أرى لزاماً عليّ في بداية هذه المحاضرة الخارجة عن المألوف، ليس فقط لدى المؤمنين بل أيضاً لدى فئةٍ واسعةٍ من المفكّرين والدارسين والباحثين والمثقّفين، أن أستهلها بعدّة أقوال لفلاسفة ومفكّرين عالميين كمقدمة تساهمُ بالاضاءة ِ على ما أنا مُقدم على الخوض ِ فيه مع علمي المسبق بالمحظورات التي ترتفعُ كما جدران ِ العزل ِ العنصرية الإسرائيلية .
يقول أوغست كونت : "عليك ان تتحلى بالشجاعة الكافية لاستخدام عقلك". هذا العقل النعمة الذي نعتبره فيضاً من العقل الكّلي يجب أن لا نسمح لأحد ٍ وتحت أية ِ ذريعة من أن يسلبنا حقّنا باستعماله بالإتجاه الصحيح والا أكله الصدأ.
ويقول الفيلسوف كانت : " اذا كان على القلب توجيه الأسئلة فعلى العقل الردّ عليها." وما ذلك الا لأن العقل الواعي وحده يستطيعُ أن يحلّل الأمور بمنطق ٍ لكي يصل الى الأجوبة الموضوعية.
ويقول الفيلسوف اليهوديُّ المولد سبينوزا: " إذا غاب العقل ظهرت الخرافة. وإذا سادت الخرافة ضاع العقل". إنطلاقاً من هذا القول سنفهم بعد قليل مدى تأثير الخرافة على عقولنا.
وأنهي هذه الأقوال بقول بوذي: "إفتح عقلك قبل ان تفتح فمك". وما هذا القول برأيي إلا تحذيرٌ للتقليل من الثرثرة التي تضرُ ولا تنفع، والاكثار من التفكير والتمعن والتحليل قبل إبداء الرأي والإبتعاد عن الكلام فيما نجهله لأن كلامنا به سيفضحُ جهلنا من جهة ويزيدُ جهلَ الجهلاء جهلاً من ناحية أخرى.
التوحيد لغة هو الإيمان بالله وحده لا شريكَ له كما ورد في لسان العرب لابن منظور الذي يتابع قائلاً : والله الواحد الأحد، ذو الوحدانية والتوحيد، ومن صفاته الواحد الأحد، وقبل : الواحد الذي لا يتجزأ ولا يُثنّى ولا يقبل الانقسام ولا نظير له ولا مثل ولا يجمعُ هذين الوصفين إلا الله عز وجل". أما بطرس البستاني فيقول في محيط المحيط: " وحَد الله تعالى آمن به تعالى وحده وقال إنّه واحد أحد أو قال لا إله إلا الله... والتوحيد اعتقادُ وحدانيته تعالى... وفي اصطلاح أهل الحقيقة تجريد الذات الإلهية عن كل ِ ما يُتصوّر في الأفهام ويُتخيّل في الأوهام والأذهان. والموحّد من يعتقد وحدانية الله".
وبعض الفلاسفة في العصور الحديثة رأوا أن التوحيد لا يعني فقط الإيمان بالله الواحد بل التوحد بالله. يقول أيكهارت : " لهذا اذا أنا تغيّرت الى الله، وجعلني هو متّحداً مع نفسه، اذا، فبالله الحي لا توجد تفرقة بيننا. وبعض الناس يتصورون أنهم سيرون الله، وأنهم سيرون الله اذا كان واقفاً هناك وهم هنا، لكن الأمر ليس هكذا. الله وأنا: نحن واحد . إنني بمعرفتي لله، إنما أجعله متحداً بي. وأنا بحبّي لله أنفذ إليه". وهذا ما قاله قبله المتصوفون، يقول الدكتور خزعل الماجدي في كتابه علم الأديان: " التصوف يسعى للإتحاد بالله، والإتحاد بالله لا يعني رؤية الله، أو الكلام المباشر معه، بل يعني أن يكون الله هو أنا، وأكون أنا الله، وقد صرّحها الحلاج ذات يوم في بغداد عندما صاح قائلاً (أنا الحق، وسبحاني مع أعظم شأني)، وكان أكثر المتصوفة توحداً بالله.
فكيف عرف الانسان التوحيد، أي كيف استطاع ان يوحّد الآلهة المتعدّدة التي كان قد أخترعها في طفولته الفكرية؟ وايّ شعب ٍ توصَل قبل غيره الى فكرة الاله الواحد وسعى الى تجاوز فكرة تعدد الآلهة؟
يقول الدكتور بشار خليف في الصفحة 41 من كتابه (نشوء فكرة الألوهة) بأن: " لا اعتقاد ولا تديّن في ثقافات ما قبل الزراعة، بمعنى آخر، لا تديُن قبل الألف العاشر قبل الميلاد". أما عن معنى التدّين فيقول بأنه :" وعي انساني في لحظة ما، الى ما بُعد ما وراء إنساني او ما وراء الواقع، والذي ينتمي الى عالم مُتخيل، أساسُه الظواهر الطبيعية التي مركزها السماء في العُلى". ثم يؤكد أن التّدين او الاعتقاد بمفهومه السماوي لم يكن قد نشأ بعد". وهو يتحدث هنا عن تطور فكرة الاعتقاد بالآلهة خلال الإلفية الخامسة قبل الميلاد، وهو يُرجع ذلك الى ان دماغ الإنسان كان لم يزل في حالة النمو. ويبدو ان معظم الدّارسين يعيدون بدء ظهور فكرة الألوهة مع ترسيخ المجتمعات الزراعية، ويستشهد بقول للباحث ميرسيا إلياد الذي يقول في كتابه ( تاريخ المعتقدات الدينية) بأنه "مع تكرّس المجتمعات الزراعية في عوالم الزراعة، صار حضور السماء قوياً متجلّياً بالمظاهر الطبيعية".
نسمع جميعاً بمقولة الأديان السماوية، فماذا نعني بالدين؟ وما هي السماء؟ وما هو الرابط بينهما؟.
بدايةً دعونا نتعرف الى كلمة دين من الناحية اللغوية. يقول الدكتور خزعل الماجدي في كتابه علم الأديان بأن "كلمة دين العربية انحدرت من كلمة دين الأكدية، التي كانت تعني القضاء والحساب". ثم يضيف بأن هذه الكلمة دخلت الى العربية بطريقة غير مباشرة من الكلمة الآرامية (دينو) أي الديّان في العربية والتي كانت تعني بداية ً القاضي والتي تطورت لتعني لاحقاً الله في الجهاز الاصطلاحي للدين.
وورد في لسان العرب لابن منظور بأن: الديّان من أسماء الله عز وجل، ومعناه الحَكَم القاضي. ويضيف : سئل بعض السلف عن علي بن ابي طالب فقال : كان ديّان هذه الأمة بعد نبيّها أي قاضيها وحاكمها . وكلمة دين في اللغة العربية تعني الشيء وضده: فهي تعني الطاعة وتعني المعصية. تعني الورع وتعني القهر. تعني السلطان وتعني الذل. وتعني الحساب وتعني الجزاء. ومعنى الطاعة انسحب على الشرائع الاجتماعية فأصبحت تُعرف بالدين لأنه فُرضت على اتباعها الطاعة باتباعها وممارسة طقوسها. حتى اعتبر أبن منظور بأن الدين هو الإسلام فقط. ولكن معنى هذه الكلمة تطوّر حتى بات يعني ليس الشرائع الوضعية التي كانت سائدة قديما وإنما الشرائع التي دعت الناس للإيمان بالله خالق الكون بكل ما عليه.
