"الصيف الجاف" فيلم تركي أُنتج في العام 1964 ودارت أحداثه بين آغا تنبع المياه من أرضه ومزارعين تمر المياه في أراضيهم (1). زاد طمع الآغا في المياه فادعى ملكيتها وقطع معظمها عن المزارعين، فأدى ذلك إلى نشوب صراع بينهما كانت نتيجته مقتل الآغا وأحد المزارعين. هذا الفيلم بدأت أحداثه تتكرر اليوم بين دولة المصدر تركيا التي ينبع نهري دجلة والفرات من ضمن حدودها الحالية وبين سوريا والعراق اللذين يمر النهران في أراضيهما.
ينبع نهري دجلة والفرات من أعالي جبال طوروس (2)، الفاصل الطبيعي بين مجتمعي بلاد ما بين النهرين وبلاد الأناضول، وينحدرا باتجاه سوريا والعراق باعثين الحياة والخصب فيهما ومانعين التصحّر عنهما، ثم يلتقيان في شط العرب كأنهما يهنئان بعضهما على بعث الخير والجمال بشعب أجاد استعمالهما خلقا ًوابداعاً وحضارة.
يتكون الفرات بعد أن يلتقي نهري فره صو ومراد صو في حوض ملاطية. يبلغ طول النهر 2330 كلم، يسير منها حوالي 442 كلم حتى يصل الى الحدود السورية الحالية. تقدر طاقة النهر بحوالي 31,7 مليار م3 ينبع 95% منها من جبال طوروس و5% من روافد في سوريا (جدول-1) أهمها نهر الخابور. أما نهر دجلة فمساره أقصر من الفرات ويبلغ 1900 كلم (منها 400 كلم داخل تركيا) لكن طاقته المائية أكبر لكثرة روافده (الزاب الأكبر، الزاب الأصغر، العظيم، ديالة) وتصل الى 49 مليار م3. مصادر مياه دجلة هي 58% من جبال طوروس و12% من جبال زغروس اللذان يقعان تحت السيطرة التركية والايرانية، و30% من روافد في شمال شرق العراق (جدول-1). إذا نظرنا لدجلة والفرات والروافد كمنظومة مائية واحدة فمصادر المياه موزعة بنسبة 72% في تركيا و7,4% في إيران 20.6% في سوريا والعراق.
معدل تدفق المياه موسمي ويختلف من شهر الى شهر. بعد فصل الشتاء تذوب الثلوج من أعالي طوروس وتنحدر مياهها بغزارة الى دجلة والفرات بين شهري أذار وأيار، ومن ثم تشح تدريجياً حتى شهر تشرين الأول قبل البدء بالتصاعد ثانية (3). هذا التدفق الموسمي جعل دول النهر تبني السدود لتخزين المياه واستعمالها للري في موسمي الصيف والخريف الزراعيين ولتوليد الكهرباء.
فكرة استغلال مياه دجلة والفرات بدأت منذ أيام اتاتورك في العشرينات من القرن الماضي بعد ان رسمت معاهدة لوزان في 1923 الحدود السورية-العراقية مع تركيا وايران على منحدرات جبال طوروس وزغروس بدل أعالي هذه الجبال، كما ترسم الحدود الدولية عادة، مما أفقد سوريا والعراق السيطرة على دجلة والفرات وروافدهما وأصبحا تحت رحمة تركيا وإلى حد ما ايران. في 1936 نضجت فكرة استغلال النهرين في تركيا بعد تأسيس إدارة الدراسات الكهربائية التي قدمت دراسة سد كيبان الذي نفذ في العام 1974 على الفرات. هذه الدراسة تبعتها دراسات أوسع وأشمل بعد تأسيس “مشروع جنوب شرق الأناضول”(“غاب، GAP” كما يعرف عالمياً) الذي اقترح إنشاء 22 سداً و19 محطة توليد كهرباء لري 1,7 مليون هكتار وتوليد 7500 ميغاوات من الطاقة الكهربائية (4). كلفة المشروع قدرت بـ (31) مليار دولار أميركي، وستحتاج الى حوالي 17 مليار م3 من مياه الفرات و8 مليار م3 من مياه دجلة (5)وستسبب نقصاً حاداً في دول المصب وخاصة العراق.
