توفيق الباشا 1924 – 2005 علم من اعلام الموسيقى في لبنان والعالم العربي. ورائد من رواد نهضة التأليف الموسيقي في بلادنا. وهو أحد نجوم الإذاعة اللبنانية وحارس هيكلها الأمين لعقود. وهو مؤلف السمفونيات الموسيقية والمجدد الكبير والمايسترو الذي كلما صعد الى المسرح وقع شيء من السحر في المكان وانسحر الجمهور. في عام 1989 قاد اوركسترا فيروز في حفلتها في القاهرة (الصوت والضوء) واستطاع مع فيروز التغلب على كل المشاكل التقنية التي عصفت بالحفل.
نشأ وترعرع في بيروت. روى لي شقيقه الرسام الراحل أمين الباشا أنه كان يحضّر قناني الزجاج ويضرب عليها بالملعقة لينتج موسيقى.
بتأثير من خاله خليل مكنية (الموسيقي والرسام) تشجع لإرتياد طريق المجد الصعب. وبتأثير من خاله أيضاً انتمى باكراً الى صفوف النهضة القومية الاجتماعية. كانت بيروت عالمه الذي يتسع باستمرار لطموحه. يقول "بيروت خلقتني وكوّنت لي شخصيتي".
درس الموسيقى في المعهد الموسيقي التابع للجامعة الاميركية عازفاً على آلة التشللو ودارساً على يد أستاذ روسي أسمه الكس كوغل. ثم أكمل الدراسة على يد الأستاذ الفرنسي برتراند روبيار في الجامعة اليسوعية مادة التأليف الموسيقي. ولكنه كان يعتبر دائماً ان أستاذه الروحي في الموسيقى هو سيد درويش.
كان توفيق الباشا مع عصبة الخمسة في بداية الخمسينات وهم: عاصي ومنصور الرحباني وزكي ناصيف وتوفيق سكر. وهذا اللقب اطلق عليهم بعد خوضهم المعارك ضد التقليديين وكانت الغلبة لهم أي التجديديين.
عام 1953 تسلم مسؤولية الإنتاج الموسيقي في اذاعة الشرق الأدنى حتى توقفها في العام 1956 اثر العدوان الثلاثي على مصر. عاد توفيق الى بيروت والتحق بالإذاعة اللبنانية وتسلم فيها الدائرة الموسيقية وبقى في موقعه قرابة ربع قرن مع إنجازات التجهيز والتنظيم ورفع مستوى ومعاييره في لبنان. واستطاع تكوين أكبر فرقة موسيقية في الإذاعات العربية.
كان في مهرجانات بعلبك الدولية في الأعوام 1957 و 1959 و 1964 و 1974 وكان في العام 1960 مع زكي ناصيف ونزار ميقاتي في فرقة الأنوار اللبنانية التي جابت العواصم والأقطار ترفع من شأن الفن اللبناني.
أولى توفيق الباشا الموشحات الغنائية اهتماماً بالغاً: يقول "تنبهت وأنا أدرس الموسيقى الكلاسيكية الى الموشحات وآفاقها الرحبة فأشتغلت عليها ورحت أنقلها من التخت الشرقي الى الأوركسترا الواسعة.
ولكن ما الحافز الوطني والقومي والحضاري الذي دفعه الى الإهتمام بالموشحات والتراث. أسمعه يقول: اليهود أخذوا الفنون والعادات والفولكلور الموسيقي مدّعين بأنه تراثهم. كنت في استوكهولم لحضور مؤتمر موسيقي أدرت المذياع فاذا بي اسمع أغنية "آه يا زين" بالعبرية.
كان أول ما فعلته حين عدت الى بيروت أنني أعدت توزيع وتسجيل كل الموشحات الأندلسية والأغاني الشعبية التراثية. وهذا ما دفع زكي ناصيف الى القول لاحقاً "هو سيد الموشحات على الاطلاق".
تفرغ توفيق الباشا لتلحين أكثر من 3000 قصيدة من تراث الأدب العربي توزعت في برامج اذاعية وتلفزيونية مثل "ليالي الأصفهاني في كتاب الأغاني" و " ليالي شهرزاد" وغيرها.