ثم يورد الدكتور الماجدي تعاريف مختلفة لهذه الكلمة كما فهمها جمهور الفلاسفة ولن أخوض بهذه التعاريف في هذه العُجالة بل سأنقل فقط ما قاله ماكس مولر الذي يُعتبر من أوائل المفكرين الذين أرسوا علم الأديان، يقول : " بأن الدين ينشأ بداية من التأمل والعجب والدهشة، هذه الأحاسيس دفعت الإنسان الى التفكير الذي أوصله الى استيعاب فكرة قوامها أنه محاط بقوى خارج إرادته حفّزته في مرحلة لاحقة على التعبير عن هذا التفكير عن طريق اللغة". ولما بات من المتعارف عليه علمياً ان عمرَ الإنسان على سطح الارض يُقدّر بملايين السنين وأنه كان بداية أشبه بالحيوان، وانه لم يكن ناطقاً وكان عليه ان يتدرج في سياق التطور، وفقاً لنمو عقله، عبر مراحل تُعد بعشرات الألاف من السنوات الى أن أصبح عقله قادراً على الاستيعاب والتفكير والتحليل وربط الأمور ببعضها فتوصّل الى اختراع أدوات التخاطب، التي بدورها أخذت وقتاً طويلاً من التطور قبل ثبوتها على ما هي عليه اليوم. وهذا التطور أخذ بدوره مئات السنين للانتقال فقط من الرسم للدلالة على شيء معين مروراً بالأصوات التي باتت تُحدّد الحروف وصولاً الى وصل الحروف لتشكيل ما أصبح يُعرف بالكلمة. وهذا يعني ان كل ما ورد في سفر التكوين التوراتي هو باطل لأن الكاتب اعتبر أن المخلوق الأول الذي خلقه الله أي آدم كان يتكلم مع الله. أما بأية لغة؟ فذلك ليس بالأمر ذي الأهمية . ( فإذا قال قائل وكيف تفسر لنا ما جاء في بداية إنجيل يوحنا أي الجملة التالية : " في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله"، فأقول بأننا دائما نأخذ الجزء الأول من هذه الجملة اي في البدء كان الكلمة، ونفسرها بأنّ الكلمة خُلقت مع الإنسان الأول، ولا نُكمل الجملة التي تقول والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله ومعنى ذلك برأيي ان الكلمة هنا تعني العقل وليس بضعة أحرف ٍ تًضمّ الى بعضها لتشكل كلمة بالمطلق، وكان الكلمة الله أي ان الله هو العقل الكلي ناظم هذا الكون الذي فاضت عنه عقول جزئية لتحلّ في مخلوقاته التي كان أرفعّها الأنسان الذي تميز بعقله عن بقية المخلوقات. وهذا الكلام يعني أيضاً بالكلمة ليس معناها المتعارف عليه، بل أنه يسوع الذي كان عند الله منذ الأزل، وهو الذي قال : " الحق الحق أقولُ لكم قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن" يوحنا 8 : 58 ).
هذا فيما يختص بمفهوم الدين ولن أغوص بتاريخ الأديان فلهذا الموضوع بحث خاص يطول. أما إذا انتقلنا الى السماء فنقول من حيث اللغة حدّدها إبن منظور في لسان العرب قائلاً: " السماء سقف كل شيء وكل بيت". وقال الزجاج: السماء في اللغة يقال لكل ما ارتفع وعلا قد سما ويسمو، وكلّ سقف فهو سماء، ومن هنا قيل للسحاب (أي للفضاء) السماء لأنها عالية، والسماء كلُ ما علاك فأظلك. وهذا يعني أن السماء هي تعبير مجازي للفضاء الذي تسبح فيه الكواكب، فمرة كانت تعتبر سماء واحدة وهي الفضاء الذي يعلو رؤوسنا وفيه نرى من الكواكب أهمها بالنسبة لنا أي الشمس والقمر، ومرة كانت تأتي بصيغة الجمع أي سموات للدلالة على هذا الفضاء اللامتناهي الذي يحوي مليارات المجرّات وكلّ مجرة تحوي مليارات الكواكب كما بات من المعروف علمياً.
جاء في مطلع الاصحاح الأول من سفر التكوين التوراتي: "في البدء خلق الله السموات والأرض". أما في القرآن الكريم فنقرأ من سورة البقرة : "الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء (الآية 21) ، ومن الآية 106 نقرأ : "الم تعلم ان الله له مُلك السموات والارض".
فكيف تحول مفهوم السماء الى مسكن ٍ لله؟ وما هو الرابط بين السماء والأديان؟
للإجابة على هذه الأسئلة لا بدّ من ان نعود الى طفولة الإنسان الفكرية والحضارية، أي الى الزمن الذي بدا فيه الانسان يتساءل عن الظواهر الطبيعية الخارقة التي تحيط به. دُهش، كما قال ماكس مولر، من كوكب الشمس، الشروق والمغيب، الدفء الصادر عن أشعتها وكيف يخفّ ويقوى بين فترة وأخرى. أستوقفه القمر الذي كان يعطيه الضوء بعض أناء الليل بخفر ٍ وكيف كان يختفي ويعود للظهور، وكيف كان يصغر حجمه ويكبر. نظر الى المطر الذي تسكبه الغيوم وربطه بردّ فعل الارض التي كانت بفضله تنبت مختلف أنواع المزروعات. أرعبته البروق والرعود فلجأ منها الى المغاور الطبيعية، أذهلته العواصف التي كانت تقتلع الأشجار وتدحرج الصخور، ووقف بالبداية عاجزاً عن تفسير هذه الظواهر فنسبها الى قوىً خارقة فوق الطبيعة، وأيقن ان هذه الظواهر تؤثّر احياناً كثيرة بشكل ايجابي في حياته اليومية، وذلك من خلال مراقبته لهذه الظواهر وما تفعله بالطبيعة، وبما ان هذه الظواهر كانت تأتي مما علا رأسه، بدأ عند حاجته اليها او تخوفه منها يرفع يديه الى العلاء إما طلبا لحدوثها او لابعادها عنه وذلك حسب رؤيته للحاجة المتمثلة بهذه الظواهر. ثم ما لبث ان بدأ مشواره الماورائي الذي قاده الى ان ينسب لهذه القوى الطبيعية قدرة الخلق بدءاً بالارض والأعالي، نسبة لوجوده على سطح الأرض، فأصبحت هذه القوى بذاتها آلهة يستعطفها حيناً ويتوسل اليها احياناً أخرى تبعاً لحاجته او انطلاقاً ممّا صدر عنها. وبهذا بدأ الانسان يربط هذه المعطيات بعضها ببعض فتفتّق تطوره العقلي المتنامي الى إطلاق عملية خيالية شرح فيها كيفية خلق الأرض وما عليها، وبدأ يناقش بجدلية موضوعات التضاد: النور والظلمة، الخير والشر، المحبة والغيرة، الحقد والتسامح الى ما هنالك من نزعات بشرية. وبما انه كان يلاحظ جيلاً بعد جيل بأن هذه الظواهر مستمرة لا تنقطع بل هي تتعاقب مداورة، وبأنه هو يمر خلال سني حياته بفترات مختلفة ولكن لها نهاية، لأنه يصل الى مرحلة الموت ومغادرة هذه الحياة والطبيعة تستمر على حالها من التقلب، أعتبر ان هذه الظواهر أبدية خالدة أما هو ففان ٍ. وبما أنه كان يتوق الى أن يستمر بقاؤه كظواهر الطبيعة، فأنه أثبت ذلك من خلال الأساطير التي دبّجها، خاصة أسطورة غلغامش، من خلال البحث عن الخلود لكي يصل الى التماهي مع الآلهة. وبعد مزيد من النضج الفكري الناتج عن عملية نمو حجم عقل الانسان توصّل الى ان يُطلق على هذه الظواهر لقب آلهة لتلعب دور الوسيط بين الطبيعة والانسان. وبعدها انتقل الى ان يخلق إلها لبعض مناحي حياته الخاصة، فاخترع إلها للجمال وآخر للخصب وللحب وللخمر وللمطر والحصاد، ومعظم الشعوب أوجدت لها إلهاً للحرب تستشيره ان قررت مهاجمة من تراه عدواً وتحاول استمالته لنصرتها بتقديم الأضاحي، ووصل الامر مع اليهود الى اعتبار إلههم إله حرب، ورباً للجنود "يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم الطريق وليلاً في عمود نار ليُضيء لهم ".
