لم يسبق في تاريخ القضاء اللبناني أن تمت محاكمة بقدر من السرعة والسرية كالتي تمت بها محاكمة أنطون سعاده. لقد استمرت المحاكمة في مجملها خمس عشرة ساعة، من الخامسة صباح ٧ يوليو- تموز إلى الثامنة من مساء اليوم ذاته. وقد تمت الإجراءات جميعها، أي ما يشمل مرحلة ما قبل المحاكمة ثم مرحلة الإعدام، ضمن جدول زمني صارم ومحدد لم يتجاوز 36 ساعة للتخلص من سعاده في أسرع وقت ممكن.
ثمة إشارات تؤكد ان الحكومة اللبنانية رتبت الملفات بشكل مطبق على سعادة لكي يأتي حكماً واحداً بحقه، الا وهو الإعدام. اما الخطوات التي إتبعتها للوصول إلى هذه الغاية فهي:
أولاً- لقد اعتبرت السلطة أن القضية هي جرم جزائي وليست جرماً سياسياً، علماً ان قضية سعادة هي قضية سياسية بإمتياز من حيث النيات والأفعال والأهداف. فما هو السياسي اكثر من إعلان ثورة لتغيير النظام. حتى أن مجريات المحكمة وبنود الإتهامات والمرافعات كانت كلها سياسية .
ثانياً: لقد وضعت السلطة قضية سعادة في خانة الجرم الجزائي وجردتها من صفتها ومضامينها السياسية لكي يتسنى لها إحالته للمحكمة العسكرية لأن القانون اللبناني لا يجيز للسلطة من إحالة القضايا السياسية إلى القضاء العسكري.
ثالثاً: لقد اصرت السلطة على إجراء المحاكمة العسكرية، وليس سواها، لأنه فقط في المحاكم العسكرية يمكن أخد قرار الإعدام.
إذاً، لقد أصرت الدولة على تجريم سعادة جزائياً لتتمكن من إستصدار حكم إعدام، لأن القانون اللبناني لا يجيز للمحكمة العسكرية إستصدار هكذا حكم إلا إذا كان الجرم جزائيًا.
رابعاً: لقد اصرت السلطة على محاكمة سعاده تحت قانون الطوارئ الذي أعلن خصيصاً لحرب فلسطين ولا يهدف إلا إلى ما يتعلق بهذه الحرب. وذلك لكي تضمن احالة القضية إلى المحكمة العسكرية.
وكل ذلك يعني أن قرار إعدام سعاده كان قد إتُّخِذ قبل المحاكمة، ومن قِبل مراجع سياسية في الدولة أو مَن قِبل مراجع سياسية أعلى منها.
فتكون النتيجة على الشكل التالي:
الهدف = اعإام
السرية السرعة
لكي تحقق
تجريم سعاده جزائياً المحكمة العسكرية
(ولكن الجريمة الجزائية من اختصاص)
المحكمة الجزائية
قانون الطوارئ
***
هناك دلائل كثيرة في التاريخ تدل على ان هذا النمط من المحاكمات او الإغتيالات لا تنفذ إلا على عظماء في الفكر والعقيدة والسياسة، وأن السلطة لا تلجأ إلى مثل هذا النمط إلا في حالات نادرة جداً، فإما تكون في غباء تام، أو جهل، أو تآمر. وفي مطلق الأحوال هي سلطة جائرة لا تأخذ بعين الإعتبار لا القوانين ولا الحقوق المدنية والسياسية. والمضحك المبكي أن السلطات اللبنانية التي أعدمت سعادة إعتمدت هذا النمط الإستبدادي في ظل نظام ديمقراطي برلماني لا يجيز الإستبداد.
ليس لهذه القضية سابقة، فالسلطات لم تنتهك مبادئ القانون في تنظيم المحاكمة فحسب، بل أن المحاكمة ذاتها كانت مزيجاً من الغباء والنفاق. كانت المحاكمة أشبه ما تكون بمسرحية قضائية، وكان الحكم مبيتًا في عقول المشاركين إلى حد كبير. ويشير كل جانب من جوانب هذه المحاكمة بوضوح إلى السرعة مع سبق الإصرار على الإعدام بدلًا من التمسك بتحقيق العدالة.
