يتسع عنوان (الدين والدولة) لبحث طويل ولجوانب متعددة من البحث لا يتسع لها محال هذه المقاربة لذلك سوف نقتصر على مناقشة مقولة شائعة حول الاسلام والدولة. وهي القول بأن (الاسلام دين ودولة) والحق ان هذه المقولة ليست قديمة بل هي مقولة مستحدثة شاعت إبان انهيار الدولة العثمانية وسقوطها أواخر القرن التاسع عشر وأوئل القرن العشرين وذلك كاساس نظري لمشروع استعادة الكيان الاسلامي السياسي. وهو اتجاه بين عدد من الاتجاهات في الاجابة على سؤال:
ما العمل في مواجهة الواقع الناجم عن انهيار الكيان السياسي للمسلمين؟
لقد نشأت ثلاثة اتجاهات رئيسية في الاجابة على هذا السؤال :
احدها اتجاه الدعوة العلمانية وهو الاتجاه الذي اخذت به الدولة التركية التي كا نت مركز الاميراطورية الاسلامية.
الاتجاه الثاني وهو يناقض الاتجاه الاول وهو الدعوة بعودة المسلمين الى دينهم اي الى نهضة تستند الى احكام الاسلام وقواعده في اقامة نظام جديد للاجتماع الاسلامي يبتعد كليا عن النظم العربية العلمانية.
والاتجاه الثالث : الذي ذهب الى النزعة الانتقائية في الدعوة الى نهضة ترتكز على القواعد الاسلامية بعد اصلاحها وعلى الأخذ من الانظمة الغربية بما لا يتنافى مع القواعد الاسلامية.
وشاع بين مفكري الاتجاه الثاني وبعض مفكري الاتجاه الثالث بأن الاسلام ليس ديناً وحسب وانما هو دين ودولة في آن وتعاظمت هذه المقولة بعد نشوء الاحزاب الاسلامية التي نادت بالعودة الى دولة الخلافة.. ولكن هذه المقولة لم تقف عند الفريق القائل بعودة الخلافة بل تجاوزته الى القائلين باقامة دولة اسلامية ولو بصورة اخرى غير صورة الخلافة كالجمهورية الاسلامية مثلاً.
الى ماذا يستند القائلون بالدولة الاسلامية..؟
انهم يستندون بذلك الى كون الاسلام عقيدة وشريعة في آن، وان حكام الاسلام لا بد من تطبيقها وان تطبيق الشريعة أي احكام الاسلام لا يمكن اتمامها الا باقامة نظام ..أي دولة اسلامية تقوم على تطبيق هذه الاحكام ونحن بدورنا نوافق على ان الاسلام عقيدة وشريعة ولكننا لا نوافق على ان الاسلام دين ودولة فالاسلام دين ودين فحسب حتى لو كان يتضمن الشريعة وهو اي الاسلام شأن الهي منزل اما الدولة فيه شأن بشري يقيمة المجتمع وتظل الدولة شأناَ بشرياَ حتى لو تضمنت قوانينها بعض الشريعة او كل الشريعة الا ان هذا لا يخرج بها عن كونها انجازا بشرياً خاضعاً للتغيير والتبديل والتطور.
ان تطبيق بعض الشريعة الاسلامية او كل الشريعة لا يخرج الدولة عن كونها صيغة بشرية لا قداسة لها وفي أحسن الحالات فانها لا تسمى دولة اسلامية – اي دينية . ولكن يمكن تسميتها بدولة المسلمين.
والدولة التي تتضمن بالضرورة مفهوم السلطة لا بد لها من شرعية.. وتطبيق بعض الاحكام الاسلامية او كلها لا يمنح الدولة اي السلطة شرعيتها وانما تأتي شرعية الدولة من الاتفاق عليها اي من اختيار المجتمع لها.
ان كون الدين مصدراً من مصادر التشريع في الدولة لا يخرج بالدولة عن كونها مدنية وليست دينية.. نعم تخرج الدولة عن كونها مدنية عندما يتولى امور الحكم والتشريع فيها طبقة من المجتمع تدعى لنفسها سلطة الهية دينية خارج ارادة المجتمع ومثل هذه الدولة او السلطة عرفتها المجتمعات البشرية وسميت السلطة باسم الحق والالهي..