فضلاً عن ذلك طلب منهم هذا الإله ان يجّهزوا له مسكناً بينهم على الارض. نقرأ من الاصحاح السابع من سفر صموئيل الثاني ما يلي: "وفي تلك الليلة كان كلام الرب الى ناثان... قائلاً : اذهب وقل لعبدي داود هكذا قال الرب. أأنت تبني لي بيتاً لسكناي. لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر الى هذا اليوم بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن " الى ان يقول في المقطع 13 من نفس الاصحاح : " وهو (يعني داود) يبني بيتاً لاسمي وأنا أثبت كرسيّ مملكته الى الابد". ولما كان يهوه قد غضب على داود لأنه لم يتبع فرائضه فقد أعفى داود من بناء بيت له وأوكل المهمة الى ابنه سليمان. نقرأ من الاصحاح الخامس من سفر الملوك الأول: " فارسل سليمان الى حيرام يقول : أنت تعلم داود أبي انه لم يستطع أن يبني بيتاً لأسم الرب ألهه... وهانذا قائل على بناء بيت لاسم الرب إلهي كما كلّم الرب داود أبي قائلاً : ان إبنك الذي أجعله مكانك على كرسيك هو يبني البيت لإسمي" وهذا يعني ان اليهود لم يعتقدوا ان إلههم موجود فوق، في الأعالي، في السماء ، بل هو مقيم بينهم يتحدث الى من يختارهم من شعبه المختار. يقول الدكتور بشار خليف في الصفحة 83 من كتابه (نشوء فكرة الألوهة): " أولاً جعل الهته في السماء ثم جعل على الآلهة إلها واحداً قادراً يملك الكلمة الخالقة وتحت كل ذلك تعمل الآلهة عمل الملائكة، كما ستتبدى فيما بعد في مساق الأديان اللاحقة". ويصل الى القول بأن: " كل منتج للعقل البشري كان بتصوّرهم من صنع وابتكار القدرة الخالقة العلوية وهذا ما يمكن تلمسه في قوانينهم الاجتماعية، من قوانين لبت عشتار الى أورنمو الى قوانين حمورابي. فكلها قدمتها الآلهة للإنسان رغم انها قوانين وضعية وضعها مفكرو وقانونيّو العالم القديم آنذاك". وُجد نص رافديني قديم لحمورابي يقول فيه في مقدمة شريعته: " عندما خوّلني الإله مردوك أن أوجه الشعب الى الحق وأجعل لهم دولة، نشرت الحق والعدالة في البلاد، وجعلت الناس يعيشون في رفاهية وأقمت العدل". وبالرغم من الآف السنين التي تفصل بيننا وبين إرهاصات الفكر الانساني الأول، فأننا نجد ان انسان اليوم لا يختلف بتفكيره الديني عن الإنسان القديم، إذ لا يزال ينسب كل حدث يصادفه في حياته الى الله. ومن هنا كانت فكرة التنزيل التي تنسب الى الله الكلام الذي جاء على لسان المرسلين والتي تحرم الانسان المبدع الخلاّق من هاتين الصفتين كما أشار الى ذلك الشاعر محمد يوسف حمود في إحدى مقالاته . يسوع بذاته لم يقل عن نفسه بأنه نبي بل قال بأنه معلم. ففي إنجيل يوحنا قال لتلاميذه." أنتم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تقولون لأني أنا كذلك" 13:13. ومن إنجيل لوقا نقرأ في الإصحاح الثاني والعشرين: " قولاً لرب البيت يقول لك المعلم أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي" 11:22. أما عن محمد فقد جاء في الآية الخامسة من سورة فُصلت: "قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إلي إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا اليه واستغفروه وويل للمشركين". وفي حديث متواتر أورده معروف الرصافي في كتابه (الشخصية المحمدية) جاء عن لسان محمد : " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء". هذا الكلام قاله محمد لكي ينفي عنه صفة النبوة والتي تعني لغة معرفة الغيب، فمحمد هو رسول الله.
هذه الأفكار التي نتجت عن تطور الفكر الانساني بقيت مُتداولة من جيل الى جيل لدى الشعوب القديمة حتى تسنى للإنسان اختراع وسيلة تمكّنه من المحافظة على أفكاره بشكل أفضل، فاخترع الكتابة وكان ذلك على يد السومريين خلال الألفية الرابعة. وبعد ذلك بدأ يدّون كل ما أختزنه عقله من تجارب أسلافه حيث أصبح للكتابة دور " في توثيق مجمل الحياة السابقة، والتي مكّنت من استيعاب التراث الشفوي والحكايا والأساطير، والمعتقدات الشعبية، وبذا أمكن عبر نظام الكتابة صونُ تراث المشرق الشفوي" كما يقول الدكتور بشار خليف.
