتوقف ايضاً على عوامل، مثل العوامل الآتية:
هل تواجه هذه الأمة تهديداً من خارجها وتحتاج، بالتالي، إلى تضامن أبنائها في وجه هذا التهديد؟ هل الثقافة السائدة جديرة بالحياة، أو: هل القيم السائدة جديرة بالتبني؟ ولكن كائنة ما كانت الشروط التي نجد الأمة فيها، فان الشعور بالإنتماء إلى الأمة، اذا انحدر إلى مستوى الإنتماء الضعيف، لا بد أن يقود إلى تعريض وجود الأمة إلى الزوال. فما من أمة الا وتحتاج إلى تمتين شعور أبنائها بالإنتماء اليها إلى حد يضمن، على الأقل، ولاءهم لها وحرصهم على ازدهارها وبقائها قوية والتحيز لمصالها وخيرها. فان هذه الحاجة ليست مقصورة على شعوب متخلفة وفاقدة لوجدانها القومي، مثل شعبنا، بل حتى الشعوب المتقدمة والمستكملة لمقومات وجودها القومي ووحدتها الاجتماعية لا تستغني عن تقوية الشعور بالإنتماء لدى مواطنيها. فبالإضافة إلى ما جاء معنا سابقاً بخصوص كون الطابع اللاشخصي للعلاقات داخل المجتمعات الحديثة يوجب التأكيد على أساسية الإرتباط بالمتحد القومي للتعويض عن الأثر السيء الذي تتركه العلاقات اللاشخصية على المجتمع، باعتباره نظاماً تعاونياً، فان الشعور بالإنتماء، في صورته القومية، يبقى جزءاً مهماً من الذخيرة المعنوية أو الرأسمال المعنوي الذي لا غنى عنه لأي مجتمع لمواجهة أي طارىء، سواء تعلق بحياته الداخلية أو بعلاقاته مع المجتمعات الأخرى. فكيف يمكن لمجتمع، أحديثاً كان أم تقليدياً، أن يواجه كارثة طبيعية، مثلاً، أو مجتمعاً آخر غازياً وطامعاً في أرضه وموارده، كيف يمكنه أن يواجه أياً من هذا بصورة مكتوب لها النجاح، ما لم يكن لدى أعضائه الإستعداد الكافي للتعاون إلى أقصى حد ممكن واقعياً والتصرف باعتبارهم يشكلون هيئة اجتماعية واحدة؟ بل أنّى لهذا المجتمع أن يتبنى سياسات داخلية تفيد المجتمع بأكمله وتخدم مصلحته في النمو والارتقاء بدون أن يكون لدى أعضائه شعور قوي بأن إنتماءهم إلى مجتمعهم ينبغي ان يطغى على إنتماءاتهم الأخرى؟
من الأمور المسلم بها أن وجود شعور قوي بالإنتماء إلى المتحد القومي يطغى على الولاءات الجزئية لا يلغي ما يمكن أن يسمى "الإنتماء المركب". فالهوية ذات أبعاد متعددة، ثقافية، واجتماعية وسياسية. فالإنتماء إلى جماعات متعددة هو شأن طبيعي في حياة أي شخص. فقد يكون لشخص إنتماء طبقي، وإنتماء ديني، وإنتماء سياسي، وإنتماء فكري، وإنتماء اقليمي، بالإضافة إلى إنتمائه العائلي والقومي. من هنا فان النموذج للتماهي الذاتي هو نموذج الإنتماء المركب. لا حصر للإنتماءات الجزئية التي قد تدخل بين مكونات الهوية الشخصية، ولا يمكن واقعياً للإنتماء القومي ان يستغرق كل مكونات الهوية الشخصية. واكثر من ذلك ، فان امكانية الإنتماء المركب، أي إمكانية تعدد مكونات الهوية، تنبهنا إلى ان التماهي مع الجماعة القومية ليس العامل الوحيد لتزويد الشخص بإطار ثقافي وبالأمان والإعتزاز بالنفس. فالثقافة، مثلاً، ليست ثقافة واحدة للجميع بالضرورة، بحيث يمكن القول ان الإنتماء الثقافي لأفراد المجتمع الواحد هو إنتماء لثقافة واحدة. سعاده نفسه أدرك هذه الحقيقة في عدم اعتباره الوحدة الثقافية أساساً للوحدة الاجتماعية. ومن السهل، كما نعرف من حالتنا، أن يجد الفرد في إنتمائه الطائفي أو الإثني او الطبقي ما يسد لديه كل الحاجات النفسية التي ننوقع من الإنتماء القومي ان يسدها.
ولكن – قد تتساءلون – اذا كانت إنتماءات الفرد غير المتمادة مع إنتمائه القومي (أي هي أضيق أو أوسع من إنتمائه القومي) تفي بسد حاجاته السيكولوجية، فما هي أهمية الإنتماء القومي إذن؟ وإذا سلمنا بأن الإنتماء إلى جماعة ما ضروري من الوجهة السيكولوجية لتأمين الصحة النفسية للفرد، فما المانع أن ينحصر موضوعه في طائفة الفرد أو الجماعة الإثنية أو الطبقة، اي في إنتماءاته الجزئية، بل ما المانع ان تكون الإنسانية جمعاء، لا المتحد القومي، هي موضوعه؟
يستدعي التساؤل الأخير التصدي لمسألتين. المسألة الأولى تتعلق بما إذا كان الجانب النفسي للإنتماء هو الجانب الوحيد الذي له أهمية أم ان له جانباً أخلاقياً لا يقل أهمية عن جانبه النفسي بل يتجاوزه في الأهمية، خصوصاً في مجال الكلام على الإنتماء القومي بالذات. بصورة أخرى، هل ثمة اعتبارات أخلاقية تسوغ الإنتماء القومي من حيث كونه يتضمن ولاء الفرد للجماعة القومية التي ينتمي اليها والتحيز لمصالحها وخيرها؟ والمسألة الثانية تتعلق بما اذا كانت هناك اعتبارات تعقلية – أي تعقلية من وجهة نظر المجتمع – تسوغ العمل على تمتين الشعور بالإنتماء القومي إلى الحد الذي يوجب تحيز أعضاء المجتمع بعضهم لبعض ولأمتهم.
سأبدأ بتناول المسألة الأولى. السؤال المركزي هنا هو السؤال التالي:
هل يشكل الإنتماء القومي علاقة ذات أهمية أخلاقية في ذاته، أي مصدراً لإعتبارات أخلاقية غير مشتقة سوى من طبيعة علاقة الإنتماء القومي بالذات؟
لمعالجة هذا السؤال، من المستحسن ان نقول شيئاً عن علاقة الإشتراك في القومية. هذه العلاقة مركبة من علاقات أخرى، كالإشتراك في لغة واحدة أو ثقافة واحدة أو عادات وتقاليد واحدة أو نظام سياسي واحد... الخ إن ما نشير اليه هنا هو ما دعاه سعاده ب"البناء النفسي" للأمة. الإشتراك في عوامل كهذه يجد تفسيره طبعاً في التفاعل الطويل بين جماعات مختلفة في الأصل ولكن قادتها الظروف إلى الإحتكاك وسهلت تفاعلها بعضها مع بعض وصهرها في جماعة واحدة. من الواضح انه ليس كل ما هو مشترك بين أفراد هذه الجماعة الواحدة ذا أهمية اخلاقية. أيها، إذن، هو ذو أهمية أخلاقية في ذاته؟ أول ما يتبادر إلى الذهن هو عامل الإشتراك في قيم واحدة أو مثل عليا واحدة أو التزامات واحدة. أهمية هذا العامل تتوقف طبعاً على أهمية الدور الذي تؤديه القيم المشتركة في حياة الجماعة القومية. والأهمية تقاس هنا بمدى ارتباط القيم بمكونات الهوية الشخصية.
ثمة علاقات اخرى بين العلاقات التي تربط أعضاء المجتمع الواحد قد تكون ذات أهمية أخلاقية في ذاتها، الا وهي علاقة التقدير المتبادل. فلو أخذنا الأشياء التي يشترك أعضاء المجتمع في تثمينها، فاننا سنجد بينها سمات يجسدها هؤلاء الأعضاء في حياتهم، كسمة الكرم أو التقوى او الشجاعة أو الحس بالإنصاف. وهذا يعني أننا نتوقع منهم ان يشتركوا في سمات معينة هي موضوع تقدير من قبلهم. وهذه السمات تشكل ركيزة موضوعية لنشوء علاقة التقدير المتبادل بينهم.
لا يبدو ان عوامل كهذه تكفي لتسويغ النظر إلى الإنتماء القومي على نحو يجيز التحيز للجماعة القومية. فليس واضحاً ان الإشتراك في قيم واحدة أو سمات واحدة هي موضوع تقدير من قبل المنتمين إلى المتحد القومي هو سبب كافٍ لانحياز بعضهم إلى بعض. فاشتراك كهذا، مثله مثل الإشتراك في لغة واحدة أو عادات أو تقاليد واحدة، يشكل، ولا شك، اساساً للتآلف الاجتماعي والتفاهم والتعاطف والتقدير المتبادل، فيقرب أعضاء المجتمع بعضهم إلى بعض، ويجعلهم يشعرون انهم ليسوا غرباء في وطنهم. ولكن هذه العوامل المشتركة هي من المكونات النفسية وليس الأخلاقية للشعور بالإنتماء، وبالتالي، لعدم الحياد إزاء مصالح ومصير الجماعة القومية. فكون علاقة ما باعثة سيكولوجياً على الشعور بضرورة الإنحياز إلى قوميتنا واخوتنا في القومية لا يعني بالضرورة أن هذه العلاقة أساس مشروع من الوجهة الأخلاقية لهذا الموقف اللامحايد. ولو كانت هذه العوامل المشتركة كافية لتسويغ هذا الموقف أخلاقياً لكان علينا ان نقول انها، جراء كون الإشتراك فيها يتخطى أحياناً الفروقات القومية، اساس كاف ليس فقط لتحيز الافراد للجماعة القومية التي ينتمون اليها بل وايضاً لجماعات قومية أخرى. فان التشابه الثقافي، مثلاً، بين الشعوب المتوسطية أمر لا جدال فيه، وكذلك التشابه في الكثير من السمات الشخصية. ولكن، مع ذلك، فان هذا لا يعني بالضرورة أنه مسوغ من الوجهة الأخلاقية اتخاذنا نفس الموقف من مصالح الشعوب المتوسطية الأخرى الذي يجب ان نتخذه من مصالح شعبنا.
بصورة مماثلة، الإنحياز للسلالة يجد مسوغة المزعوم في أن الذين ينتمون إلى سلالة واحدة يوحدهم الإشتراك، كما يزعم العنصري، في قيم واحدة، وبالأخص الإشتراك في سمات هي موضوع تقدير من قبلهم، كالسمات التي تحدد كونهم من سلالة معينة، لا من سلالة سواها. ليست هذه السمات بيولوجية، كلون البشرة، ونسبة كثافة الشعر، ونسبة طول الجمجمة إلى عرضها. فالأخيرة، في نظر العنصري، تحدد فقط الماهية الإسمية للسلالة. والماهية الإسمية، في نظره، هي فقط المؤشر الظاهر لماهية حقيقية أعمق ذات طابع سيكولوجي في المقام الأول. والماهية الحقيقية تضعهم فوق السلالات الأخرى.
