1
أحدُ أفضلِ الخطباء في العالم القديم، ديموسثينوس Demosthenes، عمل على صناعةِ نفسِه خطيبًا، إذ، ومن أجل التأثير في المستمِعين – المشاهدين، أخضع نفسَه لتمارينَ رياضيّةٍ قوّت بنيتَه ومظهرَه الضعيفين منذ الصغر، ولطالما قصَد الشاطئَ ليتحدّى الأمواجَ في طغيانِ صوتِه الخطابيّ على ضجيج تكسّرِها، كما التزم كهفًا لفترة طويلة كي يركّزَ على الخطابة التي تَمرّن عليها بفم مليئ بالحصى ليطوّعَ الإلقاء، كما استخدم المرآة لمراقبةِ لغتِه الجسديّة، وصلّت سيفًا فوق أحد كتفيه ليمنعَ نفسَه من القيام بحركة عصبيّة تشدّ بكتفه إلى أعلى.
أشكّ في أنّ سيادةَ أنطون سعاده للمنبر اتّبعت مسار ديموستثينوس!
وعندما يلقي رئيسُ دولة أو وريثُ تيّار سياسيّ أو رئيسُ مجلسِ إدارة شركةٍ خطابًا في يومنا هذا، إنّما يكون في غالب الأحيان ليس إلاّ مسمِّعًا لخطاب كتبه له مساعدٌ أو أكثر، أو قارئًا له بفضل التكنولوجيا الحديثة على شاشات زجاجيّة إمّا مباشرة أمامه أو موزّعة في قاعة اللقاء.
حتمًا، لم يكن سعاده من المستظهرين ولا من قارئي الشاشات!
فسعاده من طينة مَن تنساب كلماتُهم، نابعات من العقل، متلاحقات مع الفكرة، مندفعات نحو الهدف، شلاّلات. والخطابةُ عندُه ليست غاية بذاتها، بل وسيلةَ إقناع وإعلام وإلهام في خدمة قضيّةٍ اعتبرها تساوي وجودَ الأمة. فهو سليلُ زينون وثلاثيِّ سقراط أفلاطون أرسطو، بمواجهة السفسطائيّين، لناحية غائيّةِ الخطابة والتزامِها الخير في القضايا عأمة.
صحيح أنّ المبادئَ المكتوبة وبعضَ المراسلات والبيانات المطبوعة والبلاغات هي عامل اتّصال في حركة عقائديّة منظّمة، ولكنّ الصحيحَ ايضاً أنّ الخطابة، خاصّة في عصر بدائيّ تكنولوجيًّا في مجال الإعلام قياسًا إلى اليوم، تُشكّل الفسحةَ للتعرّف إلى سعاده – الشخص - القائد، وايضاً المدى لمعرفة سعاده – الرسالة - المعلّم. فالخطابة، بتلقائيّتِها المرتجَلة أو بصياغتِها المكتوبة، دليلٌ على جوهر المعدن.
ثمّ إنّ الخطابة عند سعاده عيّنة من الخطاب – المضمون العام، الواحد من حيث دورانِه على محور الفكر – العاطفة، في إنتاجِه الوارد في كتب وبيانات وبلاغات ورسائل ومقالات ودراسات وأدب على مدى 19 عامًا من بعثه للنهضة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة، لا بل ومنذ يفاعته سنوات قبل ذلك. فاهتمام سعاده بالجمع بين الأفكار والعواطف يظهر على مستويين دائمَي الحضور في خطابه: التنظير لهما والنبض بهما. على المستوى الأول، يحرص سعاده على ذكر الفكر والعاطفة مترافقَين متلازمَين متكاملَين. وعلى المستوى الثاني، يزخر كلّ خطاب لسعاده بأطروحات فكريّة ومقولات عقائديّة وأبعاد فلسفيّة كما وبطاقةٍ عاطفيّة جليّة وقويّة. أي أنّ الخطب بذاتها أمثلة حيّة على وحدانيّة الأفكار والعواطف المنظَّر لها من ضمن العوامل الروحيّة في فلسفة سعاده المدرحيّة (الماديّة – الروحيّة).
في خطابه المنهاجي الأول، 1 حزيران 1935، يقول سعاده: "منذ الساعة التي أخذت فيها عقيدتُنا القوميّة الاجتماعيّة تجمعُ بين الأفكار والعواطف... منذ تلك الساعة انبثق الفجر من الليل، وخرجت الحركة من الجمود، وانطلقت من وراء الفوضى قوّةُ النظام، وأصبحنا أمة بعد أن كنّا قطعانًا بشريّة وغدونا دولة تقوم على أربعة دعائم، الحرّيّة، الواجب، النظام، القوّة..."
الأفكار والعواطف! معًا في فاتحة خطاب الفاتحة! فالفكر بلا عاطفة، تجريدٌ ناشف، وأمّا العاطفة بلا فكر فبدائيّةُ غرائز.
2
تتفاعل عواملُ موضوعيّة بأخرى ذاتيّة في تهيئة الأرضيّة الصالحة لإنتاج خطاب سعاديٍّ قوميّ – سياسيّ عاطفكريّ.
من العوامل الموضوعيّة، نوعُ القضيّة التي يحملها سعاده. فالقضيّة عنده حياةُ الأمة السّوريّة أو موتُها، لا بين بين. فلسعاده، "العدم والوجود، العدم والحياة هما شيء واحد عند أساطين الفلسفة والعلم، وإنّما الفارق بينهما هو ظواهرُ الجمود وظواهر الحركة، فالعدم مادّة ثابتة مستترة جامدة، والوجود مادّة متحرّكة مندفعة حيّة. وهذه سورية قبل الحزب السّوريّ القوميّ هي المادةُ نفسُها بعد الحزب السوريّ القوميّ، ولكنّها قبل الحزب جمود، عدم، وبعد الحزب حركة، حياة." (خطاب في قصر آل ثابت في 1 – 6 – 1936)
متى كان الأمر، هكذا، على حدّ الحياة والموت، في أيّ أمر، يتحرّك العقل طبيعيًّا بكلّ طاقته المعرفيّة والعاطفيّة متمسّكًا بالحياة حبًّا وشوقًا وإنتماء. قضيّة بهذه الخطورة، لا تحتملُ إلاّ خطابًا مشْبعًا ثقافة كما واندفاعًا.
ومنها، العلاقة العلميّة بين القوميّة والأمة، أو كما يعبّر عنها سعاده: "كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القوميّ، الشعور بشخصيّة الجماعة، لا بدَّ لأفرادها من فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفِه وطبيعةِ العلاقات الناتجةِ عنه". (مقدّمة نشوء الأمم)
الشعور بشخصيّة الجماعة، إذًا، يرتّب فهمًا للواقع الاجتماعيّ!