تقول الأساطير التوراتية بأن أسفار التوارة بلّغها الله، او قل إله الإسرائيليين يهوه، لموسى الذي نقلها الى شعبه. هذه الأسفار غلّفها اليهود بصفتين: الألوهية كونها برأيهم كلام الله، أو يهوه، الى آدم ونسله الذي لاحق كتبة التوراة منه ذكراً واحداً من كل أب، فمن نوح ركزوا على سام وأهملوا حاماً ويافثاً. ومن سام ركزّوا على ارفكشاد مع ان ساماًعاش سبع مئة سنة وولد بنين وبنات وكلهم أهملوا إلاّ ارفكشاد وهكذا دواليك وصولاً الى أبرام أو ابراهيم الذي اعتبره اليهود جدّهم. والصفة الثانية القداسة وذلك لكي يُرهبوا المؤمنين ويمنعوا عقولهم من التحليل والاستنتاج لكي لا يكشفوا الحقيقة، الى ان كانت العصور الحديثة وبدأت الحفريات في بلاد ما بين النهرين بدفع من اليهود أنفسهم لإثبات مقولات التوراة فكانت النتيجة مخيبة لآمالهم. أما اذا عدنا الى هذه الأسفار، وأولها سفر التكوين الذي ينقل الينا كيف خلق الله الكون والكائنات، لقرأنا العجب، هذا اذا ما تخطينا التفكير الديني النمطي الذي يسلم بكلّ كلمة جاءت في الكتب الدينية دون ان يكون لعقل صاحب هذا التفكير دورٌ بقبول ما يتوافق منها مع المنطق ورفض كلّ المبالغات غير المنطقية. يقول الفيلسوف ابن رشد بأن العقل يجب ان يُقدّم على النقل، وهو يعني بالنقل كلّ ما وصلنا مكتوباً من الأولين. ان القول بأن ما جاء في الكتب الدينية لما بات يُعرف مجازاً بالديانات السماوية، هو كلام إلهي لا يجوز ان يتعرض للدراسة والتقويم والنقد، هو جزء من مؤامرة اليهود على العقل الإنساني لمنعه من فضح تزويرهم للحقائق والتاريخ، ولدفعه الى القبول بكل كلمة وردت في أسفارهم وصولاً الى الخضوع لغاياتهم خاصة تلك التي تتعلق باحتلالهم فلسطين، وهي جزء من الارض الموعودة التي قال لهم إلههم بانه سيعطيهم إياها بعد ان يطرد من أمامهم كلّ الشعوب التي كانت تقطن فيها، فايّ إله يسوّغ لنفسه القيام بهذا العمل الإجرامي غيرَ إله قبلي خاص أعلن عن نفسه مرات عديدة بأنّه إله بني إسرائيل فقط وليس إله الكون. نقرأ من سفر التكوين الاصحاح السابع عشر". ولما كان ابرام (ابراهيم لاحقاً) ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب له وقال أنا الله القدير... أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً. وأكون إلههم". هذا الاله الذي أختار إنساناً واحداً ليكون له إلهاً ولمن يأتي بعده من ذريته ليس إذن هو الله الواحد الأحد الذي خلق الكون وجميع الكائنات، وإبراهيم هذا والذي أعتبره اليهود جدّهم، ليس إبراهيم الذي جاء ذكره في القرآن، الذي يقول عنه في الآية 66 من سورة آل عمران : " ما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين". وجاء ذكره أيضاً في الآيتين 126-127 من سورة البقرة : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل رّبنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةُ مسلمة لك"، حتى يقول في الآية 130 : " إذا قال له ربه أسلم قال أسلمتُ لربّ العالمين ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتُن إلاّ وأنتم مسلمون". فكيف نفسّر هذا التناقض بين الكتابين " السماويين" والذي يُطيح بكل معتقدات اليهود بدءاً من انتسابهم وحدهم الى ابراهيم، مروراً باعلان الرب إلهاً خاصاً بهم، وصولاً الى وعد هذا الإله لهم بأعطائهم أرض كنعان ملكاً أبدياً؟ فإذا كان هذا الكلام كلام الله، أليس من واجب المؤمنين العمل على تحقيقه؟ ألم تنطلق الصهيونية العالمية من هذا الكلام لتقول لدول العالم بأن كلّ من يقاوم إرادة اليهود بالسيطرة على فلسطين فإنما بذلك يقاوم مشيئة الله؟ وإذا كان جميع المؤمنين في العالم، بمن فيهم المؤمنون في بلادنا على مختلف طوائفهم ومذاهبهم، مقتنعون بأن هذا الكلام هو بالفعل كلام الله، فلماذا إذن لم نسلم لليهود بهذا الحق الإلهي؟ أما كان أجدر بنا أن نقوم نحن بالمبادرة فنهجر بلادنا ونُرسل بطلبهم من شتات العالم لكي يأتوا للإقامة في أرض كنعان، بلادنا التاريخية قبل ان يكون هناك يهودي واحد في العالم.وقبل إبراهيم وكل ِ ذُريته؟ أليس على العقل ان يتدخل هنا، ونحن في بداية الألفية الثالثة بعد الميلاد، ليقول كفى استخفافاً بي، إذ إن كلّ ما هو وارد في هذه الكتب إنما هو من نتاجي لأنني فيض من العقل الكليّ (الله) الذي منحنى جزءاً من قدراته لأكون أنعكاساً له بما هو محبة صافية، وتسامح لا محدود، وعدلٌ لا متناه؟
وبالعودة الى سفر التكوين فإننا نقرأ في مطلعه قصة ساذجة أدخلت الى عقولنا منذ صغرنا، وهي قصة آدم وحواء أصل البشرية جمعاء، اللذين خلقهما الله في اليوم السادس، علماً ان الكاتب في القصة الاولى لم يأت على ذكر آدم وحواء بل قال : " فخلق الله الانسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم وباركهم الله... " تكوين 27:1 ، فإذا كانا إثنين فلماذا قال خلقهم وباركهم مستعملا صيغة الجمع؟ وإذا كان الله في كل يوم قد خلق شيئاً بدءا بالسموات والارض، ثم المياه على سطح الارض، ثم العشب والشجر المثمر، ثم الكواكب في الفضاء، ثم الزحافات والطيور، فإذا ما خلق الانسان في اليوم السادس شعر أنّ عمله قد أكتمل : " فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدّسه " تكوين 2:2-3، ألا يتناقض ذلك مع قدرة الله الكلية التي تحدّث عنها القرآن قائلاً في الآية 116 من سورة البقرة : " بديع السموات والارض واذا قضى امراً فإنما يقول له كن فيكون". كاتب التوراة الذي تأثر بأفكار الشعوب التي سبقته، والذي اطلّع على تفاصيلها بعد ان سبى نبوخذ نصر بني اسرائيل الى بابل بعد انتصاره عليهم عام 587 ق.م. حسب ادعائهم، من خلال قراءته لأساطير السومريين والكلدانيين والبابليين المحفوظة في مكتبات بابل، سطا على هذا التراث فغيّر وبدّل قليلاً ونسبه الى عبقريته وإبداعه. وبما ان هذا التراث قد طُمر في باطن الارض لآلاف السنين، إما بفعل العوامل الطبيعية التي دمرت الحواضر القديمة، وإما بفعل الحروب التي ساهمت بالتدمير، فكان لا بد من انتظار القرن التاسع عشر حيث بدأ التنقيب في سورية، وتحديداً في المدن التي ورد ذكرها في التوارة كمحاولة من العلماء وتحديداً اليهود منهم او المدفوعين من اليهود، لتثبيت ما جاء في التوراة كما ذكرت سابقاً.
وهنا لا بد من الاشارة الى كتب لبعض الباحثين الذين أشاروا الى تزوير مُتعّمد لما جاء في التوراة من خلال الترجمة أحياناً خدمة لمصالح سياسية، أو تشويهٍ لحق بالتوراة نتيجة الجهل باللغات القديمة. وتوصل هؤلاء الى قناعة مفادُها ان جغرافية التوراة ليست فلسطين الجزء الجنوبي من ارض كنعان بل هي الجزيرة العربية حسب رأي المؤرخ كمال الصليبي حيث أوضح ذلك في كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، وهي أرض اليمن تحديداً كما جاء في كتاب الباحث فاضل الربيعي الذي حمل عنوان (بنو إسرائيل وموسى لم يخرجوا من مصر) وفي كتابه الثاني ( فلسطين المُتخيلة : أرض التوراة في اليمن القديم)، وأكد على ذلك ايضاً الباحث فرج الله صالح ديب في كتابيه ( اليمن وأنبياء التوراة) ( اليمن هي الاصل) – والتوراة العربية وأورشليم اليمنية.
