أهلاً بكم جميعاً في رحاب الفكر والمعرفة.. في هذا الملتفى الفكري الذي نسلّط فيه نورَ العقلِ - الشرعِ الأساسيِ الأعلى - على موضوعٍ ذي أهميةٍ كبيرةٍ يختصرُ بعنوانه حالةَ الحربِ المصيريةِ التي ُفرِضت على أمتنا منذ تأسست الحركةُ الصهيونيةُ العالميةُ بهدفِ إيجادِ وطنٍ قوميٍ لليهودِ في فلسطين مرتكزةً على فكرةِ "أرضِ الميعاد" الممتدةِ بين الفراتِ والنيلِ التي منحَها يهوه السمسارُ لشعبِه "المختار" من دونِ سائرِ الشعوبِ لتكونَ له ملكاً أبدياً كما جاء في قولِه لإبراهيم في سفر التكوين 7:17: "... أعطي لك ولنسلِك من بعدِك أرضَ غُربتِك، كلَ أرضِ كنعان، ملكاً ابدياً، وأكون إلهَهُم".
ان الحربَ المصيريةَ قائمةً بين مشروعينِ متناقضينِ لا يمكنُ التسويةُ بينهُما: مشروعٌ عدوانيٌ إستعماريٌ سرطانيٌ متسلحٌ بأعنفِ الوسائلِ الماديةِ والعسكريةِ المدّمرةِ ويمثّلُ الباطلَ العنصريَ والنفسيةَ البربريةَ الهمجيةَ المتحجرةَ في مُعتقداتِها ومزاعمِها التاريخيةِ الخرافيةِ والمُفعمةِ بالحقدِ واللؤمِ والظلمِ والكراهيةِ والعداءِ للشعوبِ ومشروعٌ مجتمعيٌ إنسانيٌ راقٍٍ يرتكزُ على مبدأِ الإشتراكِ في الحياةِ والتفاعلِ الإجتماعيِ الطبيعيِ في البيئةِ الواحدةِ وعلى ملكيةِ الأمةِ التاريخيةِ لِوَطنِها وما فيه من ثرواتٍ وخيرات، مشروعٌ حضاريٌ يمثّلُ النفسيةَ الجميلةَ الخلاّقةَ والمفعمةَ بالفضائلِ والقيمِ الساميةِ، هذا المشروعُ الذي يبغي تحسينَ حياتِنا القوميةِ والمساهمة في رقيِ الإنسانيةِ جمعاءَ هو مشروعُ سوريةَ الطبيعيةَ الحضاريةَ العريقةَ في جذورِها التاريخيةِ والغنيةِ في معطياتِها الإنسانيةِ والثقافيةِ الماضية.
المشروعُ الأولُ هو المشروعُ الصهيونيُ الذي يريدُ أن يُقوّضَ مُجتمعَنا من خلالِ طمسِ هويتِنا القوميةِ وتراثِنا المناقبيِ الإنسانيِ وتزويرِ تاريخِنا الحضاريِ وأساطيرِنا الجميلِة وسرقِة ثرواتِنا وكنوزِنا وآثارِنا الخالدةِ والحطِّ من قِيمِنا الأخلاقيةِ والدينيةِ الساميةِ وتشويهِ كلِ إنتاجِنا الحضاريِ ومسيرتِنا الثقافيةِ والسياسيةِ والإبداعية.
ان الرابطَ الوحيدَ الذي يجمعُ أصحابَ المشروعِ العدوانيِ ويشدّهُم إلى بعضِهم بعضاً هو رابطُ الدينِ ولا رابطةً لهم وطنيةً أو سلاليةً سواه. فالقولُ بوحدةِ العنصرِ اليهوديِ وبصفاءِ العُرقِِ اليهوديِ هو أمرٌ خرافيٌ لا ُيقّرُه العلمُ ولا ُيثبِتُه التاريخ. واليهودُ لا يشكلونَ أمةً واحدةً إلا إذا اعتبرْنا انَّ الأمةَ والقوميةَ تتأسسانِ على الدين، وهو أمرٌ مرفوضٌ في علمِ الإجتماعِ الحديث. فكما لا يُمكنُنا إعتبارَ المسيحيينَ أو المحمديينَ في العالمِ أمةً لا يُمكنُنا أيضاً ان نعتبرَ اليهودَ أمةً واحدةً ومجتمعاً واحداً.. ومعَ ذلك يعتبرُ اليهودُ أنفسَهم قوميةً قائمةً بنفسها وأمةً مقدسةً اختارَها الإلهُ يهوه كما جاءَ في سفرِ الخروج: "وأنتم تكونونَ ليَ مملكةَ كهنةٍ وأمَّةً مقدسة".[i]
ويعتقدُ اليهودُ بأنهم شعبٌ مميزُ عن باقي الشعوبِ لا بل يعتبرونَ أنهم وحدَهم فقطْ مخلوقاتٌ بشريةٌ رفيعة، أما غيرُهم من الناس فهُم في مستوى الحيواناتِ وأن يهوه إلهَهُم منحَهم العبقريةَ واختارَهم حسب ما تقولُه التوراةُ، لِيحكُموا الأرضَ ولِتكونَ باقي الشعوبِ في خدمتِهم.