أهم هذه المشاريع التي شملها “غاب” هو سد اتاتورك على الفرات الذي يعتبر خامس أكبر سد في العالم، والذي انتهى العمل فيه في العام 1990، ويروي 872,4 الف هكتار ويولد 2400 ميغاوات من الطاقة في تركيا. المشروع الآخر المهم هو منظومة سدي أليسو وجزرة على دجلة الذي سيخزن 10,4 مليار م3 لتوليد 1200 ميغاوات من الطاقة والذي سيروي 121,000 هكتار من الأراضي الحدودية التركية بكلفة 1,68$ مليار. بدأ العمل بهذا المشروع في العام 2006 لكنه توقف في كانون الأول 2008 بعد اعتراض الجمعيات البيئية والاجتماعية وضغطها على حكوماتها الألمانية والنمساوية والسويسرية التي ألغت في تموز 2009 الضمانات لتمويل المشروع. أهم أسباب الإلغاء هو تسبب بحيرة السد بفيضان قرية حسن كاييف الأثرية وإجبار 10000 من السكان المحليين على هجرة منازلهم (6). رغم وقف التمويل الخارجي فتركيا أصرت على اكمال المشروع وانتهى العمل بالمشروع وبدأ التخزين في تموز 2019 ووصل الى 5 مليار م3 في نيسان 2020. أمام هذا الواقع أصبحت تركيا مسيطرة على أعظم مصدري مياه للمشرق السوري-العراقي ومؤهلة لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على المنطقة.
دعا مؤتمر "استعمال المياه الجارية الدولية لغير الملاحة" في 1994 في المادة 5 و6 الى تقسيم المياه المشتركة بالتساوي والمنطق بين دول المصدر والمصب لضمان استمرارية النهر ومصالح الدول المتشاطئة. العوامل التي يجب الأخذ بها بعين الإعتبار لضمان المساوات هي العوامل المناخية والأيكولوجية وحاجة البلدان الاجتماعية والاقتصادية والحاجات الإنسانية للسكان الذين يعتمدون على الحوض. كذلك دعا المؤتمر في المادة 7 الى عدم قيام أية دولة بأية مشاريع مائية تسبب الأذى بدول النهر الأخرى، وضرورة التشاور معها قبل بناء هذه المشاريع (7). الجمعية العمومية للأمم المتحدة أقرت مسودة توصيات هذا المؤتمر في 1997 بالإجماع ما عدا ثلاث دول من بينها تركيا، ولكن لم تصادق عليها إلا 21 دولة من مجموع 35 دولة يجب أن تصادق عليها لكي تدخل في اطار الإتفاقات الدولية. في 17 آب 2014 وبعد انتظار دام 17 سنة صادقت الدولة الخامسة والثلاثين على الإتفاقية وبذلك أصبحت الإتفاقية قيد العمل والتحكيم والمرجعية القانونية الدولية (17).
تركيا رفضت هذا القانون الدولي لإتباعها استراتيجية تتلخص بشعار "البترول للعرب والمياه لتركيا"، وباعتبار نهري دجلة والفرات "نهران وطنيان تركيان". جاء ذلك في عدة تصاريح ومواقف اهمها تصريح لرئيس الوزراء تركت اوزال في العام 1988 حيث قال “ادعاء سوريا والعراق بحقوق في مياه تركيا (يقصد دجلة والفرات) هو شبيه بإدعاء تركيا بحقوق في بترول سوريا والعراق. المياه أمر سيادي ويحق لنا ان نفعل ما نشاء فيها، فهي ثروة تركية كما هو البترول ثروة عربية ولن نسمح بمشاركتنا ثروتنا المائية ولا نريد مشاركتهم ثروتهم النفطية”(8). هذا الموقف لم يتغير عملياً بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية ذي الميول الإسلامية إلاَّ في الشكل. المشاريع المائية سارت وتسير حسب خطة “غاب” المرسومة من العلمانيين ودون اي تنسيق مع دول الجوار، فالرئيس التركي رجب طيب اوردغان دشن مشروع سد اليسو العملاق على نهر دجلة في آب 2006 وأكمل بناؤه بتمويل تركي، وبدأ التخزين في 2019. المواقف كذلك لم تتغير في الجوهر فعندما كانت العلاقات جيدة مع سوريا رفض وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، تانر يلديز، في اجتماع مسؤولي البلدان الثلاثة في 3 أيلول 2009 في أنقرة توقيع اتفاق شامل وملزم، ووافق فقط وكجبرة خاطر على زيادة مؤقتة لكمية مياه الفرات المتدفقة الى سوريا إلى 520 م3 في الثانية لمدة شهرين، وادّعى ان تركيا تعطي “اكثر من التزاماتها”.