ولكن العنصري مخطىء في اعتقاده أن سمات فيزيائية معنية هي دليل ماهية سيكولوجية من نوع ما. ولذلك فهو يواجه بإحراج صعب: إما عليه ان ينظر إلى الماهية الإسمية على أنها الأساس المسوغ للإنحياز إلى السلالة أو يستمر في الإدعاء أن الماهية الإسمية، التي يقوم عليها التمييز السلالي، هي مؤشر أكيد على امتلاك ماهية حقيقية من نوع متفوق. إذا أختار البديل الأول، فانه يختار عاملاً لا يعقل أن يشكل أساساً أخلاقياً للإنحياز إلى السلالة. واذا أختار البديل الثاني، إذن فإنه يقيم دفاعه عن الإنحياز لسلالته على أساس موهوم.
لا تختلف الصورة كثيراً اذا أخذنا إدعاء بعضهم بوجود ماهية حقيقية تكمن وراء المؤشرات الظاهرة لوجود جماعة قومية. هنا قد نجد ضمن هذا الإدعاء إشارة إلى امتلاك الأمة لشخصية قومية متمثلة بمجموعة من الفضائل المناقبية والروحية والفكرية تجعل منها أمة متفوقة. امتلاك هذه الشخصية قد يتخذ من قبل المنتمين إلى الجماعة القومية أساسا أخلاقياً مشروعاً لإنحيازهم لبني أمتهم. ولكن الشخصية القومية هي، جزئياً، مكوّنة من قيم مشتركة، والكلام عليها هو، كالكلام على ماهية السلالة، ليس أكثر من تعميم إحصائي. فالإقتران بين العضوية في الجماعة القومية وامتلاك الشخصية القومية هو بالضرورة اقتران ناقص، ما دامت هذه العضوية تتقرر بالولادة، ليس الا. ولكن المجتمع كفيل بتوليد اقتران مهم من الوجهة الإحصائية، ما يعنى أن العوامل المشتركة التي هي موضع تقدير، والتي تتخذ على انها مؤشر على جوهر الشخصية القومية، انما هي موضوع تقدير نتيجة التنشئة الإجتماعية. اذن، النظر إلى الشخصية القومية على انها متفوقة يقوم على معايير مستمدة من ثقافة الجماعة القومية ذاتها، وليس من معايير مستقلة. ولكن اذا كان المنتمون إلى الجماعة القومية يقدرون شخصيتهم القومية لأنه جرى تذويت هذا التقدير فيهم في سياق التنشئة الثقافية التي مروا فيها، اذن فان شعورهم بأنهم ذوو شخصية قومية متفوقة لا يقوم فعلاً على اي اساس موضوعي. زد إلى ذلك أن أعتقادهم بتفوق شخصيتهم القومية، لأنه يغذي شعورهم بالغرور والإستعلاء، يشكل عاملاً أضافياً مكرساً للشعور بالتفوق وباعثاً، بالتالي، على المزيد من الشك بوجود أساس مشروع لإعتقادهم بالتفوق.
لا يعني هذا طبعاً أن النظر، إيجابياً، إلى الشخصية القومية ليس مهماً من الوجهة السيكولوجية الخالصة لتمتين الشعور بالإنتماء إلى الجماعة القومية والإعتزاز بهذا الإنتماء. ولكن ما يعنية هو أنه إذا أتخذ أساساً للإنحياز إلى الجماعة القومية، فانه قد يتخذ طابعاً استعلائياً مماثلاً للنزعة العنصرية، ما يجعله غير جدير بتزويد الإنحياز إلى الجماعة القومية بأساس أخلاقي .
يعتقد بعضهم ان النظرة الكمالية، في صورتها المتحدية، هي الطريقة الأنجح في تسويغ الشعور بالإنتماء إلى الجماعة القومية، من حيث هو شعور بالولاء إلى هذه الجماعة يطغى على كل الولاءات الأخرى. يعتقد أصحاب هذه النظرة أن الإنتماء، بالمعنى المقصود، ذو قيمة في ذاته. نجد في هذه النظرة موقفاً مضمراً مؤداه ان الدعوة لعدم الإنحياز إلى اي جماعة أو أمة وضرورة إيلاء جميع البشر، بغض النظر عن قوميتهم، نفس الإهتمام هي من مخلفات عصر الأنوار الذي رسخ فكرة خاطئة في الأذهان، فكرة كون الأخلاق كونية ومحايدة. ولكن الدفاع عن القومية والإنتماء القومي يرتبط، بالنسبة لهذا الموقف، بنظرة متحدية في الأخلاق والقيم، بعأمة. فناقد الإنحياز الأخلاقي يرى إلى الفرد كائناً انسانياً مجرداً، أي يمتلك فقط القدرات والطاقات المحددة لكونه انساناً، بينما الأخلاق، من منظور قومي، ترى إلى الفرد كائناً يتحدد بالعلاقات وبالحقوق، والواجبات النابعة من هذه العلاقات. والأخيرة هي عناصر مكونة لشخصيته.الذات الأخلاقية، بمعنى آخر، مؤطرة ثقافياً باحكام.
لا أرى أنا شخصياً في الفكرة الأخيرة أي شيء ذي اهمية في تسويغ الشعور بالإنتماء باعتباره ذا قيمة في ذاته. لتوضيح موقفي، دعوني أتناول حجج أصحاب النظرة المتحدية الكمالية التي يمكن تلخيصها في حجتين. الحجة الأولى تقوم على موقفهم القاضي بالنظر إلى خير الكائنات الإنسانية على أنه كامن في تطويرهم لطبيعتهم أو هويتهم. بصورة أكثر تحديداً، ما يدّعى هنا هو أن هناك صفات معنية مكونة لهوية الشخص وأن من مصلحته ان يطور هذه الصفات. هذه النظرة، في جانبها الكلاسيكي الذي نجده لدى أرسطو ومن ثم ماركس ونيتشه، لا تولي أي اهتمام سوى للصفات المكونة للطبيعة البشرية. ولكن الكمالية، في صورتها المتحدية، تعزو هوية الشخص إلى صفات مستمدة من إنتمائه إلى ثقافة محددة: انها هوية ثقافية، والمطلوب هو تطوير هذه الهوية بمعناها الضيق.
ولكن الهوية الثقافية مكتسبة، مثلها مثل الهوية الدينية أو السياسية، ولا معنى للقول انها جزء من هويتي الميتافيزيقية. الفرد تربى في بيئة معينة وتشرب في سنوات حياته الأولى قيمها وارتبط بأهل هذه البيئة بشتى الروابط، ولكن بإمكانه التحلل من الكثير من هذه الروابط ورفض الكثير من هذه القيم والعادات والتقاليد الراسخة في هذه البيئة. حصول شيء كهذا يعدل كثيراً في هوية الفرد المكتسبة، وقد يكون لخيره، بل قد يكون شيء كهذا في مجتمع كمجتمعنا لخيرنا، استغراقياً وجمعياً. وهذا يعني أنه لا يكن تسويغ الموقف القاضي بالحفاظ على الهوية الثقافية، باعتبارها ذات قيمة في ذاتها.
والأهم من هذا أن قبول النظرة الكمالية، في صورتها المتحدية، لا يسوغ بالضرورة الإنتماء القومي إلى الحد الذي يفرض النظر إلى واجبات الفرد إزاء أخوته في القومية على انها تطغى على أي واجبات قد تكون لديه إزاء سواهم. فهذه ا لنظرة لا تعني اكثر من أن لكل جماعة هويتها الثقافية التي يستمد الأفراد خيرهم منها. ولكن هذا لا يستبعد بالضرورة النظرة الكمالية غير المتحدية. فالاعتراف بهذا وحده لا يمكن ان يعني الإنحياز لهوية ثقافية دون سواها.
قد تتخذ الحجة الأخيرة صورة أخرى، بحيث لا تقتصر مقدمتها الكبرى على الإفتراض ان البشر المنتمين إلى ثقافات مختلفة ذوو هويات مختلفة بل تتجاوز ذلك إلى الإفتراض ايضاً ان هذه الهويات تتضمن، فيما تتضمن، ضرورة الإنحياز لمن يشاركوننا هويتنا الثقافية. إذا اتخذت الحجة هذه الصورة، فانها تفترض عدم وجود ثقافة إلا وتستدعي من المشاركين فيها انحيازهم بعضهم إلى بعض، بمعنى ان الإنحياز هو مكون أساسي من مكونات الهوية الثقافية لكل فرد. لا يبدو لي ان التسليم، بهذا على سبيل الجدل بالطبع، يقربنا قيد أنمله من تسويغ الإنحياز إلى الجماعة القومية أخلاقياً. فكل ما يعنيه التسليم به هو أن الشخص لا يمكنه ان يحقق خيره بالكامل عن طريق اللجوء إلى معايير محايدة، اي غير مستمدة من الثقافة التي ينتمي اليها. ولكن هذا يتفق مع القول ان عمل ما هو حق، من وجهة نظر محايدة، يستدعي من الشخص أحياناً التضحية ببعض خيره، وقد يكون عمل ما هو حق، في بعض الحالات، شيئاً يلزمه بالتضحية بهذا الجزء من خيره الذي يترتب على انحيازه الثقافي. وهذا يكفي للإستنتاج أن الكمالية الثقافية لا تسوغ بالضرورة الإنحياز الثقافي من الوجهة الأخلاقية.
الحجة الثانية التي يمكن اللجوء اليها لتسويغ الإنحياز القومي من الوجهة الأخلاقية تستند إلى الإفتراض أن الأخلاق المحايدة وهم من الأوهام، اذ انها غير متسقة مع الطبيعة الحقة للأخلاق والمبادىء الأخلاقية. فالأخيرة لا تنشأ إلا ضمن إطار ثقافة محددة وتٌوجّه إلى المنتمين إلى هذه الثقافة وحدهم باعتبارهم يمتلكون هوية ثقافية من نوع معين، لا من نوع آخر، ويحتلون أدواراً محددة ضمن هذه الثقافة. الأخلاق هي دائماً أخلاقنا أو أخلاقهم، أي ليست كونية ومشتركة. لا توجد، اذاً، بحسب هذا الإفتراض، مبادىء أخلاقية تتجاوز الفروقات الثقافية ويمكن الإحتكام اليها في مجال التقويم الأخلاقي. الأخلاق، في هذا المنظور، لا محايدة بطبيعتها، ما يعني أنه من غير المتماسك منطقياً الكلام على أخلاق كونية.
شاعت هذه الحجة بين مفكرين تأثروا بالفلسفة الوضعية العلموية التي أخرجت من دائرة الحقائق والمعايير الكونية كل ما يقع خارج الرياضيات والعلوم. ولكنها حجة تفشل بشكل واضح بأن تميز بين ما هو انتربولوجي وما هو معياري . فالأطروحة النسبية حول الأخلاق لا غبار عليها باعتبارها أطروحة انتربولوجية تصف واقع الحال فيما يخص الفروق في الأنظمة الأخلاقية المرافقة للفروقات الثقافية. ولكن، كما بينت مطولاً في كتابي الأخلاق والعقل ، لا يجوز الإستنتاج من الأطروحة الأخيرة انه لا وجود لأخلاق كونية ومحايدة.