كان نظام بشاره الخوري في إصداره حكم الإعدام على سعاده متأثرًاً بثلاثة مزاعم وإدعاءات أساسية:
أولها "عداوة" سعاده للبنان. والقاعدة العامة أن مثل هذه الإدعاءات السلبية لا تصمد عشر دقائق في قاعات المحاكم العادية. فصحيح أن سعاده لم يعتبر لبنان أمة بحد ذاته، ولكن هذا لم يجعله عدوًا للبلد بأي شكل من الأشكال. وكان دائمًا يرى أن الوضع القومي النهائي للبنان سوف يعتمد بشكل كامل على إرادة اللبنانيين شريطة أن يُسمح لهم أن يختاروا بحرية الوضعية القومية التي يفضلون أن يكونوا فيها. فهو لم يؤمن بالقوة أو بالدمج السياسي الإعتباطي.
وعلى كل، لم يكن نظام الخوري يتحلّى بالعدل والنزاهة الأخلاقية بما يخول له إصدار أحكام عامة على ولاء الأفراد. فقد كانت واضحة جداً ميوله إلى التسوية بين مصالحه الخاصة وبين المصالح العامة للدولة، من خلال الفساد والإختلاس والتزوير والمحسوبية والتعصب المذهبي الصارخ. فلم يكن ليصمد مثل هذا النظام أمام المبادئ الأولية للديمقراطية والولاء، كما هي الحال في أي بلد آخر تكون المساءلة فيه إحدى المكونات الحقيقية للدولة.
ويتصل الإدعاء الثاني بالخيانة (اتصال سعادة باليهود). وهنا أيضا كانت القضية المرفوعة على سعاده محل عبث تام من خلال اتهامات مختلقة استنادًا إلى وثائق مزوّرة. ولو أنها أحيلت إلى القضاء في وقت أكثر هدوءً وأمام محكمة مطلعة لأستُبعدت جميع الأدلة، إما لعدم جدية ومصداقية البراهين أو لإنعدام الصلة، ولكان الحكم اتى مختلفًا بلا شك. وحقيقة أن الحكومة اختلقت الأدلة على المتَّهم لا تقوض تهمة الخيانة فحسب، بل تمثل دليلًا صارخًا عليها نفسها. فحياة سعاده في طولها وعرضها، وفي كل شيء قاله أو كتبه أو فعله، لهو دليل قوي على كذب هذه الفرية. وتُظهر معظم الأدلة الآن أن الضالعين الحقيقيين في التعامل مع اليهود أبان حرب فلسطين في سنة ١٩٤٨ كانوا هم من الذين جلبوا تهمة الخيانة على سعادة، وأن نظام الخوري كان على علم بخيانتهم ولكنه لم يفعل شيئًا. ويشير هذا التواني عن اتخاذ إجراء ما بحقهم إلى مدى ضلوع النظام معهم.
ثمة ادعاء واحد على سعاده اعتبرته الحكومة خطيراً بما يكفي لتبرير إعدامه في حال ثبوته، ألا وهو التمرد المسلّح. بيد أن الطبيعة السياسية لهذه التهمة تستبعد عقوبة الإعدام، ويبدو أنها أجبرت الحكومة على تبني أساليب غير أخلاقية. فبدلًا من السماح للقانون بإتخاذ مجراه العادي، اعترضت سير المحاكمة بفجاجة لإثبات ظروف تجعل من الحكم بالإعدام أمرًا لا مفر منه تقريبًا، ألا وهي التشويه + السرعة + السرية + محكمة عسكرية + الإتهام بجريمة عظمى. كانت هذه الظروف الخمسة حاسمة في نجاح الإستراتيجية: فالتشوية للتعويض عن شح الأدلة؛ والسرعة لتفادي محاكمة علنية؛ والسرية للإلتفاف حول محاكمة سياسية؛ ومحكمة عسكرية للحصول على عقوبة الإعدام؛ والاتهام بجريمة عظمى لتأمين المحاكمة العسكرية. بمعنى ثاني، لم تطلب الدولة عقوبة الإعدام لسعاده، بل حددتها مسبقًا.