فذهل هؤلاء العلماء، وخاصة قلة منهم من المتجّردين عن الأهواء والغايات السياسية، عندما اكتشفوا الرقم التي كُتبت عليها الأساطير القديمة، والتي سبقت التوراة بما لا يقل عن ألفيتين، واستطاعوا فك رموزها فوجدوا بأنها تحتوي على جميع القصص الأساسية الواردة في سفر التكوين، ومنها قصة آدم وحواء، وخلق الانسان من طين، وقصة طوفان نوح وغيرها. وبعد مقارنتها بقصص التوراة توصلوا الى استنتاج أن كتبة التوراة نقلوا هذه القصص بتصرف وتميّزوا عمن سبقهم بأن وصفوها بالقدسية والألوهية لكي يحفظوها من الضياع لأنهم عرفوا حق المعرفة أهمية التفكير الديني ومدى سيطرته على عقول الناس. أما أسوأ ما أقترفوه فكان أدعاؤهم أنهم أصحاب الديانة التوحيدية الأولى، وأن كلّ الديانات، وخاصة المسيحية تجد جذورها في ديانتهم. أما بعدما كشف الآثاريّون النقاب عن نتاج الفكر الانساني المتقدم عمّن عُرف تاريخياً بأسم الإسرائيليين أو العبرانيين أو اليهود، فلم يعد بإمكانهم الإستمرار بالكذب إلا على البسطاء من المؤمنين الذين لا يكلّفون أنفسهم القراءة لكي يعرفوا الحقائق كما هي.
يقول خزعل الماجدي في كتابه (الدين السومري) : " وكان الدّين السومري بمثابة (الّدين الأول) للأنسان من حيث امتلاكه أنظمة لاهوتية وميثولوجية وشعائرية متكاملة ومنسجمة فيما بينها". وصولاً الى قوله : " كانت النزعة التوحيدية كامنة في الدين السومري في صيغة الإله آن (إله السماء) فهو إله عالمي مطلق عندهم" . ويخطىء من يعتقد بأن كلّ الشعوب القديمة كانت وثنية، ومن الخطأ القول أيضاً بأنّ الوثنيين كانوا يعبدون الاصنام لذاتها، بل هم كانوا يعتبرونها رمزاً للقوى الطبيعية الخارقة كما سبق ومرّ معنا. رحلة الانسان الميتافيزيقية رحلة قديمة بدأت كما ذكرنا مع الحضارات الموغلة في القدم، وأخذت تتبلور بعد اختراع اللغة وبدء الانسان عصر الكتابة حيث سنحت له الفرصة بأن يدّون كلّ ما كان يعتمل في عقله وفي قلبه. يقول خزعل الماجدي في الكتاب الذي أشرنا إليه : " وهنا لا بدّ من الملاحظة أنّ اندماج فكرة الألوهية بالعلو والسماء في الذهن القديم، حيث كانت اشارة الألوهة تعني العلو والسماء كذلك، هذا الاندماج ذو دلالة هامة على العلاقة المرهفة التي تربط الانسان بالوجود الكوني البعيد، هذه العلاقة التي تعبّر عن ذاتها بالمشاعر اللاهوتية المشدودة دائماً نحو المطلق الكوني".
ويشير المؤلف في متن كتابه الى تأثر كتبة التوراة بالأساطير السومرية خاصة لجهة قصة آدم وحواء، وخلق الانسان من طين وحول حصول الطوفان. ويبدو أن هذه القصص الفولكلورية كان لها أثر أدبي على مجمل شعوب العالم القديم، وفي هذا المجال يقول الماجدي : " في أعماق النتاج الأسطوري لأيّ شعب حيّ نلمح فكرة الأدوار الكونية وهي تعبّر عن نفسها في أساطير الخلق ثم أساطير بناء الكون ثم أساطير نهاية وتدمير الكون ثم إعادة خلقه من جديد "، ولنا بأسطورة الطوفان أهم شاهد حيث بدأت هذه الأسطورة مع السومريين، وانتقلت منهم الى الكلدانيين والبابليين ومنهم انتقلت الى العبرانيين، كما وُجدت أساطير مشابهة لدى الشعوب الهندية والصينية وبعض ٍ من شعوب أفريقيا. وفي هذا المجال أيضاً نقرأ للدكتور نسيم جوزيف شلهوب في كتابه (العهد القديم بين حقيقة مقدسة واسطورة مسيسة) : " وهو ( أي العهد القديم = التوراة) في معظم محطاته اقتباس واستلهام من سِير واساطير شعوب ٍ أحاطت بالشعب العبري، وفي بعض الاحيان حكمته، عبدت الأوثان وغيرها. ومن أبرز هذه الاقتباسات رواية خلق العالم. وقصة الطوفان وسفينة نوح التي وردت في الأساطير الصينية والهندية والبابلية وغيرها التي غرقت في مجاهل التاريخ او اكتشفت مؤخراً كملحمة جلجامش وملحمة أتراحسيس التي عُثر عليها في بابل ويرقى عهدها الى 1600 ق.م. ( اي الف سنة قبل تدوين التوراة) وفي ابياتها ال 1645 ترد روايتي الخلق والطوفان وهما شبيهتان كثيراً بما ورد في الكتاب (العهد القديم)، وجميعها سبقت الرواية العبرية، وفي متابعة باقي أحداث الكتاب نخرج بالكثير من الاقتباسات الأسطورية".
إذن، الألهة عرفتها الشعوب القديمة قبل العبرانيين بالآف السنين. والسومريون عرفوا التوحيد مع الإله آن، والبابليون عرفوا التوحيد مع الإله إيل، الذي اتخذه ابراهيم إلهاً وبعده يعقوب أيضاً، قبل ان يولد موسى بما لا يقل عن خمس مئة سنة.
ففي الاصحاح الحادي عشر كلام سطحي عن تعدد لغات البشر وتفسير خاص وخاطيء من قبل كاتب التوراة لمعنى بابل، إذ اعتبر الكاتب ان الله نزل وبلبل السنة أهل المدينة : " لذلك دُعي إسمها بابل. لأن الرب هناك بلبل لسان كل الارض". هكذا جاء في سفر التكوين الاصحاح 9:11، أما المعنى الحقيقي لبابل فمرتبط بالإله إيل وهي تعني باب إيل أي باب الله. يقول الأب الدكتور سهيل قاشا في كتابه (بابل والتوراة) : " بابل او باب إيل، باب الأله، أو باب الآلهة، أو بيت الله، على عكس ما تفسّره التوراة". عندما خرج ابراهيم مع أبيه من أور الكلدانيين قاصدين أرض كنعان: ظهر الرب لأبرام وقال لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحاً للرب الذي ظهر له. ثم انتقل من هناك الى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته" سفر التكوين الإصحاح 7:12. وهذا يعني أن عبادة إيل كانت قد عمت سورية الطبيعية بأكملها، أي بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام أو أرض كنعان. وها هو ملاك الله يأتي يعقوب = إسرائيل في الحلم ويقول له : " أنا إله بيت أيل". اما في الاصحاح الثالث والثلاثين فأن يعقوب يُعلن بصراحة واضحة بأنّ إله إسرائيل هو إيل: " وأقام هناك مذبحاً ودعاه إيل إله إسرائيل". وقد وقع كاتب العهد القديم بالخطأ عندما قال على لسان يعقوب :" ودعا يعقوب اسم المكان الذي فيه تكلم الله معه بيت أيل". فبيت إيل كانت موجودة قبل يعقوب وقبل جدّه ابراهيم. إلا إذا كان يعقوب سمّى مكاناً آخر بهذا الأسم وهذا يعني أيضاً ان الله بالنسبة ليعقوب كان إيل الإله الكنعاني.