والأسوأ من هذا أن نفي إمكان وجود معايير أخلاقية محايدة يؤدي إلى عكس النتيجة التي توخى أصحاب الحجة الثانية الوصول اليها. فتسويغ الإنحياز القومي باعتباره تعبيراً طبيعياً عن الشعور بالإنتماء إلى الجماعة القومية يقوم على اعتبارات أخلاقية محايدة. فالوطنية، مثلاً، هي فضيلة ليس لأنها فضيلة لنا، بل هي فضيلة لآسباب لا تتعلق بنا نحن مقابل هم . انها فضيلة، بغض النظر عن الجماعة القومية التي يتميز أفرادها بشعورهم الوطني. ولكن من منظور النسبية الثقافية، في صورتها المعيارية، باعتبارها لب الحجة الثانية، الوطنية هي فضيلة فقط من وجهة نظر ثقافة معينة، ولا يمكن تسويغها انطلاقاً من مبادىء أخلاقية محايدة. إذن تفشل هذه الحجة في تسويغ اتخاذ الشعور بالإنتماء إلى الجماعة القومية صورة إنتماء قوي إلى حد يجعل الإنحياز إلى الجماعة القومية فضيلة.
نعود، اذن، إلى السؤال: ما الذي يسوغ الإنتماء من حيث كونه يتضمن انحياز الفرد لأخوته في القومية ولأمته باعتبارها تجسيداً لخيرات لا شخصية؟ لا جدال في أن مصالح أبناء أمتنا ينبغي أن تكون موضوع اهتمام من قبلنا. ولكن السؤال الصعب يتعلق بما هو الأساس لإلزامنا أخلاقياً بإعطاء هذه المصالح وزناً يفوق وزن مصالح من هم من قوميات أخرى. لا يوجد تماثل هنا بين الإنحياز للعائلة، مثلاً، والإنحياز للأمة. فالعلاقات بين أفراد العائلة الواحدة علاقات شخصية، بينما علاقة الاخوة القومية لا شخصية. وكما رأينا، فان طغيان الطابع اللاشخصي على العلاقات بين الاخوة في القومية في المجتمعات الحديثة هو في أساس الحرص الشديد لدى هذه المجتمعات على خلق الشروط القمينة بتمتين الشعور بالإنتماء القومي. فالإنحياز الذي يقوم على متانة العلاقات الشخصية مبني على اساس ذاتي، لا موضوعي – أساس عاطفي. لا نكران طبعاً ان وقائع ذاتية معينة، كالتي تتعلق بمشاعر الفرد إزاء أمته وأخوته في القومية، قد تكون ضرورية لبقاء الأمة. هذا يصدق بالطبع على شعور الأفراد، مثلاً، بأن هويتهم تجد مكوناً أساسياً لها في عضويتهم في جماعة معينة لا تشكل بعد أمة بالفعل، الأمر الذي ينطبق على حالتنا نحن سكان الهلال الخصيب. فلو عم هذا الشعور بين المنتمين إلى هذه الجماعة لتجاوزت هذه الجماعة أهم عقبة في وجه تحولها من أمة بالقوة إلى أمة بالفعل. ولكن المشاعر الذاتية، في حد ذاتها، لا تشكل، من الوجهة الأخلاقية، مسوغاً للإعتقاد بأن من واجب الفرد ان يعطي لمصالح إخوته في القومية ولمصالح أمته بالذات وزناً يفوق الوزن الذي يعطيه لمصالح الأمم الأخرى ومصالح أبنائها.
نحتاج، إذن، إلى أساس موضوعي، فما هو هذا الأساس؟ إنه بمثابة علاقة موضوعية بين أبناء الأمة الواحدة – علاقة تقوم باستقلال عن كيفية شعورهم بعضهم إزاء بعض. وهذه العلاقة هي علاقة الإشتراك في تاريخ واحد. التاريخ المشترك هو دليل حياة مشتركة ناشئة عن تفاعل جماعات مختلفة في الأصل على أرض واحدة. الإشتراك في تاريخ واحد هو اشتراك في حياة واحدة ومصير واحد. ثمة جانبان لهذا الإشتراك قد يولّد كل منهما اعتباراً اخلاقياً لإنحياز الأفراد ذوي التاريخ المشترك بعضهم إلى بعض. الجانب الأول يتعلق بتفاعلهم مع بعض، والجانب الثاني يتعلق بالخيرات المشتركة التي تنشأ عن هذا التفاعل .
لا شك طبعاً أن التفاعل في المتحدات البسيطة ليس كالتفاعل في المتحدات المركبة. فبينما هو ذو طابع مباشر في السابقة، فإنه يتخذ في الأخيرة طابعاً غير مباشر. فالبشر الذين يتضمن تاريخهم تفاعلاً وثيقاً بينهم تكون واجباتهم أقوى من الذين لا يكون التفاعل بينهم على نفس الدرجة من المباشرية. وشيء مماثل يصدق على الخيرات الناشئة من تفاعلهم. فبمقدار ما تزداد الخيرات المشتركة الناشئة عن تفاعلهم إلى هذا القدر بالذات تزداد متانة واجباتهم بعضهم ازاء بعض .
ما هو ضروري هنا هو أن التاريخ الحقيقي وليس التاريخ الأسطوري والموهوم هو الذي يشكل الأساس الموضوعي للواجبات المتبادلة بين الأخوة في القومية.
ثمة مصدران لهذه الواجبات. الأول يتعلق بعلاقتهم بعضهم ببعض، والثاني يتعلق بعلاقة الفرد بالجماعة القومية التي ينتمي اليها. ما نشير اليه في كلامنا على المصدر الأول هو كون المنتمين إلى جماعة قومية يشتركون في نشاطات شتى طوعية تفيد كلاً منهم. انهم، بمعنى أخر، يتفاعلون مع بعض في اطار نظام تعاوني حيث تكون جهود كل شخص ذات نتائج هي لفائدة كل ّ سواه. وهذا يولّد لديهم واجبات خاصة متبادلة. فانهم يشتركون في نشاطات متنوعة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. فإنهم، مجتمعين، يشكلون هيئة اجتماعية واحدة هي حاصل تفاعل اجتماعي تمتد جذوره إلى أجيال بعيدة، تفاعل مستمر يعيد انتاج ثقافة هذه الجماعة وأسلوب حياتها ليكونا إرث أجيال كثيرة مقبلة. إن النشاطات التعاونية المختلفة الداخلة في هذا التفاعل تشكل حياة الأمة، وهي مصدر لواجبات خاصة متبادلة.
المصدر الثاني لهذه الواجبات مرتبط بالمصدر الأول. فالفرد مدين لأمته وثقافتها، حتى وان كان يتحفظ على بعض جوانب هذه الثقافة. انها المصدر للغة التي يتكلمها ويفكر بواسطتها، والمصدر للإرث الفكري والأدبي والفني الذي هو عامل أساسي في تكوين حساسيته وفهمه لذاته والعالم، وتكوين شخصيته، في خطوطها العريضة، وتزويده بالقيم الأساسية التي تعطي معنى لحياته وتنظم علاقاته بالآخرين. باختصار، الأمة باعتبارها تعاقب أجيال عديدة هي مصدر خيرات عديدة للفرد، ما يجعله مديناً لها بشتى الواجبات، مثل واجب الشكر والعرفان، ويزوده بإعتبارات أخلاقية في إعترافه بأهمية الخيرات التي زودته بها، اعتبارات تسوغ اعتزازه بها والعمل على تقويتها وتوفير الشروط الكفيلة بإزدهار ثقافتها والحفاظ على كنوزها ومؤسساتها، إضافة إلى الحفاظ على إرثها الأدبي والفني والفلسفي وقيمها. لا تٌلغى هذه الواجبات بمجرد الإعتراف بأن ثقافة هذه الأمة ليست متفوقة على ثقافات الأمم الاخرى، مثلما أن واجبات الأبناء إزاء والديهم لا تلغى لأن والديهم ليسا أفضل الوالدين. فإذا لم تكن ثقافتها الحاضرة، كما هو الحال عندنا، متفوقة، بل متخلفة، فإن واجب الفرد في هذه الحالة، الذي يمليه الشعور بالجميل، هو أن يعمل على تطوير هذه الثقافة.
الفرق بين الواجبات النابعة من المصدر الأول والواجبات النابعة من المصدر الثاني واضح. فالسابقة هي واجبات متبادلة بين الأفراد، بينما الأخيرة هي واجبات الفرد إزاء أمته. ولكن قيام الأفراد بالواجبات الأخيرة هو، اشتقاقياً، قيام بواجبات تفيد إخوته في القومية. فالسياق الذي ترتبط به هذه الواجبات هو السياق الذي يكون فيه لدى الفرد اعتبارات خاصة special لأن يفعل ما يعود بالخير على أبناء قومه، ليس بسبب علاقاته بهم كأفراد ولكن لآن هذا يساهم في ازدهار الأمة.
ومن الواضح هنا ان القيام بالواجبات الأخيرة أو السابقة منوط بوجود أكثر من شعور ضعيف بالإنتماء إلى الجماعة القومية، لأن الأخير لا يحمل في طياته بالضرورة أي ميل لإظهار ولاء حقيقي لثقافة الأمة وإعلاء شأنها. ولكن أعود فأكرر، من الضروري أن يكون الشعور بالإنتماء قوياً ولكن ليس إلى حد يغذي النزعة الإستعلائية أو يهدد بالإنزلاق نحو الشوفينية.
لا تستنفد الواجبات المتبادلة بين أفراد الأمة وواجبات الأخيرين إزاء أمتهم، كل الواجبات التي تستدعي تقوية الشعور بالإنتماء. ثمة واجبات من نوع آخر هي واجبات الأمة تجاه ذاتها. فمثلما أن الفرد ذو واجبات تعقلية تجاه ذاته، كواجبه في تهيئة نفسه للتنافس مع الآخرين على قدم المساواة وصد أي خطر قد يتعرض له ومنع أي أذى من اللحاق به ... الخ، ما يستدعي وعيه لمصالحه وحقوقه وانحيازه لهما، في حال وجود تهديد لهما من قبل أفراد آخرين، كذلك هي الحال بالنسبة للأمة. فالعالم الإنساني، كما ذكرنا سعاده، " ليس الإنسانية مجتمعة".
وهذا يفرض على أي أمة واجب الوعي لمصالحها وحقوقها وتوظيف الوسائل اللازمة لتأمين هذه المصالح والحقوق، واجب توفير ما يكفي من القوة الذاتية لنفسها للتنافس مع الأمم الأخرى على قدم المساواة. ولكن هذا يقضي بأن تنظر الأمة إلى ذاتها على أنها هيئة اجتماعية واحدة وألا تواجه العالم كأخلاط متنافرة. إذن هي مدعوة من خلال السياسات العأمة لهيئاتها التشريعية، ومن خلال نشاطات المجتمع المدني السياسية والثقافية والاجتماعية، أن تعمل ما يلزم ليس على إلغاء الولاءات الجزئية – اذ هذا متعذر واقعياً – بل على صهر ما يتناكر بينها في ولاء واحد للأمة، فلا يعود الولاء للطائفة او العشيرة أو الجماعة الإثنية يطغى على الولاء للجماعة القومية. وهذا يعني، في نهاية التحليل، تطوير شعور قوي بالإنتماء القومي. تطوير شعور كهذا في حالتنا له محاذيره، اذ، كما ذكرت سابقاً، قد ينتهي بنا إلى الشوفينية أو العنصرية. هذه المحاذير، مع الأسف، لم يولها جل الفكر القومي عندنا العناية الكافية، فأخذنا نرى مدى مبالغة ذوي التوجه القومي، بعأمة، في تمجيد أمتهم والتأكيد على تفوقها على باقي الأمم. التعلق بالوطن والإنتماء إلى الأمة لا يقومان، كما بينت، على كون الوطن هو أجمل الأوطان وعلى كون الأمة هي أعظم الأمم، لان فضيلة الوطنية، كما رأينا، هي واجب أخلاقي.