ولحن لشعراء كبار مثل ابو العلاء المعري وصفي الدين الحلي والحسن بن هاني والبهاء زهير وابن خفاجة وابن زيدون ومن الجدد سعيد عقل والأخطل الصغير والياس ابي شبكة وفدوى طوقان ولميعة عباس عمارة واحمد رامي ومعين بسيسو ويونس الأبن ونزار الحر. ومن شعراء الزجل أسعد السبعلي ومصطفى حمود ومارون كرم وموريس عواد وميشال طعمه وسامي الصيداوي وغيرهم.
أما الذين غنوا الحانه فمن المطربات نذكر نور الهدى وسعاد محمد وفايزة أحمد ونازك ووداد ونجاح سلام وسلوى القطريب وفدوى عبيد وسميرة توفيق ونهى الهاشم.
ومن المطربين وديع الصافي ونصري شمس الدين وجوزيف عازار وايلي شويري وسمير يزبك وجوزف ناصيف وفهد بلان ومحمد زين.
اشتغل توفيق الباشا على الأعمال السمفونية وترك العديد من المؤلفات منها: سمفونية الليل 1959 مستوحاة من شعر سعيد عقل. وسمفونية " فوق البنفسجة" (1969) ونال عليها جائزة المعهد الموسيقي الوطني. وسمفونية بيروت 1982 وهي خمسة أجزاء : 4 حزيران ، بيروت الانسان، وقفة عز، الخروج من المدينة، واعرباه. وألف سمفونية "السلام" 1985 وعزفها عام 1986 الأوركسترا الفلهارمونية لمدينة لياج وبروكسل. أما أخر أعماله فكانت " قدموس وأوروبا" ولم تعزف كاملة.
كان يعتبر ان الفنان له مهمتان: الإنتاج وترك أثر إنساني على الإنسان.
وكان يعتبر نفسه في الإذاعة مكلفاً من الفن اللبناني بالمحافظة على مستواه وتطويره. لم يساوم ولم يقع في السهولة ولبث من صنّاع الفن، وكان يسمي التردي في مستوى الغناء في في لبنان والعالم العربي تلوث سمعي وكان يعز عليه ان يرى الفنان الحقيقي بات على الحياد.
طالب في كل المؤتمرات التي شارك فيها من وضع منهج تدريسي للموسيقى في المدارس والمعاهد. ترك 3 كتب "المختار من الموشحات الأندلسية" (تحقيق وتأليف) "الإيقاع في الموسيقى العربية" (تحقيق ومقاربة) و"الكمان والأرباع الصوتية" وكلها نافذة. وقد اخبرتني ابنته ريما ان ثمة عشرات المقالات والمحاضرات لا تزال في جوارير الظلمة.
حائز ميدالية باريس (1961) وميدالية الإستحقاق اللبناني (1975) ووسام العلوم والفنون من مصر (1975) ووسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس 1997 والجائزة التقديرية من معهد الموسيقى العربية في مصر 2003.
روى لي شقيقه الراحل أمين الباشا حديثاً غريباً معه وهو على فراش المرض . قال توفيق: هل تعلم يا أمين أنني كنت أحلم أن أكون رساماً. فرد أمين: وكم حلمت ان أكون موسيقياً.
توفيق رسم الموسيقى بالنوته وحركة عصا المايسترو. مجدد كبير في الموسيقى العربية. بعد 15 عاماً على وفاته. لم يطلق اسمه على استديو في الإذاعة ولا على قاعة في الكونسرفاتوار ولا على شارع في المدينة التي أعطته وأعطاها. وما همه على حد منصور الرحباني فقد سكن الماضي والآتي وصار في تاريخنا قمراً للحكايات والسهر.