لقد استعمل كاتب التوراة في بداية سفر التكوين كلمة الربّ للدلالة على الإله، ومع يعقوب أصبح إسمه إيل، إذ إنّ يعقوب كان قد وُلد لإسحق في أرض كنعان الذي كان الشعب فيها، أي الكنعانيون الذين عرفوا التوحيد من خلال إيمانهم بإيل. ولكن ما أن أوغل كاتب التوراة في قصّته مشدّداً على بني إسرائيل كشعب خاص، له إله خاص به، حتى غيّر الكاتب إسم هذا الله الى يهوه". ثم كلّم الله موسى وقال له أنا الربّ، وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء. وأما بإسمي يهوه فلم أعُرف عندهم" خروج 2:6-4. وكُثر من الدّراسين اليوم يؤكدّون أن يهوه هو أحد آلهة كنعان أيضاً، سطا عليه كاتب التوراة وأعتبره إلهاً خاصاً للعبرانيين وقوّل هذا الإله ما شاء من مخيلته مستفيداً من تجارب الشعوب التي احتكَ بها والتي كانت قد اتخذت آلهة فرعية أوكلت اليها مهمة الوقوف الى جانبها خاصة في مواجهتها مع الأعداء. وبعد ذلك أصبح هذا الإله إلهاً خاصاً بالعبرانيين، وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن النسخة العبرية من التوراة تذكر دائماً يهوه كإله لبني إسرائيل وليس الله، أما الترجمة الى العربية فقلبت في معظم الأحيان كلمة يهوه الى الله أو الرب للإيحاء يأن اليهود يعبدون الله ذاته الذي يعبده بقية البشر . نقرأ من سفر الخروج : " وقال الله أيضاً لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني اليكم... فإذا سمعوا لقولك تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل الى ملك مصر وتقولون له الربّ إله العبرانيين التقانا" خروج 3: 15-18 . وإذا ما محّصنا بهذا الكلام نجد هنا أن الربّ الذي أصبح يُدعى يهوه لم يعد إله الكون والناس أجمعين، بل قزّمه كاتب التوراة ليصبح إلهاً خاصاً ببني إسرائيل. وكلّ انبياء إسرائيل الذين ورد ذكرهم في التوراة لم يتركوا لنا مجالاً للشك بأنهم استأثروا بهذا الإله الذي تحوّل لاحقا الى إله حرب قبلي يسير أمام شعبه لدحر أعدائه والقضاء عليهم ليسهّل لهم الاستيلاء على أرضهم ومدنهم. وبهذا يكون اليهود قد تخلّوا عن الإعتقاد بإله واحد لصالح الاعتقاد بإلهة مختلفة، إله واحد لهم، نعم، ولكن هذا الإله يتقاسم السلطة الكونية مع آلهة الشعوب الأخرى، فأين يكمن التوحيد انطلاقاً من هذا المفهوم؟ لقد وقعوا ليس فقط بالإزدواجية، بل تجاوزوها الى تعدّدية الآلهة، وبذلك لا يمكن اعتبار اليهودية ديانة توحيدية، وبالطبع هي ليست الديانة التوحيدية الاولى. ومن يقرأ التوارة بوعي عقلاني لا يمكن إلاّ وان يدرك هذه الحقيقة الواضحة، إذ كيف يمكن ان نفسر الجملة التي تكررت دائماً في سفر الخروج وما بعده من أسفار، أعني جملة: " هكذا قال الرب إله إسرائيل" خروج 27:32، وكلّم الربّ موسى قائلاً: " كلّم بني إسرائيل..." لاويين 28:7. إن الشريعة التي أعطاها يهوه لموسى أكد له في كلّ جملة أنهّا فقط لبني إسرائيل، حتى الوصايا العشر التي أخذها الكاتب من شريعة حمورابي التي كانت شريعة وضعية اجتماعية تطبّق على كلّ الناس، وجعل إلهه يلقّنها لموسى على أنهّا الشريعة الانسانية الاولى، نفهم من تفاصيلها أنهّا مخصصة لكي يتعامل بها اليهود فيما بينهم لا ان يُعاملوا بموجبها الآخرين : " لا تسرقوا ولا تكذبوا ولا تغدروا أحدكم بصاحبه" لاويين 11:19، ولم يقل لا تغدورا بأحد، " بالعدل تحكم لقريبك" لاويين 15:19، ولم يقل بالعدل تحكم بين الناس، " لاتقتل. لا تزن. لا تسرق. لا تشهد على قريبك شهادة زور. لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك..." كلّ التركيز كان على القريب فهي أحكام وضعية خاصة بشعب إسرائيل وليست دعوة إنسانية كونية. كان علينا ان ننتظر يسوع لكي يعمّم هذه الوصايا لتصبح شمولية. وما يؤكدّ قولنا هذا هو، الى جانب ورود كلمة قريبك فقط في بعضها، هو طلب هذا الإله من شعبه في أمكنة كثيرة أخرى أن يقتل، ويسرق، ويكذب، ويدّمر غير آبه بوصاياه : " فالآن أقتلوا كلّ ذكر من الأطفال..." عدد 17:31،" متى أتى بك الربّ إلهك الى الارض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوباً كثيرة من أمامك... وضربتهم فإنك تُحرّمهم (اي تقتلهم جميعاً)" تثنية 7: 1-2، وهذه الاية تحمل الطلب بالقتل وبسرقة أرض الآخرين ومتاعهم في آن. " وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى. طلبوا من المصريين أمتعة فضّة وأمتعة ذهب وثياباً. وأعطى الربّ نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم. فسلبوا المصريين" خروج 24:12. إضافة الى ذلك فبنو إسرائيل لم يتقيدوا أبداً بهذه التعاليم الخاصة، فقتلوا بعضهم البعض وزنوا بنساء بعض، ولنا بداود وأبنائه خيرُ مثال، وقبله بنات لوط مع أبيهم. فكتاب العهد القديم هذا الذي أدّعى اليهود أنه يحتوي على الديانة التوحيدية السماوية الأولى والتي نهلت منها جميع الديانات، لا يمكن ان نقرأ فيه كلاماً موّجهاً لعموم الناس كما فعل يسوع ومحمد، بل كلاماً محدداً ومخصصاً لبني إسرائيل، وهو لا يحتوي على عبرة اخلاقية واحدة يمكن أن نعتبرها توجيهاً للنفوس والعقول. ويقول الأب إسطفان شربنتيه. " ان الكتاب المقدس، لا سيما العهد القديم، كتاب مُحيّر، نعلم، قبل ان نفتحه، انه الكتاب المقدس عند اليهود والمسيحيين، ونتوقع ان نجد فيه كلام الله غير ممزوج بشيء : أي نوعاً من كتاب التعليم الديني او اللاهوت الأدبي، وعندما نفتحه نجد فيه قصصاً من ماضي شعب صغير، قصصاً كثيراً ما تكون لا فائدة لها، وروايات لا نستطيع أن نقرأها بصوت مرتفع من دون أن نخجل، وحروباً واعتداءات لا مبرّر لها، وقصائد لا تحملنا الى الصلاة وان سميناها مزامير، وفضائح اخلاقية وسفاح قربى، وكثيراً ما هي مبغضة للنساء". يهوه، إله اليهود، كان يطلب دائماً من موسى، وبعد موته من يشوع، ان يقول لبني اسرائيل كذا وكذا، لم أجد في التوارة وصية واحدة طلب من موسى إيصالها الى جميع الناس، بينما يسوع وجّه تلاميذه ليكرزوا ويعلّموا الناس أجمعين في كل مكان، وكذلك نقرأ في القرآن توجهاً عاماً الى كلّ المؤمنين:
يا أيها الذين آمنوا...