لا يعني هذا عدم إبراز المحطات المشرقة في حياة الأمة وما قدمته للبشرية، وغير ذلك. فلهذا أهميته النفسية في تمتين الشعور بالإنتماء، ولكن لا أهمية أخلاقية له. ينبغي ألا نغفل أن لكل أمة محطاتها المشرقة وإسهاماتها.
المشكلة التي نواجهها في مجتمع متخلف كمجتمعنا هي معاناتنا مركب النقص إزاء المجتمعات المتقدمة. ومعالجة هذه المشكلة لا تكون بالتضخيم الزائد والتعظيم المبالغ فيه لماضي الأمة، بل يكفي التأكيد أن شعبنا هو، كسائر الشعوب، لا تنقصه الطاقة على الإبداع والتطور والإسهام في تقدم البشرية، وأن وضعه المتخلف هو نتيجة ظروف تاريخية غير عادية – " نوازل تاريخية" بحسب تعبير سعاده. ان مقاربة المشكلة المعنية على هذا النحو كافٍ لإزالة مركب النقص بدون إيقاعنا في فخ العنصرية أو الشوفينية.
1
أحدُ أفضلِ الخطباء في العالم القديم، ديموسثينوس Demosthenes، عمل على صناعةِ نفسِه خطيبًا، إذ، ومن أجل التأثير في المستمِعين – المشاهدين، أخضع نفسَه لتمارينَ رياضيّةٍ قوّت بنيتَه ومظهرَه الضعيفين منذ الصغر، ولطالما قصَد الشاطئَ ليتحدّى الأمواجَ في طغيانِ صوتِه الخطابيّ على ضجيج تكسّرِها، كما التزم كهفًا لفترة طويلة كي يركّزَ على الخطابة التي تَمرّن عليها بفم مليئ بالحصى ليطوّعَ الإلقاء، كما استخدم المرآة لمراقبةِ لغتِه الجسديّة، وصلّت سيفًا فوق أحد كتفيه ليمنعَ نفسَه من القيام بحركة عصبيّة تشدّ بكتفه إلى أعلى.
أشكّ في أنّ سيادةَ أنطون سعاده للمنبر اتّبعت مسار ديموستثينوس!
وعندما يلقي رئيسُ دولة أو وريثُ تيّار سياسيّ أو رئيسُ مجلسِ إدارة شركةٍ خطابًا في يومنا هذا، إنّما يكون في غالب الأحيان ليس إلاّ مسمِّعًا لخطاب كتبه له مساعدٌ أو أكثر، أو قارئًا له بفضل التكنولوجيا الحديثة على شاشات زجاجيّة إمّا مباشرة أمامه أو موزّعة في قاعة اللقاء.
حتمًا، لم يكن سعاده من المستظهرين ولا من قارئي الشاشات!
فسعاده من طينة مَن تنساب كلماتُهم، نابعات من العقل، متلاحقات مع الفكرة، مندفعات نحو الهدف، شلاّلات. والخطابةُ عندُه ليست غاية بذاتها، بل وسيلةَ إقناع وإعلام وإلهام في خدمة قضيّةٍ اعتبرها تساوي وجودَ الأمة. فهو سليلُ زينون وثلاثيِّ سقراط أفلاطون أرسطو، بمواجهة السفسطائيّين، لناحية غائيّةِ الخطابة والتزامِها الخير في القضايا عأمة.
صحيح أنّ المبادئَ المكتوبة وبعضَ المراسلات والبيانات المطبوعة والبلاغات هي عامل اتّصال في حركة عقائديّة منظّمة، ولكنّ الصحيحَ ايضاً أنّ الخطابة، خاصّة في عصر بدائيّ تكنولوجيًّا في مجال الإعلام قياسًا إلى اليوم، تُشكّل الفسحةَ للتعرّف إلى سعاده – الشخص - القائد، وايضاً المدى لمعرفة سعاده – الرسالة - المعلّم. فالخطابة، بتلقائيّتِها المرتجَلة أو بصياغتِها المكتوبة، دليلٌ على جوهر المعدن.
ثمّ إنّ الخطابة عند سعاده عيّنة من الخطاب – المضمون العام، الواحد من حيث دورانِه على محور الفكر – العاطفة، في إنتاجِه الوارد في كتب وبيانات وبلاغات ورسائل ومقالات ودراسات وأدب على مدى 19 عامًا من بعثه للنهضة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة، لا بل ومنذ يفاعته سنوات قبل ذلك. فاهتمام سعاده بالجمع بين الأفكار والعواطف يظهر على مستويين دائمَي الحضور في خطابه: التنظير لهما والنبض بهما. على المستوى الأول، يحرص سعاده على ذكر الفكر والعاطفة مترافقَين متلازمَين متكاملَين. وعلى المستوى الثاني، يزخر كلّ خطاب لسعاده بأطروحات فكريّة ومقولات عقائديّة وأبعاد فلسفيّة كما وبطاقةٍ عاطفيّة جليّة وقويّة. أي أنّ الخطب بذاتها أمثلة حيّة على وحدانيّة الأفكار والعواطف المنظَّر لها من ضمن العوامل الروحيّة في فلسفة سعاده المدرحيّة (الماديّة – الروحيّة).
في خطابه المنهاجي الأول، 1 حزيران 1935، يقول سعاده: "منذ الساعة التي أخذت فيها عقيدتُنا القوميّة الاجتماعيّة تجمعُ بين الأفكار والعواطف... منذ تلك الساعة انبثق الفجر من الليل، وخرجت الحركة من الجمود، وانطلقت من وراء الفوضى قوّةُ النظام، وأصبحنا أمة بعد أن كنّا قطعانًا بشريّة وغدونا دولة تقوم على أربعة دعائم، الحرّيّة، الواجب، النظام، القوّة..."
الأفكار والعواطف! معًا في فاتحة خطاب الفاتحة! فالفكر بلا عاطفة، تجريدٌ ناشف، وأمّا العاطفة بلا فكر فبدائيّةُ غرائز.
2
تتفاعل عواملُ موضوعيّة بأخرى ذاتيّة في تهيئة الأرضيّة الصالحة لإنتاج خطاب سعاديٍّ قوميّ – سياسيّ عاطفكريّ.
من العوامل الموضوعيّة، نوعُ القضيّة التي يحملها سعاده. فالقضيّة عنده حياةُ الأمة السّوريّة أو موتُها، لا بين بين. فلسعاده، "العدم والوجود، العدم والحياة هما شيء واحد عند أساطين الفلسفة والعلم، وإنّما الفارق بينهما هو ظواهرُ الجمود وظواهر الحركة، فالعدم مادّة ثابتة مستترة جامدة، والوجود مادّة متحرّكة مندفعة حيّة. وهذه سورية قبل الحزب السّوريّ القوميّ هي المادةُ نفسُها بعد الحزب السوريّ القوميّ، ولكنّها قبل الحزب جمود، عدم، وبعد الحزب حركة، حياة." (خطاب في قصر آل ثابت في 1 – 6 – 1936)
متى كان الأمر، هكذا، على حدّ الحياة والموت، في أيّ أمر، يتحرّك العقل طبيعيًّا بكلّ طاقته المعرفيّة والعاطفيّة متمسّكًا بالحياة حبًّا وشوقًا وإنتماء. قضيّة بهذه الخطورة، لا تحتملُ إلاّ خطابًا مشْبعًا ثقافة كما واندفاعًا.
ومنها، العلاقة العلميّة بين القوميّة والأمة، أو كما يعبّر عنها سعاده: "كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القوميّ، الشعور بشخصيّة الجماعة، لا بدَّ لأفرادها من فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفِه وطبيعةِ العلاقات الناتجةِ عنه". (مقدّمة نشوء الأمم)
الشعور بشخصيّة الجماعة، إذًا، يرتّب فهمًا للواقع الاجتماعيّ!
ومنها أنّ خطابَ سعاده في مجمله، خطابُ حاجات لا كماليّات، ناريٌّ بوجه النار! عند كلّ منعطف قوميّ خطير، أو محطّةٍ صراعيّة مع قوى الرجعة الداخليّة المتعدّدة الرؤوس، أو مناسبةٍ حزبيّة، أو حالةٍ سياسيّة ضاغطة، يأتي خطاب سعاده ليوضحَ الموقفَ، يحدّد السياق، يكشف المُخبَّأ، يضيء الأبعاد، يذكّر بالمنطلقات، يشدّد على القيَم، يقدّم المفاهيم، يبثّ الثقة، يشدّ أزر، يتحدّى، ويعلن. خطابُ توعيةٌ وتعبئة؛ تثقيف وتثوير؛ تنويرُ عقول وتسليحُ نفوس!
خطاب ناريّ بوجه النار! فكما في الحضارات القديمة حين لم تقتصر الخطابةُ على إعلان الرأي والتوجيه والتأثير، بل، وبغياب المحامين، كانت وسيلة للدفاع عن الذات أمامَ القضاء، كم من مرّة دافع سعاده عن نفسه وأفكاره وحزبه أمام جورِ القضاء المسيَّس، مستعيدًا بذلك مجدَ سقراط في دفاعه الأخير! من الإعتقال الأول في 16 ت2 1935، إلى محاكمة الـ24 ساعة الأخيرة، كم حوّل سعاده قاعةَ المحكمة إلى صفحةِ تاريخ، وقفصَ الإتّهامِ إلى منصّةِ خطابة!
أمّا العوامل الذاتيّة، فمنها مخزون سعاده المعرفيّ والفكريّ والفنّي والأدبيّ، ونشأتُه في منزلٍ وطنيّ سياسيّ مناضل، وتغذّيه من أدبيّات عصر النهضة (البساتنة واليازجيّين وجبران والريحانيّ وغيرهم) وثمّ تثقّفُه في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم السياسة وغيرها، إضافة إلى أنّه بذاته أديب، وإن كانت مساهمتُه الأدبيّة الصرف اقتصرت على قصّتَي عيد سيّدة صيدنايا وفاجعة حبّ. ذلك كلُّه يسهّلُ عليه القدرةَ على التعبير العاطفيّ من دون تعريض المنحى الفكريّ للإهتزاز، كما ومعالجة المسائل الفكريّة من دون تصحُّر!
ومنها، أنّ سعاده العلميَّ المنهجيّ المنطقيّ المفكّرَ الفيلسوف، هو في الوقت نفسه، المتطرّفُ المنحاز الهجوميّ ذو الموقف. وفي هذا، اختزن لمهمّته الدورَ والدافع، أي باللغة الهيغليّة، الفكرةَ والإرادة والشغف! مزيج يشعّ بكيميائه لهبًا داخليًّا متحرّقًا ويحطّمُ بمفعوله جدرانَ الفصل بين الفكر والعاطفة، بين التحليل والإحساس، بين الخلاصة والموقف!