أيها السادة
كلما استعدت في خاطري مسيرة توفيق الباشا الفنية اتمثل بيت المتنبي القائل :
اذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
منذ بداياته، غامر توفيق الباشا وتصدى وتحدى. وأي مغامرة أشق على المرء من أن يدخل الحياة الفنية في بيروت يوم كانت الفنون من المحرمات على أبناء البيوتات المحافظة. فالسائر على هذا الدرب كان كالسائر على الجمر، تتناوله الألسنة بالنقد، والمجتمع بالرفض، وتتبرأ منه العائلة. ومع ذلك تصدى وتحدى واقتحم الميدان، ليس له من نصير سوى خاله خليل مكنية الذي كان قطع شوطاً في السير على هذا الطريق، والذي كان بحق الأب الروحي له، والمرشد والموجه.
منذ مطلع شبابه، وعى توفيق الباشا حقيقة موهبته الموسيقية وأدرك أنه خلق ليلعب، دور المؤلف الموسيقي، وأيقن أن هذا الأمر لا يتحقق إلا بالعلم وبالدراسة، فالتحق بالمعهد الموسيقي في الجامعة الاميركية في بيروت ليعمق دراسته على يد أستاذ روسي أبيض يدعى " ألكسي كوغل" كما كان للفرنسي " برتراند روبيار" فضل كبير في تثقيفه موسيقياً وتلقينه دروساً في التأليف الموسيقي، شأنه شأن الأخوين رحباني اللذين تلقيا الدروس عينها على يديه، وكان قد سبقهم الى ذلك صديق العائلة زكي ناصيف.
في نظرة مبكرة للواقع الفني، أدرك توفيق الباشا أن مفهوم الفن الموسيقي لدى العامة في لبنان، كما في سائر العالم العربي، مقصور على الأغنية فقط، وهذا مفهوم خاطىء ولا ريب، لأن الموسيقى عالم أرحب من أن يحصر في إطار ضيق ومحدد هو إطار اللحن الغنائي. لذلك كانت أولى اهتماماته، تبديد هذا المفهوم، ومن ثم العمل على تأليف ونشر الموسيقى والتبشير بها.
وفي الوقت الذي كان فيه التلحين الغنائي هو الطريق الأسهل للكسب المادي والأسرع الى الشهرة، فضّل هو أن يعمل من أجل الموسيقى العربية او الشرق عربية كما يفضل ان يسميها. يريد في نظرة استشرافية ان يطورها ويرتقي بها، أن يُدخل عليها قوالب جديدة لم تعهدها من قبل لتتماشى مع العصر والعصور المقبلة، يريد لها، السمو نحو العالمية مع احتفاظها بروحها الشرقية ونكهتها العربية.
فهل كان الباشا زاهداً في الشهرة حتى ركب هذا المركب الصعب؟، لو جاء الجواب بنعم فذلك يعني اننا رفعناه الى مصاف الملائكة الأطهار، لكننا جميعاً آدميين، والشهرة ثمرة التميّز وغار الطموح. وكلاهما مشروع ومطلوب. " فلماذا إذن لم يلج توفيق الباشا باب الأغنية على حصانه الأبيض وهو سيد من امتطى الصهوات الموسيقية، وآثر اقتحام الباب المرصود للموسيقى المجردة التي نأى عنها الكثيرون من أبناء جيله؟.
في اعتقادي أن توفيق الباشا، بما جُبل عليه من عُلُوّ في الهمة وصلابة في العزيمة وإيمان بالنفس وبما اختزنه من موهبة وعلم، لم يكن ليقنع بما دون النجوم، فقد وضع نصب عينيه التعبير عن القضايا الوطنية الكبرى، والأعمال الإيمانية العميقة وقضايا الإنسان وحقه في العيش بكرامة وحرية، وهذه المشاعر الجليلة لا يمكن التعبير عنها، برأيه، إلا بالفن الكبير.
أيها السادة،
انتقل الآن للحديث عن مرحلة توفيق الباشا في الإذاعة وهي مرحلة لم تسلط عليها الأضواء على أهميتها كما تستحق وهي مرحلة تأسيسية حافلة بالإنجازات على جميع الصعد.