اليهود هم أبعد الناس عن التوحيد، بل هم مشركون، تقول الإعلامية الدكتورة ريما نجم بجاني، في رأي لها تصدّر كتاب الدكتور نسيم جوزيف شلهوب، ما يلي: " والله واحد لا شريك له، وهو للبشرية جمعاء أب، أما في الفكر اليهودي وأدبيّاته الدينية، فالله له وحده (اي لشعب اسرائيل)، وللأمم الأخرى آلهة وأصنام... " لقد عرف المصريون القدماء التوحيد على يد أخناتون الذي تتحدث الدراسات أنّه وصل اليه عن طريق والدته وجدته السوريتين. يقول ويل ديورانت في موسوعته (قصة الحضارة): " ويرى اخناتون ان إلهه رب الأمم كلهّا، بل أنه في مديحه يذكر قبل مصر غيرها من البلاد التي يوليها الإله عنايته. ألا ما أعظم الفرق بين هذا وبين العهد القديم عهد آلهة القبائل". وكذلك فعل الصينيون فقد ورد في مجموعة (الديانات في الماضي والحاضر) ما مفاده بأن أهل الصين القدماء آمنوا " بوجود حاكم أعلى واحد فوق كلّ الأرواح وفوق كلّ الناس... هو القوة العليا المسيطر على العالم "، وكذلك فعل الزرادشتيون في بلاد فارس القديمة حيث يقول المرجع الديني الأعلى للزرادشتيين في ايران السيد رستم شهرزاي: " نحن نعتقد ان نبينا زرادشت كما ونحن نعتقد بوحدانية الله فلا نعبد غيره"، وزرادشت ظهر في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، أي قبل تدوين التوارة بمئتي سنة. من هنا نرى ان معظم الشعوب القديمة عرفت التوحيد بشكل أو بآخر، وأطلقت على الله أسماء مختلفة حسب لغاتها، أما بنو اسرائيل فبالاضافة الى أنهم غيّروا اسم الربّ الذي ابتدأ به سفر التكوين ليصبح يهوه أحياناً ورب الجنود أحياناً، فأنّ صفات هذا الإله لا تتلاءم مع صفات ربّ الكون الواحد الذي يؤمن به معظم البشر اليوم . فالله في المسيحية هو محبة، تسامح، وغفران، وعدل، كذلك هو في المحمدية، أما في اليهودية فهو إله منتقم حتى أنّه أنتقم من موسى نفسه، لأنه قرّر بأن موسى قد خانه لأنه لم يقدّسه في وسط بني إسرائيل .( تثنية 22: 51)، وهو إله يغيّر رأيه ويقبل المساومة كما حصل بينه وبين ابراهيم عندما قرّر الانتقام من سدوم وعمورة، ويندم: " فندم الرب على الشر الذي قال انه يفعله بشعبه (خروج 14:32 ) ومن سفر صموئيل الثاني نقرأ : فجعل الرب وباءً في اسرائيل من الصباح الى الميعاد فمات من الشعب من دان الى بئر سبع سبعون الف رجل " فندم الربّ عن الشر وقال للملاك المهلك الشعب كفى"، ويتعب كما جاء في تكوين : " وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح..." وهذا يعني انه تعب لكي يستريح، فهل هذه هي صفات الله الكليّ القدرة الذي نعبد؟ والأسوأ من كل هذا فهو إله متعطش دائماً لرائحة الدم. جاء في سفر التثنية الاصحاح الرابع ما يلي :" لأنّ الرب إلهك هو نار اكلة إله غيور " 24:4، " فاعلم اليوم ان الربّ إلهك هو العابر أمامك نارا آكلة " تثنية 3:9. هذا الإله المختلف معنى ومضموناً مع الله الواحد الذي يعبده بقية المؤمنين، لا يزال حتى اليوم يُلهم قادة اسرائيل بقتل الابرياء من شعبنا، ويعطيهم الحجّة الإلهية غير القابلة للنقاش باستمرار السيطرة على فلسطين ومحاولة التوسع لاقامة إسرائيل الكبرى تحقيقاً للوعد الإلهي المزعوم. ويحاول البعض القول بأنّ هذه التوراة التي بين أيدينا ليست التوراة الإصلية . وكثيرة هي الأصوات التي ارتفعت قائلة بأن ما تم اكتشافه في قمران قرب البحر الميت هو لفائف تشكل التوراة البديلة لكنّني لم أجد كبير فرق بين النسختين بل ان التركيز في الإثنتين ينصبّ فقط على بني اسرائيل وإلههم الخاص. بالاضافة الى ذلك أقول بأنّه ما لم يعثر المنقبون على نسخة مخالفة كلياً للنسخة المعتمدة حالياً في كل اللغات فنحن مضطرون لاعتمّاد النسخة التي بين أيدينا والتي استندت اليها ومنها اقتبست الأمثلة.
وهذ لأمثلة قليلة مما تحفل به التوراة من دلائل تؤكد كلّها انهم لم يعرفوا التوحيد الحقيقي، وبأن النبي الكريم محمداً بن عبدالله حاول إعادتهم الى الصراط المستقيم فلم يُفلح، فنزلت الآية رقم 81 من سورة المائدة : " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا... " فقدّم اليهود على المشركين بالعداوة للدين وللمؤمنين، والمؤمن الحقيقي لا يمكن ان يكون عدواً لغيره من المؤمنين. ويتماهى هذا القول مع ما جاء في إنجيل يوحنا الاصحاح الرابع – المقطع 22: " أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود". وأضاف : " أنتم من أب هو إبليس ... ذاك كان قتالاً للناس، وهو يعني إلههم يهوه، من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حقّ. متى تكلّم بالكذب فإنما يتكلّم ممّا له لأنه كذّاب وأبو الكذّاب " 44:8.