ومنها أنّ خطابَ سعاده في مجمله، خطابُ حاجات لا كماليّات، ناريٌّ بوجه النار! عند كلّ منعطف قوميّ خطير، أو محطّةٍ صراعيّة مع قوى الرجعة الداخليّة المتعدّدة الرؤوس، أو مناسبةٍ حزبيّة، أو حالةٍ سياسيّة ضاغطة، يأتي خطاب سعاده ليوضحَ الموقفَ، يحدّد السياق، يكشف المُخبَّأ، يضيء الأبعاد، يذكّر بالمنطلقات، يشدّد على القيَم، يقدّم المفاهيم، يبثّ الثقة، يشدّ أزر، يتحدّى، ويعلن. خطابُ توعيةٌ وتعبئة؛ تثقيف وتثوير؛ تنويرُ عقول وتسليحُ نفوس!
خطاب ناريّ بوجه النار! فكما في الحضارات القديمة حين لم تقتصر الخطابةُ على إعلان الرأي والتوجيه والتأثير، بل، وبغياب المحامين، كانت وسيلة للدفاع عن الذات أمامَ القضاء، كم من مرّة دافع سعاده عن نفسه وأفكاره وحزبه أمام جورِ القضاء المسيَّس، مستعيدًا بذلك مجدَ سقراط في دفاعه الأخير! من الإعتقال الأول في 16 ت2 1935، إلى محاكمة الـ24 ساعة الأخيرة، كم حوّل سعاده قاعةَ المحكمة إلى صفحةِ تاريخ، وقفصَ الإتّهامِ إلى منصّةِ خطابة!
أمّا العوامل الذاتيّة، فمنها مخزون سعاده المعرفيّ والفكريّ والفنّي والأدبيّ، ونشأتُه في منزلٍ وطنيّ سياسيّ مناضل، وتغذّيه من أدبيّات عصر النهضة (البساتنة واليازجيّين وجبران والريحانيّ وغيرهم) وثمّ تثقّفُه في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم السياسة وغيرها، إضافة إلى أنّه بذاته أديب، وإن كانت مساهمتُه الأدبيّة الصرف اقتصرت على قصّتَي عيد سيّدة صيدنايا وفاجعة حبّ. ذلك كلُّه يسهّلُ عليه القدرةَ على التعبير العاطفيّ من دون تعريض المنحى الفكريّ للإهتزاز، كما ومعالجة المسائل الفكريّة من دون تصحُّر!
ومنها، أنّ سعاده العلميَّ المنهجيّ المنطقيّ المفكّرَ الفيلسوف، هو في الوقت نفسه، المتطرّفُ المنحاز الهجوميّ ذو الموقف. وفي هذا، اختزن لمهمّته الدورَ والدافع، أي باللغة الهيغليّة، الفكرةَ والإرادة والشغف! مزيج يشعّ بكيميائه لهبًا داخليًّا متحرّقًا ويحطّمُ بمفعوله جدرانَ الفصل بين الفكر والعاطفة، بين التحليل والإحساس، بين الخلاصة والموقف!
3
في العام 1931، وقبل تأسيسه الحزب السوريّ القوميّ، حدّد سعاده الموسيقى في قصّة "فاجعة حب" "بإطلاقها من كلّ تحديد". وقال: "ليست الموسيقى لغةَ العواطف فحسب، بل هي لغةُ الفكر والفهم ايضاً. إنّها لغةُ النفس الإنسانيّة بكلّ ظواهرها وبواطنها." بعدها بأكثر من عشر سنوات، كتب في "الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ": "إنّي أرى الشِعر، أو على الأقل، الشِعرَ المثاليّ الأسمى، شديدَ الاتّصال بالفكر وإن يكن الشعورُ عاملَه الأساسيّ أو غرضَه، لأنّ الشعورَ الإنسانيَّ ذاتَه متّصلٌ بالفكر اتّصالاً وثيقًا في المركَّب العجيب الذي نسمّيه النفس." و"إنّ الشاعر هو الذي يُعنى بإبراز أسمى وأجمل ما في كلّ حيّز من فكر أو شعور أو مادة... إنّ من أهمِّ خصائصَ الشعر: إبرازُ الشعور والعاطفة والإحساس في كلّ فكر أو في كلّ قضيّة تشملُ عناصرَ النفس..." (تجديد الأدب تجديد الحياة)
غير أنّ اهتمامَ سعاده بالموسيقى والشعر وفهمَه لهما، لا ينحصران في نطاقِ الخاص الذاتيّ، بل يتحرّكان في فضاء نظرتِه الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ؛ نظرةٌ هي في لبّ الموقف من الوجود بأبعاده القيَميّة - الفلسفيّة (الحياة) والعلميّة (الكون) والجماليّة (الفنّ)؛ نظرةٌ هي المحرّكُ للتغيير الشامل، كما في ندائه: "تعالوا نأخذ بنظرةٍ جديدة إلى الحياة والكون والفنّ، وبفهم جديد للوجود وقضاياه، نجد فيهما حقيقةَ نفسيّتِنا ومطامحنا ومثلنا العليا، تعالوا إلى الحرّيّة والواجب والنظام والقوّة، ليس لأنها شعارُ حزب سياسيّ اجتماعيّ، بل لأنها رمزُ فكرِنا وشعورنا في الحياة." (طريق الفكر السّوريّ) لأنّ "من نتائجَ حصولِ نظرة فلسفيّة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ، حدوثُ تغيير في مجرى الحياة ومظاهرِها، وفي أغراضها القريبة والأخيرة قبل كلّ شيء." (من الظلمة إلى النور) فـ"حصول النظرةِ الفلسفيّة الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ يفتح آفاقًا جديدة للفكر ومناحيَ جديدةً للشعور... وهنا نقطةُ الإبتداء لطلب سياسة جديدة وأشكالٍ سياسيّة جديدة ولفتح تاريخ أدب وفنّ جديدين." (من الظلمة إلى النور)
ويؤكّد سعاده، في "الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ" أنّ "التجديدَ في الأدب هو مسبَّبٌ لا سببٌ – هو نتيجةُ حصولِ التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور – في الحياة وفي النظرة إلى الحياة، هو نتيجةُ حصولِ ثورة روحيّة ماديّة اجتماعيّة سياسيّة تغيّر حياةَ شعب بأسره وأوضاعَ حياته، وتفتح آفاقًا جديدة للفكر وطرائقِه وللشعور ومناحيه. (الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ – تجديد الأدب وتجديد الحياة) كما يوضح أنّ "قضيّةَ كونِ الوصال غاية المطالب العليا النفسيّة هي قضيّة قد ماتت في النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ، وحلّت محلّها قضيّةُ كون الحبّ اتّحاد فكر وشعور، واشتراك نفوس في فهم جمال الحياة وتحقيق مطالبها العليا. (طريق الأدب السوريّ)
في الشعر، في الموسيقى، في الأدب، في الحبّ، في كلّ وأيّ نبض من ثالوث الحياة والكون والفنّ، يجد سعاده الفكرَ والشعور معًا في وحدة تفاعليّة تعبيريّة وإبداعيّة! ليس غريبًا إذًا أن يأتي خطابُه مشبعًا بهما، هو المتجذّرُ في الحياة صراعًا، المتّحدُ بالكون فعلاً، والفاعلُ في الفنّ نقدًا وخلقًا.