في العام 1960 وبطلب من حكومة الرئيس فؤاد شهاب : تسلم توفيق الباشا دائرة الموسيقى بقسميها: الشرقي والغربي. وجاءته الفرصة لتأسيس نهضة موسيقية فعلية، لكنه اصطدم بالعقلية الإدارية الروتينية التعطيلية التي تقف بالمرصاد لوأد أي حركة تطوير متعللة تارة بالقوانين الوضعية وطوراً بالروتين الإداري وغير ذلك. واصطدم بعقلية الشفاعات والوساطات وبمبدأ الإسترزاق فنحن في بلد التسويات، حتى لا يزعل الزعيم الفلاني والنائب العلاني.
ما المشكلة اذا دخل الإذاعة احد محاسيب "البك" ليلحن ويغني او بمعنى آخر ليتكسب ويسترزق. ( انه حلاق الزعيم فلان وهو مشهور في ضيعته بالعزف على العود ويحي فيها الأفراح والليالي الملاح، فلماذا تقف في وجه طموحه وتحارب أهل ضيعته؟! هكذا كانت تسير الأمور في الماضي حتى ليكاد يكون لكل وزير او نائب كوته ولكل منطقة كوتا ولكل مطرب كوتا بغض النظر عن الموهبة والكفاءة والمستوى المعرفي. وابتسم فأنت في لبنان. الا ان توفيق الباشا لم يكن يعرف الإبتسام في هذه الأمور، يبتسم فقط عند تقديم الأجمل والأكمل. كان صارماً وحازماً ومشاكساً ومكشراً عن أنيابه في بعض الأحيان من أجل رفع مستوى الفن الموسيقي في لبنان، الأمر الذي سبب له الكثير من المشاكسات والمعاكسات من داخل الإذاعة ومن خارجها. لكنه وقف في وجهها جميعا وانتصر في معظم الأحيان.
عندما استراح من هموم الوظيفة ومشاغلها، تفرغ توفيق الباشا لتأليف وتنفيذ الموسيقى التي كان يحلم بها. فالأوركسترا طيعة بين يديه، وهو الذي قادها بمهارة طوال أكثر من نصف قرن، وموهبته وعلمه يمكنانه من التعبير عما يجول في خلده من أفكار، وما يحوم حول نفسه من الهام بوعي واقتدار. فعكف على كتابة مؤلفاته الموسيقية الكلاسيكية: منها القصيدة السمفونية "بيروت 82" التي صوّر فيها معاناته وأحاسيسه عندما دخل الجيش الإسرائيلي لبنان سنة 1982 .
ثم كتب سيمفونية السلام التي لعبتها اوركسترا لياج الفيلهرمونية في بلجيكا بقيادة المايسترو "بارتولوميه" الذي وصف هذه السيمفونية بأنها لقاء بين عطر الشرق وفنون الغرب. بعدها قام بتجربة رائدة فكتب "الإنشادية النبوية" وهي ما يمكن أن نعتبره أول "أودو توريو" في تاريخ التأليف الموسيقي العربي، وأتبعها بإنشادية "عظماء الدنيا وعظماء الآخرة" وقد انتهى قبل وفاته بفترة وجيزة من تلحين أوبرا " قدموس" لسعبد عقل.
وأخيراً لا آخراً أود أن أنهي مداخلتي بتقويم من الناقد الراحل نزار مروة الذي قال: "إن موسيقى توفيق الباشا تتّسم بالتعقل والحكمة، وأعتقد أننا أمام فنان أدرك أن دوره يتجاوز الإنصياع لرغبات الجمهور وميوله واختار الطريق الصعب المثير للجدل".
الفنان توفيق الباشا حمل الهم الموسيقي التأليفي. اهتم بالموشحات وكان يهمه كثيراً في التقطيع الموسيقي ان يمزج النفس الشرقي والنفس الغربي. كان يملك ذاكرة موسيقية وكان يهتم بأدق التفاصيل المتعلقة بالمعزوفة والفرقة والموسيقيين. زارنا في الكونسرفاتوار الوطني وكان بهيبته متفهماً وحنوناً مع تلامذة وأساتذة المعهد. عزفت مقطوعته "دبكة الفرسان" مع الفرقة في أوبرا القاهرة وشعرت مع الحضور وكأن قطعة من لبنان حلّت في المكان وان الموسيقى رحلتنا الى دنيا الحق والخير والجمال.