وتعترِفُ التوراةُ اَّن "أرضَ الميعادِ" هيَ أرضُ كنعان وهي موطنٌ للعموريينَ والكنعانيينَ والآراميينَ وغيرَهم من الشعوب. وفي هذا الخصوصِ يؤكّدُ الدارسونَ والمؤرخونَ ان الكنعانيينَ (الفينيقيين) استوطنوا هذه الأرضَ منذُ عامِ 2500 ق.م. وبنوْا فيها مُدُناً محصنةً وموانىءَ مزدهرةً وحضارةً راقيةً أدهشَتْ العالمَ القديمَ ومعَ ذلكَ فإن اليهودَ يعتبرونَها وطنَهم ويُسمونَها "أرضَ إسرائيل" التي تَفيضُ لبناً وعسلاً ويعتقدونَ أن دينَهم لا يتمُّ لهُم إلا إذا اجتمعوا في هذه الأرضِ التي يؤكدون بأنها ملكٌ عامٌ مطلقٌ لِكلِ يهودِ العالمِ لذلك فهُم يريدونَها مطهّرةً ومحررةً من كل "رجسِ حيِّ" غيرِ يهودي". هذا يعني ان الشعبَ الذي يعيشُ على هذه الأرضِ منذُ آلافِ السنينَ هو، برأيِهم، مغتصبُ لهذهِ الأرضِ ويجبُ طردهُ منها وتحريرُها.
هذه الإعتقاداتُ الدينيةُ وغيرُها من الأفكارِ الوهميةِ التي نجدُها في سجلِّ توراتِهم وفي تعاليمِ تُلمودهِم وفي تراثِهم الروحيِّ والثقافيِّ شكَّلتْ الأساسَ الذي قامت عليه الحركةُ الصهيونيةُ العالمية. فهذه الحركةُ اليهوديةُ في شكلِها وأسلوبِها ومضمونِها وأشخاصِها والتي تشكِّلُ الجهازَ التنفيذيَ الشرعيَ والرسميَ لليهوديةِ هي وليدةُ الأساطيرِ والأوهامِ والمعتقداتِ القبليةِ البائدةِ والمنافيةِ لأي عقلٍ أو منطقٍ إنسانيينِ وهي حركةٌ عنصريةٌ قائمةٌ في فكرةِ "شعبُ يهوه المختار" وفي فكرةِ خلاصِ هذا الشعبِ الخاصِ وإخضاعِ شعوبِ العالمِ كلِها لهُ وهي بسلوكِها وأعمالِها حركةٌ مجرمةٌ لا تَقِل إجراماً وعنصريةً عن النازيةِ والفاشيةِ لا بل إنها نازيةٌ جديدةٌ غايتُها تدميرُ الحضارةِ الإنسانيةِ وتجديدُ عنصريتِها ومعتقداتِها البدائية.