4
يعرّف سعاده القوميّة، في نشوء الأمم – الفصل السابع، بأنّها "يقظةُ الأمة وتنبّهُها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها"، ثمّ وبعد أسطر يعرّفها مجدّدًا بأنّها "الروحيّة الواحدة أو الشعور الواحد المنبثقِ من الأمة، من وحدة الحياة في مجرى الزمان."
تعريفان، واحد ينطلق في أجواء الفكر: يقظة، تنبّه؛ وآخر يحلّق في فضاءات العاطفة: روح، شعور. لذا، وبناء على هذا الأساس المتين، وفي كلّ مرّة يذكر سعاده فيها "القوميّة"، تختزن الكلمةُ المعنيَين وينفتح خطابُه على البعدين الفكريّ والعاطفيّ. ومتى عرفنا موقعَ القوميّة في الفكر السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، من ألِفه إلى يائه، عرفنا سرَّ الطاقة المتولّدةِ من الخطاب السعاديّ، وسرَّ الحركة التي يستثيرها.
وبالمناسبة، ففي الخطاب المنهاجيّ الأول، ترِدُ كلمةُ قوميّ أو قوميّة 55 مرّة!
5
إذا كان الفكر فكرًا والعاطفة عاطفةً، هكذا، بانفصال تقليديّ، فسرُّ الإندماج بل الإمتزاج بل الوحدةِ العضويّة بينهما عند سعاده، هو في الأخلاق وما فيها من قيَم ومُثل عليا؛ قيَمٌ كالحقّ والخير والجمال ومثُل عليا كالحرّيّة والواجب والنظام والقوّة هي بطبيعتِها معبّأةٌ بتوهّجات الفكر، وفي آن، بحرارة العاطفة. لفظةٌ واحدة منها، وتنفتح أمام القائل والسامع مواضيعُ فلسفيّة عميقة ومتنوّعة استحقّت لآلاف السنين، وما تزال تستحقّ، النقاشَ والتأمّل والتفكير، وفي اللحظة إيّاها، يتحرّك الوجدان وتتتإلى الإنفعالاتُ في الوعي الإنسانيّ ولاوعيِه، وتلتمع الذاكرة العاطفيّة من استفاقة انطباعاتها عن تجاربَ الإنسانيّة من صراعٍ ونضال وإنتاج وإبداع مرّت بها الجماعات والمجتمعات.
يقدّم أرسطو في كتابه فنّ الخطابة Art of Rhetoric اقتراحاتٍ مفصّلةً للخطيب من أجل النجاح في عرض ثلاثة أمور، وكلَّها أخلاقيّة: المصلحة من وراء الدعوة إلى عمل ما، وعدالة أو عدم عدالةِ جهة أو شخص، والقيَم التي تستحقّ المديحَ أو الذمّ. كما يعتبر أنّ اعتماد الخطيب في خطبته إحدى هذه الاتّجاهات الثلاثة لا ينفي إمكانيّةَ وجودِ الاتّجاهين المتبقّيَين في متن الموضوع. وبصرف النظر عن اطّلاع سعاده أو عدمِ اطّلاعه على اقتراحات أرسطو، فإنّ الخطاب السعاديّ غنيّ بالثلاثة.
ولأنّ الأخلاق والقيَم والمثل هي في لبّ خطابِ سعاده السياسيّ – الثقافيّ – الاجتماعيّ، من المبادئ – "قواعد انطلاق الفكر" وحتّى الغاية – "بعث نهضة سوريّة قوميّة اجتماعيّة..." مرورًا بفلسفة دستوره، ونظرته المادّيّة – الروحيّة للوجود الإنسانيّ؛ لأنّ الأخلاق هي في النواة من تلك كلِّها وفي الصميم، فإنّ الخطابَ بمجرّد ولادتِه محكومٌ بالإشعاع العاطفكريّ.
مثلاً، "رأى المتزعّمون أنّ العائلةَ والبيت لا يكفيان في هذا العصر لدعم التزعّمَ فلجأوا إلى كلماتٍ محبوبةٍ لدى الشعب، كلماتِ الحرّيّة والاستقلال والمبادئ، وتلاعبوا بهذه الألفاظ، المقدّسةِ متى كانت تدلّ على مثال أعلى لأمة حيّة، الفاسدةِ متى كانت وسيلة من وسائل التزعّم وستارًا تلعب وراءه الأهواءُ والأغراض..." (الخطاب المنهاجيّ الأول في 1 حزيران 1935) و"نحتمل أن يلطمَنا مواطن نعملُ على إنقاذه، يأبى إلاّ التدهورَ ونأبى إلاّ أن نرفعَه إلى ذروة المجد القوميّ والعزّ الاجتماعيّ." و"نحن جماعة تقول إنّ العيش لا قيمةَ له. إنّ القيمة هي في المبادئ التي تمثّلُ نفوسَ الجماعة. إنّ القيمة هي في المبادئ الأخلاقية والمطامح السامية التي تفيض بها النفوس..." و"قوّتنا العظيمة بإمكانيّاتها لم تجعلْ منّا حزبَ اغترارٍ بالقوّة، ولا حزبَ قوّة من أجل القوّة، بل كنّا دائمًا حزبَ عقيدة وقوّةٍ من أجل غاية خطيرة في الحياة هي غاية الحرّيّة والواجب والنظام والقوّة..." (اللاذقيّة في 26 ت2 1948).
6
غير أنّ الفكر ليس فكرًا والعاطفةَ ليست عاطفةً، هكذا، بانفصال، رغم أنّ الإنسانيّة، ولسنوات تُعَدّ بالآلاف، تعاملت مع التفكير والعاطفة كنقيضين، واعتبرت أنّ العاطفةَ تعطّلُ العقلَ، والتفكيرَ يجمّدُ الإحساس. فالعلم الحديث يقيم الدلائل، يومًا بعد يوم، على أنّهما مكمّلان لبعضهما، بل ضروريّان لنموّ كلٍّ منهما. فبفضل تقنيّات تصوير الرنين المغناطيسيّ العمليّ (fMRI) Functional Magnetic Resonance Imaging الذي يحوّل النشاطَ العاطفيَّ والفكريّ في الدماغ إلى نقط صوَريّة لخلايا الدماغ العصبيّة pixilated pictures of neurons، يتّضح أنّ الدماغ وحدةٌ متكاملة متفاعلة متداخلة متعاونة، وإن كانت جهتُه اليمنى تُعنى بالعواطف والجماليّات والفنون والتزامن والصورة العأمة والسياق، وجهتُه اليسرى تُعنى بالمنطق والحسابات والتحليل والتتابع والتفاصيل والنَصّ.