الجدير بالذكر ان تركيا تاريخياً تقاسمت المياه المشتركة مع جيرانها الآخرين فوقعت معاهدات مع روسيا في العام 1927 قسمت فيها استعمال المياه على أربعة أنهر مشتركة بين البلدين (كورو، كورا، اريا، اراس)، ومن ثم وقعت معاهدات اخرى في السبعينات. الشيئ نفسه تكرر مع اليونان في العام 1950 عندما وقع البلدان معاهدة لوزان.
عندما يسال الأتراك عن سبب عدم تكرار هذه المعاهدات مع جيرانهم المسلمين يقولون ان الأنهر بين تركيا وروسيا واليونان هي أنهر دولية لأنها تفصل تركيا عن البلدين الآخرين، بينما دجلة والفرات نهران “عابران للحدود” ولا يشكلان حدوداً فاصلة!(9)، لذلك فهم يعتبرونهما نهرين تركيين، ويرفضون توقيع أية معاهدة طويلة المدى تلزمهم بنسبة معينة من المياه. هذه البدعة التركية نقضها مؤتمر "استعمال المياه الجارية الدولية لغير الملاحة" التي صدقت على توصياته الأمم المتحدة في 2014 وهي توضح انه "لا يوجد اي اختلاف جوهري حول مفهوم الانهار الدولية والانهار العابرة للحدود".
لمواجهة هذا الواقع حاولت حكومتا العراق وسوريا وقف العمل في هذه المشاريع المدمرة لشعوبها واقتصادها ولكن دون أية نتيجة مهمة حتى الآن. عراق صدام حسين تفرغ في الثمانينات لحربه العبثية مع إيران التي عمقت خلافه مع سورية حافظ الأسد فاعتمد على تركيا اقتصاديا لتصدير النفط عبر المتوسط، ولم يكن في موقع يستطيع فيه مجابهة اي من المشاريع التركية. وما كادت تنتهي حرب إيران، حتى شنَّ حرباً عبثية أخرى على الكويت في التسعينات ادت الى اضعاف جيشه وفرض عقوبات قاسية همشت العراق كبلد، ومن ثم جاء الغزو الأميركي (2003) وتبعته الإنقسامات المذهبية والعرقية التي شلت العراق كلياً وسمحت لتركيا بالإستمرار بمشاريعها دون اي مقاومة عراقية تذكر.
سوريا من جهتها حاولت منفردة مواجهة المارد التركي في الشمال المتحالف مع العدو الإسرائيلي في الجنوب. في العام 1987 وقع البلدان "بروتوكولاً امنياً" حصلت سوريا بموجبه على وعد تركي بضخ 500م3\ الثانية من الفرات في مقابل الأمن على الحدود بين البلدين. هذا الوعد لم يكن كل ما تريده سوريا التي سعت الى اتفاق ملزم ومع ذلك فالرئيس التركي، سليمان ديميريل، حاول التهرب من "الوعد" بقوله إنَّ "القرار التركي باعطاء سوريا 500 م3 كان عشوائيا". هذا الاتفاق خاضع للمزاج التركي ففي 1990 قطعت تركيا مياه الفرات عن دول المصب لمدة شهر لتعبئة بحيرة أتاتورك، فزادت سوريا دعمها لحزب العمال الكردستاني الذي حاول تخريب بعض السدود وتأخير العمل في بعض المشاريع. هذه الإستراتيجية السورية لم تنجح على المدى البعيد وأًجْبرت سوريا على ترحيل عبدالله اوجلان، زعيم حزب العمال، لتفادي حرب غير متوازنة مع تركيا في العام 1998. سوريا ايضا حصلت على بعض الدعم العربي عبر الجامعة العربية في التسعينات لكن دون اي تاثير يذكر على المشاريع التركية.