إن فكرةَ "أرضُ الميعاد" الأسطوريةُ التي لا تستندُ على المنطقِ والحقيقةِ والتاريخِ والتي رسمَها هرتزل عام 1896 في كُتيّبِه "دولةُ اليهود" انطلَقت منها الحركةُ الصهيونيةُ وعملَت على تحقيقِها بمنطقِِ الإغراءِ والتحايلِ والخيانةِ والإستغلالِ ووفقَ عمليةٍ غيرِ طبيعيةٍ قَضَتْ بتحريض يهودِ العالمِ المختلفيِ النزعاتِ والمشاربِ والمتباينيِ الأخلاقِ والعاداتِ للهجرةِ إلى فلسطينَ والإستيطانِ فيها لتوجِدَ منهم تجمعاً أَثنياً عرقياً خالصاً يحلُّ محلَ السكان الأصليينَ في دولةِ عنصريةٍ تيوقراطيةٍ وظيفيةٍ تشكِّلُ بإمكانياتِها التكنولوجيةِ قاعدةً عسكريةً وصناعيةً متفوقةً للإستعمارِ الغربيِ الذي توافَقَتْ مَصالِحُه مع مصالحِ المشروعِ الصهيونيِ وتُعْتَبَرُ، برأيِهِم، واحةً للحضارةِ الغربيةِ ومركزاً ثقافياً وملاذاً ليهودِ العالمِ يحافظونَ فيها على تَفَرّدِهم ونقائِهم العنصريِ ويمارسونُ من خلالِها سيادتَهم ومشاركتَهم في صنعِ القرارِ والتاريخ...
ومنذُ إنطلاقتِها دَأَبتْ الصهيونيةُ على تذكيرِ اليهودِ بتفوقِهم الموهومِ ونقائِهم العرقيِ وعلى إيقاظِ عصبياتِهم العنصريةِ والدينيةِ وذلك بإستغلالِها لِمسألةِ تزايدِ العداءِ للساميةِ في أوروبا وبترويجِها الإعتقادِ بِعدمِ إمكانيةِ اندماجِهم في المجتمعاتِ التي وُلِدوا وتَرَعْرَعوا فيها لذلك يجبُ السعيُ لإقامةِ الدولةِ اليهوديةِ الخالصةِ في فلسطينَ والعيشُ في ظِلالِها.
وأدرك قادةُ الصهيونيةِ أَنه لا مجالَ لتحقيقِ أهدافِهم بوجودِ شعبِنا الفلسطينيِ على أرضِه فلجأَوا إلى الأكاذيبِ والتزويرِ والتزييفِ والتحريفِ وروّجوا شعاراً مثيراً ومخالفاً للحقائقِ والتاريخِ كان قد أطلقَهُ عامَ 1839 عضوُ البرلمانِ البريطانيِ اللورد شافتسبري (1801 ـ 1885) ومفادُه: "شعبٌ بلا وطنٍ لوطنٍ بلا شعب". إعتمدت الصهيونيةُ هذا الشعارَ الذي نَفَتْ فيهِ وبشكلٍ معنويٍ الوجودَ الكاملَ لِشعبِنا في فلسطينَ مرتكزةً على المقولةِ الدينيةِ التوراتيةِ الزائفةِ بأنَّ لهم "حقاً إلهياً" في فلسطينَ وعلى إدعاءِهم الباطلِ بملكيتِهم التاريخيةِ لها مع العلمِ ان وجودَهم فيها كان وجوداً عابراً ولم يدُمْ زمناً طويلاً إذ ان حكمهم الباطل الذي انتشرت فيه جميع أنواع الشرور والمظالم إنقسم على نفسه ليلاقي بعد حين اندثاره إلى غير رجعة.
ومنذ مطلعِ القرنِ الماضي بدأت فكرةُ الدولةِ اليهوديةِ الوظيفيةِ تتبلورُ وترتسمُ على الأرضِ وتُشكِّلُ مشروعاً خطيراً على حياتِنا ليس لأنه مشروعٌ عنصريٌ يرمي إلى تجميعِ حشدٍ من اليهودِ فقط بل، أولاً، لأنه مشروعٌ إستعماريٌ توسعيٌ يطمعُ في مياهِنا وثرواتِنا الطبيعيةِ وفي السيطرةِ على مدى جغرافيٍّ حيويٍّ واسعٍ يستوعبُ الفائضَ البشريَ اليهوديَ الذي أرادتْ أوروبا ان تتخلصَ منه والذي يفوقُ عدَدُه اليومَ الخمسةَ عشرَ مليوناً منتشرينَ في أنحاءِ العالم.. لذلك قال سعاده: "إن خطرَ اليهودِ لا ينحصرُ فقط في فلسطينَ بل هو يتناولُ لبنانَ والشامَ، إنه خطرٌ على الشعبِ السوريِ كلِه لأن اليهودَ لن يكتفوا بالإستيلاءِ على فلسطينَ ففلسطينُ لا تكفي لإسكانِ ملايينِ اليهود". وثانياً، لأنه مشروعٌ إلغائيٌ يريدُ إجتثاثَ وجودِنا وتفريغَ أرضِنا ومُصادرتِها عبرَ قوانينَ عنصريةٍ جائرةٍ وتهويدَها بتغييرِ معالمِها الحضاريةِ وتحويلَ ملكيتِها إلى ملكيةٍ يهوديةٍ تُسَجَّلُ باسمِ الشعبِ اليهوديِ إلى الأبدِ وتبني عليها المستوطنات..