3
في العام 1931، وقبل تأسيسه الحزب السوريّ القوميّ، حدّد سعاده الموسيقى في قصّة "فاجعة حب" "بإطلاقها من كلّ تحديد". وقال: "ليست الموسيقى لغةَ العواطف فحسب، بل هي لغةُ الفكر والفهم ايضاً. إنّها لغةُ النفس الإنسانيّة بكلّ ظواهرها وبواطنها." بعدها بأكثر من عشر سنوات، كتب في "الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ": "إنّي أرى الشِعر، أو على الأقل، الشِعرَ المثاليّ الأسمى، شديدَ الاتّصال بالفكر وإن يكن الشعورُ عاملَه الأساسيّ أو غرضَه، لأنّ الشعورَ الإنسانيَّ ذاتَه متّصلٌ بالفكر اتّصالاً وثيقًا في المركَّب العجيب الذي نسمّيه النفس." و"إنّ الشاعر هو الذي يُعنى بإبراز أسمى وأجمل ما في كلّ حيّز من فكر أو شعور أو مادة... إنّ من أهمِّ خصائصَ الشعر: إبرازُ الشعور والعاطفة والإحساس في كلّ فكر أو في كلّ قضيّة تشملُ عناصرَ النفس..." (تجديد الأدب تجديد الحياة)
غير أنّ اهتمامَ سعاده بالموسيقى والشعر وفهمَه لهما، لا ينحصران في نطاقِ الخاص الذاتيّ، بل يتحرّكان في فضاء نظرتِه الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ؛ نظرةٌ هي في لبّ الموقف من الوجود بأبعاده القيَميّة - الفلسفيّة (الحياة) والعلميّة (الكون) والجماليّة (الفنّ)؛ نظرةٌ هي المحرّكُ للتغيير الشامل، كما في ندائه: "تعالوا نأخذ بنظرةٍ جديدة إلى الحياة والكون والفنّ، وبفهم جديد للوجود وقضاياه، نجد فيهما حقيقةَ نفسيّتِنا ومطامحنا ومثلنا العليا، تعالوا إلى الحرّيّة والواجب والنظام والقوّة، ليس لأنها شعارُ حزب سياسيّ اجتماعيّ، بل لأنها رمزُ فكرِنا وشعورنا في الحياة." (طريق الفكر السّوريّ) لأنّ "من نتائجَ حصولِ نظرة فلسفيّة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ، حدوثُ تغيير في مجرى الحياة ومظاهرِها، وفي أغراضها القريبة والأخيرة قبل كلّ شيء." (من الظلمة إلى النور) فـ"حصول النظرةِ الفلسفيّة الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ يفتح آفاقًا جديدة للفكر ومناحيَ جديدةً للشعور... وهنا نقطةُ الإبتداء لطلب سياسة جديدة وأشكالٍ سياسيّة جديدة ولفتح تاريخ أدب وفنّ جديدين." (من الظلمة إلى النور)
ويؤكّد سعاده، في "الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ" أنّ "التجديدَ في الأدب هو مسبَّبٌ لا سببٌ – هو نتيجةُ حصولِ التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور – في الحياة وفي النظرة إلى الحياة، هو نتيجةُ حصولِ ثورة روحيّة ماديّة اجتماعيّة سياسيّة تغيّر حياةَ شعب بأسره وأوضاعَ حياته، وتفتح آفاقًا جديدة للفكر وطرائقِه وللشعور ومناحيه. (الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ – تجديد الأدب وتجديد الحياة) كما يوضح أنّ "قضيّةَ كونِ الوصال غاية المطالب العليا النفسيّة هي قضيّة قد ماتت في النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ، وحلّت محلّها قضيّةُ كون الحبّ اتّحاد فكر وشعور، واشتراك نفوس في فهم جمال الحياة وتحقيق مطالبها العليا. (طريق الأدب السوريّ)
في الشعر، في الموسيقى، في الأدب، في الحبّ، في كلّ وأيّ نبض من ثالوث الحياة والكون والفنّ، يجد سعاده الفكرَ والشعور معًا في وحدة تفاعليّة تعبيريّة وإبداعيّة! ليس غريبًا إذًا أن يأتي خطابُه مشبعًا بهما، هو المتجذّرُ في الحياة صراعًا، المتّحدُ بالكون فعلاً، والفاعلُ في الفنّ نقدًا وخلقًا.
4
يعرّف سعاده القوميّة، في نشوء الأمم – الفصل السابع، بأنّها "يقظةُ الأمة وتنبّهُها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها"، ثمّ وبعد أسطر يعرّفها مجدّدًا بأنّها "الروحيّة الواحدة أو الشعور الواحد المنبثقِ من الأمة، من وحدة الحياة في مجرى الزمان."
تعريفان، واحد ينطلق في أجواء الفكر: يقظة، تنبّه؛ وآخر يحلّق في فضاءات العاطفة: روح، شعور. لذا، وبناء على هذا الأساس المتين، وفي كلّ مرّة يذكر سعاده فيها "القوميّة"، تختزن الكلمةُ المعنيَين وينفتح خطابُه على البعدين الفكريّ والعاطفيّ. ومتى عرفنا موقعَ القوميّة في الفكر السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، من ألِفه إلى يائه، عرفنا سرَّ الطاقة المتولّدةِ من الخطاب السعاديّ، وسرَّ الحركة التي يستثيرها.
وبالمناسبة، ففي الخطاب المنهاجيّ الأول، ترِدُ كلمةُ قوميّ أو قوميّة 55 مرّة!
5
إذا كان الفكر فكرًا والعاطفة عاطفةً، هكذا، بانفصال تقليديّ، فسرُّ الإندماج بل الإمتزاج بل الوحدةِ العضويّة بينهما عند سعاده، هو في الأخلاق وما فيها من قيَم ومُثل عليا؛ قيَمٌ كالحقّ والخير والجمال ومثُل عليا كالحرّيّة والواجب والنظام والقوّة هي بطبيعتِها معبّأةٌ بتوهّجات الفكر، وفي آن، بحرارة العاطفة. لفظةٌ واحدة منها، وتنفتح أمام القائل والسامع مواضيعُ فلسفيّة عميقة ومتنوّعة استحقّت لآلاف السنين، وما تزال تستحقّ، النقاشَ والتأمّل والتفكير، وفي اللحظة إيّاها، يتحرّك الوجدان وتتتإلى الإنفعالاتُ في الوعي الإنسانيّ ولاوعيِه، وتلتمع الذاكرة العاطفيّة من استفاقة انطباعاتها عن تجاربَ الإنسانيّة من صراعٍ ونضال وإنتاج وإبداع مرّت بها الجماعات والمجتمعات.
يقدّم أرسطو في كتابه فنّ الخطابة Art of Rhetoric اقتراحاتٍ مفصّلةً للخطيب من أجل النجاح في عرض ثلاثة أمور، وكلَّها أخلاقيّة: المصلحة من وراء الدعوة إلى عمل ما، وعدالة أو عدم عدالةِ جهة أو شخص، والقيَم التي تستحقّ المديحَ أو الذمّ. كما يعتبر أنّ اعتماد الخطيب في خطبته إحدى هذه الاتّجاهات الثلاثة لا ينفي إمكانيّةَ وجودِ الاتّجاهين المتبقّيَين في متن الموضوع. وبصرف النظر عن اطّلاع سعاده أو عدمِ اطّلاعه على اقتراحات أرسطو، فإنّ الخطاب السعاديّ غنيّ بالثلاثة.
ولأنّ الأخلاق والقيَم والمثل هي في لبّ خطابِ سعاده السياسيّ – الثقافيّ – الاجتماعيّ، من المبادئ – "قواعد انطلاق الفكر" وحتّى الغاية – "بعث نهضة سوريّة قوميّة اجتماعيّة..." مرورًا بفلسفة دستوره، ونظرته المادّيّة – الروحيّة للوجود الإنسانيّ؛ لأنّ الأخلاق هي في النواة من تلك كلِّها وفي الصميم، فإنّ الخطابَ بمجرّد ولادتِه محكومٌ بالإشعاع العاطفكريّ.
مثلاً، "رأى المتزعّمون أنّ العائلةَ والبيت لا يكفيان في هذا العصر لدعم التزعّمَ فلجأوا إلى كلماتٍ محبوبةٍ لدى الشعب، كلماتِ الحرّيّة والاستقلال والمبادئ، وتلاعبوا بهذه الألفاظ، المقدّسةِ متى كانت تدلّ على مثال أعلى لأمة حيّة، الفاسدةِ متى كانت وسيلة من وسائل التزعّم وستارًا تلعب وراءه الأهواءُ والأغراض..." (الخطاب المنهاجيّ الأول في 1 حزيران 1935) و"نحتمل أن يلطمَنا مواطن نعملُ على إنقاذه، يأبى إلاّ التدهورَ ونأبى إلاّ أن نرفعَه إلى ذروة المجد القوميّ والعزّ الاجتماعيّ." و"نحن جماعة تقول إنّ العيش لا قيمةَ له. إنّ القيمة هي في المبادئ التي تمثّلُ نفوسَ الجماعة. إنّ القيمة هي في المبادئ الأخلاقية والمطامح السامية التي تفيض بها النفوس..." و"قوّتنا العظيمة بإمكانيّاتها لم تجعلْ منّا حزبَ اغترارٍ بالقوّة، ولا حزبَ قوّة من أجل القوّة، بل كنّا دائمًا حزبَ عقيدة وقوّةٍ من أجل غاية خطيرة في الحياة هي غاية الحرّيّة والواجب والنظام والقوّة..." (اللاذقيّة في 26 ت2 1948).
6
غير أنّ الفكر ليس فكرًا والعاطفةَ ليست عاطفةً، هكذا، بانفصال، رغم أنّ الإنسانيّة، ولسنوات تُعَدّ بالآلاف، تعاملت مع التفكير والعاطفة كنقيضين، واعتبرت أنّ العاطفةَ تعطّلُ العقلَ، والتفكيرَ يجمّدُ الإحساس. فالعلم الحديث يقيم الدلائل، يومًا بعد يوم، على أنّهما مكمّلان لبعضهما، بل ضروريّان لنموّ كلٍّ منهما. فبفضل تقنيّات تصوير الرنين المغناطيسيّ العمليّ (fMRI) Functional Magnetic Resonance Imaging الذي يحوّل النشاطَ العاطفيَّ والفكريّ في الدماغ إلى نقط صوَريّة لخلايا الدماغ العصبيّة pixilated pictures of neurons، يتّضح أنّ الدماغ وحدةٌ متكاملة متفاعلة متداخلة متعاونة، وإن كانت جهتُه اليمنى تُعنى بالعواطف والجماليّات والفنون والتزامن والصورة العأمة والسياق، وجهتُه اليسرى تُعنى بالمنطق والحسابات والتحليل والتتابع والتفاصيل والنَصّ.
في هذا السياق مثلاً، يقدّم أنطونيو داماجيو Antonio Damasio في كتابه Descartes’ Error (1994)، نظريّةَ الواسِم الجسديّ somatic marker، وتفيد بأنّ المنطقةَ الباطنيّة الوسطى من القشرة الأماميّة للدماغ البشريّ ventro – medial prefrontal cortex أساسيّةٌ في دمج الإستجابات العاطفيّة (الناشئة من بنى دون-قشريّة subcortical شبيهة بالثدييات كلّها والزواحف) مع التفكير المنطقيّ العالي والمتقدّم (الناشئ في تطوّر لاحق في منطقة القشرة الدماغيّة cerebral cortex). ثمّ إنّ القدرةَ على توقّع المستقبل نابعةٌ من التفكير التجريديّ، واستعراضِ الخيارات. غير أنّ الانتقاءَ من بين الخيارات يستوجب إعطاءَ كلّ خيار قيمة value من خلال ربطه بوضعيّة عاطفيّة. ولأنّنا ندرك الخيارات كحالات جسديّة، فعندما نقرّر، إنّما نكون نستجيب للخيار الذي يولّد الشعورَ الأفضل.