بعد تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم في سوريا وغزو اميركا للعراق في العام 2003، وجدت سوريا نفسها مطوقة من كل الجهات ومهددة بعدوى التقسيم الطائفي والعرقي السائد في العراق، فبدأت بتمتين العلاقات السورية التركية ووقعت في العام 2004 اتفاقاً للتبادل التجاري الحر، وتبعها تأسيس مجلس استراتيجي والغاء تاشيرات الدخول بين البلدين حتى تخطى التبادل التجاري بين البلدين الملياري دولار في 2009، ولكن كل هذا لم يجدي نفعاً في اجبار تركيا على توقيع اتفاق مائي ملزم. بعد 2011 تدهورت العلاقات وانقطعت الإتصالات بسبب الدعم التركي للميليشات المسلحة في سوريا ووصلت الى حد المواجهة العسكرية المباشرة لكن المحدودة في ادلب العام الماضي. العراق من جهته طور علاقته الاقتصادية مع تركيا أيضا بإبرام معاهدة التبادل التجاري البالغة 16 مليار دولار في 2019 ويسعى البلدان الى ايصال التبادل التجاري الى 20 مليار في الأعوام القادمة!، وجل ما حصل عليه العراق عندما لوح بإلغاء هذه المعاهدة، حسب السيد حسن الصفار معاون مدير المعهد الوطني في إدارة الموارد المائية في وزارة الموارد المائية، هو ادراج جملة في وثيقة المعاهدة تقول "إن للعراق حقوقا في مياه نهري دجلة والفرات". بموازاة كل ذلك تستمر المشاريع المائية التركية حسب الخطة المرسومة والتي كان آخرها سد أليسو على دجلة، وتُنفد السدود المتبقية من مشروع “غاب” (5-10%) حسب الخطة المرسومة، وتزداد الكوارث الاقتصادية على الشعبين السوري والعراقي عام بعد عام.
نتيجة لخضوع “البروتوكول الأمني” الذي وعدت فيه تركيا الجانب السوري بضخ 500م3\الثانية لسوريا والعراق للمزاج والإعتبارات التركية السياسية والاقتصادية واعتماد مبدأ تامين حاجات تركيا المائية للري والطاقة أولاً وإطلاق المياه المتبقية أو الملوثة بعد الإستعمال للدول المتشاطئة، يعاني حوض الفرات في سوريا والعراق من حالة يمكن وصفها بالموت البطيء الذي يؤدي تدريجياً الى كوارث اجتماعية واقتصادية جمة. خلال صيف 2008 الجاف وبسبب استخدام مياه السدود لري الأراضي التركية اولاً، هددت المجاعة 300 الف سوري على حوض الفرات بسبب قلة الأمطار ونضب مياه الفرات (11)، ففقدوا أراضيهم الزراعية ونزح قسم كبير منهم الى مخيمات بؤس في حلب ودمشق ومدن الساحل. خلال الصيف الماضي بدأت تركيا بخفض كميات المياه القادمة إلى سوريا الى "أقل من ربع الكمية المتفق عليها" أي 125 م3\ثانية حسب إدارة سد تشرين (ثاني أكبر السدود على نهر الفرات في سوريا) وأضافت الإدارة أن ذلك “سينعكس مباشرة على الثروة البيئية والمنتجات الزراعية وبالتالي سيترك أثره بشكل مباشر على اقتصاد المجتمع ويهدد الأمن الغذائي العام للمواطن”. بالإضافة الى ذلك، فقد وجدت مدينة الحسكة نفسها أمام مخاطر العطش في شهر آب الماضي بعدما أقدمت تركيا على إيقاف ضخ المياه من محطة علوك (في ريف مدينة رأس العين التي تحتلها تركيا) لأسباب سياسية وهددت نحو مليون شخص بالعطش (18).
وضع حوض الفرات في العراق ليس بأفضل حال فهو امتداد للوضع في سوريا. خلال الفترة بين 1990 و2008 وبعد التفاهم السوري-العراقي على ان تكون حصة العراق 60% من 500 م3 (أي 300 م3 في الثانية) المتدفقة من الحدود التركية، انخفض تدفق المياه الى العراق بنسبة 50% من 18مليار م3الى 9 مليار م3
1- ان نقصان كل مليار م3 من المياه يؤدي تقريبا الى نقصان 260 ألف دونم ولذلك كادت خسارة 9 مليار م3 من المياه ان تؤدي إلى أن يخسر العراق 2,34 مليون دونم (5850 كلم2) من الأراضي الزراعية بعد تشغيل سد أتاتورك في 1990 لولا تعويض المياه المحجوبة من بحيرة الثرثار المالحة التي قلصت الخسارة الى 1,3 دونم تقريبا (19). الجدير بالذكر ان مخزون الثرثار لم يدم طويلاً حسب عضو لجنة الزراعة والمياه والأهوار بالبرلمان علي البديري الذي حذر في تموز الماضي من كارثة مائية في المحافظات الجنوبية وقال بان "مستوى المياه اليوم خاصة في نهر الفرات هو دون النصف من مستواه الحقيقي، كما أن الإعتماد الآن بالدرجة الأساس على مخزون حوض الثرثار وبنسبة تصل إلى 50% من الإستهلاك اليومي للمياه، ما يعنى أن هذا الخزان لن يكفينا لفترة طويلة بحال بقاء الوضع على ما هو عليه"21).