كانت المحاكمة غير مقبولة من نواح أخرى؛ حيث اتفقت سرعة الإجراءات وطبيعة الأدلة وهوية القضاة جميعًا للحيلولة دون اتخاذ قرار حكيم، ولضمان نتيجة ظالمة. فمن غير المتصور أن القضاة قد باشروا مهمتهم بعقول منفتحة. ان أكبر مشكلات المحاكم العسكرية تتمثل فيما يعرف اليوم بـ "تأثير السلطة الحاكمة". فبدلًا من اشتمال المحكمة على قاض مستقل ومحلفين مدنيين، فإنها (أي المحاكم العسكرية) تضم مجموعة من الضباط ينتمون إلى السلطات نفسها التي تقرر المحاكمة وتختارهم بعناية (وسيكون معيار الإختيار استعدادهم للإدانة). كما أن محامي الدفاع الذي عين بطريقة اعتباطية، خلافاً لإرادة المتهم، كان من السلك العسكري، أي جزء من نفس الهيكلية.
يقع على كاهل القضاة العسكريين واجبان وفقًا للقانون اللبناني: تقرير ما إذا كانت الحقائق المنصوص عليها في الإتهام ثابتة؛ والتقرير عند الحكم بثبات هذه الحقائق ما إذا كانت القضية تنضوي على ظروف مشددة أو مخففة لتخفيف الجريمة. ولكن حسب الأدلة المتاحة فإن القضاة الذين حكموا في قضية سعاده لم يكونوا على اطلاع كاف بالقانون ولا على معرفة بكل الحقائق للقيام بواجباتهم على نحو مُرض. والأدهى من ذلك أنهم كانوا من المتمسكين بأهداب النظام وأصدقاءً شخصيين لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، رياض الصلح.
والقول بأن المحاكمة كانت ظالمة لأنها أجريت بسرعة بالغة، لا يبدي إلا العيوب الظاهرة. فالنظرة التفصيلية في إجراءات المحاكمة تثمر وعيًا أكثر دقة بطبيعة هذا الظلم، لا سيما فيما يتعلق بالسرية. وعودة إلى الوراء في عام ١٨٢٧ وصف الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام، رائد الفلاسفة الأصوليين، مخاطر السرية كما يلي:
تبلغ المصالح الخبيثة غايتها في ظلام السرية، ويبلغ الشر بجميع أشكاله ذروته كذلك، ولا سبيل لإيقاف الظلم في القضاء إلا بالإفساح للعلانية بالتساوي؛ فحيثما غابت العلانية، غاب العدل؛ فما العلانية إلا روح العدل. وهي الدافع الأقوى لبذل الجهد، وأضمن سبيل للوقاية من الظلم، كما أنها تضع القاضي نفسه قيد المحاكمة عند مباشرته الحكم.
قد تنطبق العلانية كوسيلة للمساءلة القضائية حتى في الحالات التي تستلزم بالضرورة درجة من السرية. فماذا لو كانت الأسباب الداعية إلى السرية غير مقنعة كما في محاكمة أنطون سعاده؟
في عام ١٩٤٩ كان عمر النظام اللبناني دون السادسة. ولأنه أول نظام بعد الاستقلال، كانت أمور كثيرة تعتمد على أدائه السياسي. والمفارقة أن سعاده قدم لنظام الخوري فرصة للبرهنة على التزامه بحكم القانون ولتوفير شعور عام بأن المحاكم تعمل بنزاهة، ولكن النظام لم يفعل. فقد اختار بدلًا من ذلك وضع سلطته ومصلحته الخاصة فوق سلطة القانون ومصلحة العدل. والقانون كما تقول كارول تشومسكي "يجب أن يتخطى الممارسة الروتينية للسلطة، بل يجب أن "يرشد ويعلم" الخاضعين له وأن يبرهن على نفسه أخلاقيًا في عيون المحكومين وفي عيون الطبقة الحاكمة كذلك." وتضيف:
يجب على المجموعات التي تصنع السياسة أن تشاطر معايير السلوك التي ينص عليها القانون أو تقبل بأن النظام الذي يثمر تلك المعايير يمثل أفضل مصالح المجتمع الذين هم جزء منه، حتى وإن كانت بعض الأحكام لا تتناسب مع مصالحهم الشخصية. فالقانون يؤيَّد — ويسري — فقط عندما يبرهن على القيم المشتركة للمجتمع أو عندما يكون ثمرة لعملية يرى المحكومون أنها مشروعة.
أن كل اعتبار للسياسة يجب أن يفسح المجال لمبدأ العملية القضائية العادلة لأن نموذج المحاكمة العلنية العادلة يمثل حجر الزاوية في الدول المتحضرة، فهي الفيصل بين الحكومات الصالحة والفاسدة.
