منذ ما يقارب ثلاثة أرباع القرن اقترفت السلطات اللبنانيّة يومها جريمة تفوق بفظاعتها الإنسانيّة والفكريّة والسياسيّة أيّة جريمة أخرى، ليس فقط في الكيان اللبناني، بل على كامل الساحة القوميّة، لأنّ ضحيتها لم يكن إنساناً عاديّاً، بل كان، كما قال عنه الشهيد كمال جنبلاط في استجوابه للحكومة اللبنانيّة على أثر اتّخاذها القرار المخزي بإعدامه، بأنّه مؤسّس أهم مدرسة فكريّة عرفها الشرق. وهذه المدرسة الفكريّة لم تكن أبداً ترفاً فكريّاً بل كانت الحاضنة لوليد، عزّ نظيره في الشرق أيضاً، هو الحزب السوري القومي الإجتماعيّ الّذي جسّد نهضة الأمّة السوريّة الحديثة، والّذي شكّل الخطة النظاميّة الّتي وحدها كانت مخوّلة مجابهة الخطّة النظاميّة الصهيونيّة الّتي تأسّست لغاية العمل على استعادة ما يُعرف لاهوتيّاً " بأرض الميعاد". ولعلّ ذلك كان أحد الأسباب المهمّة الّتي دفعت بالمنظّمة الصهيونيّة للعمل على التخلّص من باعث هذه النهضة العظيمة أنطون سعاده، إلى جانب أسباب أخرى سنأتي على بعضها.
لقد كتب الكثير حول إعدام سعاده، وبعض ما كتب كان محض اختلاق واستكمال للمؤامرة الّتي حاكها الصهاينة ونفّذها العملاء دون أن يقوّموا التقويم الصحيح لسلبيّة عملهم على حاضر الأمّة ومستقبلها.
إنّ الأسباب الّتي أوردتها الحكومة اللبنانيّة آنذاك لا تشكّل مبرّراً لإعدام سعاده، وإعدامه بعد محاكمة صوريّة سيبقى وصمة عار لا يمكن أن تمحى من تاريخ لبنان الحديث. سعاده كان معارضاً للسلطات في الكيان اللبناني للأسباب ذاتها الّتي ما زالت سائدة وأهمّها العمل على تجذير الروح الطائفيّة بدلاً من الإنتماء الوطني، علماً أنّ دستور عام 1926 تضمّن فقرة تشير إلى أنّ الطائفيّة هي حالة مؤقتة يجب على الحكومات المتعاقبة العمل على الخروج منها. لكنّ هذه الحكومات عملت على تكريسها، وتضامن بذلك رجال الدين مع رجال السياسة الّذين وجدوا بالطائفيّة ملاذاً لهم يمكّنهم من تحقيق مصالحهم باسم مصالح الطوائف. إنّ هجوم سعاده على الحكومة على أثر تزويرها لنتائج انتخابات 25 أيار عام 1947 سلّط عليه الضوء ربما لما شكّله في ذلك الوقت من محرّض إيجابيّ للناس يفضح أهداف الحكومة وسياستها الّتي لا تصب في مصلحة الوطن والمواطن. استعانت الحكومة آنذاك بحزب الكتائب لتنفيذ مؤامرتها على الحزب، فكانت أحداث الجميّزة الّتي افتعلها عناصر من حزب الكتائب، وبدلاً من إلقاء القبض على عناصر من الفريقين وإجراء تحقيق لتبيان ما جرى، قامت الحكومة بملاحقة سعاده وكلّ مسؤولي الحزب وغضّت النظر عن مسببي الشغب. وهذا ما حدا بسامي الصلح لأن يكتب في الصفحة 167 من كتابه " العبث السياسيّ والمصير المجهول" ما يلي:
يؤخذ على المحاكمة ( سعاده) من حيث الشكل:
- أنّها تمت بسرعة قصوى تثير الشبهات.
- أنّها تمت بصورة سريّة تثير الشبهات.
- أنّها فصلت قضية الحزب القومي عن قضيّة اشتباكه مع حزب الكتائب بصورة تثير الشبهات.
ويفهم من ذلك أنّ المسألة برمتها تثير الشبهات، ليس فقط ما قامت به الحكومة اللبنانيّة، بل أيضاً ما قامت به الحكومة " السوريّة" بشكل عام وحسني الزعيم بشكل خاص.