توفيق الباشا فنان أصيل ومثقف ومتعمق ولديه التزام حضاري عميق وتصميم ومثابرة لإبتداع الجديد.
لا يمكن القول أن الاحتراف الفنّي في تلك الأيام كان قائماً، لأنه لم يكن هنالك تنظيم للفن، لذلك فالجمبع هواة بنسب متفاوتة، يلتقون في منزلنا، حيث يستمعون إلى الانتاج الجديد، أو الى الحفلات الموسيقية، والغنائية التي كان ينقلها راديو القاهرة، أو إذاعة القدس.
في إحدى المناسبات كنت أستمع إلى الموسيقى، وأنا طفل، فأخذت أترنم بمعزوفة (بشرف) فسمعني خالي الذي دعاني – عند التقاء الهواة – إلى إسماعهم الترنيمة ففعلت، وكنت منسجماً في تأديتي للترنيمة، بما أقنع الحاضرين بضرورة تعليمي الموسيقى، لكن أهلي خططوا لي أن أتخصص مهندساً، فألحقوني بالمدرسة الطليانية، على الرغم من أن هذا الاختصاص لم يكن يروق لي، ولست معتنعاً به.
لكن أزمة اقتصادية حادة مرت بنا، حملتني على ترك المدرسة.
فقد كان والدي يعمل في بنك دي روما، وكان صديقاً لواحد من المديرين العاملين في المصرف المذكور، ويتعاون معه ضد مدير زميل له، وصدف أن نقل صديقه، وأخذ المدير الآخر ينتقم منه، الأمر الذي حمله على تقديم استقالته من العمل، فتوقفت عن الدراسة من المدرسة الطليانية، بسبب تعذر تأمين رسوم المدرسة.
وطرق والدي أبواب العمل المتعددة إلى أن توصل للإشتراك في مكتب لتخليص البضائع، فذهبت معه الى حيث يعمل لمساعدته.
هنا يعتدل توفيق الباشا في جلسته ليقول :
" كان عهد جميل
حاسد وعزول
والبال مشغول"
كأنه شاء في هذا المقطع من الأغنية أن يصور وضعه في تلك المرحلة من حياته، ويمضي في سرده فيقول:
"لا زالت ذكرى هذه المرحلة في ذاكرتي، أعود إليها بسعادة كيف صبرت على الدهر والأيام، وعوضت عن ذلك بمطالعاتي الخاصة، ودرست على نفسي، معظم أصناف القراءة، وحصلت على علوم قد لا يتوفر بعضها في الجامعة.
نعود الى الفن، كان خالي، كما سبق وأسلفت، يشكل مع زكي ناصيف نوعاً من السهرات العائلية، فزكي يملك صوتاً مميزاً وهو بالتالي عازف عود مميز كذلك.
أما العناصر الفنية الأخرى، فكانت تتمثل في حفلة شهرية تقدمها إذاعة القاهرة للسيدة أم كلثوم، إضافة إلى الذوق الفني الذي يتضمن خزانة فوتوغراف، معززة بأسطوانات لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ولسيد درويش، إضافة إلى أسطوانات سامي الشوا على كمانه أو مع تخت سامي الشوا، وكانت اسطوانات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم تأتي إلى منزلنا قبل سواه.
وفي أحد أيام السنة 1941، أفقت في الصباح وأخذت أغني" أفرح يا قلبي" لأم كلثوم في منزل جدتي – فسمعني خالي – ثم قدمني لزكي ناصيف الذي اقترح عليه أن يعلموني الموسيقى.
وكان عهد في السنة 1938 إلى الكاتب البير أديب أن يتقلّد مقدرات الإذاعة وكانت تدعى يوم ذاك (راديو الشرق) ولم يكن في البلاد العربية إلا إذاعة القاهرة وإذاعة القدس.