في هذا السياق مثلاً، يقدّم أنطونيو داماجيو Antonio Damasio في كتابه Descartes’ Error (1994)، نظريّةَ الواسِم الجسديّ somatic marker، وتفيد بأنّ المنطقةَ الباطنيّة الوسطى من القشرة الأماميّة للدماغ البشريّ ventro – medial prefrontal cortex أساسيّةٌ في دمج الإستجابات العاطفيّة (الناشئة من بنى دون-قشريّة subcortical شبيهة بالثدييات كلّها والزواحف) مع التفكير المنطقيّ العالي والمتقدّم (الناشئ في تطوّر لاحق في منطقة القشرة الدماغيّة cerebral cortex). ثمّ إنّ القدرةَ على توقّع المستقبل نابعةٌ من التفكير التجريديّ، واستعراضِ الخيارات. غير أنّ الانتقاءَ من بين الخيارات يستوجب إعطاءَ كلّ خيار قيمة value من خلال ربطه بوضعيّة عاطفيّة. ولأنّنا ندرك الخيارات كحالات جسديّة، فعندما نقرّر، إنّما نكون نستجيب للخيار الذي يولّد الشعورَ الأفضل.
لتوضيح الفكرة، وتأكيدِها، يتحدّث داماجيو عن إليوت Elliot، رجلِ أعمال، أصيب بورم في رأسِه عَطَب دماغه جزئيًّا، وتحديدًا في الجهة اليمنى من القشرة الأماميّة Prefrontal Cortex. نتيجة الورم والعمليّةِ الجراحيّة التي تلت، بدأ إليوت بالتصرّف بطريقة لامنطقيّة، رغم أنّ الفحوصات أكّدت أنّه حافظ على ذكائه وانتباهه وذاكرته. فاستئصالُ الورم وما أتلف من دماغ، أفقد إليوت قدرتَه على اختبار العاطفة وما هو عاطفيّ. ومن دون العاطفة، ما عاد الدماغ قادرًا على تسجيل موقفٍ عاطفيّ من التجارب، ومعرفةِ ما إذا هي سعيدة أم حزينة، جيّدة أم سيّئة، وتاليًا، ما عاد قادرًا على التعلّم منها، ممّا أفقده القدرةَ على مراكمة الإختبارات لإتّخاذ قرارات عقلانيّة منطقيّة مستفيدًا من وقعها وموقعها في دماغه!
عُطْب في الدماغ يؤدّي إلى عطبٍ في العاطفة يؤدّي إلى عطبٍ في تحديد القيَم العمليّة يؤدّي إلى عُطب في التفكير المنطقيّ.
حتمًا، لم تكن المعلومات العلميّة الحديثة الجامعة للفكر والعاطفة دماغيًّا نيورولوجيًّا في حوزة سعاده عندما زاوج الفكرَ بالشعور مرارًا وتكرارًا على مدى عطائه ومداره، إلاّ أنّه، وبحكْم امتلاكه لإنسانيّته الحرّة الواعية الصادقة الطبيعيّة، لم يُلقِ خطابًا إلاّ وحثّ العقل على التفكير والتحليل والنقد والتعلّم والتفلسف، وإلاّ وحرّك النفس وعبّأها حماسة وتأثّرًا وفخرًا واندفاعًا وانفعالاً وحميّة وعنفوانًا وكرأمة.
7
ليس سعاده زعيمًا بالوراثة كي يتوقّعَ من المحبّين، أو يرتضي لهم، التبعيّةَ الجاهلة، رهنَ شبّيك لبّيك عبدك بين يديك! بل إنّ زعامتَه، قيادتَه، مستمدّةٌ من تعاقدٍ واعٍ مبنيّ على مبادئ وغاية، ومثْبَتٍ في مقدّمة دستور حزبه. لذا، فالعلاقةُ بين صاحب الدعوة إلى القوميّة السوريّة والمقبلين على الدعوة هي، بافتراضه وقناعته، علاقةٌ فكريّة - إراديّة قبل أيّ أمر آخر، وشريانُها الأبهر يحملُ المفاهيمَ من القلب الشويريّ باعثِ النهضة إلى الجسم الحيّ برمّته. والحال، فهو مُطالب من ذاته، كونُه "وقَف نفسَه" على أمّته، بأن يكون خطابُه على الدوام خطابًا فكريًّا متناسبًا مع مسؤوليّاته في زعأمة حزب تعاقديّ عقائديّ!
من الطبيعيّ أن يكون خطابُ العقائديّ محمّلاً بالفكر، ليرفع به البناءَ العقلانيّ الحيّ الفعّال، المحصّنَ ضدّ الانحرافات الداخليّة المقصودة والتشويهِ الخارجيّ المتعمَّد، وبوجه سوء الفهم الداخليّ والخارجيّ، وبمجابهة النظريّات الفلسفيّة الخارجيّة الأخرى.
ومن الطبيعيّ، خاصّة متى أقام عقيدتُه على علْم. فقوميّة سعاده، من لحظة ولادتها الأولى في عقيدة واضحة، وإن غابت "الاجتماعيّة" بدايةً عن اسم الحزب السوريّ القوميّ، هي قوميّةٌ اجتماعيّة، قائمة على علم الاجتماع، وبالتالي، معتادة على الدليل والمنهج والحجّة لتوضيح أسسها ومسوّغاتها وفرادتها، كي لا أقول غرابتَها، وسط هياج دعوات القوميّات العرقيّة واللغويّة والدينيّة والسياسيّة، وتلاطمها.
... ومن الطبيعيّ، خاصّة متى ولج العقائديّ باب الفلسفة من خلال دعوته "الأمم إلى ترك عقيدة تفسيرِ التطوّر الإنسانيّ بالمبدأ الروحيّ وحدِه، وعقيدةِ تفسيرِه من الجهة الأخرى بالمبدأ الماديّ وحدِه، والإقلاعِ عن اعتبار العالم، ضرورةً، عالم حرب مهلكة بين القوّة الروحيّة والقوّة الماديّة، وإلى التسليم معنا بأنّ أساسَ الارتقاء الإنسانيّ هو أساسٌ روحيّ-ماديّ (مدرحيّ)" (الأرجنتين، 10 ك2 1947).
... ومن الطبيعيّ، خاصّة متى عيّن غايةً لحزبه بحجم "بعث نهضة سوريّة قوميّة تعيد إلى الأمة السوريّة حيويّتَها وقوّتَها، وتنظيمُ حركة تؤدّي إلى استقلال الأمة السوريّة استقلالاً تامًّا، وتثبيتُ سيادتِها وتأمينُ مصالحها ورفعُ مستوى حياتها، والسعيُ لإنشاء جبهة عربيّة."
من الطبيعيّ أن يكونَ خطابُ العقائديّ محمَّلاً بالفكر...
غير أنّ هذا العقائديَّ، لا يكتفي بالفكر، على أهمّيّته، لخطابه، ولا بـ"الطرائقَ الخاصّة لتنظيم الخطب التي تتوخّى الإقناع، من: (1) المشكلة – الحلّ، (2) النقض، (3) السبب والنتيجة" (Public Speaking – An Audience Centered Approach; Fifth Ed. Steven A. Beebe & Suzan J. Beebe، ص 402) وإنّما يشحنُه بعاطفةٍ مكهرِبة، من خلال وسائلَ متنوّعة، تستفيد من طبيعة الرسالة والقضيّة ويوميّات الصراع بحيثيّاته ومضمونه.