لتوضيح الفكرة، وتأكيدِها، يتحدّث داماجيو عن إليوت Elliot، رجلِ أعمال، أصيب بورم في رأسِه عَطَب دماغه جزئيًّا، وتحديدًا في الجهة اليمنى من القشرة الأماميّة Prefrontal Cortex. نتيجة الورم والعمليّةِ الجراحيّة التي تلت، بدأ إليوت بالتصرّف بطريقة لامنطقيّة، رغم أنّ الفحوصات أكّدت أنّه حافظ على ذكائه وانتباهه وذاكرته. فاستئصالُ الورم وما أتلف من دماغ، أفقد إليوت قدرتَه على اختبار العاطفة وما هو عاطفيّ. ومن دون العاطفة، ما عاد الدماغ قادرًا على تسجيل موقفٍ عاطفيّ من التجارب، ومعرفةِ ما إذا هي سعيدة أم حزينة، جيّدة أم سيّئة، وتاليًا، ما عاد قادرًا على التعلّم منها، ممّا أفقده القدرةَ على مراكمة الإختبارات لإتّخاذ قرارات عقلانيّة منطقيّة مستفيدًا من وقعها وموقعها في دماغه!
عُطْب في الدماغ يؤدّي إلى عطبٍ في العاطفة يؤدّي إلى عطبٍ في تحديد القيَم العمليّة يؤدّي إلى عُطب في التفكير المنطقيّ.
حتمًا، لم تكن المعلومات العلميّة الحديثة الجامعة للفكر والعاطفة دماغيًّا نيورولوجيًّا في حوزة سعاده عندما زاوج الفكرَ بالشعور مرارًا وتكرارًا على مدى عطائه ومداره، إلاّ أنّه، وبحكْم امتلاكه لإنسانيّته الحرّة الواعية الصادقة الطبيعيّة، لم يُلقِ خطابًا إلاّ وحثّ العقل على التفكير والتحليل والنقد والتعلّم والتفلسف، وإلاّ وحرّك النفس وعبّأها حماسة وتأثّرًا وفخرًا واندفاعًا وانفعالاً وحميّة وعنفوانًا وكرأمة.
7
ليس سعاده زعيمًا بالوراثة كي يتوقّعَ من المحبّين، أو يرتضي لهم، التبعيّةَ الجاهلة، رهنَ شبّيك لبّيك عبدك بين يديك! بل إنّ زعامتَه، قيادتَه، مستمدّةٌ من تعاقدٍ واعٍ مبنيّ على مبادئ وغاية، ومثْبَتٍ في مقدّمة دستور حزبه. لذا، فالعلاقةُ بين صاحب الدعوة إلى القوميّة السوريّة والمقبلين على الدعوة هي، بافتراضه وقناعته، علاقةٌ فكريّة - إراديّة قبل أيّ أمر آخر، وشريانُها الأبهر يحملُ المفاهيمَ من القلب الشويريّ باعثِ النهضة إلى الجسم الحيّ برمّته. والحال، فهو مُطالب من ذاته، كونُه "وقَف نفسَه" على أمّته، بأن يكون خطابُه على الدوام خطابًا فكريًّا متناسبًا مع مسؤوليّاته في زعأمة حزب تعاقديّ عقائديّ!
من الطبيعيّ أن يكون خطابُ العقائديّ محمّلاً بالفكر، ليرفع به البناءَ العقلانيّ الحيّ الفعّال، المحصّنَ ضدّ الانحرافات الداخليّة المقصودة والتشويهِ الخارجيّ المتعمَّد، وبوجه سوء الفهم الداخليّ والخارجيّ، وبمجابهة النظريّات الفلسفيّة الخارجيّة الأخرى.
ومن الطبيعيّ، خاصّة متى أقام عقيدتُه على علْم. فقوميّة سعاده، من لحظة ولادتها الأولى في عقيدة واضحة، وإن غابت "الاجتماعيّة" بدايةً عن اسم الحزب السوريّ القوميّ، هي قوميّةٌ اجتماعيّة، قائمة على علم الاجتماع، وبالتالي، معتادة على الدليل والمنهج والحجّة لتوضيح أسسها ومسوّغاتها وفرادتها، كي لا أقول غرابتَها، وسط هياج دعوات القوميّات العرقيّة واللغويّة والدينيّة والسياسيّة، وتلاطمها.
... ومن الطبيعيّ، خاصّة متى ولج العقائديّ باب الفلسفة من خلال دعوته "الأمم إلى ترك عقيدة تفسيرِ التطوّر الإنسانيّ بالمبدأ الروحيّ وحدِه، وعقيدةِ تفسيرِه من الجهة الأخرى بالمبدأ الماديّ وحدِه، والإقلاعِ عن اعتبار العالم، ضرورةً، عالم حرب مهلكة بين القوّة الروحيّة والقوّة الماديّة، وإلى التسليم معنا بأنّ أساسَ الارتقاء الإنسانيّ هو أساسٌ روحيّ-ماديّ (مدرحيّ)" (الأرجنتين، 10 ك2 1947).
... ومن الطبيعيّ، خاصّة متى عيّن غايةً لحزبه بحجم "بعث نهضة سوريّة قوميّة تعيد إلى الأمة السوريّة حيويّتَها وقوّتَها، وتنظيمُ حركة تؤدّي إلى استقلال الأمة السوريّة استقلالاً تامًّا، وتثبيتُ سيادتِها وتأمينُ مصالحها ورفعُ مستوى حياتها، والسعيُ لإنشاء جبهة عربيّة."
من الطبيعيّ أن يكونَ خطابُ العقائديّ محمَّلاً بالفكر...
غير أنّ هذا العقائديَّ، لا يكتفي بالفكر، على أهمّيّته، لخطابه، ولا بـ"الطرائقَ الخاصّة لتنظيم الخطب التي تتوخّى الإقناع، من: (1) المشكلة – الحلّ، (2) النقض، (3) السبب والنتيجة" (Public Speaking – An Audience Centered Approach; Fifth Ed. Steven A. Beebe & Suzan J. Beebe، ص 402) وإنّما يشحنُه بعاطفةٍ مكهرِبة، من خلال وسائلَ متنوّعة، تستفيد من طبيعة الرسالة والقضيّة ويوميّات الصراع بحيثيّاته ومضمونه.
ومنها، التعبير بكلمات مشحوذةٍ عاطفيًّا، من أمة ووطن وشعب وقوميّة وحياة ونهضة وسورية وعزّ وجديد وسيادة وأمل ومجد وشجاعة وراية وقمم واستقلال ومسؤوليّة ونصر وصراع وجهاد وتاريخ وأخلاق وحقيقة وبطولة وإيمان قوميّ وعمل وإنتاج وقلوب وإرادة وعزيمة وأجيال وفلسطين والاسكندرونة وكيليكية والأهواز، واللائحة دفّاقة.
ومنها، استعادةُ الأسطورة لما فيها من إرث معنويّ أخلاقيّ رسوليّ، و"منزلة في الفكر والشعور الإنسانيّين، تسمو على كلّ ما عُرف ويُعرَف من قضايا الفكر والشعور." (الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ – طريق الفكر السّوريّ)
ومنها، الإستعانةُ بالرموز لما تحرّكه في الوعي واللاوعي من إضاءات واشتعالات، كالزوبعة وميسلونَ وأيّامِ الحزب: يوم صافيتا، يوم تلكلخ، يوم بكفيّا، يوم عمّاطور، يوم اللاذقيّة.
ومنها، التشبيهُ بما يحاكي المخيالَ الحزبيّ: "أريد أن أمثّل لكم تمثيلاً يشبه الحقيقة، حالةَ الاستقلال الذي نحن فيه. أريد أن أخاطبَكم بتشابيه السجن... في حالة الاستقلال الحاضرة خرجت الأمة من ‘القواويش’ التي كانت فيها؛ خرجت الأمة من الحبوس في داخل البناية التي أعدّها لها الاستعمار، ولكنّها حتّى الآن لا تزال ضمنَ السور الكبير الذي يحيط ببنايات السجن." (خطاب العودة، 2 آذار 1947)
ومنها، الإهتمام بمطلع الخطاب وخاتمته، فللأوّل إيحاءُ "انتبه"، وللثانية تردّدُ الصدى وديمومةُ النداء.
ففي اللاذقيّة 26 ت2 1948 يبدأ بـ: "أيّها القوميّون الاجتماعيّون، إنّ المجتمعات البشريّة الحيّة ليست كتلاً من ماء، ليست قطعًا ماديّة تستعمل، إنّ المجتمعات البشريّة الحيّة هي قوّةُ حياة فاعلة تثبت وجودَها وحقيقتها بمراميها السامية وبأفعالها المعبّرة عن نفوسها العظيمة السامية..."، وينهي بـ "بهذا الإيمان نحن ما نحن، وبهذا الإيمان نحن ما سنكون، وأنتم تعرفون ما سنكون. وبما نحن وإلى ما نكون، سيظلّ يدوي هتافنا في العالم: تحيا سوريا."
وفي الشوف في 19 ك2 1937، يفتتح بـ"إنّ العراك التاريخيّ هو دائمًا عراكٌ شديد وشدّته على نسبة قيمته؛ ولا يحدث شجار عنيف في التاريخ حول مسائل تافهة، وإنّما يحدث العراك بين جماعات وجماعات من أجل مصالحَ حقيقيّة لحياة الجماعات الكبيرة، ومن هذا العراك ما اختبرتم وما تختبرون وما ستختبرون"، ويختتم بـأيّها السوريّون القوميّون، إنّكم ارتبطتم بعضكم ببعض وربطتم أرواحكم بعضها ببعض لأنّكم تعملون في سبيل المبادئ التي جمعتكم بعضَكم إلى بعض. فابقوا منضمّين متضامنين وكونوا عصبة واحدة أينما سرتم وكيفما توجّهتم".
