سعاده استشرفَ باكراً الخطرَ الصهيونيَ ونبّهَ إليهِ وأدركَ ما سَينتُجُ عنهُ من عواقبَ وخيمةٍ، وبدأ حرباً فكريةً ضدَّهُ مقترحاً على الأمة حلولاً بدعوتِه للوحدةِ الإجتماعيةِ والتماسكِ الداخليِ لمجابهةِ هذا الخطرِ الزاحفِ إليها. وسعاده، حقاً نقولُ، كان مصيباً في إستشرافِه لخطرِ الحركةِ الصهيونيةِ وفي تحليلِهِ لِطبيعتِها ولِقواعدِ عَمَلِها المرتكزةِ على خطةٍ نظاميةٍ دقيقةٍ. فهذهِ الحركةُ التي مَثَّلتْ دورَ الحكومةِ العالميةِ ليهودِ العالمِ أينما وُجِدوا، حقَقَتْ نجاحاً كبيراً لأهدافِها وتمكنت بحلولِ عام 1948 من تحويلِ مشروعِها إلى ثوابتَ على الأرض وذلك بفضلِ المساعي السياسيةِ التي بذلتْها للإستحصالِ على دعمِ وتأييدِ الدولِ الإستعماريةِ الكبرى وحمايتِها العسكريةِ ولإعطاءِ مُخططاتِها السندَ القانونيَ الدوليَ (من خلالِ الوعودِ البلفورية[1] وأهمُها وعدُ بلفورَ المشؤوم) وبفضلِ المؤسساتِ الإقتصاديةِ والإجتماعيةِ والماليةِ التي أوجدتْها لِتمويلِ موجاتِ الهجرةِ المنظمةِ باتجاهِ فلسطينَ وعملياتِ شراءِ الأراضي..[2] وبفضلِ المنظماتِ الإرهابيةِ وشِبهِ العسكريةِ التي أَنشئَتْها[3] لحمايةِ الإستيطانِ ولترويعِ الفلسطينيينَ بعملياتٍ إرهابيةٍ بهدفِ طَردِهم من ديارِهم.. وبفضلِ المؤامراتِ والدسائسِ التي أحاكتْها والأدوارِ السياسيةِ المختلفةِ التي وزعتْها والإمكانياتِ الفكريةِ والماليةِ والإعلاميةِ التي سخّرتْها والمجازِرِ الإرهابيةِ التي ارتكبتْها وهيَ لا تُحصى والعملياتِ الإجراميةِ من إغتيالاتٍ ونسفٍ وخطفٍ وتَجسسٍ وإرتكاباتٍ مُشينةٍ التي نفَّذتْها والأساليبِ اللاأخلاقيةِ المتنوعةِ في المَكرِ والخِداعِ والدعايةِ التي مارستْها والأضاليلِ الدينيةِ التي روَّجتْها وحَشَتْ عقولَ الغربيينَ بها فَتَرَسَّخَ في أذهانِهم ان رجوعَ اليهودِ لإقامةِ دولتِهم فوقَ أرضِ فلسطينَ هو أمرٌ مُسَلَّمٌ بهِ ويُمثِّلُ حقيقةً دينيةً يجبُ ان يؤمنَ بها كلُ مسيحي.. بفضلِ كلِ هذه الممارساتِ والأساليبِ والخططِ الشِريرةِ حققتْ الحركةُ الصهيونيةُ نجاحاً كبيراً وأمسى حُلْمُها المنشودُ حقيقةً متجسّدةً في دولةٍ عنصريةٍ إستيطانيةٍ متغطرسة.