ومنها، التعبير بكلمات مشحوذةٍ عاطفيًّا، من أمة ووطن وشعب وقوميّة وحياة ونهضة وسورية وعزّ وجديد وسيادة وأمل ومجد وشجاعة وراية وقمم واستقلال ومسؤوليّة ونصر وصراع وجهاد وتاريخ وأخلاق وحقيقة وبطولة وإيمان قوميّ وعمل وإنتاج وقلوب وإرادة وعزيمة وأجيال وفلسطين والاسكندرونة وكيليكية والأهواز، واللائحة دفّاقة.
ومنها، استعادةُ الأسطورة لما فيها من إرث معنويّ أخلاقيّ رسوليّ، و"منزلة في الفكر والشعور الإنسانيّين، تسمو على كلّ ما عُرف ويُعرَف من قضايا الفكر والشعور." (الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ – طريق الفكر السّوريّ)
ومنها، الإستعانةُ بالرموز لما تحرّكه في الوعي واللاوعي من إضاءات واشتعالات، كالزوبعة وميسلونَ وأيّامِ الحزب: يوم صافيتا، يوم تلكلخ، يوم بكفيّا، يوم عمّاطور، يوم اللاذقيّة.
ومنها، التشبيهُ بما يحاكي المخيالَ الحزبيّ: "أريد أن أمثّل لكم تمثيلاً يشبه الحقيقة، حالةَ الاستقلال الذي نحن فيه. أريد أن أخاطبَكم بتشابيه السجن... في حالة الاستقلال الحاضرة خرجت الأمة من ‘القواويش’ التي كانت فيها؛ خرجت الأمة من الحبوس في داخل البناية التي أعدّها لها الاستعمار، ولكنّها حتّى الآن لا تزال ضمنَ السور الكبير الذي يحيط ببنايات السجن." (خطاب العودة، 2 آذار 1947)
ومنها، الإهتمام بمطلع الخطاب وخاتمته، فللأوّل إيحاءُ "انتبه"، وللثانية تردّدُ الصدى وديمومةُ النداء.
ففي اللاذقيّة 26 ت2 1948 يبدأ بـ: "أيّها القوميّون الاجتماعيّون، إنّ المجتمعات البشريّة الحيّة ليست كتلاً من ماء، ليست قطعًا ماديّة تستعمل، إنّ المجتمعات البشريّة الحيّة هي قوّةُ حياة فاعلة تثبت وجودَها وحقيقتها بمراميها السامية وبأفعالها المعبّرة عن نفوسها العظيمة السامية..."، وينهي بـ "بهذا الإيمان نحن ما نحن، وبهذا الإيمان نحن ما سنكون، وأنتم تعرفون ما سنكون. وبما نحن وإلى ما نكون، سيظلّ يدوي هتافنا في العالم: تحيا سوريا."
وفي الشوف في 19 ك2 1937، يفتتح بـ"إنّ العراك التاريخيّ هو دائمًا عراكٌ شديد وشدّته على نسبة قيمته؛ ولا يحدث شجار عنيف في التاريخ حول مسائل تافهة، وإنّما يحدث العراك بين جماعات وجماعات من أجل مصالحَ حقيقيّة لحياة الجماعات الكبيرة، ومن هذا العراك ما اختبرتم وما تختبرون وما ستختبرون"، ويختتم بـأيّها السوريّون القوميّون، إنّكم ارتبطتم بعضكم ببعض وربطتم أرواحكم بعضها ببعض لأنّكم تعملون في سبيل المبادئ التي جمعتكم بعضَكم إلى بعض. فابقوا منضمّين متضامنين وكونوا عصبة واحدة أينما سرتم وكيفما توجّهتم".
ومنها، التحفيز الإيجابيّ، فـ" نحن قد وجدنا حقيقةَ الأمة وأوجدنا فوق ذلك مسلكيّةً أخلاقيّة جديدة تكفل جعل هذه الأمة في المستوى من العزّ والشرف الجدير بمن يحمل هذه الأخلاق." (اللاذقيّة في 26 ت2 1948) و"لقد مضى الزمن الذي كانت فيه تسوّى مشاكلُنا ومشاكلُ الشرق الأدنى من قبَل إرادات أجنبيّة تهمل مصالحَنا وإرادتنا، وقد جاء الزمن الذي بَعث فيه الحزب السّوريّ القوميّ قوّتنا حتّى أصبح لإرادتنا وزنٌ في كلّ مشكل من مشاكلنا ومن مشاكل الشرق الأدنى عمومًا." (صافيتا في 17 ك1 1936) و"الفلاّحون والملاّكون والصنّاع والعمّال يرون في مبادئ الحزب السوريّ القوميّ تحقيقًا لمصالحَ كلِّ فئة من فئاتهم ضمن المصلحة العأمة التي تؤمّن الكلّ... أيّها السوريّون القوميّون، أنتم الحزبُ الوحيد في سورية الذي انبثق من قلب الشعب ليخدم المصلحة العأمة، ويلغي الإمتيازات المدنيّة التي استعبدت الشعب لأغراضه، وقتلت شخصيّة الأمة في سبيل مصالحها الشخصيّة. أنتم القوّة الوحيدة في الوطن التي لا تعمل لحساب هذه الجماعة أو تلك الجماعة بل تعمل لخير الأمة ومصلحة الدولة. أنتم القوى الكامنة في البلاد الآخذة في الخروج من مكامنها لتغيّرَ مجرى التاريخ." (صافيتا 17 ك1 1936) و"إنّ فيكم قوّة إذا فعلت غيّرت مجرى التاريخ" (الكورة صيف 1937)
ومنها، توجيهُ الكلام بصيغة المخاطَب، وفي ذلك جذب للجمهور إلى داخل الخطاب، ليكون منخرطًا فيه، جزءًا منه، متفاعلاً معه، لا مجرّد مستمع خارجيّ. "إنّكم قد أصبحتم قوّة بالفعل. وإنّ لهذه القوّة التي تمثّلونها، وهي خطيرة، شأنًا عظيمًا في تقرير المصلحة العأمة التي هي مصلحة كلّ واحد منكم." (خطاب الشوف، 19 – 1 – 1937) و"إنّي قد دعوتكم إلى القوميّة لنتّحدَ ونصبحَ قوّة فعّالة فلبّيتم الدعوة، وها نحن قد أصبحنا هذه القوّة التي تخشاها الرجعيّة من الداخل وترهبها القوّات الطامعة من الخارج. وإنّي أدعوكم الآن إلى الدفاع عن مصالح حياتنا القوميّة والوطنيّة ولست أخالكم إلاّ ملبّين، فهل أنتم مستعدّون؟" (خطاب صافيتا في 17 – 12 – 1936) و"عليكم أن تبرهنوا أنّ هذا الشعب الذي تنتمون إليه شعبٌ تعيش فيه المبادئُ السامية، لا شعب تتبدّل فيه المبادئ كما تتبدّل الأزياءُ ولا يميّز بين الصحيح والفاسد، لأنه مطلوب منكم أن تبرهنوا على أنّكم أمة حيّة لا قطيعٌ يُساق بعصي." (خطاب الكورة في صيف 1937) و"إنّ الأمة السوريّة بأسرها، إنّ قضاياها كلَّها إنّ مصيرها مربوطٌ بخفقان قلوبكم ودوران دمائكم ومتانة أخلاقكم وإيمانكم..."؛
دفعةً واحدة ومن دون انقطاع، ينهمر الخطاب السعاديّ، وفي كلّ مرّة، فكرًا حسّاسًا وعاطفة واعية!