2- بسبب قلة التصاريف التي تطلقها تركيا وتقلبها، تردت نوعية المياه الداخلة الى العراق نتيجة الملوحة والمياه الراجعة والسموم اذ بلغت معدلات الملوحة نسبة 1800 ملغ\لتر في 2009 بعد ان كانت بحدود 375 ملغم/ لتر عام 1987 (بينما المعدل الدولي المقبول هو 800 ملغ\لتر). بالإضافة الى الإضرار بالأراضي الزراعية فان ارتفاع ملوحة المياه أدى الى الإضرار بالمشاريع الصناعية ومشاريع تنقية واسالة مياه الشرب. في آب 2015 أطلقت محافظة ذي قار في جنوب العراق تحذيراً من تداعيات تلوث المياه الناجم عن انخفاض مناسيب نهر الفرات، وأشارت إلى ان أكثر من 35 قرية كبيرة في أهوار الناصرية لحقتها الأضرار من انحسار المياه (19).
3- في 2018 حظرت الحكومة صناعة الأرز والذرة لكثرة استهلاكها للمياه "ولإعطاء الأولوية لمياه الشرب والصناعة والخضروات" مما دفع الكثير من المزارعين الى هجرة أراضيهم.
4- الضرر الأكبر يصيب 7 محافظات جنوبية ، أي اكثر من 4000 قرية يسكنها أكثر من 5 مليون نسمة. ان شح المياه عن هؤلاء السكان سيضطرهم الى "ترك الزراعة والري والهجرة الى المدن والمراكز الحضرية الأخرى وما ينتج عنه من مشكلات اقتصادية واجتماعية وديموغرافية ونفسية تضع أعباء كثيرة على اقتصاديات البلد”(19) . خلال الصيف الفائت تعرض مربو الجاموس في محافظة ذي قار لخسائر مادية كبيرة خلال نتيجة تعرض قطعانهم للهلاك والأمراض مما اضطرهم إلى النزوح القسري من مناطقهم إلى المحافظات والمناطق المجاورة (19).
5- تأثر محطات الطاقة الكهربائية في سد القادسية وغيرها نتيجة انخفاض منسوب المياه، حيث مجمل ما تنتجه هذه المحطات لا يشكل اكثر من 40% من مجموع حاجة العراق للطاقة الكهربائية.
المصير الذي ينتظر نهر دجلة في العراق لن يكون افضل من توأمه الفرات أثناء وبعد تخزين سد اليسو ب10,4 مليار م3 لتوليد الطاقة وبعد تشييد سد جزرة ‘القاتل‘ (كما يصفه أهل العراق)، الذي يقع على بعد 45 كلم جنوب سد اليسو و20 كلم شمال الحدود السورية-العراقية، لري اكثر من 121,000 الف هكتار. هذا المصير كادت بوادره تظهر في صيف 2019 بعد ان بدأت تركيا بتخزين المياه في بحيرة سد أليسو في تموز لولا السيول والأمطار الغزيرة الغير-اعتيادية التي ملأت الخزانات والسدود العراقية شتاءً وأمنت التخزين الكافي للبلاد للإستفادة منه صيفاً. الصيف الفائت اختلف الأمر فقدّر خبير استراتيجيات وسياسات المياه في جامعة دهوك رمضان حمزة إن "مستوى المياه في نهر دجلة كان 600 م3 في الثانية، وبعد بناء تركيا سد إليسو انخفض الى ما بين 300 و320 م3 في الثانية" (22). من الأرجح ان هذا المعدل من التدفق سيستمر الى ان تنتهي تركيا من تعبئة 5 مليار م3 المتبقية من طاقة السد ومن بناء سد الجزرة للعراق في 3-4 سنوات القادمة.