وكان ألبير أديب على صداقة مع خالي، فطلب منه أن يتّسلم قسم الموسيقى في هذه الإذاعة، لكن فقدان التجهيزات والإستديو في الإذاعة المذكورة، جعل من منزل خالي مرجعاً ومقراً لتقديم البروفات، قبل تقديمها في الإذاعة.
وكانت الأغنيات تقتصر على ما يقدمه يوسف فاضل، وليم صعب، يوسف حاتم، ولاحقاً يوسف تاج ثم كانت لور دكاش.
لما بدأت الإذاعة تعمل كان الناس يلتقون في محل يملك صاحبة راديو، او يتحلقون حوله للإستماع، أو يجتمعون في مقهى اشترى جهاز راديو لتشجيع زبائنه، أو يتوافدون الى محيط محل لبيع الإسطوانات.
اشتغل خالي خليل مكنيه بنفسه فأخذ على عاتقه تحقيق شخصية موسيقية خاصة، لأنه كان يؤمن أن الموسيقى البحتة تفرض نفسها، وتحتل موقعها، خصوصاً في حالة كانت فيها الموسيقى شبه غائبة إلا ما ندر، فأخذ يكتب الموسيقى ويقدمها كل أسبوع مرة، وتعاون مع زكي ناصيف الذي يعزف على آلة الفيولونسيل التي كانت تفتقر اليها فرقة خالي الموسيقية.
في هذا الوقت انتسبت الى المعهد الموسيقي في الجامعة الاميركية في مبنى الوست هول، وهو المعهد الذي تخرج منه الكثيرون، أمثال ألكسي بطرس، وكان على رأس المعهد معلم روسي أبيض، أي من الروس الذين هجرتهم الثورة اللينينية، اسمه أركادي كوغل، ثم أكملت دروسي على ابنه ألكسي كوغل لمدة ثلاث سنوات على ألة الفيولونسيل.
إضافة الى دروس علم النظريات في الموسيقى، والى جانب هذه النظريات كانت هناك أوركسترا تعزف فيها بعض الأعمال الكلاسيكية، حيث يهيئوننا لدخول الحياة الموسيقية بعد التخرج.
وبعد أن أكملت برنامجي الموسيقي في المعهد المذكور، عدت الى أخذ دروس التأليف الموسيقي على يد الفرنسي برتراند روبيا، الذي عرفني عليه زكي ناصيف.
الى جانب معايشتي لأصوات أم كلثوم وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب وسواهم دخلت في التقنية الخاصة بالموسيقى الغربية.
لكننا كنّا نسعى لإحداث موسيقى قومية لا تقع في فخ الغربة، فأسسنا نوعاً من الرباعي الذي ضم كلاّ من :
- محمود السبليني (من كبار الهواة) كان عازفاً على القانون.
- مصطفى الشريف مدرس آلة العود.
- خليل مكنية على الكمان.
- توفيق الباشا على الفيولونسيل .
وكنا نجتمع كل ليلة في بيت من بيوت الثلاثة الأوائل، لأن والدي كان لا يحتمل أن يراني أعزف على آلة موسيقية.
كنا نعزف البشارف، والسماعيات، واللونغات، والموشحات، فقد أفادتني هذه الجلسات كثيراً نظراً لغياب المعهد الموسيقي الذي يوفر نظاماً تدريبياً للموسيقى الشرقية، كما في المعهد الموسيقي الغربي في الجامعة الاميركية.
قرأت كثيراً عن الموسيقى الشرقية، وقد أفادني كثيراً كتاب "نتاج مؤتمر الموسيقى العربية" الذي صدر عن المؤتمر الذي انعقد في السنة 1932 واشترك فيه كبار علماء الموسيقى في العالم العربي والعالم الغربي.
كانت إفادتي من الكتاب المذكور نظرية الى أن خضت التجربة العملية.
ونمضي مع توفيق الباشا، نسعى للحصول على المزيد من شواهد الحياة الغنية بالعطاء، وقد حان موعد سفره هذه المرة الى عمان حيث ينعقد المجمع الموسيقي العربي في الخامس من آذار 1998، وله فيه صولات وجولات، تركز على وضع الموسيقى الشرقية على قدم المساواة مع الموسيقى الغربية.