كتب ناجي جرجي زيدان في 7 تموز عام 2000، عشيّة ذكرى إعدام سعاده، مقالاً في جريدة الحياة عدّد فيه " الحوادث المرتبطة بمقتله"، بادئاً باستعراض ما كتبه سعاده من مقالات بعد ضياع فلسطين على أيدي الغوغائيّة العربيّة الّتي أثبتت الأحداث مشاركتها الفعّالة بمنع الإنتصار على العصابات اليهوديّة، كما تثبت الأحداث الحاليّة، وآخرها إجتماع البحرين، استمرار الغوغائيّة العربيّة بالعمل على إنهاء المسألة الفلسطينيّة وتثبيت حق اليهود الإلهيّ بأرض فلسطين، كما صرّح وزير خارجيّة البحرين. كما أشار الكاتب إلى أنّ حسني الزعيم قد أقترح سلماً منفرداً مع إسرائيل شرط حصول الجمهورية السورية على نصف بحيرة طبريا مستنداً بذلك إلى ما ورد في مذكّرات بن غوريون. وذكر الكاتب أيضاً رغبة حسني الزعيم بمقابلة بن غوريون وأبدى استعداده للإعتراف بإسرائيل مما حدا بالمفتي الحاج أمين الحسيني مراسلة الأمير عادل أرسلان، وزير خارجية الجمهورية السورية في ذلك الوقت، يحثّه فيها على عدم الإعتراف بإسرائيل، ممّا أثار دهشة أرسلان ونفيه أن يكون على علم بذلك، وهو الّذي أصرّ لاحقاً على عدم الإجتماع بموشي شاريت وزير خارجية إسرائيل. وهذا يدلّ على أنّ حسني الزعيم كان مستعداًلفعل أيّ شيء لإرضاء قادة إسرائيل علّه بذلك يضمن موافقتهم على الصلح المنفرد الّذي كان ليشكّل له، حسب رأيّه، ضمانة البقاء في السلطة. ويصل بعد ذلك الكاتب إلى حادثة الجميّزة الّتي افتعلتها عناصر كتائبيّة، فيقول بأنّ قوات الأمن اللبنانيّة اقتحمت فقط مكاتب الحزب السوري القومي الإجتماعي في كلّ المناطق ممّا يثبت أنّ هذه الحادثة كانت مدبّرة للإيقاع بالحزب.
أمّا أنطون سعاده نفسه فقد بيّن في رسالة له إلى القوميّين الإجتماعيّين في 20 حزيران 1947 أسباب سعي الحكومة للإيقاع به، فرأى أنّ هدف الحكومة كان إسكاته عن مهاجمتها وفضح مخطّطاتها الراميّة إلى كم الأفواه المنتقدة وخنق حريّة الرأي والقول في لبنان وتسخير القضاء لمشيئة الحكام الإستبداديّة وأهوائهم".
ومهما تعدّدت الأسباب الّتي اختلقتها الحكومة ، تبقى الحقيقة مرتبطة، ليس بالتلفيقات الحكوميّة، بل بما كتبه أصحاب الضمير الحي الّذين أنصفوا سعاده وحزبه. يقول الدكتور حسان حلاّق في الصفحة 504 من كتابه ( التيّارات السياسيّة في لبنان 1943 – 1952) ما يلي: " إنّ حقيقة اتهامات الدولة اللبنانيّة العلنيّة للحزب القومي بالتعامل مع إسرائيل ما هي إلّا لتأليب الرأي العام اللبنانيّ والعربي ضدّه وتأليب حسني الزعيم ضدّه أيضاً لاسيّما وأنّ أنطون سعاده فرّ في هذا الوقت إلى سوريا هارباً من اعتقال السلطات اللبنانيّة له".
يبقى أن أشير إلى أنّ المؤامرة على سعاده بدأت فور عودته من مغتربه القسري في الأوّل من آذار عام 1947، تؤكّد ذلك مراسلات سفير بريطانيا في بيروت الّذي ذكر في إحدى رسائله إلى الخارجيّة البريطانيّة ما يلي: " ويبدو أنّ الحكومة اللبنانيّة قد بادرت إلى اتخاذ الإجراءات المضادة بسرعة إلّا أنّ الحكومة تحرّكت بتشجيع من حزب الكتائب اللبنانيّة".