سعاده استشرفَ باكراً الخطرَ الصهيونيَ ونبّهَ إليهِ وأدركَ ما سَينتُجُ عنهُ من عواقبَ وخيمةٍ، وبدأ حرباً فكريةً ضدَّهُ مقترحاً على الأمة حلولاً بدعوتِه للوحدةِ الإجتماعيةِ والتماسكِ الداخليِ لمجابهةِ هذا الخطرِ الزاحفِ إليها. وسعاده، حقاً نقولُ، كان مصيباً في إستشرافِه لخطرِ الحركةِ الصهيونيةِ وفي تحليلِهِ لِطبيعتِها ولِقواعدِ عَمَلِها المرتكزةِ على خطةٍ نظاميةٍ دقيقةٍ. فهذهِ الحركةُ التي مَثَّلتْ دورَ الحكومةِ العالميةِ ليهودِ العالمِ أينما وُجِدوا، حقَقَتْ نجاحاً كبيراً لأهدافِها وتمكنت بحلولِ عام 1948 من تحويلِ مشروعِها إلى ثوابتَ على الأرض وذلك بفضلِ المساعي السياسيةِ التي بذلتْها للإستحصالِ على دعمِ وتأييدِ الدولِ الإستعماريةِ الكبرى وحمايتِها العسكريةِ ولإعطاءِ مُخططاتِها السندَ القانونيَ الدوليَ (من خلالِ الوعودِ البلفورية[ii] وأهمُها وعدُ بلفورَ المشؤوم) وبفضلِ المؤسساتِ الإقتصاديةِ والإجتماعيةِ والماليةِ التي أوجدتْها لِتمويلِ موجاتِ الهجرةِ المنظمةِ باتجاهِ فلسطينَ وعملياتِ شراءِ الأراضي[iii].. وبفضلِ المنظماتِ الإرهابيةِ وشِبهِ العسكريةِ التي أَنشئَتْها[iv] لحمايةِ الإستيطانِ ولترويعِ الفلسطينيينَ بعملياتٍ إرهابيةٍ بهدفِ طَردِهم من ديارِهم.. وبفضلِ المؤامراتِ والدسائسِ التي أحاكتْها والأدوارِ السياسيةِ المختلفةِ التي وزعتْها والإمكانياتِ الفكريةِ والماليةِ والإعلاميةِ التي سخّرتْها والمجازِرِ الإرهابيةِ التي ارتكبتْها وهيَ لا تُحصى والعملياتِ الإجراميةِ من إغتيالاتٍ ونسفٍ وخطفٍ وتَجسسٍ وإرتكاباتٍ مُشينةٍ التي نفَّذتْها والأساليبِ اللاأخلاقيةِ المتنوعةِ في المَكرِ والخِداعِ والدعايةِ التي مارستْها والأضاليلِ الدينيةِ التي روَّجتْها وحَشَتْ عقولَ الغربيينَ بها فَتَرَسَّخَ في أذهانِهم ان رجوعَ اليهودِ لإقامةِ دولتِهم فوقَ أرضِ فلسطينَ هو أمرٌ مُسَلَّمٌ بهِ ويُمثِّلُ حقيقةً دينيةً يجبُ ان يؤمنَ بها كلُ مسيحي.. بفضلِ كلِ هذه الممارساتِ والأساليبِ والخططِ الشِريرةِ حققتْ الحركةُ الصهيونيةُ نجاحاً كبيراً وأمسى حُلْمُها المنشودُ حقيقةً متجسّدةً في دولةٍ عنصريةٍ إستيطانيةٍ متغطرسة.