بعد الإنتهاء من تعبئة سد أليسو وتشييد وتشغيل سد جزرة في 2024 تقريبا، يتوقع الخبراء ما يلي:
رسم بياني (1) – تدفق دجلة على الحدود العراقية قبل وبعد سدي أليسو وجزرة (12)
1- سينخفض متوسط التدفق السنوي المتوقع إلى حوالي 119 م3/ ثانية أي انه سينخفض الى 22% من متوسط التدفق السنوي للثلاثين سنة الماضية (553 م3/ ثانية) الذي يظهره رسم بيان (1) أدناه. الجدير بالذكر ان معدل التدفق سيكون بمستوى او اقل من "التدفق البيئي (60 م3/ ثانية)" لمدة 5 شهور حسب رسم بيان (1)، وهذا عملياً سيخرج سد الموصل من الخدمة.
2- سيبلغ معدل التدفق التراكمي للعام بأكمله في حوالي 4.6 مليار متر مكعب أي أكثر بقليل من ما يسمى بـ “المخزون الميت” في سد الموصل وتمثل 42% من طاقة تخزين السد التي تصل الى 11 مليار م3(21).
- انخفاضٍ كبير في إنتاج الطاقة الكهرومائية، بسبب تـأثر محطتي سـد الموصـل وسد سامراء، اللذان سيتعذر عليهما إمداد المصانع ومحطات ضخ المياه وبقية المؤسسات الأخرى بما تحتاجه مـن طاقـة ضـرورية لتشغيلها.
- ازدياد نسبة الملوحة في حوالي 600-700 الف هكتار من أجود الأراضي الزراعية وخاصة الشمالية، وزيادة الأراضي الجرداء المتصحرة بـ 3 ملايين دونم (7,500 كلم) (19) في الوسط والجنوب حسب الخبراء، سيتسبب بخروج 25-35% من الأراضي الزراعية من الخدمة.
- من الناحية الإنسانية يقدر الخبراء ان نسبة قد تصل الى 5 ملايين عراقي ستضطر الى الهجرة الى المدن او الدول المجاورة طلبا للرزق بسبب شح مياه الشرب والتصحر.
- تتفاقم المسألة وتزداد سوءاً من جانب إيران التي تسيطر على 6 ملايين م3 (15%) من المياه المتدفقة للعراق حاليا، حيث تقوم بدورها ببناء السدود وتحويل الأنهار الى داخل الأراضي الإيرانية على روافد دجلة في الشمال (الزاب الاصغر، ديالة) وعلى نهري الكارون والكلخ في الجنوب قرب شط العرب.
- الإحتمال الكبير لإنهيار السدود التركية بفعل الزلازل فهناك علاقة سببية مؤكدة علميا بين وقوع الزلازل بسبب السدود العملاقة وبحيراتها وعلاقة أخرى بين انهيار السدود بسبب الزلازل في المناطق الناشطة زلزاليا، حسب الخبير طلال بن علي محمد مختار، أستاذ علوم الجيوفيزياء في احدى الجامعات السعودية (24) .
لا بد لنا من التساؤل: كيف سمحنا للأمور أن تسوء الى هذه الدرجة، فيصبح أمننا المائي مهدداً بهذا الشكل؟ ويهدد حياة الملايين من شعبنا معه؟ وهل ما يوحي بوقف هذا النزف ومواجهة هذا الخطر الوجودي على امتنا.؟
قبل عرض الخيارات المتوفرة لا بد من ان نذكر بما نبه له الإستراتيجي الأول في امتنا، عندما حذر في أوائل القرن الماضي من مخاطر عدم سيطرة "الامة السورية" على مصادر ثروتها وحدد حدودها الطبيعية بجبال طوروس وزغروس. انه الزعيم أنطون سعاده صاحب الفكر الفذ الذي اغتالته اعداماً السلطات اللبنانية والسورية في 8 تموز 1949.
اليوم في 2020، بعد 71 سنة على رحيله، ما زالت افكاره تشكل القاعدة التي يبنى عليها الإنقاذ.
لا يمكن لسوريا والعراق مواجهة التهديد التركي بدون صياغة استراتيجية مائية - اقتصادية متكاملة. هذه الإستراتيجية لا تعني فقط تنسيق المواقف قبل اجتماع اللجنة التقنية للمياه بين الدول الثلاث (هذا اذا اجتمعت) او ‘البكاء‘ و‘الصراخ‘ في مواسم الجفاف بل تتعداها الى رسم خطة اقتصادية قانونية بيئية وإعلامية شاملة للدفاع عن وجودنا وحقوقنا المائية.