8
إذا اجتمع رأيا أرسطو وشيشرون حول "الحكمة العمليّة" التي يجنيها المجتمع من الخطابات المكتنزة المضمون، فإن سعاده بلا شكّ، كان ولا يزال، من أخصب الزارعين. فلسعاده قدرة، لعلّها فطريّة، على طرح الأفكار وإعلان المواقف السياسيّة في خطبه توازيًا مع إشعال الوجدان بلغة أدبيّة.
مثلاً، وفي موقف من صفقات التابلاين وخطط الصهيونيّة في احتلال فلسطين وتسلّط الإقطاعيّات والرأسماليّات الناشئة، يعلن سعاده: "ما أشدَّ الأباطيل ظلمًا وما أخبثَ التنّين الذي ننحدر لمنازلته ولسحقه. إنّه تنّينٌ عديدُ الرؤوس كثيرُ البراثن والمخالب وحادُّ الأنياب. إنّه تنّين عظيمٌ جدًّا. إنّه تنّين مزدوِجٌ مشترَكٌ من فسادِ الذلّ في أجيالٍ عديدة مرّت في هذه الأمة، ومن إرادات أجنبيّة تتحالف مع الذلّ والفساد... إنّها أنابيب النفط التي يبيعُها الفساد للأجنبيّ بيعًا، أنابيبُ ما أشبه انسيابِها في أراضينا بتلك الأفاعي التي تنساب نافثة سمومَها! إنّها الرشوات تعطى لأبناء الذلّ لورثة الظلم في الأمة ليعلنوا ما لا يريد الشعب إعلأنه، لا ليعلنوا إرادة الشعب، بل ليعلنوا إرادة الأجنبيِّ المفروضةَ على الشعب لذَلّه. إنّها اليهوديّةُ الجديدة، المتصهينة، الزاحفةُ تحت سلاح إنترناسيونيّ عظيم واسع! إنّها الاحتكارات الخصوصيّة في شعبنا! إنّها الإقطاعات التي تقيم من بعض الناس سادة يستعبدون الكلّ! إنّها رأسماليّة مادّيّة خانقة تقطع العامل والفلاّح في هذه البلاد الذي هو كلُّ البلاد وكلّ الشعب!" (البقاع الأوسط، 23 نيسان 1948)
ولشدّة ما يكثّف سعاده المعنى والشعور في خطبه، يتحوّل الكثير من عباراته إلى عابراتٍ للمكان والزمان:
"لا يمكن أن نصل إلى مصير صحيح إلاّ بقضيّة واحدة كلّيّة لا بقضايا مبعثرة لا رابطة بينها"؛ "إنّ القوّة النظاميّة مهما كانت صغيرة أفعلُ بكثير من الجماهير التي لا تجمعُها إرادة واحدة في الحياة ونفسيّة واحدة وبناء مناقبيّ واحد"؛ "إذا زحفنا يومًا إلى فلسطين، فلن نكون زاحفين لاسترجاع أرض مقدّسة، لا عملاً بإنجيل ولا قرآن أو كتاب حكمة... نحن سائرون إلى الحرب نسير واعين مدركين أنّنا سائرون نحو النصر لأمة واحدة، لشعب واحد..."؛ (الطلبة) "إنّ الحياة كلّها وقفة عزّ فقط"؛ "إنّ أزكى الشهادات في الحياة هي شهادة الدم"؛ "نحارب حربَ الأخ لأخيه من أجل عزّه وشرفه. ولكنّنا لم نقصد قط أن يكون الخيرُ الذي نقصدُ إقامتَه لنا ولهم جميعًا، لم نقصد قط أن يُحرم أحدٌ منه..."؛ "نعمل بهدوء ونعمل باستمرار دون ضجيج ولا غوغاء ولا تبجّح لإقامة الأسس الصحيحة التي بُنيَت عليها أمجاد هذه الأمة العظيمة الكريمة"... (بشامون) "ليس عارًا أن ننكب، ولكنّه عار إذا كانت النكبات تحوّلنا من أشخاص أقوياء إلى أشخاص جبناء"؛ "إنّ طريقنا طويلة لأنها طريق الحياة، إنّها الطريق التي لا يثبت عليها إلاّ الأحياء وطالبو الحياة. أمّا الأموات وطالبو الموت فيسقطون على جانبها".(خطاب الكورة صيف 1937) "قد تسقط أجسادنا، أّمّا نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود ولا يمكن أن تزول"؛ "ليس عندنا شيءٌ مكتوم وشيء معلَن لأنّنا لم نخفْ قط من إعلان حقيقتنا وما ظننّا أنّ الهربَ والخوف من إعلان الحقيقة يوصلان إلى تثبيت الحقيقة"؛ "نحن لا نحمل حقدًا حتّى على المواطنين الذين لطمونا بينما نحن نحارب لإنقاذ المجتمع من الفساد وإنقاذ حياة الأمة وشرفها"؛ "بليّتنا العظمى للممخرقين هي في أنّنا نقبل أنّ لكلّ أجل كتابًا، وفي قبولنا أنّ هذا الأجلَ هو أجلُ الأمم والقوميّات، وفي أنّ تعاليمَنا هي كتاب القوميّة الاجتماعيّة"؛ (اللاذقيّة في 26 ت2 1948)
9
... ولطالما كان سعاده كسّارَ قواعدَ بالية!
إحدى القواعدَ التي كسرها سعاده وبرهن عقم ادّعائِها، ولا يخلو كتابٌ مختصّ بالخطابة إلاّ ويشيد بها أو يشدّد عليها، هي قاعدةُ تفصيل الكلام على قدّ المستمع الذهنيّ وقدره الاجتماعيّ المفترَض. فسعاده لا يستخفّ بمستمعيه، مهما كان مستوى تحصيلِهم العلميّ أو دخلِهم الماليّ أو مكانِ ولادتهم أو إقامتهم؛ لا يستخفّ بإمكانيّاتهم الإنسانيّة العقليّة والروحيّة والعمليّة والعاطفيّة، ولا يستهين. لذا، هو المحترَم، إنّما، أولاً، هو المحترِم!