قبل أن يحمل أوراقه الى عمان أكملنا معه الحوار الذي استدرجناه اليه بسؤال :
"نعرف أن تحضير الإنسان لولوج باب ثقافي معين يحتاج الى درس نفسه وتثقيفها، بغية استيعاب أعمال من سبقوه في هذا المجال. وفي باب الموسيقى، كما هو معروف في الأدب والفن، نأخذ اصولها من دراسة كلاسيكية، أكاديمية، إضافة الى البحث عن التراث الذي خلفه السابقون، واحترام أعمال الذين سبق وقدموا إنشاءات أدبية، فنية، ذات قيمة، ولو بعفوية مطلقة.
ونحن اليوم في الموسيقى، غير ما كنا في بدايات ما يسمى بالنهضة الحديثة، التي ابتدأت في أواخر القرن التاسع عشر، وارتكزت على عطاءات فنية غنائية.
انطلقت من شبه جذور تراثية، مثل الموشحات الأندلسية، التي استوطن معظمها في بلادنا وبالتحديد مدينة حلب، التي كانت محجاً لكل طالب موسيقى في البلاد السورية أو من فناني مصر، وكان تأثير حلب كبيراً، خصوصاً عند انتقال بعض أركان الموسيقى فيها، الى القاهرة مثل شاكر الحلبي، كذلك الشيخ أبو خليل القباني الصوت والذوق، إضافة الى معلومات، ومعرفة في مقامات الموسيقى الشرقية العربية الملونة، وإيقاعاتها المركبة التي لها فرادتها بين الموسيقى العالمية، وهي في نظري محصلة لما كانت تستوعبه مدينة بغداد، في مجدها الذهبي أوائل العصر العباسي.
وانتشار هذه المدرسة في الديار الأندلسية، وعودة هذا التراث الى جذوره منسقاً مزخرفاً، مكسوا بثوب من الموسيقى الشفافة، ذات الألوان البهيجة. مكتسبة ذلك من المناخ الذي ترعرت فيه في الديار الأندلسية.
كما في كتاب ابن عبد ربه " العقد الفريد" الذي صدر بعد الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، قيل يوم ذاك بضاعتنا ردت الينا، عندما وجدوا التشابه بين " العقد الفريد" و "الأغاني".
إذا هناك جذور لهذه المدرسة التي استوطنت حلب، وعندما نتساءل لماذا حلب، يكون الجواب وفق معلومات من لهم دراية في الموسيقى، وفي جغرافية المدينة، إن حلب كانت محطة مواصلات برية، وعقدة لقاءات تجارية اجتماعية مهمة؟ وهذا ما يدلنا على جواب عن السؤال الآخر، لماذا اختارها الحمدانيون مثلاً، فقد كانت أكثر أهمية من سواها، بعدما غابت شمس الحضارة عن بغداد.
والغناء الذي تعاطاه فنانو القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، هو حصيلة سمعية وذوقية، متكئة على موهبة الصوت والذوق، وبالتالي مفتقرة الى الدراسة الأكاديمية، التي كانت غائبة آنذاك عن بلدنا، فكان تناقل المصنفات والإنشاءات الغنائية، يجري عبر ما يسمى "بالحفّاظ" وفق الطريقة التي كانت تتناقل القصائد في العصر الجاهلي.
ويؤسفني القول أن هذا النمط من التناقل استمر حتى الستينات، وفي زمن المعاهد والعلم المنهجي، والدراسات التي تجمعت في أول منبر علمي في العام 1932، عندما انعقد مؤتمر للموسيقى العربية في القاهرة، وحضره علماء من الشرق والغرب، ورغم ذلك استمر أسلوب التناقل السمعي يصاحبه ذوق الناقل، وقدرته النسبية على الحفظ، وطريقة الاداء التي كانت تتفاوت بين الصح والخطأ، حيث كنا وما زلنا حتى اليوم نسمع بعص الموشحات والأغاني التراثية بأساليب مختلفة الأداء، بين جوقة وأخرى، ومغن وآخر، وبلد آخر، وهذا ما لا يحصل أبداً في أي تراث تقليدي آخر في العالم".
