الموسيقى هي فن الألحان الذي يُطرب مشاعرنا ويُحاكي أعماقنا، وصوت الأنغام الذي يحمل نفوسنا على تخيلات سامية، ويحرر عقولنا لتحلق بتأملات فكرية في رحاب الكون. عندها تمنح الموسيقى الحياة للروح.
فهي تلامس عواطفنا بنبضات حنونة مُظهرة ما في قلوبنا من انفعالاتٍ وأحاسيسٍ. حينما تُوقظ عذوبة الألحان عواطف الحب والحنين، نجد صَخَبها يُنبّه مشاعر الطرب والسرور في النفوس. بينما تؤثر النغمات الحزينة في القلوب الكئيبة فتشاركها شجوها وأحزانها. لكن لا يكمُن تأثير الموسيقى في الأفراح والأتراح فقط، إنما تُظهر ما في عقولنا من تصورات وتطلعات. فالموسيقى تدرك سموّ المشاعر فتبعث فيها النشوة الروحية، كما تدرك عمق الأفكار فتطلق العنان للخيال ليغرق في أجمل الأحلام. لقد عبَّرَ المفكر أنطون سعادة عن الموسيقى بقوله: «إني أحددها بإطلاقها من كل تـحديد، فإنك تستطيع أن تعرف الكثير من مزايا الـموسيقى ولكنك لا تتمكن من حصرها. ليست الـموسيقى لغة العواطف فحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضاً. إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها.»[1]
الموسيقى تعكس حضارة المجتمع ورقي أبنائه، فالشعب الذي يكون في طوره الإبتدائي ويخضع لحكم العادات والتقاليد القديمة، تكون الموسيقى فيه ابتدائية بألحانها لأنها تصوّر الحياة الإجتماعية فيه، فتعكس خمول نفسيات هذا الشعب ورضوخه للأفكار السائدة. بينما نرى الموسيقى في المجتمع المتحضّر عاكسة ما يختلج في نفسية الشعب من عواطف وأفكار ورغبات ومعبّرة عن تأملاتها العميقة وتطلعاتها لتحسين الحياة والإرتقاء بها. فالموسيقى بإمكاتها أن تدخل إلى النفوس لتوحّد العواطف وتجمعها لتثور على الظلم والإستبداد ولتسير على درب النهوض والعمل لتحقيق مراميها في الحياة.
إن الموسيقي المبدع ذو الحس المرهف يشعر بأحاسيس الناس وعواطفهم، فتكون نفسه مؤلفة من كل النفوس، وتمثل معزوفاته مرآةً تعكس ما يجول في خواطرهم، رافعة العواطف الروحية والتصورات العقلية إلى مراتب الرفعة والشفافية. وهذا الموسيقي يُطبّع موسيقاه بطابع أخلاقه، ويُدوزن سيمفونياته بمشاعر قلبه ليستخرج لحناً محاكياً كل الأذواق ومؤثراً في كل الأطباع، لأنه يغدق بما يملك، فتجد أنغامه سبيلها المحبّب إلى كل القلوب. كما قال الموسيقي الكبير يوسف هيدن، واضع قواعد الموسيقى الكلاسيكية الفيينية، عندما أجاب منتقدي حبوره المتجلي في قداديسه: «لا يمكنني أن أغيّر ذلك. فمما عندي أعطي. إني حين أفتكر بالله أشعر بقلبي ممتلئاً حبوراً حتى كأن الأنغام تجري كينبوع. ولمّا كان الله قد أعطاني قلباً فرحاً فهو يغفر لي خدمتي إياه بسرور».[2]
إن أبجدية الموسيقى تفوق أبجدية اللغة تعبيراً، لأنها تتجاوز المعقول والمنطق لمخاطبتها الأرواح، فتكون ملاذاً لها في الرّدهات الصامتة ومحركاً يدفعها للثورة على المظالم وتحقيق الآمال. فكلما اتسع فضاء المشاعر تضيق العبارات بالتعبير عنها، وكلما توزعت الكلمات على معزوفات موسيقية تقطن الذاكرة بحروف ذهبية. فإن سحر إيقاعاتها يرتب خطوات رقصة الجسد لتتآلف مع أنغامها متمايلةً برقةٍ وانسجامٍ. تخوّلنا أبجدية المشاعر من البوح عّما نخفق في إفصاحه، ومن إظهار ما نعجز عن إخفائه.
يصبح الموسيقي عبقريا بقدرته على الإنفلات من الزمان والمكان ليعبّر عمّا تحتويه النفس الإنسانية من تخيلات فكرية وثورات روحية، راسماً لشعبه مستقبلاً زاهياً، ومجدداً نظرته وتقاليده إلى حياة راقية ذات مثل عليا عظيمة، وثائراً مطالباً بالحرية رافضاً الظلم والعبودية مما يؤدي إلى بزوغ فجر النهضة في أمته. حينها يبقى هذا الموسيقي النابغة خالداً في عقول وقلوب الأجيال، كما تبقى موسيقاه الريادية رمزاً لأسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة.
_______
أنطون سعاده، الزوبعة، بوينُس آيرس،العام الثالث، العدد 52 (15/9/1942) ص 4 – 5 [1]
[2] أنطون سعادة، المجلة، بيروت، العدد 4، عام 1933 https://ssnparty.org/%D8%B9%D8%B8%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%82%D9%89-%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%81-%D9%87%D9%8A%D8%AF%D9%86