ولكن ما ساعدَ الصهيونيةَ وسهَّلَ تحقيقَ أهدافِها هو واقعُ أمتِنا الرديءُ وتَخَبُطُها في أمراضِ الجهلِ والفوضى والضعفِ والتفسخِ الروحيِ والتجّزئةِ الكيانيةِ المشؤومةِ والإنقساماتِ الإجتماعيةِ يضافُ إليها تخاذلُ الفئاتِ الحاكمةِ الرجعيةِ وتآمرُها وانصرافُها عن قضايا الشعبِ وأوجاعِه لتحقيقِ مصالحِها العائليةِ والخصوصيةِ في الحكمِ ومنافعه.. هذه الفئاتُ المتسلِّطةُ أَلْهَتْ الشعبَ في قضايا غيبيةٍ عقيمةٍ رجعيةٍ ودينيةٍ ومذهبيةٍ وفي مزايداتٍ إعلاميةٍ ووعودٍ كاذبةٍ وشعاراتٍ إنفلاشيةٍ مستحيلةٍ بَدَلَ الإهتمامِ بحاجاتِه ومصالِحِه وبدلَ الإنصبابِ على بناءِ الدولةِ العصريةِ الديمقراطيةِ القادرةِ على مواجهةِ الطامعينَ الغزاة. إن الدولةَ الغاصبةَ لم تنشأْ بفضلِ مهارتِهم ولا بشيءٍ من عقلهِم وقوتِهم الخلاّقةِ بل هي نشأَت، كما يحلّلُ سعاده، "بفضلِ التفسخِ الروحيِ الذي اجتاحَ الأمةَ السوريةَ ومزّقَ قواها وبعثرَ حماسَها وضربَها بعضَها ببعض وأوجدَها في حالةِ عجزٍ تجاهَ الأخطارِ والمطامعِ الأجنبية".
ان تفكُكَ أمتِنا وعَجْزَها كان نتيجةَ التآمرِ الغربيِ الإستعماريِ الذي قَطَّعَ أوصالَها في جريمةِ سايكس بيكو وهي في حالةِ ذهولٍ وتضعضعٍ وضياعٍ بعدَ قرونٍ طويلةٍ من صراعِها الحضاريِ ضدَ بربريةِ السلاجقةِ والصليبيينَ والمماليكِ والمغولِ والعثمانيينَ ونتيجةَ تسلطِ الحكّامِ الرجعيينَ الإقطاعيينَ والوصوليينَ المنفصلينَ عن الشعبِ وهمومِه والمساهمينَ في إستمرارِ الأوضاعِ الفاسدةِ وفي تكريسِ أمراضِ المجتمعِ وعاهاتِه.. وكنتيجةٍ لحالةِ العجزِ والتجزئةِ والضياعِ غابت قضيةُ الأمةِ وحَقيقتُها عن وجدانِ الشعبِ وإدراكِه وغَرق هذا الشعبِ في تخلفِهِ وإنقساماتِه الإجتماعيةِ تتقاذفُه الأحقادُ المذهبيةُ وقضايا النفسيةِ الرجعيةِ الإتكاليةِ وأعمالِها الإعتباطيةِ التي تعملُ بكلِ قواها على جمعِ قوى الطائفيةِ وتكتيلِها... كلُ هذه العواملِ أنزلت بنا كوارثَ جسيمةً ومَكَّنتْ الصهيونيةَ من وطنِنا وأمتِنا.
ومنذُ إعلانِها حتى اليوم ما زالتْ دولةُ العدوِ الغاصبةِ تمارسُ التمييزَ العنصريَ وتسعى دائماً للتوسعِ الإقليميِ ولا تريدُ أن تُعّينَ حدوداً واضحةً لها أو أن تضعَ دستوراً يُلزِمُها بتعريفِ واحدٍ لهويةِ كل المواطنينَ الخاضعينَ لِحُكْمِها وبإحترامِ حقوقِهم الطبيعيةِ ومساواتِهم أمامَ القانون. فهي دولةٌ دينيةٌ عنصريةٌ في طبيعتِها وسياساتِها وقوانينِها التعسفية، وهي لا تقيمُ وزناً لشُرعةِ حقوقِ الإنسانِ ولا تحترمُ قدسيةَ الحياةِ الإنسانيةِ وقيمةَ الإنسانِ غيرِ اليهودي. هذه الدولةُ المتغطرسةُ لم تتخلى يوماً عن سياسةِ البطشِ والإرهابِ والقتلِ والتدميرِ وهدمِ المنازلِ والإعتداءِ على المقدساتِ ومصادرةِ الأراضي وبناءِ المستوطنات. وهي اليوم تتوعدُ وتتحينُ الفرصَ والظروفَ لِتشنَ حرباً علينا ولِتُسيطِرَ على المزيدِ من الأراضي.