ولأن نظام الخوري أصر على التخلص من سعاده، فقد تخلى بتعمد عن واجهته الليبرالية وأقبل على التزوير. فصاغ التهم وراجعها بعناية لتشديد الإدعاءات على سعادة، وشوه الحقائق عن عمد ليغطي على سوءاته. وبعد مضي أعوام كثيرة فضح البعض طريقة صنع التهم الكاذبة بصراحة لا تصدق، وكشفوا عن انتهاكات جسيمة ارتكبها النظام بحق القانون. كانت الأدلة المرفوعة على سعاده فيما يبدو ضعيفة للغاية وواهنة، مما جعل التشويه المنهج العملي الوحيد للإدانة. وربما تعلق بذلك أمر آخر قوامه الرغبة في تجنب عقد محاكمة سياسية ومن ثم الوقوع في مواجهة لفظية محتملة مع سعاده.
بدت هذه الرغبة في الظاهر منطقية ومعقولة نظرًا لما قد تصطبغ به الأدلة من طبيعة سياسية، ومن ثم المخاطرة بتحويل المحاكمة إلى منصة للسخرية السياسية. ولكن الحكومة ترتكب خيانة صريحة ومقيتة عندما تحاول تجنب المحاكمة السياسية بواسطة التزوير المتعمد للحقائق والتغاضي الصارخ عن مبادئ القانون. فحرمان سعاده من حقه في محاكمة سياسية بالرغم من الطبيعة السياسية الواضحة للقضية، كان تصرف يتنافى مع أبسط المعايير الإنسانية والقانونية. فأولئك الذين يقومون بثورة أو يحاولون فعل ذلك بلا جدوى، أو حتى يراودهم أمل في أن يتحدّوا ما يرونه نظاما دكتاتوريًا او فاسدا، ما هم إلا جناة سياسيون مثلهم مثل من ينجحون في ذلك.
ان الأدهى من ذلك كان قرارُ نظام الخوري تصنيف سعاده على أنه متهم جنائي عادي، لا متهم سياسي. فهذه الطريقة في النظر إلى القضايا الجنائية السياسية قد ولى زمانها، والدول — لا سيما فرنسا التي تشكل قوانينها أساس القانون اللبناني— قد فصلت بين الجرائم السياسية والجرائم العادية، وسنّت للأولى مجموعة من العقوبات الخاصة أخف وطأة من العقوبات العادية. وعلى خلاف الممارسات القديمة غير المتحضرة التي كان يجري تصنيف الجناة فيها وفقًا لحقائق سلوكهم الحسية، لا تعتبر العلوم الجنائية الحديثة الحقائق الحسية للجريمة شيئًا سوى بعض البراهين على معيار العامل النفسي الذي يسيطر على خصائص المجرم السلوكية. وهذا يعني أن متهمًا سياسيًا مثل سعاده كان يجب أن يُحكم عليه ليس على أساس معيار الظروف الحسية لأفعاله بل على أساس المعايير النفسية وظروف دوافعه الداخلية "طالما شكل هذا جزءً واعيًا من فعلته."
والآن، هل كانت هذه المحاكمة مجرد مثال على إساءة تطبيق العدالة (miscarriage of justice)؟ نعم، لكن فقط بالدرجة التي استُعملت فيها مؤسسات الدولة لتحقيق النتائج، والتي بدت ظاهريًا أنها تمثل العدالة في حين أنها في الواقع لم تمثل شيئًا سوى فساد العدالة او عدالة فاسدة. ولكن من غير الطبيعي إنزال وصف "إساءة تطبيق العدالة" على قضية صدر الحكم فيها بسبب خطأ بشري متعمد لا بسبب ظروف غير متوقعة انتهكت أحكام القانون. فلا نستطيع مثلًا أن نصنف محاكمات التطهير الأعظم إبان عهد ستالين على أنها "إساءة تطبيق العدالة" لأن العملية بأكملها تمت في إطار مسرحي وأجريت وفقًا لأوامر عامة ومباشرة من النظام. ولا نستطيع بالمثل أن نصف قضية سعاده بأنها "إساءة تطبيق العدالة" لأن المحاكمة بأسرها كانت مؤامرة كاملة: فـ"الحكم" الذي صدر على سعاده كان بلا شك معدًا وصيغته متفقًا عليها قبل أن تبدأ المحاكمة. وهذا الوصف (أي "إساءة تطبيق العدالة" (غير مناسب لأن المحاكمة لم تكن في أبسط درجاتها بمثابة عملية قضائية تهدف إلى إحقاق الحق أو إبطال التهم المرفوعة على المتهم. ولم يكن للتاريخ ولا الحقائق ولا التواريخ ولا الأدلة أهمية في هذه المحاكمة شأنها في ذلك كشأن الحياة والكرامة الإنسانية. كان الهدف إرسال المتهم إلى حتفه بأي وسيلة ممكنة.