اننا ننفي ان يكون في الاسلام سلطة لأحد عى أحد باسم الحق الالهي فالناس سواسية في الحقوق والواجبات ولكي يكون بعضهم في موقع السلطة وبعضهم في موقع الرعية فهذا امر يحدده العقد الاجتماعي بين طرفين احدهما المجتمع والطرف الثاني هو افراد من هذا المجتمع يتولون شأن السلطة فيه بناء على وكالة من الطرف الاول.. فالسلطة لا يمكن ان تكون الا منتخبة ومحددة الصلاحيات.
بين سلطتين احداهما إسلامية (بمعنى انها تطبق احكام الاسلام ولكنها جاءت بواسطة انقلاب عسكري.. والثانية مدنية غير دينية ولكنها جاءت عن طريق الانتخاب الحر أيهما تكون السلطة الشرعية...
الجواب ان الثانية هي السلطة الشرعية الواجبة الطاعة.. ان السلطة الاولى ولو كانت اسلامية فلا شرعية لها ولا تجب طاعتها.
ذلك لأن السلطة الثانية تتضمن العقد الضروري بين الحاكم والمحكوم بينما الاولى تنتقد هذا العقد وبالتالي لا شرعية لها.
ان من بين أهم ما ينقص المسلمين لكي يتقدموا كما تقدم الغرب انما هو شرعية السلطة لا اسلاميتها.. فعندما تكون السلطة منتخبة بالوسائل المشروعة تكون اذ ذاك تعبيراً عن المحتوى الروحي والثقافي للأمة بما فيه المحتوى الاسلامي بوصفه مكونا رئيسيا لمحتوى الامة الثقافي والروحي.
ان تاريخنا العربي والاسلامي لم تكن تنقصه انظمة الحكم الاسلامي ولكن كانت السلطة فيه تفتقر الى الشرعية.. اي الى كونها سلطة منتخبة. وعليه فان على دعاة الاصلاح في الاجتماع السياسي العربي والاسلامي الدعوة الى اقامة انظمة سياسية شرعية أي منتخبة من قبل الشعوب اما محتوى هذه الانظمة من الزاوية العقائدية بين ان تكون اسلامية او علمانية فانه شأن آخر تحدده ارادة الشعوب.
اما الدعوة الى اقامة الدولة الدينية فهي دعوة الى الدولة المستبدة والاستبداد الديني هو اخطر انواع الاستبداد فهو يضفي على هذا الاستبداد قداسة الدين نفسه فيصبح الخروج على سياسة السلطة خروجاً على الدين نفسه وهذا ما لا يستقيم مع بشرية السلطة وكون سياسيتها عرضة للخطأ والصواب,
بالتطرق الى الواقع السياسي والاجتماعي في لبنان فنحن في نظامنا السياسي لسنا في دولة دينية كما أن نظامنا السياسي ليس مدنياً بالكامل انه نظام علماني طائفي في آن واحد.
ان نظامنا السياسي لا يحتمل فكرة الدولة الدينية حتى بحدها المخفف اي دولة مسلمين او مسيحيين بل لا بد ان تكون الدولة دولة مسلمين ومسيحيين معا اي دولة لا دين لها .. وان يسود فيها نظام المواطنة. ولهذا يستدعي السعي التدريجي لالغاء الطائفية كما ورد في دستور الطائف بحيث يأتي الغاء الطائفية بجرعات محددة تمكن اللبنانيين من تجاوزها دون الاصطدام بها.
واخيراً اود ان أقرر ان التنوع الديني في لبنان يشكل مصدر غنى حقيقي للاجتماع السياسي في لبنان ولكننا رغم ذلك نكاد لا نلمس الآثار الايجابية لهذا التنوع والغنى بالقدر الذي نطمج اليه لا بل يمكن القول ان هذا التنوع كان مصدراً للخوف بسبب الانتظام الطائفي والعلاقة التنافسية بين الطوائف.
ان تجاوز الطائفية السياسية عدا كونه شرطاً لتحقق المواطنة فانه شرط لتحرير الدين نفسه بحيث يغدو الاسلام – وتغدو المسيحية دينا ملهما بهدف السمو بالحياة المشتركة بما ينسجم مع المضامين الروحية والثقافية للاديان السماوية.