اليهودية كانت منتشرة في الجزيرة العربية عند اطلاق محمد لرسالته (وأشرنا الى ان بعض الباحثين يؤكدون ان اليهودية وُلدت في الجزيرة العربية) . ويبدو أن محمداً كان قد خبر أخلاقهم وهو بالطبع اطلّع على أساطيرهم. ولمّا كان هدفه أولاً دعوة الوثنيين الى عبادة الله الواحد، دعا أيضاً اليهود للعودة الى اتبّاع الدين القويم. نعم القرآن يحفل بالآيات التي تشير الى موسى وأنبياء اليهود والى ما جاء في التوراة الى حد بعيد. لكن محمداً أراد من كلّ ذلك أن يستجلب اليهود الى الدين الحنيف فأشار الى كتابهم وأنبيائهم لكنه قال في الآية الثانية من سورة يوسف : " نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك..." وفي آية أخرى يقول : " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب". إذن هو اعتبر ما جاء في التوراة قصصاً أتى بها الأولون وهي للإجتهاد وليس للإعتقاد كما يقول أسعد زيدان في كتابه : ( الناس والتاريخ).
وأفضل ما نختم به حديثنا حول هذا الموضوع هو ما قاله عالمان يهوديان الأول هو اسرائيل شاحاك وهو عالم بالكيمياء عمل أستاذاً محاضراً في الجامعة العبرية في القدس المحتلة، حيث يقول في كتابه (الديانة اليهودية وتاريخ اليهود) ما يلي : " وإنّني لاعتبارات تتعلق بالمجال المتوافر، سأكتفي بالتعاطي بالتفصيل، مع أهمّ هذه الأوهام الباطلة الشائعة في وسط عامة الناس، ألا وهي : أنّ الديانة اليهودية كانت وما زالت، ديانة تؤمن بإله واحد. والآن، وكما يعرف العديد من علماء التوراة، وكما تكشف بسهولة، القراءة الدقيقة للتوراة، فان وجهة النظر هذه التي لا علاقة لها بالتاريخ، وجهة نظر خاطئة تماما. ففي العديد من أسفار التوراة، ان لم يكن في معظمها، هناك إقرار واضح، بصحة وجود، وبقوة آلهة أخرين. ولكن يهوه، إله اليهود، وهو أقوى هذه الإلهة، يشعر بغيرة شديدة من منافسيه، ويمنع شعبه من عبادتهم. امّاً وجود الالهة كافة، غير يهوه، فلا ينكره الا بعض الانبياء اللاحقين، في فترة متأخرة جداً في التوراة".
والعالم الثاني هو سيغموند فرويد أب علم النفس الحديث الذي يقول في كتابه (موسى والتوحيد) ما يلي : " ليس من المؤكد ان ديانته (موسى) كانت ديانة توحيدية حقيقية".
هو يشير في مكان آخر الى " المؤثرات التوحيدية السورية المصدر" التي فرضت نفسها على تطور الديانة المصرية الى أن وصلت إلى التوحيد مع أخناتون، إلى أن يقول " إذا كان موسى حقاً وفعلاً مصرياً، وإذا كان قد أعطى اليهود ديانته ذاتها، فقد كانت ديانة أخناتون، ديانة آتون". وقد أبدى رأيه بالإله يهوه قائلاً : " فلا مراء البتة في أن الإله يهوه، الذي أهداه موسى المدياني شعباً جديداً، لم يكن كائناً أعلى، بل كان إلهاً محلياً محدوداً وشرساً، عنيفاً ودموياً. ويقول أيضاً : " وإنّه لممّا يبعث على دهشة أكبر أيضاً أنّ نرى هذا الإله يختارُ لنفسه على حين بغتة شعباً من الشعوب ليجعل منه شعبه ويعلن أنّه إلهه. هذه على ما أعتقد واقعة يتيمة في تاريخ الأديان الإنسانية". هي أمثلة قليلة مما حفلت به التوارة من أدلّة كثيرة تؤكد ما ذهبنا إليه من أنّهم وحدّوا عبادتهم هم لإله واحد، لكنهم لم يحاولوا أبداً إشراك غيرهم بهذه العبادة وهذا الإله، فبقي إلهاً قبلياً حاضراً لنصرة بني إسرائيل على أعدائهم الوهميين، لأن الشعوب القديمة رحّبت بهم وبالرغم من ذلك أعتبروا أن كلّ الشعوب أعداء لهم. هل هذا يعني أنّني أنكر على اليهود أن يكون لهم دينُهم وإلههُم ؟ بالطبع لا، لأنني أؤمن بحريّة الفكر والمعتقد، وهذا بالتالي يعني أنّني أؤمن بالصراع الفكري لإغناء الحضارة الإنسانية. ففي الوقت الذي لا أسمح فيه لنفسي أن أفرض رأيي على الآخرين بالقوة، لا أقبلُ من الآخرين أن يفرِضوا عليّ معتقداتهم، وخاصة الماورائيّة، وليس ذلك فقط بل أن يحرموا أيّاً كان من إبداء الرأي فيها وكشف حقيقتها. وهذا بكل بساطة ما حاولت أن أقوله.
أما آن الآوان أن يقرأ المؤمنون، كتاب التوارة بعقل منفتح لا بفكر نمطي مغلق؟ إن الإستمرار بالتغاضي عن هذه الحقائق هو الذي يشجع إسرائيل على استمرارها باحتلال فلسطين وضربها عرضَ الحائط بكل القرارات الدولية. وقناعة المؤمنين المسيحيين والمحمّديين بقداسة كتاب التوراة ما هي إلا انجرارٌ دائم وراء الخدعة اليهودية التي أضفت القداسة على كمّ هائل من الأساطير والقصص التي يجب أن توضع في خانتها الحقيقية، أي يجب أن تُعتبر أدباً شعبياً ليس نتاج بني إسرائيل، بل هو نقل فاضح عن الأولين الذين وضعوه في دائرته الحقيقية. إله اليهود هو أحد الآلهة الحربيّة القبلية التي عرفتها الشعوب القديمة واستقوت بها على أعدائها، ومع اهتدائها الى التوحيد تخلت عنها. فهلاّ من يُقنع اليهود بالتخلّي عن هذا الإله القبلي وعبادة الله الواحد الأحد؟ وإن لم يقتنعوا، وبالطبع لن يقتنعوا، فهل على كلّ المؤمنين مجاراتهم إشراكهم؟ أم التمسّك بمضامين دياناتهم الحنيفة؟ فالله كما يقول إبن رشد : " لا يمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها".
كل بحث يتطلب الجهد والوقت هو عمل مشكور صاحبه
ملاحظاتي تتناول بعض السلبيات التي من المفيد تجنبها في الأبحاث المقبلة.
1-في المقدمة عدة اقتباسات بدون ذكر المصدر
2-محور الدراسة"التوحيدعند اليهود" يأخذ حيّزا صغيرا في الدراسة
3-أخذ اقتباسات في هذا الموضوع من أشخاص غير مختصين لا يعطي قيمة مهمة للبحث
4-إغفال أهم مفكّر في هذا الموضوع على المستوى المحلي والعربي والدولي يشكل ثغرة كبيرة. المفكر هو أنطون سعادة
5-الإشارة إلى نظريات اللغو اللغوي لكمال الصليبي وأتباعه دون أخذ موقف نقدي منها لم يكن مفيدا