تُستخدَم في الوسط السياسي اللبناني مفردة «سيادة» بأشكال متكررة، رتيبةٍ، ممجوجة. فهل لبنان سيدٌ فعلاً، وكيف؟ ما مواصفات «سيادته»؟ وهل يلمس الشعب حقيقتها؟
يرتبط التحرر لدى غالبية البشر بمعنى السيادة. لكنّ ثمة خلطاً مؤسفاً بين الحرية الفردية والحرية الجماعية. فهذا الخلط يكشف واقعاً خطيراً مفاده أن الحرية الفردية الواصلة إلى حد التفلت الصارخ هي «حرية» مدمرة للحرية الجماعية لأنها تعكس ضرباً للقانون والنظام حتى لا نقول ضرباً للأخلاق. وهذا الواقع المؤلم لا يُعَبّر عن حالة مواطنين يحتكمون لدولة بل عن حالة سكان لم يقيموا وزناً لسلطة ولم يمتثلوا لهيبة دولة ولم يصبح مفهوم الدولة جزءاً من ثقافتهم وقيم حياتهم.
إنّ واحداً من أسمى تجليات الحرية هو تَجلّي المسؤولية في ممارستها، بِبُعديْها القانوني والمناقبي. وهذا وجه آخَر من وجوه قدرة الدولة على فرض الإلتزام بالأنظمة والأحكام المرعية الإجراء. فلا سيادة لدولة قرارها ليس صنيعها، ولا معنى للسيادة في دولة لا تطبَّق قوانينهاولا تُحتَرَم فيها أصول الحياة الكريمة.
إنّ السيادة الحقيقية تستلزم توافر شروطها ومكوّناتها، كالعدالة والقضاء الحازم، والجيش القوي الرادع، والأجهزة الأمنية المُقتدرة، والمؤسسات الرسمية المتكاملة في الرعاية والتنسيق، والموازنة الخلاقة بين الحقوق والواجبات، وتنظيم القطاع الخاص بما يَحُول دون التنازع على صلاحيات طائفية موهومة ، وبما يمنع كارتيلات الإحتكار من إنشاء المنظومات المستولية على حق الدولة الشرعي، والمُمتصة لدماء الناس ومدخراتهم، والمهينة لكراماتهم ، والمُفسِدة لسعادتهم.
هل يعني الإفتقار إلى تلك المسلّمات أن ادّعاء السيادة وَهْم، وأننا في حاجة إلى إعادة بناء المفاهيم حتى نتمكن من إعادة بناء دولة المرتجى؟ ربما كنا، في هذا المجال تحديداً، محتاجين إلى الإقرار بحقيقة مُرّة لن تستقيم لنا حلاوة من دون الإعتراف بوجودها وهي أن شعبنا، في شرائحه الأوسع، متمرس بالفوضى أكثر من تمرسه بالنظام. وهؤلاء الذين تستهويهم الفوضى يظنون أنهم أذكياء عارفون من أين تؤكل الكتف وكيف يتشاطرون على من يمكن أن يشاطروهم ذلك المأكل، عِوضَ أن يخجلوا من أنفسهم لأنهم يُقوّضون النظام الإجتماعي-الإقتصادي والنفسي-الروحي للحياة المشتركة، باعتبار أن أمنية الحياة الواحدة ما زالت أبعد من الكواكب القصية.
إن السيادة إكسير الدولة التي تستحق صفة الدولة. وإنّ مفتاح السيادة موجود للذين يريدون إيجاده، بل للذين لا يتوسلون من الخارج قراره وجعبته وإملاءاته. لكن بداية الإمساك بهذا المفتاح كامنة في التمتع بالصدقية وفي الشعور بالكرامة. إنه مفتاح لا يُعثَر عليه إلا في داخل الإنسان، في القلوب الكبيرة للقادة الرسوليين الذين لا ينامون إذا سهد شعبهم، ولا يأكلون إذا جاع مُواطنهم،ولا يسبقون مريضهم في الحصول على الدواء، ولا يمتطون السيارات الفارهة إذا بات فقيرهم على أبواب محطة قبل أن يشهق الفجر على طابور المنتظرين ما بقي لهم من فُتات البنزين المُهَرّب.
كيف لا تكون السيادة وَهْماً طالما أن المرجعيات السياسية مطيفة أكثر منها مسيسة، وطالما أن مرجعيات تنادي بالتغيير والإصلاح والدولة المدنية تفاخر بأنها تأبى إلا أن تُسَمي الوزراء المحسوبين على طائفتها، ولو تعطّلَ إلى الأبد تشكيلُ الحكومة، بل حتى لو تَهَدّمَ الهيكل على من فيه جميعاً بِمَنْ فيهم سياديّو الوهم ، المُسْتقوون بالشعارات والمزايدات وأشلاء الأوطان.
هنيئاً لأسياد الوهم في الزمن الرديء ، لأنهم لو أفسحوا للحق أن يسود لَمَا ربضوا لحظة إضافية واحدةعلى الصدور المُدَمّاة لمواطنيهم. هنيئاً لكل الذين استفادوا وأفادوا وأثروا على حساب الجياع والعراة، بل على حساب الدولة التي اقتسموا خيراتها ومواقعها وخدماتها، ومسخوا سمعتها، وأجهزوا على ما بقي من حيويتها وصدقيتها الداخلية والخارجية.