أولا: تمتين الروابط الاقتصادية بين سوريا والعراق ودول المشرق الأخرى عبر زيادة التبادل التجاري والتعاون في مشاريع الطاقة كتطوير خط أنابيب النفط بين كركوك وبانياس وطرابلس.
ثانيا: انشاء مجلس أعلى للمياه بين البلدين للإشراف على وضع الخطط وتنفيذها والتفاوض مع تركيا كجسم واحد. هذا المجلس يمكن ان يستعين بكثير من الخبرات السورية والعراقية في الوطن والمهجر وان يشمل عدة لجان تقنية تضع الدراسات القانونية والبيئية والتاريخية والإعلامية التي تدعم القضية.
ثالثا: السعي عبر جامعة الدول العربية لقيام جبهة عربية فعالة للدفاع عن المياه العربية في الهلال الخصيب ووادي النيل، وذلك بربط اي تعاون اقتصادي عربي مع دول المصدر بحل مشكلة المياه. مصر هي الأخرى دولة مصب وهي تواجه نفس مشكلة العراق وسوريا مع دولة المصدر أثيوبيا بالنسبة لسد النهضة لذلك فالتنسيق والتحالف معها يخدم مصالح مصر ودول الهلال الخصيب.
رابعا: السعي بجدية للتوصل الى اتفاق على قسمة المياه والموارد الطبيعية الأخرى داخل العراق. ان معظم روافد دجلة (الزاب الأكبر والزاب الاصغر وديالة) تمر في شمال شرق العراق، وبناء اقليم كردستان السدود العملاقة كسد بخمة الذي يخزن أكثر من 10 مليار م3 من الزاب الأكبر قبل التوصل الى قانون لتوزيع المياه قد يؤدي الى صراع عرقي طويل على الفُتات. قد يكون التوصل الى إتفاق صعب المنال لكثرة التدخلات الخارجية لكن ربما يُكتب له النجاح اذا ادرك الجميع وخاصة الأكراد ان البترول والغاز سينضبان خلال 50 سنة والصراع العرقي اذا حصل سيستنزف الجميع وبدون المياه لن يدوم شيء.
خامسا: البدء بحملة اعلامية كبيرة في دول المشرق لتوعية الشعب على المخاطر المحدقة به في حال موت دجلة والفرات. كذلك يجب التصدي لبعض التفاسير المغرضة للأحاديث النبوية التي تجعل الشعب يعتبر موت الفرات ودجلة إرادة الهية ولا يمكن التصدي لها. من هذه الأحاديث قول أبي هريرة: ” قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يحسِر الفرات عن جبل من ذهب))”
سادساَ: التعاون مع الجمعيات البيئية والاجتماعية العالمية التي تعارض المشاريع التركية على دجلة. هذه الجمعيات استطاعت ان تضغط على حكوماتها الأوروبية لقطع الدعم المادي عن مشروع اليسو فأوقف الإتحاد الأوروبي التمويل وجُمد العمل فيه منذ في 2008 كما ذكرنا سابقا لذلك يجب ان لا يستهان بقدراتها التجييرية.
سابعاَ: الإستشمار بالطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية والهوائية داخليا والإبتعاد تدريجيا عن استعمال السدود لتوليد الطاقة واستعمال المياه للري والحاجات الإنسانية فقط. توليد الطاقة يتطلب إطلاق مياه السد في مواعيد لا تتناسب بالضرورة مع متطلبات الري وقد يؤدي ذلك الى هدر للمياه. دول الخليح واسرائيل بدأت تستثمر في الطاقة الشمسية الآن، وسوريا والعراق يمكن ان يفعلا الشيئ ذاته فالمساحات الشاسعة والمناخ الحار يجعلان هذه الطاقة بديلاً عملياً للمياه واستثمار مربح على المدى البعيد.
ثامناَ: تحذير ومقاطعة الشركات الهندسية والبنوك الدولية اذا شاركت بأي من المشاريع المائية غير المتفق عليها بين الدول المتشاطئة حسب القانون الدولي.