بين الاستعداد لتحضير أوراق السفر الى القاهرة حيث عرضت الإنشادية النبوية التي وضعها، والإستعداد لحضور المجمع الموسيقي العربي في عمان، كان توفيق الباشا يروي لنا نتفاً من سيرته الشخصية، ورحلته مع الموسيقى والمصاعب، وعقبات المعارضة المنزلية وشح المداخيل المالية:
"كنت طفلاً التقي الموسيقيين في منزل خالي خليل مكنية عندما وصل زكي ناصيف الى المنزل، فطلب خالي ان أسمعهما أغنية "أفرح يا قلبي "، لأم كلثوم، فاقترح زكي ناصيف على خالي ان يدرسني وإياه الموسيقى".
هكذا يحدثك توفيق الباشا عن بداياته الموسيقية، ولعلها بداية حياة لم يرسمها شخصياً، وهي بالتأكيد ما لم يكن والده يرغب له بها.
فالموسيقى في تلك الأيام، كالغناء، نوع من الفنون التي لا تستطيع العائلات قبول احترافها للأبناء، وهي بالنسبة إلى العائلات ليست فناً، إنها لهو غير مقبول، في زمن المصاعب والمتاعب والانتدابات.
" الفرنساوية شحدونا" يقول توفيق الباشا عن تلك الفترة.
ولكن لا بأس أن نبدأ معه بالتسلسل الزمني، وان لم يكن هذا التسلسل مرفقاً بالأرقام وتحديد الأعوام في معظم الحالات.
هو يعتمد على الوقائع، على الفعل الذي ترك بصماته في حياته، فلونها بالموسيقى والموشحات، وعلى دور الأقرباء والأصدقاء، في تقريبه من الهدف الذي كان حلماً.
وعلى الصعوبات التي دفعته الى خوض غمار الحياة، مواجهاً، مستعداً، مكافحاً، بما حمله الى ان يترك عبد الرحمن، فيما بعد، يبني لنفسه حلمه، ويشق بنفسه طريقه بما يؤهله بالفعل – أو هو أهّله – لأن يرسم ملامح المستقبل منذ السنوات الأولى من حياته.
أين درس فناننا الكبير. وكيف درس، من درّسه الموسيقى، فأصبح استاذاً مجلياً فيها يخرّج في كل عام فنانين، موسيقيين ومطربين وأساتذة؟
كدنا نستمع الى توفيق الباشا يسترسل في الحديث، لولا شوقنا الى استيضاح بعض النقاط المثيرة في حياته الفنية، فاعترضنا بين حين وآخر سلسبيله الشيق بأسئلة، تعزز تدفق الحديث، وتزيده غنى من خلال الإجابات التي لم ترو من قبل.
استمعنا الى توفيق الباشا على مدى جلسات متلاحقة يحدثنا فيقول:
"وعيت على الموسيقى في المنزل، بسبب وجود خالي خليل مكنية، الذي أصيب بنكسة صحية ألزمته المنزل في عين المريسة، حيث تحوّل هذا المنزل الى ملتقى للفنانين المحليين والأجانب.
بالإضافة الى تحول المنزل الى ما يشبه المرجعية الموسيقية، فقد أكمل خالي هواياته بالرسم.
ويمكنني القول أن خالي أخذ الموسيقى عن سامي الشوا، فقد كان على صداقة مع والدي قبل ان يتزوج من والدتي، وكان واحدهما يحضر الى المنزل تسجيلات سامي شوا ويلتقي الأصدقاء للإستماع، وتبادل الأحاديث والألفة، فيلتقي الطبيب والمهندس والكاتب والراوي، وانتشرت بين المثقفين والذواقة، حتى وصلت معرفته الى زكي ناصيف الذي جاء ينسجم في علاقاته مع عائلات الهواة الآخرين.