فلهذه الدولةِ استراتيجيةٌ أساسيةٌ تعتمدُها دائماً وهي الإحتلالُ والسيطرةُ والتوسعُ ولكن عندما لا تسمحُ لها الظروفُ الدوليةُ والإقليميةُ بإعتمادِ هذه الإستراتيجيةِ فإنها تلجأُ بِحُكْمِ الضرورةِ إلى اعتمادِ سياساتٍ مرحليةٍ تحملُ عناوينَ "السلامِ" وتحاولُ بواسطتِها ان تحققَ ما عَجِزَت عن تحقيقِه عبرَ حروبِها المتتالية.
إنَ المشروعَ الصهيونيَ لم يكنْ يوماً ولن يكونَ في المستقبلِ مشروعَ سلام. فهو كانَ وسيبقى مشروعَ عدوانٍ وتوسعٍ واستيطان. هذا المشروعُ الذي يتنكرُ بأزياءِ الحقِ ويدّعي السلامَ هو مشروعٌ مدّمرٌ لحياتِنا ومستقبلِنا ويسعى في كل الأوقاتِ وبكل الوسائلِ لترسيخِ دولتِه وتدعيمِ قُدُراتِها ومخططِاتها الإستيطانية.. إنه مشروعُ حربٍ يستهدفُ إجتثاثَ وجودِنا بالحروبِ التدميريةِ التي يشنُها علينا بِغيةَ تهجيرِنا من خلالِ تخريّبِ مرافقِ حياتِنا الحيويةِ وتدميرِ مؤسساتِنا الإقتصاديةِ والصناعيةِ والإنمائيةِ في مجتمعِنا ليتفككَ هذا المجتمعُ وينهارَ ولِتنعدِمَ أسبابُ العيشِ فيهِ فَيَصِلُ إنسانُنا إلى حالةِ اليأسِ والقنوطِ والهزيمةِ النفسيةِ ويضطرُ لأن يتركَ بلادَه ويهاجرَ لغيرِ رجعة. إنه مشروعٌ يطاردُ أجيالَنا الحاضرةَ في حياتِها على أرضِ الوطنِ وحيثُما وُجِدَتْ في العالمِ ويطاردُ في الوقتِ ذاتِه آلافَ السنينَ من وجودِنا الحضاريِ الإبداعيِ في قلبِ التاريخِ الإنساني.
هذا المشروعُ الشريرُ يطاردُ سورية أمةَ العقلِ والخلقِ والإبداعِ التي أنجبت العبقرياتِ الإنسانيةَ الخلاّقةَ من قوادٍ وحكماءٍ ومفكرينَ وفلاسفةٍ نوابغَ ومبدعين.. أمةً ثقافيةً رائدةً سبقت باقي الأممِ في ابتداعِ العلومِ والفنونِ وفي تأسيسِ المدنِ التاريخيةِ المزدهرةِ والمشّعةِ على من حولَها... أمةً معلّمةً هاديةً وزّعت من حضارتِها وأبجديتِها ومعارفِها منذ فجرِ التاريخ وأعطتِ العالمَ العطاءاتِ السخيةَ بدونِ حساب... أعطتْه الشرائعَ التمدنيةَ والفلسفاتِ الإنسانيةَ والأرقامَ الحسابيةَ وغيرَها من الإختراعاتِ والمنجزاتِ الحضاريةِ التي وزعتْها على الأممِ لتكونَ مناراتٍ لها على دروبِ الخيرِ والفضيلةِ والتقدمِ والعدالةِ والسلام. من رِحْمِ هذهِ الأمةِ الخيّرةِ وُلِدَتْ المسيحيةُ لتَنسِفَ صنميتَهم ووثنيتَهم الخرافيةَ وتحجّرَهم القتّالَ ولِتُفجّرَ بقيمِها الروحيةِ الجديدةِ ينابيعَ المحبةِ والرحمةِ والتسامحِ ومن أرجاءِها انطلقتْ المحمديةُ لِتُكمِّلَ رسالةَ الإسلامِ ولِتُحَطِّمَ ما تَبَقَّى من أصنامِ وأوثان.
أيها الحاضرونَ المحترمون، يجبُ ان لا نستهينَ بعدوِنا الغاصبِ وبمخططاتِه. بل علينا ان نستعدَ له فصراعُنا معه صراعٌ وجوديٌ طويلُ الأمدِ ولا ينحصرُ بالجبهةِ العسكريةِ فقط بل هو يطالُ وجودَنا الحضاريَ الإنسانيَ الخيّرَ ويطالُ حياتَنا في كلِ الساحاتِ والمجالاتِ في الوطنِ وفي المغتربات.