ومنها، التحفيز الإيجابيّ، فـ" نحن قد وجدنا حقيقةَ الأمة وأوجدنا فوق ذلك مسلكيّةً أخلاقيّة جديدة تكفل جعل هذه الأمة في المستوى من العزّ والشرف الجدير بمن يحمل هذه الأخلاق." (اللاذقيّة في 26 ت2 1948) و"لقد مضى الزمن الذي كانت فيه تسوّى مشاكلُنا ومشاكلُ الشرق الأدنى من قبَل إرادات أجنبيّة تهمل مصالحَنا وإرادتنا، وقد جاء الزمن الذي بَعث فيه الحزب السّوريّ القوميّ قوّتنا حتّى أصبح لإرادتنا وزنٌ في كلّ مشكل من مشاكلنا ومن مشاكل الشرق الأدنى عمومًا." (صافيتا في 17 ك1 1936) و"الفلاّحون والملاّكون والصنّاع والعمّال يرون في مبادئ الحزب السوريّ القوميّ تحقيقًا لمصالحَ كلِّ فئة من فئاتهم ضمن المصلحة العأمة التي تؤمّن الكلّ... أيّها السوريّون القوميّون، أنتم الحزبُ الوحيد في سورية الذي انبثق من قلب الشعب ليخدم المصلحة العأمة، ويلغي الإمتيازات المدنيّة التي استعبدت الشعب لأغراضه، وقتلت شخصيّة الأمة في سبيل مصالحها الشخصيّة. أنتم القوّة الوحيدة في الوطن التي لا تعمل لحساب هذه الجماعة أو تلك الجماعة بل تعمل لخير الأمة ومصلحة الدولة. أنتم القوى الكامنة في البلاد الآخذة في الخروج من مكامنها لتغيّرَ مجرى التاريخ." (صافيتا 17 ك1 1936) و"إنّ فيكم قوّة إذا فعلت غيّرت مجرى التاريخ" (الكورة صيف 1937)
ومنها، توجيهُ الكلام بصيغة المخاطَب، وفي ذلك جذب للجمهور إلى داخل الخطاب، ليكون منخرطًا فيه، جزءًا منه، متفاعلاً معه، لا مجرّد مستمع خارجيّ. "إنّكم قد أصبحتم قوّة بالفعل. وإنّ لهذه القوّة التي تمثّلونها، وهي خطيرة، شأنًا عظيمًا في تقرير المصلحة العأمة التي هي مصلحة كلّ واحد منكم." (خطاب الشوف، 19 – 1 – 1937) و"إنّي قد دعوتكم إلى القوميّة لنتّحدَ ونصبحَ قوّة فعّالة فلبّيتم الدعوة، وها نحن قد أصبحنا هذه القوّة التي تخشاها الرجعيّة من الداخل وترهبها القوّات الطامعة من الخارج. وإنّي أدعوكم الآن إلى الدفاع عن مصالح حياتنا القوميّة والوطنيّة ولست أخالكم إلاّ ملبّين، فهل أنتم مستعدّون؟" (خطاب صافيتا في 17 – 12 – 1936) و"عليكم أن تبرهنوا أنّ هذا الشعب الذي تنتمون إليه شعبٌ تعيش فيه المبادئُ السامية، لا شعب تتبدّل فيه المبادئ كما تتبدّل الأزياءُ ولا يميّز بين الصحيح والفاسد، لأنه مطلوب منكم أن تبرهنوا على أنّكم أمة حيّة لا قطيعٌ يُساق بعصي." (خطاب الكورة في صيف 1937) و"إنّ الأمة السوريّة بأسرها، إنّ قضاياها كلَّها إنّ مصيرها مربوطٌ بخفقان قلوبكم ودوران دمائكم ومتانة أخلاقكم وإيمانكم..."؛
دفعةً واحدة ومن دون انقطاع، ينهمر الخطاب السعاديّ، وفي كلّ مرّة، فكرًا حسّاسًا وعاطفة واعية!
8
إذا اجتمع رأيا أرسطو وشيشرون حول "الحكمة العمليّة" التي يجنيها المجتمع من الخطابات المكتنزة المضمون، فإن سعاده بلا شكّ، كان ولا يزال، من أخصب الزارعين. فلسعاده قدرة، لعلّها فطريّة، على طرح الأفكار وإعلان المواقف السياسيّة في خطبه توازيًا مع إشعال الوجدان بلغة أدبيّة.
مثلاً، وفي موقف من صفقات التابلاين وخطط الصهيونيّة في احتلال فلسطين وتسلّط الإقطاعيّات والرأسماليّات الناشئة، يعلن سعاده: "ما أشدَّ الأباطيل ظلمًا وما أخبثَ التنّين الذي ننحدر لمنازلته ولسحقه. إنّه تنّينٌ عديدُ الرؤوس كثيرُ البراثن والمخالب وحادُّ الأنياب. إنّه تنّين عظيمٌ جدًّا. إنّه تنّين مزدوِجٌ مشترَكٌ من فسادِ الذلّ في أجيالٍ عديدة مرّت في هذه الأمة، ومن إرادات أجنبيّة تتحالف مع الذلّ والفساد... إنّها أنابيب النفط التي يبيعُها الفساد للأجنبيّ بيعًا، أنابيبُ ما أشبه انسيابِها في أراضينا بتلك الأفاعي التي تنساب نافثة سمومَها! إنّها الرشوات تعطى لأبناء الذلّ لورثة الظلم في الأمة ليعلنوا ما لا يريد الشعب إعلأنه، لا ليعلنوا إرادة الشعب، بل ليعلنوا إرادة الأجنبيِّ المفروضةَ على الشعب لذَلّه. إنّها اليهوديّةُ الجديدة، المتصهينة، الزاحفةُ تحت سلاح إنترناسيونيّ عظيم واسع! إنّها الاحتكارات الخصوصيّة في شعبنا! إنّها الإقطاعات التي تقيم من بعض الناس سادة يستعبدون الكلّ! إنّها رأسماليّة مادّيّة خانقة تقطع العامل والفلاّح في هذه البلاد الذي هو كلُّ البلاد وكلّ الشعب!" (البقاع الأوسط، 23 نيسان 1948)
ولشدّة ما يكثّف سعاده المعنى والشعور في خطبه، يتحوّل الكثير من عباراته إلى عابراتٍ للمكان والزمان:
"لا يمكن أن نصل إلى مصير صحيح إلاّ بقضيّة واحدة كلّيّة لا بقضايا مبعثرة لا رابطة بينها"؛ "إنّ القوّة النظاميّة مهما كانت صغيرة أفعلُ بكثير من الجماهير التي لا تجمعُها إرادة واحدة في الحياة ونفسيّة واحدة وبناء مناقبيّ واحد"؛ "إذا زحفنا يومًا إلى فلسطين، فلن نكون زاحفين لاسترجاع أرض مقدّسة، لا عملاً بإنجيل ولا قرآن أو كتاب حكمة... نحن سائرون إلى الحرب نسير واعين مدركين أنّنا سائرون نحو النصر لأمة واحدة، لشعب واحد..."؛ (الطلبة) "إنّ الحياة كلّها وقفة عزّ فقط"؛ "إنّ أزكى الشهادات في الحياة هي شهادة الدم"؛ "نحارب حربَ الأخ لأخيه من أجل عزّه وشرفه. ولكنّنا لم نقصد قط أن يكون الخيرُ الذي نقصدُ إقامتَه لنا ولهم جميعًا، لم نقصد قط أن يُحرم أحدٌ منه..."؛ "نعمل بهدوء ونعمل باستمرار دون ضجيج ولا غوغاء ولا تبجّح لإقامة الأسس الصحيحة التي بُنيَت عليها أمجاد هذه الأمة العظيمة الكريمة"... (بشامون) "ليس عارًا أن ننكب، ولكنّه عار إذا كانت النكبات تحوّلنا من أشخاص أقوياء إلى أشخاص جبناء"؛ "إنّ طريقنا طويلة لأنها طريق الحياة، إنّها الطريق التي لا يثبت عليها إلاّ الأحياء وطالبو الحياة. أمّا الأموات وطالبو الموت فيسقطون على جانبها".(خطاب الكورة صيف 1937) "قد تسقط أجسادنا، أّمّا نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود ولا يمكن أن تزول"؛ "ليس عندنا شيءٌ مكتوم وشيء معلَن لأنّنا لم نخفْ قط من إعلان حقيقتنا وما ظننّا أنّ الهربَ والخوف من إعلان الحقيقة يوصلان إلى تثبيت الحقيقة"؛ "نحن لا نحمل حقدًا حتّى على المواطنين الذين لطمونا بينما نحن نحارب لإنقاذ المجتمع من الفساد وإنقاذ حياة الأمة وشرفها"؛ "بليّتنا العظمى للممخرقين هي في أنّنا نقبل أنّ لكلّ أجل كتابًا، وفي قبولنا أنّ هذا الأجلَ هو أجلُ الأمم والقوميّات، وفي أنّ تعاليمَنا هي كتاب القوميّة الاجتماعيّة"؛ (اللاذقيّة في 26 ت2 1948)
9
... ولطالما كان سعاده كسّارَ قواعدَ بالية!
إحدى القواعدَ التي كسرها سعاده وبرهن عقم ادّعائِها، ولا يخلو كتابٌ مختصّ بالخطابة إلاّ ويشيد بها أو يشدّد عليها، هي قاعدةُ تفصيل الكلام على قدّ المستمع الذهنيّ وقدره الاجتماعيّ المفترَض. فسعاده لا يستخفّ بمستمعيه، مهما كان مستوى تحصيلِهم العلميّ أو دخلِهم الماليّ أو مكانِ ولادتهم أو إقامتهم؛ لا يستخفّ بإمكانيّاتهم الإنسانيّة العقليّة والروحيّة والعمليّة والعاطفيّة، ولا يستهين. لذا، هو المحترَم، إنّما، أولاً، هو المحترِم!
والحال، فسعاده يخاطب الأمة مجتمعة كوحدة على مستوى عالٍ من الوعي والشعور من خلال مخاطبته لعشراتٍ أو مئات أو آلاف في مكان وزمان معيّنين. فكلمتُه في جمع من طلاّب الجامعة الأميركيّة في 16 أيّار 1949 لا تقلّ عمقًا عن محتوى كلمته في مؤتمر المدرّسين القوميّين الاجتماعيّين المنعقد في 17 تمّوز 1948، وخطابه في جلّ الديب لا يقلّ جدّيّة عنه في صافيتا، وخطابه في الكورة لا يقلّ خطورة عنه في برج البراجنة، وخطابه في مدينة اللاذقيّة عنه في قرية بشامون، وكذا في تلكلخ والشوف وبيت مري والبقاع الأوسط ودمشق ورأس بيروت والحدث وحلب وعين زحلتا وجزّين واللائحة تطول!
بكسر هذه القاعدة، يجسّ المستمعون الصدق في سعاده وخطابه، ويلتقطون فيه الأمانةَ والإلتزام، حتّى وإن لم يفهم كلّ فرد منهم كلّ تفصيل فكريّ؛ ويفهمون الأطروحات الفكريّة والاتّجاهات الأخلاقية – السياسيّة العأمة، حتّى وإن لم يشعر كلّ فرد منهم بكلّ إضاءة عاطفيّة.
نتيجة هكذا خطاب غنيّ فكريًّا وصادق عاطفيًّا، انجذب الميسورون كما والفقراء إلى سعاده وانتموا إلى حزبه، والطلاّبُ كما والمزارعون، والمتعلّمون كما والأمّيّون – الذين سرعان ما امتلؤوا معرفةً بفضل العقيدة والحياة الحزبيّة السعاديّة. وما كان بالإمكان جذبُ هذا المدّ الواسع من خلفيّات مناطقيّة ودينيّة وطائفيّة واقتصاديّة وتربويّة مختلفة من دون إكسير عاطفكريٍّ يحرّك كلَّ ما في الحضور من إمكانيّات التفاعل والتجاوب واكتشاف الذات والثقة بالقائد.
قاعدةٌ أخرى كسرها سعاده، هي إيلاءُ الجمهور أهمّيّةً في تحديد توقّعات الخطاب، وبالتالي تأثير المتلقّي المسبق على الخطاب، فـ"لدى الجمهور ايضاً توقّعات وحاجات على علاقة بما يجب أن تقولَه حول الموضوع. حاجات الجمهور وتوقّعاتُه حول خطابك يأتي من الخلفيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والنفسيّة للمستمعين" (ص41، Speechmaking, Rhetorical Competence in a Postmodern World, J. Michael Sproule).