والحال، فسعاده يخاطب الأمة مجتمعة كوحدة على مستوى عالٍ من الوعي والشعور من خلال مخاطبته لعشراتٍ أو مئات أو آلاف في مكان وزمان معيّنين. فكلمتُه في جمع من طلاّب الجامعة الأميركيّة في 16 أيّار 1949 لا تقلّ عمقًا عن محتوى كلمته في مؤتمر المدرّسين القوميّين الاجتماعيّين المنعقد في 17 تمّوز 1948، وخطابه في جلّ الديب لا يقلّ جدّيّة عنه في صافيتا، وخطابه في الكورة لا يقلّ خطورة عنه في برج البراجنة، وخطابه في مدينة اللاذقيّة عنه في قرية بشامون، وكذا في تلكلخ والشوف وبيت مري والبقاع الأوسط ودمشق ورأس بيروت والحدث وحلب وعين زحلتا وجزّين واللائحة تطول!
بكسر هذه القاعدة، يجسّ المستمعون الصدق في سعاده وخطابه، ويلتقطون فيه الأمانةَ والإلتزام، حتّى وإن لم يفهم كلّ فرد منهم كلّ تفصيل فكريّ؛ ويفهمون الأطروحات الفكريّة والاتّجاهات الأخلاقية – السياسيّة العأمة، حتّى وإن لم يشعر كلّ فرد منهم بكلّ إضاءة عاطفيّة.
نتيجة هكذا خطاب غنيّ فكريًّا وصادق عاطفيًّا، انجذب الميسورون كما والفقراء إلى سعاده وانتموا إلى حزبه، والطلاّبُ كما والمزارعون، والمتعلّمون كما والأمّيّون – الذين سرعان ما امتلؤوا معرفةً بفضل العقيدة والحياة الحزبيّة السعاديّة. وما كان بالإمكان جذبُ هذا المدّ الواسع من خلفيّات مناطقيّة ودينيّة وطائفيّة واقتصاديّة وتربويّة مختلفة من دون إكسير عاطفكريٍّ يحرّك كلَّ ما في الحضور من إمكانيّات التفاعل والتجاوب واكتشاف الذات والثقة بالقائد.
قاعدةٌ أخرى كسرها سعاده، هي إيلاءُ الجمهور أهمّيّةً في تحديد توقّعات الخطاب، وبالتالي تأثير المتلقّي المسبق على الخطاب، فـ"لدى الجمهور ايضاً توقّعات وحاجات على علاقة بما يجب أن تقولَه حول الموضوع. حاجات الجمهور وتوقّعاتُه حول خطابك يأتي من الخلفيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والنفسيّة للمستمعين" (ص41، Speechmaking, Rhetorical Competence in a Postmodern World, J. Michael Sproule).
غير أنّ دراسة خطب سعاده، تظهر أنّ التفاته إلى قولبة خطابه بما يتلاءمُ وتوقّعات جمهوره ضعيف، كي لا أقول معدومًا. وإنْ هذا سلبيّ قياسًا إلى أكاديميّات الخطابة، فإنّه إيجابيّ لسعاده القويّ بانسجامه مع ذاته، هو الآتي بعقيدة جديدة ودستور جديد وتفكير قيَميّ جديد، وهو الجاعلُ بجديده من المفاجأة والصدمة احتمالاً أكبر من متوقَّعِ التقليد ومعهودِ التكرار. وليس هذا بغريب، ففي العمق الفلسفيّ السياسيّ لسعاده، "التعبير" بما فيه من ريادة وصدق وجدّة وتقدّم واستشراف أفعل من "التمثيل" بما فيه من تبعيّة وخداع وتقليد ومراوحة واجترار، و"التعبير" بما فيه من مخاطرة لإحلال الحق أفضل من "التمثيل" بما فيه من سلأمة في أمان الباطل.
صحيح أنّ سعاده يلحظ مناسبةَ الخطاب والحضورَ مدخلاً إلى المضمون، ولكنّ الصحيحَ ايضاً، أنّ لسعاده اتّجاهًا واضحًا، وأمّا أقنيةُ المناسبات وأنهارُها فلإحتضان طوفان الرسالة دفقًا نقيًّا نحو الغاية وبحرها.
... وأخرى كسرها سعاده، هي مراعاة خصوصيّة الجمهور. فسعاده لا يهادنُ في الموقف، بل يجابه، بإحترام طبعًا، ولكن بجذريّة، وفي عقر الدار! إنّ نقضَ مفاهيمَ حفرت في النفس لمئات السنين وتملّكت في العقل وتجسّدت في تقاليدَ وممارسات، يحتاج، على الأقلّ، إلى قوّة مفهوميّة – شعوريّة مضادّة كفيلة بكسب العقول والقلوب معًا لإنتاج مؤسّسات جديدة وتقاليدَ جديدة.
ففي تلكلخ مثلاً، في 18 ك1 1936، حيث العصبيّة العشائريّة جزءٌ من الموروث، يبادر سعاده: "إنّ السيوف المجرّدة التي شهدتُها عندما أقبلت على تلكلخ سيوفٌ لها تاريخ، إنّها سيوف كانت دائمًا تُسَلّ في سبيل نصر أو تغلّب، تغلّب من أجل العصبيّة التي كانت تربط السيوفَ جمعًا واحدًا وسيفًا واحدًا محدودًا بالعصبيّة التي يتوطّد تحتها، إنّها لم تعد للعصبيّة التي كانت تسلّ من أجلها فيما مضى بل إنّها أصبحت تخصّ حركةً يتوقّف عليها مصيرُ أمة، حركة تضمّ رجالاً أكثر عددًا، وإلى جانب هذه السيوف سيوف أخرى تتعانق في سبيل الغلبة، غلبة العصبيّة العأمة التي هي عصبيّة القوميّة السّوريّة...".