ولكن السؤال المطروح كيف نواجه هذا العدو ومشروعه الخطير الذي يهدد حياتنا ويمنعنا من العيش بهناء؟ ما هي خطة المواجهة؟ جوابنا نجده في الخطة القومية وفي المشروع القومي الطبيعي.
إن المشروعَ القوميَ الطبيعيَ الذي تنهضُ به قوةٌ خلاَّقةٌ مؤمنةٌ بحياةٍ جميلةٍ تشّعُ فيها قيمُ الخيرِ والحقِ والجمالِ والحريةِ والسلام، هذا المشروعُ لكي ينهضَ وينتصرَ يستوجبُ منا جميعاً الخروجَ من حالةِ الفتنِ المذهبيةِ والتضاربِ والشرذمةِ والإنقساماتِ إلى حالةِ الوحدةِ الإجتماعيةِ والتسامحِ القوميِ، حالةِ الوضوحِ واليقينِ والثقةِ بالنفسِ والعملِ بإرادةٍ واعيةٍ وخطةٍ نظاميةٍ واضحةِ الأهداف.
لا يمكنُ لنا ان نتغلبَ على الخطةِ الصهيونيةِ النظاميةِ الدقيقةِ ونحن نتبادلُ الأحقادَ الدينيةَ ونتقاتلُ على الجنةِ السماويةِ ونتخبطُ بقضايا الفئويةِ والمذهبيةِ والعشائريةِ والخصوصياتِ.. بل نتغلبُ عليها بعقيدةٍ جلّيةٍ واضحةٍ تُحيي حقيقتَنا التاريخيةَ الحضاريةَ وتعملُ لتأسيسِ مجتمعٍ مدنيٍ ديمقراطيٍ راقٍ يعي هويتَه وتاريخَه وقضيتَه القوميةَ ومقاصدَه الكبرى في الحياة. لا يمكنُ لنا أن نتغلبَ على الخطةِ الصهيونيةِ بأنظمةِ الطائفيةِ والجهلِ والتخلفِ والفسادِ، أنظمةِ القمعِ والإستبدادِ والديمقراطيةِ المزيّفةِ وكبتِ الحرياتِ.. ولا نتغلَّبُ عليها بالسياساتِ الضيقةِ، بسياسةِ المماحكاتِ والخصوماتِ وبنهجِ التخاذلِ والتسكعِ والمساومات والمفاوضات المباشرة او غير المباشرة او بتلقي رسائل التطمين من المجتمع الدولي.. بل نتغلبُ عليها بخطةٍ نظاميةٍ أشدُ نظاماً وأدهى، خطةٍ عقلانيةٍ واضحةٍ في الرؤيا والأهدافِ ودقيقةٍ في التخطيطِ والممارسةِ والإنجاز.. خطةٍ تعملُ لبناءِ الإنسانِ الجديدِ في فكرِه وقلبِه ووجدانِه، الإنسانِ الحرِ المؤمنِ بنفسهِ وإنسانيتِه، الممتلىءِ بقيمِ الحياةِ الساميةِ والمتسلحِ بقوةِ العلمِ والمعرفةِ والوجدانِ القومي، الإنسانِ-المجتمعِ الذي يعملُ لخيرِ مجتمعِه ورقيِه والذي يرفُضُ العيشَ الذليلَ ويحيا لقضايا الحياةِ العالية، حياةِ العزِ والشرفِ والإنتصار.
ولا نتغلبُ على الخطةِ الصهيونيةِ بثقافةِ الهزيمةِ ولغةِ الإحباطِ، بنفسيةِ الخوفِ والصمتِ والخنوعِ وبأساليبِ الفوضى والتبعيةِ والإتكاليةِ والإرتجالِ بل نتغلبُ عليها بخطةٍ ساهرةٍ وراصدةٍ وُمحرِّكةٍ لإمكانياتِ المجتمع... خطةٍ هجوميةٍ ومصارعةٍ لعواملٍ الضعفٍ والإنحطاطٍ والفناء.. خطةٍ تُفكرُ برويةٍ وتستشرفُ المخاطرَ والتحديات.. تراهنُ على إرادةِ الحياةِ فينا وعلى ما يكمُنُ في نفوسِنا من قوةٍ مناقبيةٍ ومن خلقٍ وإبداع.. توقظُ النيامَ وتخاطبُ العقلَ والوجدان.. تنفخُ في الشعبِ روحَ البطولةِ والصراعِ والمقاومةِ وتُنَمِّي فيه روحَ الوعي والمعرفةِ العلميةِ والثقافةِ القوميةِ الصحيحةِ التي تزيلُ الغشاواتِ وتَقْضِي على المبادىءِ الفاسدةِ والثقافاتِ الرجعيةِ المسؤولةِ عن الكوارثِ القوميةِ التي حلَّتْ بنا.