واقع الأمة السورية:
ولكن ما ساعدَ الصهيونيةَ وسهَّلَ تحقيقَ أهدافِها هو واقعُ أمتِنا الرديءُ وتَخَبُطُها في أمراضِ الجهلِ والفوضى والضعفِ والتفسخِ الروحيِ والتجّزئةِ الكيانيةِ المشؤومةِ والإنقساماتِ الإجتماعيةِ يضافُ إليها تخاذلُ الفئاتِ الحاكمةِ الرجعيةِ وتآمرُها وانصرافُها عن قضايا الشعبِ وأوجاعِه لتحقيقِ مصالحِها العائليةِ والخصوصيةِ في الحكمِ ومنافعه.. هذه الفئاتُ المتسلِّطةُ أَلْهَتْ الشعبَ في قضايا غيبيةٍ عقيمةٍ رجعيةٍ ودينيةٍ ومذهبيةٍ وفي مزايداتٍ إعلاميةٍ ووعودٍ كاذبةٍ وشعاراتٍ إنفلاشيةٍ مستحيلةٍ بَدَلَ الإهتمامِ بحاجاتِه ومصالِحِه وبدلَ الإنصبابِ على بناءِ الدولةِ العصريةِ الديمقراطيةِ القادرةِ على مواجهةِ الطامعينَ الغزاة. إن الدولةَ الغاصبةَ لم تنشأْ بفضلِ مهارتِهم ولا بشيءٍ من عقلهِم وقوتِهم الخلاّقةِ بل هي نشأَت، كما يحلّلُ سعاده، "بفضلِ التفسخِ الروحيِ الذي اجتاحَ الأمةَ السوريةَ ومزّقَ قواها وبعثرَ حماسَها وضربَها بعضَها ببعض وأوجدَها في حالةِ عجزٍ تجاهَ الأخطارِ والمطامعِ الأجنبية."[4]
ان تفكُكَ أمتِنا وعَجْزَها كان نتيجةَ التآمرِ الغربيِ الإستعماريِ الذي قَطَّعَ أوصالَها في جريمةِ سايكس بيكو وهي في حالةِ ذهولٍ وتضعضعٍ وضياعٍ بعدَ قرونٍ طويلةٍ من صراعِها الحضاريِ ضدَ بربريةِ السلاجقةِ والصليبيينَ والمماليكِ والمغولِ والعثمانيينَ ونتيجةَ تسلطِ الحكّامِ الرجعيينَ الإقطاعيينَ والوصوليينَ المنفصلينَ عن الشعبِ وهمومِه والمساهمينَ في إستمرارِ الأوضاعِ الفاسدةِ وفي تكريسِ أمراضِ المجتمعِ وعاهاتِه.. وكنتيجةٍ لحالةِ العجزِ والتجزئةِ والضياعِ غابت قضيةُ الأمةِ وحَقيقتُها عن وجدانِ الشعبِ وإدراكِه وغَرق هذا الشعبِ في تخلفِهِ وإنقساماتِه الإجتماعيةِ تتقاذفُه الأحقادُ المذهبيةُ وقضايا النفسيةِ الرجعيةِ الإتكاليةِ وأعمالِها الإعتباطيةِ التي تعملُ بكلِ قواها على جمعِ قوى الطائفيةِ وتكتيلِها... كلُ هذه العواملِ أنزلت بنا كوارثَ جسيمةً ومَكَّنتْ الصهيونيةَ من وطنِنا وأمتِنا.
**********************************************
[1] هو مصطلح يقصد به الإشارة إلى مجموعة من التصريحات التي أصدرها رجال السياسة في الغرب ويعِدون فيها بدعم إقامة الوطن القومي لليهود وتأمينه مقابل ان يقوم اليهود على خدمة مصالح الدولة الراعية. ومن الوعود البلفورية نذكر وعد نابليون والوعد الروسي االقيصري والوعد الإلماني. ويعتير تصريح بلفور (وزير الخارجية البريطاني) الذي وجهه إلى اللورد روتشيلد البريطاني اليهودي الصهيوني أهم حدث في تاريخ الصهيونية.
[2] كالوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي.
[3] كمنظمة هاشومير (الحراس اليهود) والهاغاناه وكالارغون التي اشتهرت بأعمالها الإرهابية الفظيعة والناحال والجدناع وغيرها من المنظمات التي درّبت الشباب على الحياة العسكرية وقامت بتنفيذ عمليات النسف والتخريب لترويع الفلسطينيين وطردهم من ديارهم.
[4] خطاب الزعيم في برج البراجنة، 29/05/1949، الجيل الجديد، بيروت، العدد 44، 31/5/1949