ومن ضمن الإتهامات الّتي وُجّهت دون وجه حق إلى سعاده، ووردت في رسالة من سفير بريطانيا إلى وزير خارجيّتها، أنّ " هناك اعتقاد سائد بأنّ الحزب القومي السوري يتمتّع بدعم وتأيّيد البريطانيين". وهذا الإدعاء نقضه السفير البريطاني في دمشق الّذي قال في إحدى رسائله إلى خارجيّته ما يلي: "حدثت في لبنان حوادث خطيرة سبّبها الحزب " الفاشي" القومي السوري... وكان أنطون سعاده يخطو خطوات هتلر...".
هذا التخبط الواضح لدى الحكومة اللبنانيّة والسفراء الغربيّين يُثبت مدى ضلوع الجميع بمؤامرة التخلّص من سعاده نزولاً عند رغبة الصهاينة الّذين رأوا في حركة سعاده الرامية إلى توحيد الكيانات السوريّة، الّتي أوجدها الإستعمار وفقاً لمعاهدة سايكس بيكو، خطراً كبيراً على مشروعهم القاضي أيضاً بتوحيد هذه الكيانات ولكن تحت مسمىً آخر هو إسرائيل الكبرى.
وها هي اليوم أصابع الصهيونيّة تتلاعب بدول العالم العربي ذاتها، وتسعى إلى إنّهاء المسألة الفلسطينيّة أوّلاً، وإجراء تقسيم جديد للكيانات السوريّة يقوم على أساس الفرز الطائفيّ والعرقيّ ثانيّاً. ففي العراق ثلاث دول: سنيّة وشيعيّة وكرديّة، وفي بلاد الشام دول للمسيحيّين والسنّة والشيعة والدروز والعلويّين، وهذا ما يُعطي شرعيّة دوليّة لإعلان إسرائيل دولة اليهود في العالم.
والوثائق الّتي بدأت تفرج عنها الحكومات بشكل متتال تثبت ضلوع فرنسا أيضاً بالتآمر على سعاده. يروي الأمير فريد شهاب، الّذي كان عام 1949 مديراً للأمن العام اللبنانيّ ما يلي: " وكان الحزب السوري القومي الإجتماعي يعادي الإنتداب مباشرة، وبالتالي يعادي فرنسا الّتي كانت تتخوّف من انتشاره في فلسطين وسوريا، هذه الأسباب جعلت السلطات الفرنسيّة تُصدر أوامرها بملاحقة أعضاء الحزب ومحاصرة نشاطاته المختلفة، لهذا استدعى كاترو مدير الأمن العام الفرنسيّ في لبنان " لافارغ" وأبلغه بأنّ السلطات الفرنسيّة تريد القضاء على الحزب السوري القومي الإجتماعي، وأنّ عليه أن يرسم خطّة وينفّذها بسرعة ونجاح لاعتقال كلّ أعضاء هذا الحزب وسجن قياداته.
من هنا، يتبيّن لنا ضلوع كلّ الدول الفاعلة في ذلك الوقت، إقليميّة كانت أم دوليّة، بالمؤامرة على الحزب السوري القومي الإجتماعي بشكل عام وسعاده بشكل خاص. وممّا ينفي عن هذا الحزب ارتباطه بأيّ محور هو انعدام موارده الماليّة واللوجستيّة، ولقد شهد على ذلك أيضاً الأمير فريد شهاب إذ كتب: " وكنت ألاحظ صمود هؤلاء " القوميّين" الّذين كانوا يعانون، بالإضافة إلى " تعتير" السجن، من شح المصاري. فما كانوا يملكون قرشاً واحداً ولا يستلمون من الخارج أي قرش. كانوا بالفعل مناضلين صامدين، منضبطين، تحمّلوا الأمرّين".
إن اغتيال سعاده لم يكن فقط كارثه على حزبه، بل كان كارثة قوميّة أثرّت سلباً على حياة الأمّة السوريّة جمعاء، لأنّ حزب سعاده بما هو نهضة إجتماعيّة شاملة كان الوحيد المؤهّل لإنقاذ الأمّة على جميع الصعد، وبالتالي لم يكن وارداً أن تصل الأمور فيها إلى ما وصلت إليه من ازدياد التشرذم، وتجذر الفساد، وتغلغل الطائفيّة في النفوس إلى درجة مخيفة نلمس تبعاتها هذه الأيّام.
أعدم سعاده لكنّ حزبه أثبت، من خلال مواجهته الميدانيّة للمؤامرة المستمرّة على أمتنا، أنّه بالفعل الحزب الّذي أراده سعاده نهضة تُخرج الأمّة من الغموض إلى الوضوح بالإنتماء والإلتزام والشهادة متى لزم الأمر ذلك.