تاسعاَ: ربط التبادل التجاري مع تركيا بحل مشكلة المياه فليس من المنطق ان يتهجر شعبنا ويخسر اقتصادنا ملايين الدولارات بسبب قلة الماء ونكافئ الجاني بفتح اسواقنا له ليجني المليارات كل عام. عدم ربط التبادل التجاري بالأمن المائي، يشبه الى حد كبير ما فعلته السلطة الفلسطينية وعرب ما يسمى "الاعتدال" مع اسرائيل عندما قدموا التنازلات وتوقعوا بالمقابل ان تترحم اسرائيل وأميركا عليهم فتعيد الحقوق الفلسطينية المسلوبة، لكن الأمور تدهورت عاماً بعد عام الى ان وصلنا الى صفقة القرن.
عاشراَ: حث الأمم المتحدة على القيام بدراسة ‘حيادية‘ حول ظاهرة وقوع الزلازل في منطقة جنوب شرقي تركيا، ومدى تأثير ذلك علـى سدود الميـاه المقامة فيها. أيضا يجب الضغط على الجانب التركي على عدم القيـام بـإملاء سد أليسو واتاتوك وغيرهما بكامل طاقتهم التخزينية قبل إتمام الأمم المتحدة لدراستها، وذلك خوفاً من إحتمـال تعرضـها لزلزال قوي قد يؤدي على الأرجح، حسب الخبراء، الى انهيارات وتصدعات في السدود وتكون عواقبها وخيمة على العراق (24).
احد عشر: اذا استمر الأتراك ببناء السدود وخاصة سد جزرة القاتل للعراق واستمر التعنت التركي برفض توقيع اي اتفاقات تلزمها على المدى البعيد، فلا بد من تقديم شكوى الى المؤسسات الدولية كمحكمة العدل الدولية ومجلس الأمن. ان توصيات مؤتمر "استعمال المياه الدولية لغير الملاحة" الذي صدقت عليه الأمم المتحدة في 2014 تدعو للتوزيع العادل للمياه وعدم قيام اي دولة بأي مشاريع مائية تسبب الأذى بدول النهرالأخرى. الكاتب والباحث العراقي علاء اللامي تساءل بدهشة عن سبب عدم استعمال العراق لهذه الإتفاقية التي هي مئة بالمئة لصالحه وقال: ” أن هذه الإتفاقية الدولية النافذة تعتبر وبحق سلاحاً فعالاً ومرجعية رصينة وقوية يمكن للدولة العراقية استعمالها والإستناد إليها في دفاعها عن حقوق العراق المائية ومصالحه الحيوية والتي بلغت اليوم خيار الحياة أو الموت بالنسبة لشعب العراق” (17).
اثنا عشر: اذا لم نتفع كل هذه الخطوات فلن يكون للعراق وسوريا أي خيار غير قطع العلاقات بشكل كامل مع تركيا واعتبارها عدواً وبذلك استخدام الدولة والشعب لكل الوسائل المتاحة وعدم استثناء أي خيار مهما كان صعبا للدفاع عن الحضارة والتاريخ والوجود والمستقبل.
أمامنا فرصة وربما الأخيرة لمواجهة هذه الخطر الوجودي فإذا لم نكن بمستوى المسؤولية ونواجه شريعة الـ"غاب" التركية موحدين فنحن قادمون على مشاهد كثيرة من "الصيف الجاف" يتناحر فيها شعبنا على الفتات. هذا وعلى المدى البعيد سيؤدي الى نكبة لشعبنا في الشرق العراقي شبيهة بنكبة شعبنا في الجنوب الفلسطيني، وسيتحول هلالنا الخصيب الى هلال نضيب، يصبح فيه العراق واجزاء كبيرة من سورية امتداداً لصحراء الجزيرة العربية.
هذه ليست اقوالاً للترهيب، ففي تقريرين منفصلين للمنظمة الدولية للبحوث ولمنظمة المياه الأوروبية هذا العام استنتجوا فيهما موت نهري دجلة والفرات في العراق في العام 2040 بسبب السدود التركية (15). كذلك فالعالم الياباني، أكيو كيتوه، من معهد متيولوجيكل للأبحاث في اليابان، الذي يدرس تحولات الطقس وتأثير السدود التركية، توقع زوال "الهلال الخصيب القديم" في هذا القرن "والعملية قد بدأت" (16).
———————————————————————————————
ملاحظة: هذا البحث كان قد وضعه سابقاً الباحث راجي سعد، تحت عنوان: من هلال خصيب إلى هلال نضيب، ثم عاد وحدّث معطياته مشكوراً لنشره على منصّة سيرجيل.
المصادر:
FacebookTwitterLinkedInTumblrPinterestRedditمشاركة عبر البريدطباعة