ومثلاً، في حلب، مدينة الكواكبيّ، المصلح نعم، ولكن رجل الدّين، يعلن سعاده: "كلُّكم سمع بالقول ‘إنّما الأعمالَ بالنيّات’ أمّا أنا فأقول ‘إنّما النيّاتَ بالأعمال’. شرطُ النيّة أن تترجَم إلى أفعال محسوسة." إلى أن يصل ليقول: "لقد اعتدت أن أكون صريحًا في كلّ المواقف، وفي كلّ النواحي، حتّى إذا سألني أحدهم ما هي نظرتي الدينيّة فأقول ‘كوّنتها من نفسي، وأنا في عقيدتي اجتماعيّ، ولست بمسيحيّ أو محمّديّ’! وما هي ملّتي، ‘سوريّ قوميّ’ أجيب!"؛
ومثلاً، في البقاع الأوسط في 23 نيسان 1948، والبقاع، كباقي المناطق الزراعيّة عأمة، الارتباط الدينيّ فيه قويّ إيمانيّ عميق، والرموز الدينيّة مقدّسة، يطرح سعاده القوميّة الاجتماعيّة بجرأة على الشكل التالي: "أحسنَت المنفّذيّةُ اختيارَ هذا اليومَ لأنه يومٌ فيه مغزى قوميٍّ عميق، هو يوم الإحتفال بمار جرجس أو الخضر ولا يعرف الناس أكثر من ذلك عن رمز هذا اليوم. ولكن ما هو مار جرجس وما هو الخضر؟ إنّه أسطورةٌ فلسفيّة تاريخيّة عميقة جدًّا ومتأصّلة جدًّا في حياة هذه الأمة وفي مثلها العليا... قبل أن يُسمّى بطلُ هذا العيد مار جرجس وقبل أن يسمّى الخضرُ كان يسمّى في هذه البلاد البعلُ، إلهُ الشباب والجمال والقوّة والإنتصار على الأباطيل... إنّه، من بين الآلهة كلِّها، البطل الذي أخذ على عاتقه مهمّةً عظمى هي النزول إلى التنّين الذي يخيفُ الإنسانيّة ليقتلَه ويسحقَ رأسَه. وقد أتمّ البعل مهمّتَه وقتَل التنّين وجاء مار جرجس الخضرُ في عهد المسيحيّة والمحمّديّة يعيدان الصورةَ والمغزى عينَهما... ما أجمل هذا الرمزُ لهذا اليوم، إنّ هذا اليومَ يذكّرنا بالمهمّة العظمى لهذا الدور الرابع في تاريخ هذه الأمة: من البعل الأول، إلى مار جرجس، إلى الخضر، إلى النهضة القوميّة الاجتماعيّة... نحن أمة كم من تنّين قد قتلت... أمّا اليوم فيختلف شأنُ التنّينِ عنه في الماضي، لأنه يرى أمامه اليوم شيئًا لم يكن موجودًا من قبل، يرى الحزبيّاتِ الدينيّةَ تزول وتفسح الطريقَ للنهضة القوميّة الاجتماعيّة المنتصرة! يرى السياساتِ الخصوصيّةَ تتفرّق من أمام الحزب الموحَّد، يرى جيشًا لجبًا تتقدّمه راياتٌ وألوية تلوّح بزوبعة هي رمز دين جديد هو دين الإخاء القوميّ الصحيح والنهوض بهذه الأمة إلى سماء المجد..."!
لطالما كان سعاده كسّار قواعدَ بالية!
10
إذا قبلنا، في تعريف أنواع الخطابة، فكرةَ أنّ "التأجيجَ ينوجد حين: (1) جماعة من خارج مؤسّسات صنع القرار (2) تنادي بتغيير اجتماعيّ SIGNIFICANT (3) وتواجه درجةً من المقاومة من داخل المؤسّسات establishment ممّا يستدعي لردّها أكثر من وسائل الإقناع المنطقيّة العاديّة" (The Rhetoric of Agitation and Control, John W. Bowers, Donovan J. Ochs, Richard J. Jensen, 2nd Ed.، ص 4) فإنّ خطاب سعاده تأجيجيّ بامتياز، لأنّ الحزبَ نشأ حركة سرّيّة ثمّ نما شعبيًّا منظَّمًا من خارج أروقة المؤسّسات المنتدِبة والناشئة عنها، ولأنّ التغييرَ الاجتماعيّ الذي يتوخّى ليس أقلّ من بعث نهضة، ولأنّ ردَّ المؤسّسات التسلّطيّةِ على التغيير المبتغى لم يوفّر ظلمًا وقمعًا وافتراء إلاّ واستخدمَه (في العبارة أعلاه، استبدلتُ كلمة التهييج Agitation التي توحي بتحريك الغوغاء ونشر الفوضى، بالتأجيج). التأجيج بطبيعته يعتمد العاطفة ليؤدّي مبتغاه. وفي حركة عقائديّة، إضافة إلى العاطفة الطبيعيّة، يأخذ التأجيجُ الفكرَ ممرًّا إجباريًّا لمدّ مَن صارع بشحناتٍ للآتي، أو لتحريك مَن استنقَع! إنّ طبيعة معركة سعاده النهضويّة التغييريّة وسطَ حلف استعماريّ خارجيّ – طائفيّ إقطاعيّ داخليّ ساهمت في ألاّ يكون خطابُه إلاّ عاطفكريًّا تأجيجيًّا.
11
يخبرنا مَن استمع إلى سعاده يخطبُ أنّ صوتَه كان قاطعًا من دون لعلعة، ممتلئَ نبضًا من غير تجريح. بلا شكّ! فعند اعتماد الفكر مضمونًا، تضمر مساحةُ الصراخ! ثمّ إنّ الحماسة والتحدّي والثقة والفخر والقوّة هي غير الغضب.
شتّان بين الخطابة والصخب. فالخطابة بصورتِها المثلى تخترق الرهافةَ بقدر ما تستحثّ المدارك، وتحرّض على الفعل بقدر ما تُغْني المشاعر.
ليس لدينا الكثيرُ من التسجيلات المرئيّة و/أو المسموعة لسعاده. ولعلّ شريطَ عودته من اغترابه القسريّ وخطابِه في 2 آذار 1947 هو الشريط الوحيد، وإن المشوَّش، المتاحُ الذي يظهر فيه سعاده خطيبًا. وإنْ تتضارب الآراءُ حول هل الصوتُ صوتُه أم أنّه تسجيل صوتيّ لشخص آخر أضيف لاحقًا إلى الصورة، فالأكيد أنّ حركةَ سعاده الجسديّة تنضح بالكثير: الجبينُ مرفوعٌ والإستقأمة متألّقة ما يوحي بالقوّة والثقة والصدق. الحماسةُ بادية وحركة اليد الحاسمة تعكس كتلةً إنسانيّة متأجّجةَ الأحاسيس، مسكونةً بالعنفوان، إضافة إلى مخاطبته الجمهور برمّته من خلال تحريك الرأس، ما يجعل عبارتَه الخاتمةَ للخطاب - "كنت أودّ أن يتّسعَ الوقتُ لأصافحَ كلاًّ منكم، كلَّ واحد بمفرده وأتعرّفَ إليه، ولكنّ الوقتَ ضيّق. وهذا الوقتُ لا يكفي، ولكنّ عزيمتي اليوم، كما كانت في الماضي، أن أقصدَ مناطقَكم وأزورَكم فيها" - عبارةً خاتمة أمينة صادقة تحمل وقع المصافحةِ الفرديّة لِما لا يقلّ عن 50000، وبعض التقديرات حينها قالت 100000 من المستقبلين والمستقبلات.
من مشاهدة صورتِه، وإن المشوّشة، خطيبًا، يتّضح كم أنّ سعاده، هو بنفسه، عاطفةٌ مجسَّدة. ومن مراقبة حركته، كلُّ الإيحاءِ بعظيم المحتوى.
12
إذا كان قولُ المحامي الأميركيّ الخطيب وليم ج. براين William J. Bryan، منذ قرن تقريبًا: "إنّ خطابَ مَن يعرفُ ماذا يقول ويقصد ما يقولُه هو فكر على نار Thought on Fire"، صحيحًا، وهو كذلك، فخطاب سعاده إذًا معرفةٌ على شمس ولهب!