إذن، كانت محاكمة أنطون سعاده وإعدامه يتعلقان بالإنتقام لا بالعدالة، وبات من العسير فهم الطريقة التي أجريا بها، لأن ذلك تم بسرعة وسرية تحت جنح الظلام، استخفافًا بالعملية القضائية في كافة أشكالها. فلم يكن الغرض من المحاكمة إثبات الحقيقة أو بطلان أي شيء (خاصة ما يجرم المتهم بالتأكيد). فبالدرجة التي انطوت نية نظام الخوري على هزيمة سعاده وإعدامه، حقق النظام هدفه بما يرضيه تمامًا. ولكن من وجهة نظر الحقيقة والقانون، يسجل التاريخ هذه المحاكمة على أنها أكبر فضيحة للقانون اللبناني.
اعتقد البعض أن محاكمة أنطون سعاده قام بها نظام فاسد بمساندة من سلطات قضائية ملوثة ومستعدة لتجريمه والحكم عليه بالموت كوسيلة لصرف انتباه الناس عن سياساتها الرجعية. ولكن هذا لا يعني أن سعاده قد قتل من أجل جريمة. فإن الأحداث والمكائد التي سبقت محاكمته تشير إلى رغبة جامحة من وراء الكواليس في التصفية كسبب أساسي لإعدامه. ويتعين في هذه الحالة اعتبار الثورة الأولى ذريعة للإعدام وليست سببًا له.
وبالمثل، فإن اعتبار إعدام سعاده جزءً من مؤامرة شريرة يوهن من السلوك السياسي الطائش لمن أقروا به أو شجعوه. والحقيقة الأساسية هي أن إعدام سعاده كان مخططًا ونُفذ بقدر كبير من العقلانية والروية. بمعنى أنه كان مرتبًا له بوعي لتقويض تأثيره وكان الغرض منه صارخًا وواضحًا، وهو وضع نهاية لروح التفاؤل الثوري والتفكير المستقل الذي كان يشجعه سعاده ويسعى له. يُقال إن الدول والأنظمة تميل إلى القمع الخفي والتصفية الجسدية للخصوم عندما تفشل في استحضار المهارات والمنطق للتعامل معهم. ينتمي نظام الخوري الذي قتل سعاده في ١٩٤٩ إلى هذه الفئة.
وبنظرة إلى الماضي نجد أن سعاده قتل لأنه كانت ثمة "ضرورة" ونية لقتله. فكان ما يتحلى به من رؤية تجمع ولا تفرق، وصعود قومي أصيل جديد، ووضوح في القصد وشجاعة في تحدي خصومه الأقوياء، قد أعطاه سلطة أخلاقية ورمزية قوية جداً، وجعله لا يتفق مع تركيبة الأوضاع القائمة. رأى خصومه أن رجلًا يحمل رؤية كهذه يجب ألا يُترك حرًّا طليقًا أبداً. قد يكون نظام الخوري قرر من البداية أن يقضي بالموت على سعاده بلا رجوع في ذلك، فالقرار لم يكن وليد اللحظة. كان اعتقادهم الأكيد أن الموت شر لا بد منه لتخليص البلاد من سعاده، ومن ثم من رؤيته السياسية وحركته الثورية، هذا هو أساس ذلك القرار.
كتب جي. بوير بيل منذ زمن: "يُقتل بعض الرجال لسبب واضح وهو أنهم رموز؛ ويُقتل آخرون إنهاءً للقوة التي فيهم". فالقوة التي حازها سعاده لم تكن سياسية ولا عسكرية بل كانت قوة "فكرية وحركية" متقدة بنار الوعي القومي العميق.
قد يكون سعاده قد حقق لقضيته بموته أكثر مما كان يحلم بتحقيقه أبان حياته. ولكن لا ينبغي أن يقلِل هذا من حجم الظلم الكبير الذي وقع عليه. وإلى أن يتضح الأمر جليًا وتثبت الحقيقة كاملة، يحق وصف محاكمته وإعدامه بأنهما اغتيال عن سابق تصور وتصميم.