غير أنّ دراسة خطب سعاده، تظهر أنّ التفاته إلى قولبة خطابه بما يتلاءمُ وتوقّعات جمهوره ضعيف، كي لا أقول معدومًا. وإنْ هذا سلبيّ قياسًا إلى أكاديميّات الخطابة، فإنّه إيجابيّ لسعاده القويّ بانسجامه مع ذاته، هو الآتي بعقيدة جديدة ودستور جديد وتفكير قيَميّ جديد، وهو الجاعلُ بجديده من المفاجأة والصدمة احتمالاً أكبر من متوقَّعِ التقليد ومعهودِ التكرار. وليس هذا بغريب، ففي العمق الفلسفيّ السياسيّ لسعاده، "التعبير" بما فيه من ريادة وصدق وجدّة وتقدّم واستشراف أفعل من "التمثيل" بما فيه من تبعيّة وخداع وتقليد ومراوحة واجترار، و"التعبير" بما فيه من مخاطرة لإحلال الحق أفضل من "التمثيل" بما فيه من سلأمة في أمان الباطل.
صحيح أنّ سعاده يلحظ مناسبةَ الخطاب والحضورَ مدخلاً إلى المضمون، ولكنّ الصحيحَ ايضاً، أنّ لسعاده اتّجاهًا واضحًا، وأمّا أقنيةُ المناسبات وأنهارُها فلإحتضان طوفان الرسالة دفقًا نقيًّا نحو الغاية وبحرها.
... وأخرى كسرها سعاده، هي مراعاة خصوصيّة الجمهور. فسعاده لا يهادنُ في الموقف، بل يجابه، بإحترام طبعًا، ولكن بجذريّة، وفي عقر الدار! إنّ نقضَ مفاهيمَ حفرت في النفس لمئات السنين وتملّكت في العقل وتجسّدت في تقاليدَ وممارسات، يحتاج، على الأقلّ، إلى قوّة مفهوميّة – شعوريّة مضادّة كفيلة بكسب العقول والقلوب معًا لإنتاج مؤسّسات جديدة وتقاليدَ جديدة.
ففي تلكلخ مثلاً، في 18 ك1 1936، حيث العصبيّة العشائريّة جزءٌ من الموروث، يبادر سعاده: "إنّ السيوف المجرّدة التي شهدتُها عندما أقبلت على تلكلخ سيوفٌ لها تاريخ، إنّها سيوف كانت دائمًا تُسَلّ في سبيل نصر أو تغلّب، تغلّب من أجل العصبيّة التي كانت تربط السيوفَ جمعًا واحدًا وسيفًا واحدًا محدودًا بالعصبيّة التي يتوطّد تحتها، إنّها لم تعد للعصبيّة التي كانت تسلّ من أجلها فيما مضى بل إنّها أصبحت تخصّ حركةً يتوقّف عليها مصيرُ أمة، حركة تضمّ رجالاً أكثر عددًا، وإلى جانب هذه السيوف سيوف أخرى تتعانق في سبيل الغلبة، غلبة العصبيّة العأمة التي هي عصبيّة القوميّة السّوريّة...".
ومثلاً، في حلب، مدينة الكواكبيّ، المصلح نعم، ولكن رجل الدّين، يعلن سعاده: "كلُّكم سمع بالقول ‘إنّما الأعمالَ بالنيّات’ أمّا أنا فأقول ‘إنّما النيّاتَ بالأعمال’. شرطُ النيّة أن تترجَم إلى أفعال محسوسة." إلى أن يصل ليقول: "لقد اعتدت أن أكون صريحًا في كلّ المواقف، وفي كلّ النواحي، حتّى إذا سألني أحدهم ما هي نظرتي الدينيّة فأقول ‘كوّنتها من نفسي، وأنا في عقيدتي اجتماعيّ، ولست بمسيحيّ أو محمّديّ’! وما هي ملّتي، ‘سوريّ قوميّ’ أجيب!"؛
ومثلاً، في البقاع الأوسط في 23 نيسان 1948، والبقاع، كباقي المناطق الزراعيّة عأمة، الارتباط الدينيّ فيه قويّ إيمانيّ عميق، والرموز الدينيّة مقدّسة، يطرح سعاده القوميّة الاجتماعيّة بجرأة على الشكل التالي: "أحسنَت المنفّذيّةُ اختيارَ هذا اليومَ لأنه يومٌ فيه مغزى قوميٍّ عميق، هو يوم الإحتفال بمار جرجس أو الخضر ولا يعرف الناس أكثر من ذلك عن رمز هذا اليوم. ولكن ما هو مار جرجس وما هو الخضر؟ إنّه أسطورةٌ فلسفيّة تاريخيّة عميقة جدًّا ومتأصّلة جدًّا في حياة هذه الأمة وفي مثلها العليا... قبل أن يُسمّى بطلُ هذا العيد مار جرجس وقبل أن يسمّى الخضرُ كان يسمّى في هذه البلاد البعلُ، إلهُ الشباب والجمال والقوّة والإنتصار على الأباطيل... إنّه، من بين الآلهة كلِّها، البطل الذي أخذ على عاتقه مهمّةً عظمى هي النزول إلى التنّين الذي يخيفُ الإنسانيّة ليقتلَه ويسحقَ رأسَه. وقد أتمّ البعل مهمّتَه وقتَل التنّين وجاء مار جرجس الخضرُ في عهد المسيحيّة والمحمّديّة يعيدان الصورةَ والمغزى عينَهما... ما أجمل هذا الرمزُ لهذا اليوم، إنّ هذا اليومَ يذكّرنا بالمهمّة العظمى لهذا الدور الرابع في تاريخ هذه الأمة: من البعل الأول، إلى مار جرجس، إلى الخضر، إلى النهضة القوميّة الاجتماعيّة... نحن أمة كم من تنّين قد قتلت... أمّا اليوم فيختلف شأنُ التنّينِ عنه في الماضي، لأنه يرى أمامه اليوم شيئًا لم يكن موجودًا من قبل، يرى الحزبيّاتِ الدينيّةَ تزول وتفسح الطريقَ للنهضة القوميّة الاجتماعيّة المنتصرة! يرى السياساتِ الخصوصيّةَ تتفرّق من أمام الحزب الموحَّد، يرى جيشًا لجبًا تتقدّمه راياتٌ وألوية تلوّح بزوبعة هي رمز دين جديد هو دين الإخاء القوميّ الصحيح والنهوض بهذه الأمة إلى سماء المجد..."!
لطالما كان سعاده كسّار قواعدَ بالية!
10
إذا قبلنا، في تعريف أنواع الخطابة، فكرةَ أنّ "التأجيجَ ينوجد حين: (1) جماعة من خارج مؤسّسات صنع القرار (2) تنادي بتغيير اجتماعيّ SIGNIFICANT (3) وتواجه درجةً من المقاومة من داخل المؤسّسات establishment ممّا يستدعي لردّها أكثر من وسائل الإقناع المنطقيّة العاديّة" (The Rhetoric of Agitation and Control, John W. Bowers, Donovan J. Ochs, Richard J. Jensen, 2nd Ed.، ص 4) فإنّ خطاب سعاده تأجيجيّ بامتياز، لأنّ الحزبَ نشأ حركة سرّيّة ثمّ نما شعبيًّا منظَّمًا من خارج أروقة المؤسّسات المنتدِبة والناشئة عنها، ولأنّ التغييرَ الاجتماعيّ الذي يتوخّى ليس أقلّ من بعث نهضة، ولأنّ ردَّ المؤسّسات التسلّطيّةِ على التغيير المبتغى لم يوفّر ظلمًا وقمعًا وافتراء إلاّ واستخدمَه (في العبارة أعلاه، استبدلتُ كلمة التهييج Agitation التي توحي بتحريك الغوغاء ونشر الفوضى، بالتأجيج). التأجيج بطبيعته يعتمد العاطفة ليؤدّي مبتغاه. وفي حركة عقائديّة، إضافة إلى العاطفة الطبيعيّة، يأخذ التأجيجُ الفكرَ ممرًّا إجباريًّا لمدّ مَن صارع بشحناتٍ للآتي، أو لتحريك مَن استنقَع! إنّ طبيعة معركة سعاده النهضويّة التغييريّة وسطَ حلف استعماريّ خارجيّ – طائفيّ إقطاعيّ داخليّ ساهمت في ألاّ يكون خطابُه إلاّ عاطفكريًّا تأجيجيًّا.
11
يخبرنا مَن استمع إلى سعاده يخطبُ أنّ صوتَه كان قاطعًا من دون لعلعة، ممتلئَ نبضًا من غير تجريح. بلا شكّ! فعند اعتماد الفكر مضمونًا، تضمر مساحةُ الصراخ! ثمّ إنّ الحماسة والتحدّي والثقة والفخر والقوّة هي غير الغضب.
شتّان بين الخطابة والصخب. فالخطابة بصورتِها المثلى تخترق الرهافةَ بقدر ما تستحثّ المدارك، وتحرّض على الفعل بقدر ما تُغْني المشاعر.
ليس لدينا الكثيرُ من التسجيلات المرئيّة و/أو المسموعة لسعاده. ولعلّ شريطَ عودته من اغترابه القسريّ وخطابِه في 2 آذار 1947 هو الشريط الوحيد، وإن المشوَّش، المتاحُ الذي يظهر فيه سعاده خطيبًا. وإنْ تتضارب الآراءُ حول هل الصوتُ صوتُه أم أنّه تسجيل صوتيّ لشخص آخر أضيف لاحقًا إلى الصورة، فالأكيد أنّ حركةَ سعاده الجسديّة تنضح بالكثير: الجبينُ مرفوعٌ والإستقأمة متألّقة ما يوحي بالقوّة والثقة والصدق. الحماسةُ بادية وحركة اليد الحاسمة تعكس كتلةً إنسانيّة متأجّجةَ الأحاسيس، مسكونةً بالعنفوان، إضافة إلى مخاطبته الجمهور برمّته من خلال تحريك الرأس، ما يجعل عبارتَه الخاتمةَ للخطاب - "كنت أودّ أن يتّسعَ الوقتُ لأصافحَ كلاًّ منكم، كلَّ واحد بمفرده وأتعرّفَ إليه، ولكنّ الوقتَ ضيّق. وهذا الوقتُ لا يكفي، ولكنّ عزيمتي اليوم، كما كانت في الماضي، أن أقصدَ مناطقَكم وأزورَكم فيها" - عبارةً خاتمة أمينة صادقة تحمل وقع المصافحةِ الفرديّة لِما لا يقلّ عن 50000، وبعض التقديرات حينها قالت 100000 من المستقبلين والمستقبلات.
من مشاهدة صورتِه، وإن المشوّشة، خطيبًا، يتّضح كم أنّ سعاده، هو بنفسه، عاطفةٌ مجسَّدة. ومن مراقبة حركته، كلُّ الإيحاءِ بعظيم المحتوى.
12
إذا كان قولُ المحامي الأميركيّ الخطيب وليم ج. براين William J. Bryan، منذ قرن تقريبًا: "إنّ خطابَ مَن يعرفُ ماذا يقول ويقصد ما يقولُه هو فكر على نار Thought on Fire"، صحيحًا، وهو كذلك، فخطاب سعاده إذًا معرفةٌ على شمس ولهب!