في مواجهةِ المشروعِ الصهيونيِ لا خيارَ لنا إلا خيارَ المقاومةِ والصمودِ، خيارَ الصراعِ والبطولةِ المؤمنةِ دفاعاً عن الكرامةِ القوميةِ والوجودِ القوميِ والحقِ القومي. بفضلِ هذا الخيارِ الذي تمسكتْ به الشام الحاضنةُ والداعمةُ للمقاومةِ في فلسطينَ ولبنانَ والعراق، شام الصمودِ والممانعةِ التي واجهتْ المشروعَ المعاديَ بقيادةِ سيادةِ الرئيسِ الراحلِ حافظ الأسد رحمه الله، والتي حمَتْ لبنانَ واحتضنت مقاومتَه وما زالت بقيادةِ رئيسِها الدكتور بشار الأسد تُوفّرُ الدعمَ السخيَ للمقاومةِ وتواجهُ الضغوطَ دفاعاً عن الحقِ والسيادةِ والكرامة.. بفضلِ هذا الخيارِ أنهتْ المقاومةُ البطلةُ زمنَ الهزائمِ المتعاقبةِ على أمتِنا وبدأتْ زمناً جديداً هو زمنُ الإنتصاراتِ المشهودة، زمنُ المقاومينَ المؤمنينَ والشهداءِ الأبرارِ الذين وبدعمٍ واحتضانٍ من دمشقَ القلعةِ القوميةِ الصامدةِ هزموا المشروعَ الصهيونيَ- الأميركيَ في لبنانَ وفي المنطقةِ بأسرِها ودحروا جيشَ الإحتلالِ مهزوماً مسقطينَ كل أحلامِ الصهاينةِ ومشاريعِهم.
بعد أيام معدودة تطل علينا الذكرى العاشرة لإندحار جيش العدو عن معظم الأراضي اللبنانية تحت وطأة ضربات المقاومة.. ومع عشية هذه المناسبة، مناسبة عيد التحرير نقول نحن وكل الشرفاءِ المناضلينَ في أمتِنا وكلُ القوى الممانعةِ والمقاومةِ فخورينَ بما حققتْه المقاومةُ البطلةُ من إنتصاراتٍ مشرِّفة رغمَ عجزِ الأنظمة الرجعية المستسلمة وتخاذلها وسنبقى في ساحِ الصراعِ متمسكينَ بخيارِ المقاومةِ والتحرِير إلى ان نهزمَ المشروعَ الصهيونيَ وسنهزمه بإرادة الحياة لأن فينا قوة، يقول سعاده، لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ.
*- ألقيت في الندوة الفكرية التي أقامتها منفذية ملبورن بتاريخ 16/05/2010 وبمشاركة سفير الجمهورية العربية السورية في اوستراليا الأستاذ تمام سليمان
.[i] خروج: 7:6
[ii] هو مصطلح يقصد به الإشارة إلى مجموعة من التصريحات التي أصدرها رجال السياسة في الغرب ويعِدون فيها بدعم إقامة الوطن القومي لليهود وتأمينه مقابل ان يقوم اليهود على خدمة مصالح الدولة الراعية. ومن الوعود البلفورية نذكر وعد نابليون والوعد الروسي االقيصري والوعد الإلماني. ويعتير تصريح بلفور (وزير الخارجية البريطاني) الذي وجهه إلى اللورد روتشيلد البريطاني اليهودي الصهيوني أهم حدث في تاريخ الصهيونية.
[iii] كالوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي.
[iv] كمنظمة هاشومير (الحراس اليهود) والهاغاناه وكالارغون التي اشتهرت بأعمالها الإرهابية الفظيعة والناحال والجدناع وغيرها من المنظمات التي درّبت الشباب على الحياة العسكرية وقامت بتنفيذ عمليات النسف والتخريب لترويع الفلسطينيين وطردهم من ديارهم.